التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦)) [٤ ـ ٦]

(١) أثخنتموهم : أكثرتم فيهم القتل وقهرتموهم وانتصرتم عليهم.

(٢) فشدوا الوثاق : ائسروهم وقيدوهم بالقيود.

(٣) فإما منّا بعد وإما فداء : فإما أن تمنوا عليهم فتطلقوهم بدون فداء وإما أن تطلقوهم بفداء بعد ذلك.

(٤) حتى تضع الحرب أوزارها : حتى تنتهي حالة الحرب ويخلص الناس من أثقالها.

(٥) عرّفها لهم : وصفها لهم أو أخبرهم بمنازلهم فيها.

الخطاب في الآيات موجّه إلى المسلمين كما هو المتبادر. وقد تضمنت :

(١) أمرا لهم بأن عليهم إذا لقوا الكافرين في الحرب أن يصدقوا في قتالهم حتى إذا أكثروا فيهم القتل وقهروهم وضمنوا لأنفسهم الغلبة عليهم جنحوا إلى أسر ما بقي منهم ، ويظل أمرهم معهم على هذا المنوال حتى تنتهي حالة الحرب ويتخلص الناس من أعبائها.

(٢) وتشريعا في حق الأسرى. فالمسلمون مخيرون فيهم بعد ذلك : فإما أن يمنوا ويتفضلوا عليهم فيطلقوهم بدون فداء وإما أن يطلقوهم بفداء.

(٣) واستطرادا تنبيهيا بأن الله قادر على التنكيل بالكفار والانتصار للمسلمين منهم بدون حاجة إلى قتالهم. ولكن حكمته شاءت أن يبلو بعضهم ببعض.

(٤) وبشارة وتطمينا بأن الله تعالى لن يضيع أجر الذين قتلوا في سبيله. وأنه سيهدىء روعهم ويقرّ عيونهم ويدخلهم الجنة التي وصفها لهم.

وقد أول الزمخشري جملة (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) بمعنى أن الله شاءت حكمته بدلا من الانتقام منهم بدون قتال أن يبلو المؤمنين بالكافرين فيجاهدوا ويصبروا حتى يستوجبوا الثواب. والكافرين بالمؤمنين ليعاجلهم على أيديهم ببعض ما وجب لهم من العذاب. وقال غيره في

٣٠١

تأويلها ليصير المؤمنون إلى الثواب والكافرون إلى العذاب. وكلا القولين وارد ووجيه.

وقد يصح أن يضاف إلى هذا أن الجملة انطوت على تقرير كون قتال المسلمين للكفار هو الأكثر اتساقا مع طبائع الأشياء والأدعى إلى إيقاع هيبة المسلمين في قلوب الكفار أو أنها رمت إلى معالجة جوابية لما يمكن أن يقوم في أذهان بعض المسلمين من تساؤل عما إذا لم يكن الأولى أن يبطش الله بالكفار وينتقم منهم دون تعريض المسلمين لشدة الحرب وخسارة الأرواح. ومثل هذه المعالجة سبق في سورتي الأنفال وآل عمران.

ولقد أورد ابن كثير على هامش الآيات [٤ ـ ٦] أحاديث نبوية عديدة في فضل الشهيد وثوابه عند الله عزوجل. ولقد أوردناها مع طائفة أخرى من الأحاديث من بابها في سياق آية سورة البقرة [١٥٤] فنكتفي بهذه الإشارة.

تعليق على الآية

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ ..) إلخ

والآيتين التاليتين لها ومسألة أسرى الحرب والرقّ

ولم نطلع على مناسبة خاصة للآيات. والمتبادر المستلهم من مضمونها وروحها أنها خطاب عام في معرض الحضّ على قتال الكفار مطلقا.

وإضافة تعبير (وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) إلى جملة (الَّذِينَ كَفَرُوا) في الآية الأولى من السورة تدل على أن الأمر الذي احتوته الآية الأولى من الآيات التي نحن بصددها أي الآية الرابعة بقتال الكفار وضرب رقابهم حينما يلقاهم المسلمون هو صدّ الكفار الناس عن سبيل الله مع كفرهم. والصدّ يتناول تعطيل الدعوة والكيد لها والعدوان على المسلمين. وتعبير (لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) مما يؤيد ذلك ، لأن الانتصار هو ردّ العدوان ومقابلته بالمثل. وهكذا يكون الأمر بالقتال هنا متسقا مع المبادئ الجهادية التي انطوت عليها الآيات القرآنية وهي قتال المعتدي وليس قتال الكافر

٣٠٢

إطلاقا على ما شرحناه في مناسبات سابقة شرحا يغني عن التكرار.

وينطوي في جملة (إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ) حكم قرآني في هدف القتال وهو أنه ليس للإبادة وإنما هو للتأديب والتنكيل والقهر. فحينما تتحقق هذه الغاية وجب الكفّ عن القتل والجنوح إلى الأسر.

وليس من تعارض بين هذا الحكم وبين ما ورد في جملة (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) الواردة في آية الأنفال [٦٧] بل وبينهما توافق. فهذه الجملة لم تمنع الأسر وإنما نبهت إلى أنه لا ينبغي أن يكون إلا بعد أن تكون هيبة النبي وقوته قد توطدتا في قلوب الأعداء ولم يبق من حرج في الأسر منهم بدلا من إبادتهم بالقتل ، وحكم الجملة التي نحن في صددها قد سمحت بالأسر إذا ما أثخن المسلمون في أعدائهم وقهروهم وتحققت لهم الغلبة عليهم.

وقد أورد المفسرون (١) أقوالا معزوة إلى ابن عباس وعلماء التابعين في صدد تأويل جملة (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) منها أنها بمعنى حتى تنتهي الحرب القائمة مع الكفار بتوبتهم وإسلامهم والانتهاء عن الشرك. ومنها أنها بمعنى الاستمرار في حرب الكفار إلى أن لا يكون في الأرض شرك أو حتى ينزل عيسى عليه‌السلام ويدخل الناس في دين الإسلام. وقد أورد البغوي في تأييد هذا القول حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه «الجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال».

ونحن نتوقف في التسليم بهذا التأويل على إطلاق. لأن هناك أحداثا يقينية الوقوع في العهد المدني تعارضه. منها أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل الفداء من أسرى بدر وأطلقهم وهم كفار وعادوا إلى مكة. وهذا ما انطوى في آيات سورة الأنفال [٦٧ ـ ٦٩] التي مرّ شرحها ومنها مصالحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم المشركين مع بقائهم على شركهم في صلح الحديبية الذي انطوى خبره في سورة الفتح المتأخرة كثيرا عن هذه السورة. وقد دخل نتيجة لذلك بنو بكر في صلح قريش وبنو خزاعة في صلح النبي

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والنسفي والخازن وابن كثير والطبرسي.

٣٠٣

مع بقائهم على شركهم. وهذا يسوغ القول إن الجملة المذكورة تعني (حتى تنتهي حالة الحرب بإسلام الكفار الذين كانت بينهم وبين المسلمين حالة عداء وحرب أو التصالح معهم ووقوف حالة الحرب بينهم وبين المسلمين ولو بقوا مشركين.

وقياسا على هذا القول الذي نرجو أن يكون هو الصواب فيمكن القول إنه يشمل كل حالة حرب تكون بين المسلمين والأعداء المستحقين للقتال من الكفار كما هو المتبادر. ولقد أورد البغوي قولا للكلبي لجملة (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) إنها بمعنى حتى يسلموا أو يسالموا وقولا للفراء إنها بمعنى حتى لا يبقى إلّا مسلم أو مسالم. والتأويلان يدعمان تأويلنا كما هو واضح.

وجملة (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) صريحة في أنها تجعل للمسلمين الخيار في الأسرى الذين يأسرونهم من الكفار بعد أن تنتهي حالة الحرب بأحد الشكلين السابقين بين المنّ والتسريح بدون فداء ، والتسريح بالفداء. وصاحب الخيار هو ولي أمر المسلمين بطبيعة الحال.

وهذه هي المرة الثالثة التي يرد فيها حكم قرآني في صدد أسرى الأعداء. وكانت المرة الأولى في آيات الأنفال [٦٧ ـ ٦٩] أما آية سورة الأحزاب [٢٦] فإنها لم تحتو على حكم قرآني وإنما احتوت على حكاية ما فعله المسلمون ببني قريظة حكاية قد تنطوي على إقرار ذلك. ولسنا نرى تناقضا أو تعارضا بين آيات الأنفال والآية الرابعة التي نحن في صددها فآيات الأنفال تنبه على أنه لم يكن من مصلحة الإسلام والمسلمين أخذ أسرى من الأعداء قبل أن يثخن فيهم ويوقع الرعب في قلوبهم. وهذه الآيات تجيز ذلك في حال تحقق الإثخان والرعب. ويكون كل من آيات السورتين مستمر المدى والتلقين حسب ظروف الأحداث ومصلحة المسلمين العامة وحالة المسلمين والعدو المادية والمعنوية.

ولقد كانت جملة (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً) مما تعددت الأقوال في حكمها ومداها في كتب المفسرين (١) عزوا إلى ابن عباس ومجاهد والضحاك والشافعي

__________________

(١) انظر كتب تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي وغيرهم.

٣٠٤

وأبي يوسف وغيرهم. منها أن حكم هذه الجملة منسوخ بآية التوبة هذه (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)) وأنه لا يجوز المنّ على الأسير الكافر ولا الفداء ، بل القتل أو الاسترقاق. ومنها أن الآية محكمة وأنها جعلت الخيار للإمام في المنّ والفداء. وأن له أن يقتل أيضا لأن ذلك أبيح له في آية التوبة المذكورة آنفا. ومنها أن الآية لا تبيح القتل وحكمها هذا محكم ، وللإمام أن يمنّ أو يفادي أو يسترقّ. ويلحظ أن هذه التأويلات هي اجتهادية. وغير متسقة مع فحوى الجملة التي تحصر الحكم بين المنّ والفداء حيث يكون قائلوها قد مزجوا بينها وبين أحكام قرآنية ونبوية أخرى. ولقد مارس النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع طرق مع الأسرى. وهي المنّ والفداء والاسترقاق والقتل على ما شرحناه في سياق تفسير آيات سورة الأنفال والأحزاب في أسرى بدر وبني قريظة. ومن صور المفاداة التي مارسها مفاداة مسلم بابن أبي سفيان وإيجاب تعليم بعض أبناء المسلمين على أسرى قريش الذين لم يكن معهم ما يفتدون به أنفسهم على ما ذكرناه في سياق تفسير آيات الأنفال. ولقد روى الترمذي عن عمران بن الحصين «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدّى رجلين من المسلمين برجلين من المشركين» (١) ولقد روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة حديثا فيه حادث منّ نبوي مع غير أسرى بدر وقريظة في سياق طريف رأينا إيراده جاء فيه قال أبو هريرة «بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخيل قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال سيّد أهل اليمامة فربطوه بسارية من سواري المسجد فخرج إليه رسول الله فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي يا محمد خير. إن تقتل تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم على شاكر. وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت. فتركه النبي حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة قال ما قلت لك فتركه رسول الله حتى كان بعد الغد فقال ما عندك يا ثمامة فقال عندي ما قلت لك فقال رسول الله أطلقوا ثمامة فذهب إلى

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٥٤.

٣٠٥

نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله. يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحبّ الوجوه كلّها إليّ. والله ما كان من دين أبغض إليّ من دينك فأصبح دينك أحبّ الدين كلّه إليّ والله ما كان من بلد أبغض إليّ من بلدك فأصبح بلدك أحبّ البلاد كلّها إليّ. وإنّ خيلك قد أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى فبشّره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأمره أن يعتمر فلما قدم مكة قال له قائل أصبوت قال لا ولكني أسلمت مع رسول الله. ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (١).

وروى البخاري وأبو داود عن مروان حديثا فيه حادث منّ آخر لسبي هوازن بعد أن تقرر استرقاقه وقسم على المسلمين. وفيه صورة رائعة من صور مشاورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للمسلمين واسترضائه إياهم جاء فيه «جاء وفد هوازن مسلمين إلى النبي وسألوه أن يردّ إليهم أموالهم وسبيهم (وكان المسلمون استولوا عليها في يوم حنين) فقال لهم أحبّ الحديث إليّ أصدقه فاختاروا إحدى الطائفتين إما السبي وإما المال وقد كنت استأنيت بهم فكان النبي انتظر آخرهم بضع عشرة ليلة حين قفل من الطائف. قالوا إنا نختار سبينا فقام رسول الله في المسلمين فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد فإنّ إخوانكم هؤلاء قد جاؤوا تائبين وإني رأيت أن أردّ إليهم سبيهم. من أحبّ أن يطيّب فليفعل ومن أحبّ منكم أن يكون على حظه حتى نعطيه إياه من أول ما يفيء الله علينا فليفعل فقال الناس طيّبنا ذلك لهم يا رسول الله. فقال لهم رسول الله إنا لا ندري من أذن منكم في ذلك ممن لم يأذن فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم فرجع الناس فكلّمهم عرفاؤهم ثم رجعوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخبروه أنهم قد طيّبوا وأذنوا» (٢) وشيء من هذا روي في صدد سبي بني المصطلق حيث روي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أغار عليهم وقتل بعضهم وسبى سبيا منهم وكانت جويرية بنت الحارث زعيمهم من السبي وقسم السبي على أصحابه فوقعت

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٥٢ ـ ٣٥٤.

(٢) المصدر نفسه ص ٣٥٥.

٣٠٦

في سهم واحد من الأنصار فعرضت عليه أن يكاتبها أي تشتري نفسها منه فقبل وجاءت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم تستعينه فعرض عليها أن يقضي عنها ثم يتزوجها فرضيت. فلما عرف الناس قالوا إنهم صاروا أصهار رسول الله فأطلقوا ما في أيديهم من السبي فكانت أعظم امرأة بركة على قومها (١).

وتلخيصا لما مرّ وتعليقا عليه نقول أولا : إن القول بأن آية سورة التوبة الخامسة نسخت حكم آية سورة محمد فصار لا يصح للأسير الكافر إلّا القتل محل نظر. لأن الآية وإن كانت تأمر بقتل المشركين أنّى وجدوا فإن ذلك لا يتحمل أن يدخل فيه قتلهم بعد الأسر أيضا. وثانيا : إن الأحداث المروية تفيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مارس مع الأسرى أربع طرق حسب ما كان يراه من مصلحة الإسلام والمسلمين وهي المنّ والفداء (ويدخل مبادلة أسرى الكفار بأسرى من المسلمين في باب الفداء) والقتل والاسترقاق. منهما طريقتان نصّت عليهما آية سورة محمد وهما المنّ أو الفداء. وطريقتان حكت آية سورة الأحزاب [٢٦] أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مارسهما حكاية قد تفيد إقرارهما وهما القتل والأسر أي الاسترقاق. وقد جازت آيات سورة الأنفال [٦٧ ـ ٦٩] الفداء أيضا.

وفي كتب التاريخ القديمة روايات كثيرة تذكر أن خلفاء رسول الله الراشدين وكبار أصحابه الذين تولوا حركة قمع الارتداد والفتوح كانوا يمارسون هذه الطرق حسب ما يرون فيه مصلحة الإسلام والمسلمين بحيث يصح القول إن هذه الطرق هي السنن الإسلامية القرآنية النبوية في صدد أسرى الكفار الأعداء الذين لا يسلمون قبل استرقاقهم وإن أولي الأمر مخيرون في ممارسة واحدة أو أكثر من هذه الطرق حسب ما تمليه مصلحة الإسلام والمسلمين. أما الذين يسلمون قبل تقرير استرقاقهم فيكونون قد تحرروا بالإسلام على ما يستفاد من حادث سبي هوازن الذي يتضمن أن النبي استرقهم قبل إسلامهم وإسلام ذويهم.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٣٨١ وابن هشام ج ٣ ص ٣٣٩ ـ ٣٤٠.

٣٠٧

ومن الجدير بالذكر أن الأحداث المروية عن ما كان يفعله النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأسرى تفيد أنه كان أكثر ما يمارس المنّ والفداء وأنه لم يمارس القتل إلّا في النّضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط لشدة أذاهما وأنه لم يمارس القتل والاسترقاق إلّا في بني قريظة لشدة خطورة موقف الغدر والخيانة الذي وقفوه على ما شرحناه في سياق تفسير سورتي الأنفال والأحزاب وأن استرقاق سبي بني المصطلق وهوازن لم يستمر واستبدل بالمنّ. ولقد روى الإمام أبو عبيد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أرسل مناديا يوم الفتح ينادي (ألّا يقتلنّ أسير ولا يتبع هارب ولا يجهز على جريح ومن أغلق بابه فهو آمن). بحيث يسوغ القول إن المنّ والفداء هما الأكثر رعاية في سنن النبي وأن القتل والاسترقاق وبخاصة القتل لم يطبقا إلّا في ظروف خاصة اقتضتهما.

وإذا لوحظ أن عادة استرقاق أسرى الحرب التي كانت عامة في جميع الأمم والبلاد كانت المصدر الرئيسي لعادة الاسترقاق الإنساني التي ظلت جارية في كثير من البلاد الإسلامية مدة طويلة إلى عهد قريب حتى أن كلمة (الأسير) جاءت في آية قرآنية مرادفة للمملوك (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) الإنسان [٨] ثم إذا لوحظ أن آية سورة محمد هي التي احتوت تشريعا مطلقا في ما ينبغي عمله في الأسرى وأن هذا التشريع هو المنّ أو الفداء ظهرت لنا روعة هذا التشريع بتوجيهه ضربة حاسمة إلى هذه العادة. ولا يخفف من شدة الضربة طريقتا القتل والاسترقاق الجائزتان في الإسلام من حيث إنهما ليستا إلزاميتين وإنهما إنما طبقتا في ظروف خاصة. وإذا أضفنا إلى ذلك ما احتواه القرآن من وسائل عديدة لتحرير الرقيق والحث عليه كما مرّ شرحه في تفسير سورة البلد والبقرة والنساء وغيرها ظهر واضحا أن القرآن قد هدف إلى إلغاء الرقّ بالمرة في كل ذلك حيث تزداد روعة الهدف القرآني قوة وسطوعا. وما جاء في القرآن من أحكام متصلة بالرق لم يكن من قبيل الإنشاء وإنما كان من قبيل تنظيم أمر واقع في نطاق الحق والبرّ والإحسان مع الحث على تحريره وتشريع وسائل ذلك على ما شرحناه في تفسير سورة البلد.

٣٠٨

ولقد قال الإمام أبو عبيد في كتاب الأموال (١) إنه لا رقّ على أسرى العرب وبذلك مضت سنّة رسول الله. وكذلك حكم عمر فيهم أيضا حتى إنه ردّ سبي أهل الجاهلية وأولاد الإماء منهم أحرارا إلى عشائرهم على فدية يؤدونها وقال كلمته المشهورة (ليس على عربي ملك) حيث ينطوي في هذا خطة أو تلقين خاص بالنسبة للعرب الذين هم مادة الإسلام كما وصفهم عمر كما هو مشهور.

وأخيرا نقول إنه لا أسر ولا استرقاق ولا منّ ولا فداء بين المسلمين في حالة وقوع قتال بينهم. لأن هذا القتال لا يدخل في مفهوم الجهاد في الإسلام ولا يستتبع آثاره وتظل صفة الطائفتين هي صفة (الأخوة) كما جاء في آيات سورة الحجرات (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)) ويطلق سراح الأسير المسلم الذي يقع في يد المسلم بدون معنى منّ وفداء. كذلك فإنه لا أسر ولا استرقاق للمسالمين من الكفار ولا أسر ولا استرقاق لمن صالحوا المسلمين من الكفار الأعداء إذا تمّ الصلح قبل الاسترقاق أي قبل أن يقرر ولي أمر المسلمين استرقاقهم وإذا أسلم قبل ذلك يتحرر. وإذا جاء عبد مالكه كافر إلى المسلمين وأسلم يتحرر كذلك. وقد روي في صدد هذا حديث رواه أبو داود والترمذي عن علي قال «خرج عبدان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم الحديبية قبل الصلح فكتب إليه مواليهم والله يا محمد ما خرجوا إليك رغبة في دينك وإنما خرجوا هربا من الرقّ فقال ناس صدقوا يا رسول الله ردّهم إليهم فغضب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقال ما أراكم تنتهون يا معشر قريش حتى يبعث الله عليكم من يضرب رقابكم على هذا. وأبى أن يردّهم وقال هم عتقاء الله عزوجل» (٢).

__________________

(١) كتاب الأموال ص ١٣٣.

(٢) التاج ج ٤ ص ٣٥٥ ـ ٣٥٦.

٣٠٩

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢)) [٧ ـ ١٢].

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت :

(١) وعدا من الله للمسلمين بالنصر والتثبيت إذا نصروه أي نصروا دينه ، وإيذانا بأن الله يكون مولاهم ويدخلهم الجنة.

(٢) وتنديدا بالكفار لكرههم لما أنزل الله وجحودهم فضله. وإيذانا بأنه قد أحبط بسبب ذلك مكائدهم وجعل الضلال والخسران حليفي أعمالهم. وإنذارا لهم بتدمير الله كما دمر الذين من قبلهم ممن رأوا آثارهم في أثناء طوافهم في الأرض ثم بالنار التي تكون مصيرهم في الآخرة. وتمثيلا لهم بالأنعام حيث كان تمتعهم في الدنيا لا يعدو تمتع الأنعام التي لا تشعر بمتعة والتي ليس لها من همّ إلّا إملاء بطونها وإشباع غرائزها.

ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها جاءت معقبة على الآيات السابقة لتنوّه بالمؤمنين وتندد بالكافرين موضوع الكلام فيها. وأسلوبها قوي في حضّ المؤمنين وتثبيتهم وتبشيرهم وفي تقريع الكافرين وإنذارهم. وهو مما استهدفته الآيات بالنسبة لظروف نزولها كما هو المتبادر وهذا فضلا عما انطوى فيها من تلقين جليل مستمر المدى بالنسبة للمؤمنين والكافرين على السواء. وننبه هنا إلى ما نبهنا عليه مرارا من أن ما احتوته الآيات من دعاء على الكفار بالتعس وبإضلال أعمالهم وبأنه لا مولى لهم وأن النار مثواهم إنما هو تسجيل لواقع الأمر حين نزولها ، وإنه إنما يظل واردا في حق من يموت كافرا وحسب. وقد جاء هذا المعنى صريحا في آية من آيات هذه السورة على ما يأتي بعد قليل.

٣١٠

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (١٣)) [١٣].

وجّه الخطاب في الآية إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد تضمنت تقرير كون مدن كثيرة كان أهلها أشد قوة من أهل مدينته الذين اضطروه إلى الخروج منها قد أهلكهم الله ولم يجدوا لهم ناصرا منه.

وقد انطوى في هذا التقرير تقرير كون الله قادرا من باب أولى على إهلاك أهل مدينته والتنكيل بهم. واستهدفت الآية بذلك تسلية النبي وتطمينه وتثبيته كما هو المتبادر.

وقد روى المفسرون (١) عن ابن عباس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما خرج من مكة مهاجرا التفت إليها وقال : أنت أحبّ بلاد الله إلى الله وأنت أحبّ بلاد الله إليّ ولو لا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك فأعدى الأعداء من عدا على الله في حرمه أو قتل غير قاتله أو قتل بذحول الجاهلية. فأنزل الله الآية. وقد ذكر المصحف الذي اعتمدناه أنها نزلت في طريق هجرة النبي إلى المدينة أيضا.

غير أننا نلاحظ أن الآية متصلة بما سبقها من إنذار ووعيد للكفار ومنسجمة في السياق انسجاما وثيقا في حين أن الروايات تفيد أنها نزلت منفصلة عنها وفي ظرف غير ظروف نزولها مما يسوغ الشك فيها. وهذا لا يمنع أن يكون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ظل يذكر مرارة موقف مشركي قريش منه واضطراره بسبب ذلك إلى الخروج من بلده ، فاقتضت حكمة التنزيل الالتفات في الخطاب إليه في سياق إنذار الكفار وتثبيته وتطمينه بأن الله سوف ينتقم منهم كما انتقم ممن هم أشد منهم قوة.

(أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٤)) [١٤].

في الآية تساؤل إنكاري عما إذا كان الذين هم على بينة من ربّهم سائرون

__________________

(١) انظر الطبري والبغوي والخازن وابن كثير. وننبه على أن رواية البغوي للنص ليس فيها جملة (فأعدى الأعداء) إلخ وهذه الجملة من مرويات الطبري. والخازن عادة ينقل عن البغوي وابن كثير عن الطبري.

٣١١

على طريق الحق والهدى يصح أن يكونوا سواء مع الذين اتبعوا الهوى وانقلبت الحقائق في عقولهم وزينت لهم أعمالهم السيئة.

وتضمنت الآية نفي إمكان التسوية بين الفريقين على ما تلهمه روحها.

وقد رأينا الخازن ينفرد في القول إن الآية في صدد المقايسة بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبي جهل وغيره من مشركي قريش. ولم يسند قوله إلى رواية ما. والمتبادر أنها استمرار للسياق وفيها معنى التعقيب على الآيات السابقة مع التنويه بالصالحين المهتدين والتنديد بالضالين المسيئين.

(مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (١٥)) [١٥].

(١) غير آسن : غير منتن أو غير متغير الرائحة والطعم نتيجة للفساد والركود.

والآية استمرار في السياق أيضا كما هو المتبادر. وقد استهدفت تقرير عدم إمكان التسوية في المصائر الأخروية بين الصالحين المهتدين والضالين المسيئين لعدم إمكان التسوية بينهم بسبب مسلك كل منهم. فالمتقون موعودون بجنة فيها الأنهار من الماء النقي السائغ واللبن الطيب والخمر اللذيذ والعسل المصفى وكل الثمرات بالإضافة إلى رضاء الله ومغفرته في حين أن الكافرين الضالين المسيئين مقدر عليهم الخلود في النار ، يشربون فيها الماء الشديد الغليان الذي يقطع الأمعاء.

والتعبيرات الوصفية عما في الجنة والعذاب في الآخرة مستمدة من مألوفات الدنيا في أصلها. وقد جاءت بأسلوب التفخيم والتعظيم لحظ الناجين والتهويل لحظ الأشقياء للتشويق والإرهاب مما جرى عليه النظم القرآني واستهدفه على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة. مع التنبيه إلى أن ما فيها ليس خارجا عن نطاق قدرة الله تعالى ووجوب الإيمان بحقيقتها المغيبة التي أخبر عنها القرآن

٣١٢

والوقوف عند ذلك مع الإيمان بأن لا بد من حكمة سامية في ذكر ذلك لعل منها ما ذكرناه من تشويق وترهيب.

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآيات حديثا رواه الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول في الجنة بحر اللبن وبحر الماء وبحر العسل وبحر الخمر ثم تشقّق الأنهار منها بعد». وحديثا رواه أبو بكر بن مردويه عن عبد الله بن قيس عن أبيه قال «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم هذه الأنهار تشخب من جنة عدن في جوبة ثم تصدّع بعد أنهارا» وحديثا رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني عن لقيط بن عامر قال «قلت يا رسول الله فعلام نطلع من الجنة قال على أنهار عسل مصفّى وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وماء غير آسن وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون وخير من مثله ، وأزواج مطهّرة قلت يا رسول الله أولنا فيها أزواج مصلحات قال الصالحات للصالحين تلذّونهن مثل لذّاتكم في الدنيا ويلذّونكم غير أن لا توالد».

وينطوي في الأحاديث توضيحات نبوية للآيات وترغيب وتبشير متسقان مع ما استهدفته كما هو المتبادر.

(وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (١٧)). [١٦ ـ ١٧]

(١) ماذا قال آنفا : ماذا قال الآن من جديد.

في الآيتين حكاية لحالة من حالات بعض فئات الكفار والمنافقين وحالة المؤمنين حينما كانوا يحضرون مجالس النبي ويستمعون إلى ما يقوله ويبلغه ، حيث كان الأولون يحضرون هذه المجالس لاهية أذهانهم وقلوبهم مستخفّين بما يسمعون وحينما يخرجون يسألون بعض ذوي العلم والفهم من أصحاب رسول الله

٣١٣

الذين شهدوا المجلس عما قال النبي من شيء جديد فهؤلاء قد طبع على قلوبهم بسبب كفرهم ونفاقهم وخبث طواياهم ففقدوا السداد والرشاد والإدراك وانساقوا وراء الأهواء بخلاف المؤمنين المخلصين الذين كان الله يزيدهم هدى وفهما لما ينبغي أن يتقوا به الله كلما شهدوا مجالس النبي وسمعوا كلامه ومواعظه.

وسؤال (ما ذا قالَ آنِفاً) يحتمل أن يكون استخفافا وسخرية كما يحتمل أن يكون بقصد التأكد لأنهم لم ينتبهوا إلى ما كان يقوله النبي أو لم يعوه ويفهموه ، وقد ذكر المفسرون الاحتمالين. وفي سورة التوبة آيتان قد تكونان من هذا الباب وتفيدان أن السؤال على سبيل السخرية والاستخفاف وهما هاتان (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥)) حيث يصح الاستئناس بالآيتين لترجيح احتمال الاستخفاف والسخرية في السؤال الذي نحن في صدده.

وجملة (وَمِنْهُمْ) التي بدئت بها الآيتان تدلّ على أنهما معطوفتان على موضوع الكلام السابق أي الكافرين. حيث يفيد هذا أولا : أن الآيتين استمرار للسياق السابق. وثانيا : أن الكفار كانوا يجلسون إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع غيرهم. ويستمعون إليه في العهد المدني أيضا.

وإذا صح هذا الاستنتاج فيكون هؤلاء الكفار من المعاهدين أو المسالمين وليسوا على كل حال من أعداء محاربين. ويكون في ذلك صورة من صور هذا العهد.

على أن هناك احتمالا بأن يكون هؤلاء من المنافقين أيضا. وفي آيات تأتي بعد قليل إشارات إلى مواقف المنافقين ومرضى القلوب وحملة عليهم وفضح لأخلاقهم ومكائدهم حيث يستأنس بذلك على هذا الاحتمال.

وهذا الاحتمال لا يقطع الصلة الموضوعية بين هاتين الآيتين والسياق

٣١٤

السابق. وكل ما هناك أن الكلام يكون قد نقل من قبيل الاستطراد إلى ذكر مواقف المنافقين.

وننبه على أن المفسرين لم يرووا مناسبة ما لهاتين الآيتين أيضا كما هو الأمر بالنسبة للآيات السابقة. حيث يصحّ أن يقال إن السياق جميعه من أول السورة عرض عام لمواقف المؤمنين والكفار والمنافقين وما يجب على المؤمنين أن يفعلوه مع الكفار الصادين عن سبيل الله. والله أعلم.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (١٨)) [١٨].

(١) أشراطها : علاماتها. والكلمة جمع شرط بمعنى العلامة والأمارة.

في الآية : سؤال استنكاري عما إذا كان الذين هم موضوع الكلام السابق أي الكافرين أو الكافرين والمنافقين. ينتظرون قيام الساعة حتى يخافوا ويؤمنوا مع أنها لا تأتي إلّا بغتة وقد جاءت أشراطها. وحينما تأتي لا ينفعهم التذكر والارعواء.

تعليق على الآية

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها ...) إلخ

والآية متصلة بالسياق كما هو المتبادر. وقد أورد المفسرون قولا لابن عباس (١) جاء فيه إن بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أشراط الساعة ومعالمها. وحديثا رواه الشيخان والترمذي أيضا جاء فيه إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : بعثت أنا والساعة هكذا ،

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في البغوي والخازن وابن كثير. والنصوص منقولة من الخازن. وهناك أحاديث عديدة أخرى واردة في كتب الأحاديث الصحيحة منها ما يقارب بعض هذه النصوص في علامات الساعة لم نر إيرادها لأن الآية مصبوبة على ما جاء من أشراطها.

انظر إذا شئت التاج ج ٥ ص ٢٧٣ وما بعدها.

٣١٥

ويشير بأصبعيه فيمدّهما ، وفي رواية أنه ضمّ السبابة والوسطى ، بقصد بيان تقارب بعثته وقيام الساعة (١).

ولقد أوردوا بالإضافة إلى ذلك أحاديث أخرى عن أشراط الساعة منها حديث عن أنس رواه قرب وفاته قال «ألا أحدّثكم حديثا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يحدثكم به أحد غيري سمعت رسول الله يقول : لا تقوم الساعة أو قال من أشراط الساعة : أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويشرب الخمر ويفشو الزنا ويذهب الرجال ويبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيّم واحد» (٢) وثان عن أبي هريرة جاء فيه «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنّ من أشراط الساعة أن يتقارب الزمان وينقص العلم وتظهر الفتن ويبقى الشحّ ويكثر الهرج قالوا : وما الهرج؟ قال القتل» (٣) وثالث عن أبي هريرة جاء فيه «أن أعرابيا جاء إلى النبي فقال له متى الساعة وكان يتكلّم فمضى حتى أتمّ كلامه ثم سأل عن السائل ، فقال : ها أنا ذا يا رسول الله ، فقال إذا ضيّعت الأمانة فانتظر الساعة. قال وكيف إضاعتها؟ قال : إذا وسد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» (٤) ولما كان ما جاء في هذه الأحاديث لم يكن قد تحقق حين نزول الآية ، فالأولى أن يكون هدفها على ضوء قول ابن عباس والحديث النبوي الأول ما هو متحقق من الأشراط حين نزولها ، وهو بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وعلى كل حال فإن الآية بسبيل التنديد بالمنافقين والكافرين لارتكاسهم في الضلال والغواية وعدم استجابتهم إلى دعوة الله قبل فوات الفرصة لأنها إذا فاتتهم ندموا حيث لا ينفع الندم. وبعبارة أخرى بسبيل الحثّ على الارعواء والاستجابة بدون إبطاء وإضاعة وقت. وهذا المعنى قد تكرر في آيات كثيرة مرت أمثلة عديدة منها لنفس الغاية والهدف.

__________________

(١) المصدر السابق نفسه.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

٣١٦

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (١٩)). [١٩]

(١) متقلبكم : تنقلكم وحركاتكم.

(٢) مثواكم : إقامتكم وسكناتكم.

عبارة الآية واضحة. وفيها التفات إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على سبيل التعقيب على الآيات السابقة. كأنما أريد أن يقال له فيها والله أعلم بقصد التسلية والتثبيت : إنه لا ينبغي أن يغتم كثيرا لتصامم أولئك الكفار والمنافقين عن الدعوة واندفاعهم في الغواية والضلالة فالله كاف لهم. وليس عليه إلّا الاستمرار في توحيد الله والدعوة إليه والتقرب إليه بالعبادة وطلب الغفران لذنبه وذنوب المؤمنين والمؤمنات. والله هو العليم بجميع حركاتهم وسكناتهم وحلّهم وترحالهم وبيده مصائرهم.

ومثل هذه الآية كثير في مقام التعقيب والتطمين في مثل هذه المواقف مما مرّ منه أمثلة عديدة.

ومقطع (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ورد لأول مرة في سورة غافر وعلقنا عليه بما يغني عن التكرار. أما أمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات فإنه يأتي لأول مرة بصيغته. وقد قال البغوي إن فيه إكراما للمؤمنين والمؤمنات لأن النبي هو الشفيع المجاب فيهم. وهذا تأويل وجيه. وقد يصح أن يضاف إليه أن الجملة جميعها تتضمن تلقينا بأن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يطلب دائما من الله تعالى الغفران لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات حتى يظلوا قيد رحمته وهو يعرف كل ما يكون منهم في مختلف ظروفهم ويعرف أنهم بطبيعتهم البشرية لا يمكن أن يخلوا من هفوات ومواقف تقتضي الاعتذار منها إليه. ثم تطمينا بأن الله تعالى وقد شاءت حكمة التنزيل أن يأمر نبيه بالاستغفار لنفسه وللمؤمنين والمؤمنات قد شاءت حكمته كذلك الاستجابة لهذا الاستغفار وغدوّ الجميع قيد رحمته. وقد يدعم هذا ما رويناه في سياق أواخر سورة البقرة من حديث يفيد أن الله عزوجل حينما أوحى

٣١٧

بالآيات التي فيها تعليم للمؤمنين بما يدعونه به أوحى إلى النبي بواسطة ملك الله أنه قد استجاب إليهم. والله تعالى أعلم.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (٢٠) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤)) [٢٠ ـ ٢٤].

(١) لو لا : هنا للتمني.

(٢) محكمة : هنا بمعنى صريحة حاسمة.

(٣) فأولى لهم : بعض المفسرين قالوا إنها دعاء في مقام التنديد والوعيد ، وبمعنى ويل لهم أو جاءهم ما يكرهون (١). ومنها ما جاء في سورة القيامة (أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٤) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (٣٥)) وبعضهم ربطها بالجملة التي بعدها ليكون معناها أولى لهم أن يقولوا طاعة (٢). والقول الأول هو الأوجه المتسق مع روح الآيات كما يتبادر لنا.

في الآيات :

(١) حكاية لما كان يتمناه المخلصون من المؤمنين من نزول سورة قرآنية حاسمة تأمر بالجهاد حتى يجاهدوا في سبيل الله.

(٢) وحكاية لحالة ذوي القلوب المريضة حينما ينزل الله سورة محكمة

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي والزمخشري وفي أكثر هذه الكتب القولان معا.

(٢) المصدر نفسه.

٣١٨

وحاسمة بذلك حيث يستولي عليهم الرعب وينظرون إلى النبي نظر الذي في حالة الاحتضار المملوء بالرعب والفزع واليأس.

(٣) ودعاء عليهم وتنديد بهم من أجل هذه الحالة التي تعتريهم.

(٤) وتعقيب على هذا الموقف الكئيب الكريه. فلقد كان الأولى بهم والأفضل أن يعلنوا السمع والطاعة ويظهروا الاستعداد لاستجابة أمر الله بالقول الحسن ثم يصدقوا الله إذا ما جاء وقت التنفيذ والعزيمة وندبوا إلى القتال.

(٥) وتساؤل تنديدي موجّه إلى هذه الفئة عما يتوقع منهم إذا تولوا حيث يفسدون في الأرض ويقطعون ما بينهم بذلك من الأرحام في حين أن الذين يفعلون ذلك يستحقون لعنة الله ويكونون كمن أعمى الله أبصارهم وأصمّ آذانهم.

(٦) وتساؤل استنكاري ينطوي على التنديد والتعقيب أيضا عما إذا كانت هذه الفئة لا تتدبر ما في القرآن من مواعظ وآيات بينات ولا تتأثر بها ، أم هل على قلوبهم أقفال فلا ينفذ إليها شيء من ذلك.

تعليق على الآية

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ ..)

والآيات الأربع التي بعدها

ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات. والمتبادر أنها فصل ملحق بالفصل السابق احتوى ذكر حالة أخرى من حالات المنافقين في المدينة والتنديد بهم عليها. وهي وقوفهم من الدعوة إلى الجهاد وقوف الخائف المثبط المتخاذل. وقد تكرر ذكر هذه الحالة عنهم في مناسبات عديدة سابقة ولا حقة. وفي سورة النساء فصل فيه مماثلة لهذا الفصل. وقد رويت في سياق ذلك رواية ذكرناها هناك عن مراجعة بعض كبار المسلمين وأقويائهم ومخلصيهم للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشأن الإذن لهم بالجهاد ومقابلة عدوان الكفار بالمثل ، ثم اعتراض المنافقين وتذمرهم من فرض الجهاد وتمنّيهم أن يكون هذا الفرض قد تأخر مدة أخرى. والأولى أن تكون

٣١٩

الرواية في مناسبة هذه الآيات لأن في أولاها إشارة صريحة إلى تلك المراجعة في حين أنه ليس في آيات النساء مثل هذه الإشارة.

ولقد تعددت روايات وأقوال المفسرين (١) في تخريج الآية [٢٢] فقال بعضهم إنها بمعنى «إنكم إن أعرضتم وتوليتم عن سماع القرآن وتنفيذ أوامره عدتم إلى جاهليتكم فأفسدتم في الأرض وقطعتم بذلك أرحام بعضكم» وقال بعضهم إنها بمعنى «إنكم إن نكلتم عن الجهاد عدتم إلى ما كنتم عليه من الفساد وتقطيع الأرحام» وقال بعضهم إنها بمعنى «إذا توليتم الأمور أفسدتم في الأرض وقطعتم أرحام بعضكم» بل وقال بعضهم. إنها في صدد ما فعله بنو أمية حينما تولوا الأمر حيث قتلوا بني هاشم وبذلك أفسدوا في الأرض وقطعوا أرحامهم.

وأثر التشيع بارز في القول الأخير وليس له أي محل في مدى الآية. والقولان الأول والثاني هما أوجه من القول الثالث. وقد تبادر لنا تخريج نرجو أن يكون فيه الصواب وهو «إنكم إذا لم تنفذوا أمر الله وتصدقوا النية في الجهاد وتقابلوا فرضه بالرضا والطاعة تكونوا بذلك قد أطمعتم العدو وجعلتموه يفسد في الأرض ويعتدي عليكم ويقطع ما بينكم من الأرحام» والله أعلم.

وأسلوب الآيات قوي لاذع. يلهم ما كان لموقف مرضى القلوب والمنافقين في نفس النبي والمخلصين من أثر ، وما كان يتوقع منه من شر وخطر ومفسدة. وفيها تلقين قوي مستمر المدى بتقبيح وقوف أية فئة من الأمة موقف الجبن والفزع والإحجام والتخاذل وعدم التضامن مع المجموع في دفع البغي والعدوان وبيان ما ينجم عن ذلك من أخطار ومفاسد لا تسلم منها هذه الفئة نفسها لا في وطنها ولا في دمها ولا في ذويها.

ولفظ (سُورَةٌ) هنا قد يفيد أمرا قرآنيا أو جملة قرآنية على الإطلاق أكثر منه

__________________

(١) انظر كتب التفسير السابقة الذكر وفي أكثرها الأقوال المتعددة.

٣٢٠