التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

يستحلون أموال غيرهم وخيانتهم والاحتيال عليهم. وهو ما تفيده جملة (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) ولقد حكت بعض أسفارهم أن الله وصّاهم بعدم هضم الغريب وظلمه ومضايقته (١) ولذلك استحكمت فيهم الفقرة الأخيرة من الآية [٧٥] من سورة آل عمران (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

وقد يرد أن اليهود إنما نهوا في أسفارهم عن أخذ الربا من أقاربهم دون الأجانب (٢). وما دام القرآن يحكي عنهم أنهم كانوا يأخذون الربا الذي نهوا عنه فيكونون إما أنهم تجاوزوا ما أمروا به فصاروا يأخذون الربا من أقاربهم وإما أن وصية الله لهم هي عدم أخذ الربا من أحد ما فحرفوا كتبهم ليستحلوا أخذ الربا من غيرهم. وهناك نصوص عديدة في أسفار العهد القديم فيها ذمّ مطلق للربا والمرابين حيث يكون في ذلك تأييد لكون الربا كان محرما عليهم مطلقا فاستحلّوه (٣).

وجملتا (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) و (وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يمكن أن تكونا بالنسبة لسابق تاريخ اليهود على ما حكته عنهم أسفار عديدة من أسفارهم ويمكن أن تكونا بالنسبة لعهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث حكت ذلك عنهم آيات قرآنية عديدة منها ما جاء في سورتي البقرة وآل عمران اللتين مرّ تفسيرهما. ومنها في ما جاء في آيات في سورتي المائدة والتوبة مثل الآيات [٤٢ و ٦٢] في المائدة و [٣٤] في التوبة.

هذا ، والآيات في جملتها تدل على أنها نزلت في ظرف كان فريق من اليهود فيه ما زال موجودا في المدينة وكان على شيء من القوة والاعتداد حتى يستطيع أن يجادل ويتحدى. وبعبارة ثانية تدل على أنها نزلت في وقت مبكر. وقبل التنكيل ببني قريظة الذي مرت حكايته في سورة الأحزاب على كل حال كما هو الأمر بالنسبة للآيات [٤٤ ـ ٥٦] والآيات [١٣٩ ـ ١٤٣] من هذه السورة على ما نبهنا عليه من قبل.

__________________

(١) انظر الإصحاحات ٢٢ و ٢٣ من سفر الخروج و ١٩ من سفر الأحبار و ١٠ من سفر التثنية.

(٢) انظر الإصحاحات ٢٢ من سفر الخروج و ٢٣ من سفر التثنية.

(٣) انظر الإصحاح ١٤ من المزامير و ٢٨ من الأمثال و ١٨ من حزقيل.

٢٨١

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢)) [١٦٢].

(١) المقيمين الصلاة : تعددت الأقوال في سبب مجيء (وَالْمُقِيمِينَ) منصوبة مع أن الكلمات المعطوفة عليها قبلها وبعدها مرفوعة أي (الرَّاسِخُونَ) و (وَالْمُؤْمِنُونَ) و (وَالْمُؤْتُونَ). فهناك قول إنها قرئت هي الأخرى على الرفع والمقيمون وإنها في مصحف أبي بن كعب كذلك. وهناك قول إنها على سبيل الاختصاص وتقديرها أخصّ بالذكر المقيمين للصلاة. وهناك قول إنها معطوفة على (مِنْهُمْ) بمعنى لكن الراسخين في العلم منهم ومن المقيمين للصلاة. وقول إنها معطوفة على (بِما) بمعنى إنهم يؤمنون بما أنزل من قبلك وبالمقيمين للصلاة. وقول إنها من غلط الكتاب. وجمهور المفسرين يستبعدون الغلط ويرجحون الاختصاص (١).

احتوت الآية استدراكا استثنائيا فيه تنويه وبشرى بشأن الراسخين في العلم من اليهود وغيرهم الذين آمنوا برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويؤمنون بالله واليوم الآخر. فهؤلاء يؤمنون بما أنزل إلى النبي وما أنزل إلى الأنبياء السابقين قبله. وسوف يؤتيهم الله الأجر العظيم.

وقد روي (٢) عن ابن عباس أن الآية نزلت في عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعية وأسد بن سعية وأسد بن عبيد من مسلمة اليهود. وهذه الرواية لم ترد في الصحاح. والآية متصلة كما هو واضح بالسياق السابق اتصالا وثيقا. وإذا صحت الرواية فتكون الآية في صدد الإشارة إلى إيمان هؤلاء وأمثالهم من مسلمة اليهود

__________________

(١) انظر تفسيرها في الطبري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري.

(٢) انظر تفسير ابن كثير.

٢٨٢

على سبيل الاستثناء من الجملة التي حملت في الآيات السابقة على اليهود.

ويتبادر لنا أنها استهدفت بالإضافة إلى الاستثناء التنويهي تطمين النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتسليته وتدعيم موقفه. وقد يكون ضمير المخاطب في (إِلَيْكَ) قرينة على ذلك :فليس من موجب لانزعاجه واغتمامه. وإذا كان جمهور اليهود يقفون منه موقف الجحود ويطلبون منه ما يطلبون بقصد تعجيزه وتحديه فالراسخون في العلم وذوو النيات الحسنة منهم قد أدركوا حقيقة الأمر فصدقوا برسالته وآمنوا. وفي هذا ما فيه من البرهان والكفاية بالنسبة للموقف القائم بينه وبين اليهود.

وننبه على أن مثل هذا الاستدراك والاستثناء قد تكرر في سياق حكاية مواقف اليهود وتعجيزاتهم والحملة عليهم مما مرت منه أمثلة عديدة في سورتي البقرة وآل عمران مستهدفا نفس الهدف أيضا. وفي كل هذا صور تتكرر عن إيمان ذوي النيات الحسنة من علماء اليهود وغيرهم برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم دون مكابرة وعناد فيها دلالة على ما تحتويه الرسالة المحمدية من عناصر الاستجابة القوية التي لا يمتنع عنها إلا ذوو النيات السيئة والمآرب الخاصة مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.

والمفسرون يروون دائما في المناسبات المماثلة أسماء معدودة قليلة ممن أسلموا بل ويروون نفس الأسماء في كل مناسبة. في حين أن العبارة هنا قد تفيد أن الذين آمنوا من الراسخين في العلم وغيرهم من اليهود ليسوا بهذه القلة وإن كانت الروايات لا تساعد على إثبات ذلك.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ

٢٨٣

وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦)) [١٦٣ ـ ١٦٦].

في الآيات خطاب موجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقد تضمنت تقريرا :

(١) بأن الله قد أوحى إليه كما أوحى إلى نوح والنبيين من بعده ممن قصّ ذكرهم عليه في القرآن ومن لم يقص.

(٢) وبأن الله إنما يرسل رسله مبشرين ومنذرين للناس ليبينوا لهم طرق الحق والهدى ويحذروهم من الضلال والغواية حتى لا يكون لهم عليه حجة يحتجون بها عما يكون قد وقع منهم من انحراف وضلال.

(٣) وبأن الله يشهد والملائكة يشهدون معه أن ما أنزل على النبي إنما أنزل من عنده وبعلمه وشهادة الله هي أقوى الشهادات وكفى به شهيدا.

تعليق على الآية

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ..) إلخ

والآيات الثلاث التي بعدها

روى الطبري عن أهل التأويل ابن عباس وغيره روايات عديدة في نزول الآيات منها أنه لما نزلت الآيات السابقة التي فضحتهم قالوا ما أنزل الله بعد موسى على بشر من شيء. فأنزل الله الآيات لتكذيبهم. ومنها أن النبي لمّا تلا الآيات السابقة عليهم اغتاظوا وجحدوا كل الرسالات والكتب فأنزلها الله لتكذيبهم ومنها أن النبي قال لهم إنكم لتعلمون أني رسول الله فأنكروا. ومنها رواية خلطت بين هذه الآية وبين آية الأنعام (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [٩١].

والروايات لم ترد في الصحاح. ويتبادر لنا أنها وحدة تامة منسجمة ومتصلة هي الأخرى بالآيات السابقة اتصال تدعيم وتطمين إزاء مواقف اليهود حيث انطوى فيها تقرير بطلان موقفهم من النبي. وكون طلبهم إنزال كتاب من السماء تعجيزا لا موجب له. وذلك أن الله قد أوحى إلى النبي كما أوحى إلى غيره من الأنبياء فلم

٢٨٤

تكن دعوته أو دعواه شاذة. وأن اليهود قد آمنوا بهؤلاء الأنبياء الذين أوحى الله إلى النبي بمثل ما أوحاه إليهم. وتطابقت دعوتهم مع دعوته ودعوته مع دعوتهم وحالتهم مع حالته. وإن جحود اليهود برسالته وتعجيزه وتحديه بالمطالب ليس إلّا من سوء النية وخبث الطوية التي عرفوا بها هم وآباؤهم من قبل. والله شاهده ومؤيده وكفى به شاهدا ومؤيدا.

والآيات قوية الأسلوب قوية الإلزام والإفحام فيما احتوته من مقاصد ومعاني التدعيم والتطمين والبرهان كما هو واضح. ومن شأنها بعث القناعة والطمأنينة والثقة في ذوي النيات الحسنة والقلوب النقية. وأسلوبها من أساليب القرآن المتكررة في مخاطبة العقل والقلب في صدد تدعيم صحة نبوة النبي وصدق دعوته ورسالته وكونها شيئا طبيعيا ليس فيها ما يستدعي العجب والإنكار. وكون إنكارها والمكابرة فيها هما اللذان يستدعيان العجب. وهو أسلوب امتاز به القرآن والرسالة المحمدية العظمى.

وجملة (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) من العبارات القرآنية الحاسمة التي تضمنت حكمة إرسال الله الرسل وإنزال الكتب والشرائع عليهم حتى يتبين الناس طريق الحق والهدى والخير والعدل من طريق الباطل والضلال والشر والظلم مما قد لا يتبينه جميع الناس بمداركهم الخاصة ويستحق كل منهم جزاءه الدنيوي والأخروي وفاقا لما يختار مما هو متسق مع التقريرات القرآنية العامة. حتى لا يبقى لهم حجة يحتجون بها.

وقد يقال إن الله جلّ عن أن يكون للناس عليه حجة ما ـ وهو الخالق البارئ المطلق التصرف في خلقه. وهذا حق من دون ريب ـ ولكن لمّا اقتضت حكمته أن يحاسب الناس على أعمالهم ويجزون عليها في الدنيا والآخرة اقتضت حكمته ورحمته أن يعلن لهم أنه لم يبق لهم حجة يحتجون بها بعد ما أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم الكتب جريا على أسلوب الإعذار المعتاد في التخاطب البشري.

وأسماء الأنبياء المذكورة في الآيات وردت في مواضع عديدة أخرى في سور

٢٨٥

سبق تفسيرها وعرفنا بهم بما يغني عن التكرار. وجملة (وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) في الآية [١٦٤] قد ورد ما يماثلها في الآية [٧٨] من سورة غافر. وقد أوردنا ما هنالك من أحاديث وأقوال في صدد عدد الأنبياء والرسل وعلقنا على ذلك في سياق هذه الآية بما يغني عن التكرار كذلك.

ولقد وقف المفسرون عند جملة (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) من الآية [١٦٤] فقال الطبرسي إن الله كلّم موسى بلا واسطة. ولم يعز قوله إلى أحد. وروى الطبري عن نوح ابن مريم أن الله كلّم موسى مشافهة. وعن جزء بن جابر أنه قال سمعت كعبا يقول إن الله كلم موسى بالألسنة كلها فجعل يقول يا رب لا أفهم فكلّمه بلسانه فقال له يا رب هكذا كلامك قال لا ولو سمعت كلامي على وجهه لم تك شيئا فهو كأشد ما يسمع الناس من الصواعق». وقال الزمخشري إن معنى الجملة «جرّح الله موسى بأظفار المحن ومخالب الفتن» والزمخشري معتزلي ومذهبه عدم إثبات صفة كلام لله خارجة عن ذاته تعالى. والكلام المباشر هو خارج عن ذات الله في مذهب الاعتزال. ولقد فنّد ابن كثير وغيره كلام الزمخشري وأورد آية الأعراف (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) [١٤٣] كدليل قرآني على كلام الله المباشر لموسى عليه‌السلام.

وتعليقا على ذلك نقول :

أولا : إن كعب هو من مسلمة اليهود الذين تروى عنهم ما يسمى بالإسرائيليات التي فيها كثير من المبالغات والأكاذيب فيجب التحفظ في ما نقل عنه.

وثانيا : إن تفنيد ابن كثير وغيره لتأويل الزمخشري للجملة في مجمله فهو تأويل تعسفي بعيد عن مدى الآية ومقامها.

وثالثا : إن الدليل الذي ساقه ابن كثير على كون كلام الله لموسى مباشرة قوي وهو منطو في آيات أخرى مثل آيات طه [١١ ـ ٢٤] والنمل [٨ ـ ١٢] والقصص [٢٩ ـ ٣٥].

٢٨٦

ورابعا : إن المصدر الذي يصح أن يستند إليه في صفة وكيفية كلام الله بعد القرآن الذي لا يوجد فيه بيان لذلك هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وليس هناك حديث نبوي صحيح فيما اطلعنا عليه في ذلك.

وخامسا : إن الواجب ملاحظة كون هذا الأمر متصلا بسرّ الله تعالى وصفاته التي لا تدركها عقولنا وملاحظة الضابط القرآني المنطوي في آية الشورى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [١١] وآية الأنعام (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [١٠٣] ثم الإيمان بما ورد في القرآن والوقوف عنده. وعدم الخوض في الماهيات والكيفيات المتصلة بسرّ واجب الوجود على ما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩)) [١٦٧ ـ ١٦٩].

عبارة الآيات واضحة. ولم نطلع على رواية خاصة بنزولها. والمتبادر أنها متصلة بالآيات السابقة اتصال تعقيب وإنذار وأنها بناء على ذلك في صدد اليهود. وتدل على ما كان لمواقفهم ودسائسهم وتشكيكاتهم من أثر في عرقلة الدعوة الإسلامية.

وتعبير (كَفَرُوا وَظَلَمُوا) مع سبق تعبير (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) يدل على أن اليهود لم يكتفوا بالكفر برسالة النبي ومنع الناس عنها منعا هادئا بل تجاوزوا ذلك إلى البغي والعدوان أيضا. وفي هذا قرينة على ما قلنا من أن الفصل نزل في وقت كان اليهود فيه على شيء من القوة.

وأسلوب الآيات المطلق يجعل فيها إنذارا وتعنيفا عاما مستمرا لكل من يقف نفس المواقف بطبيعة الحال. وهذا مما جرى عليه النظم القرآني.

٢٨٧

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠)) [١٧٠].

عبارة الآية واضحة هي الأخرى. ولم نطلع على رواية ما في سبب نزولها أيضا. ومن المحتمل أن تكون معقبة على الآية السابقة ومتصلة بها. ومن المحتمل كذلك أن تكون متصلة بالآيات اللاحقة لها اتصال تقديم وتمهيد. وهي على كل حال قوية نافذة موجهة إلى العقول والقلوب معا. وعامة التوجيه لكل نحلة وملة وجنس. فرسالة الرسول الذي جاءهم بالحقّ من ربهم هي دعوة لجميع الناس إلى الله وسبل الخير والصلاح والسعادة في الدنيا والآخرة. والإيمان بها هو لمصلحة المؤمنين بها وخيرهم. لأن الله غني عن الذين يكفرون بها وهو الذي له ما في السموات والأرض وهو العليم بكل شيء الحكيم الذي لا يأمر إلّا بما فيه الحكمة والسداد.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧٣)) [١٧١ الى ١٧٣].

(١) الاستنكاف : بمعنى الأنفة.

وجّه الخطاب في الآيات إلى أهل الكتاب. وعبارتها واضحة. وهي تلهم أنها تقصد النصارى. وقد تضمنت :

٢٨٨

(١) دعوة إلى عدم الغلوّ في عقيدتهم في المسيح والكفّ عن القول إن الله ثلاثة.

(٢) وتقريرا لحقيقة ولادة المسيح وكونها معجزة ربانية بكلمة ألقاها الله إلى مريم وروح منه.

(٣) وتقريرا للعقيدة الصحيحة في الله وهي أن الله واحد جلّ وتنزه عن أن يكون له ولد وله ما في السموات وما في الأرض.

(٤) وتقريرا لحقيقة موقف المسيح من الله. فهو لن يأنف من أن يكون عبدا له ولن يستكبر ؛ كما أن الملائكة المقربين لن يأنفوا من ذلك ولن يستكبروا.

(٥) وإنذار للمستنكفين والمستكبرين وبشرى للمؤمنين. فالله سبحانه سوف يحشر الناس جميعا إليه فيوفي الذين آمنوا وعملوا الصالحات أجورهم ويزيد عليها من فضله. ويعذب الذين استكبروا واستنكفوا عذابا أليما لا ينقذهم منه وليّ ولا نصير.

تعليق على الآية

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ ...) إلخ

والآيتين التاليتين لها واستطراد إلى عقيدة التثليث

ولم نطلع على رواية خاصة في نزول الآيات إلّا ما جاء في تفسير الخازن في صدد الآية [١٧٢] حيث قال : وذلك أن وفد نجران قالوا يا محمد : إنك تعيب صاحبنا فتقول إنه عبد الله فقال لهم ليس بعار على عيسى أن يكون عبد الله فنزلت الآية.

ولسنا نرى هذه الرواية في محلها. وقد مرت الإشارة إلى وفد نجران وما جرى بينه وبين النبي في سورة آل عمران. والآيات بعد وحدة تامة منسجمة. والمتبادر منها أنها جاءت استطرادية لبيان حقيقة الأمر في عيسى عليه‌السلام

٢٨٩

والإهابة بالنصارى إلى الانتهاء هم الآخرون من غلوهم وتطرفهم وقولهم غير الحق على الله وعيسى. والإيمان بالله إلها واحدا منزها عن التعدد بأي تأويل كان. والاستجابة إلى دعوة رسوله الذي جاء منه بالحق بعد ما سبق من حملة التقريع على اليهود من الإشارة إلى عقيدتهم في عيسى وأمه وموقفهم منه. واختلاف الناس في شأنه وفي صلبه اختلافا قائما على الظنون ، وبعد ما أشير إلى طبيعة الرسالة المحمدية واتساقها مع سنّة الله في إرسال الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة وتوكيد صحتها وإيمان الراسخين في العلم من أهل الكتاب بها.

ومثل هذه الاستطرادات مألوف في النظم القرآني مما نبهنا عليه في مناسبات عديدة سابقة.

وأسلوب الآيات قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول معا. وفيه إنذار وبشرى وتنديد وعظة وبرهان في آن واحد.

والعبارات الواردة في الآيات في صدد معجزة ولادة المسيح مقاربة لما ورد في آيات أخرى. فقد وردت جملة (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) في آية سورة آل عمران [٤٥] والكلمة هنا وهناك في معنى أمر الله وإرادته المتمثلة في جملة (كُنْ فَيَكُونُ) الواردة في الآية [٤٧] من السورة نفسها على ما عليه الجمهور. وهذه الجملة وردت في الآية كجواب لمريم التي استغربت أن تلد دون أن يمسها رجل على ما حكته الآية [٤٦] وقد ورد في سورة الأنبياء هذه الآية (وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١)) وكلمة فنفخنا فيها من روحنا في معنى (وروح منه) على ما عليه الجمهور لذلك.

ولقد علقنا على مدى هذه العبارات في المناسبات المذكورة فلا نرى حاجة لتعليق جديد.

٢٩٠

والإشارة إلى عقيدة التثليث القرآنية التي تضمنتها جملة (وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ) في الآيات تأتي هنا لأول مرة. والمعروف أن جمهور النصارى اليوم يعتقدون بإله واحد في ثلاثة أقانيم متساوية بما يعرف بالأب والابن وروح القدس. غير أن العبارة القرآنية هنا تفيد أن النصارى الموجه إليهم الخطاب كانوا يقولون إن الآلهة ثلاثة. ولقد ذكرت المدونات المسيحية القديمة أن من النصارى من كان لا يعتقد بالمساواة التامة بين الأقانيم الثلاثة مع اعتبار الثلاثة واحدا. وإن أكثر النصارى في الشام والعراق ومصر أو كثيرا منهم كان على ذلك (١) بحيث يصح القول إن الخطاب القرآني قد وجه إليهم في الدرجة الأولى والمباشرة لأنهم الذين لهم صلة بالبيئة النبوية. وفي سورة المائدة آيتان هما [٧٢ و ٧٣] واحدة تذكر عقيدة نصارى بأن المسيح ابن مريم هو الله وأخرى تذكر عقيدة نصارى كون الله ثالث ثلاثة. ومما لا يتحمل مراء أن القرآن يقرر واقعا سواء أفي الآيات التي نحن في صددها أم في آيات سورة المائدة.

ومهما يكن من أمر فالآيات هي بسبيل تسفيه عقيدة التثليث ونسبة الولد إلى الله التي كانت عقيدة النصارى. وتقرير كون ذلك مجافيا لأي عقل ومنطق. وتقرير وحدانية الله عزوجل بدون أي شائبة أو تأويل سواء أكان ذلك حقيقة أم مجازا. وهذه هي العقيدة الصافية الخالية من التعقيد التي جاء بها نبي الإسلام بلسان كتاب الله القرآن لتصحيح الانحراف وتقرير كون الله واحدا أحدا لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. ثم لتبرئة المسيح عليه‌السلام من دعوى تلك العقيدة ولتقرير عبوديته لله واستحالة استنطاقه أو استكباره عن ذلك.

وقد حكت آيات قرآنية عديدة أن كل هذا مما قاله المسيح للناس منها في سور مرّ تفسيرها ومنها في سور يأتي تفسيرها ونكتفي بالإشارة إلى أرقامها وهي آيات الزخرف [٦٣ و ٦٤] ومريم [٣٠ ـ ٣٦] والصف [٦] والمائدة [٧٢ و ١١٦ و ١١٧]

__________________

(١) انظر تاريخ سورية للدبس المجلد ٣ ج ٢ والمجلد ٤ ج ٢ وكتابنا تاريخ الجنس العربي ج ٢ ص ٣٢٦ وما بعدها وج ٤ ص ٣١٦ وما بعدها وج ٥ ص ٣٧٣ وما بعدها.

٢٩١

ولقد أوردنا في سياق تفسير آيات سورة مريم طائفة من نصوص الأناجيل المتداولة التي فيها تطابق وتساوق مع ما قررته الآيات القرآنية عن شخصية عيسى ودعوته مع تعليقات وافية على هذا الأمر فنكتفي بهذا التنبيه دون التكرار. وإن كان من شيء نزيده هنا هو أن الأناجيل الأربعة المتداولة التي يعترف بها النصارى والتي تروي أقوالا عن عيسى عليه‌السلام لا تنسب عقيدة التثليث إليه بل وليست هذه العقيدة واردة فيها بصراحة وحبك. وكل ما فيها ألفاظ الأب والابن وروح القدس بدون جمع وحبك. وإن العقيدة حبكت بشكلها الذي يدين به النصارى اليوم في المجامع الدينية التي كانت تنعقد في زمن الدولة الرومانية بسبب الاختلافات التي كانت تنشب بين رجال الدين النصراني حول مدى هذه الألفاظ. وفي تفسير المنار لرشيد رضا فصل في عقيدة التثليث في سياق تفسير الآيات أورد فيها أقوالا عديدة لعدد من الباحثين في تقرير كون عقيدة التثليث ليست جديدة ونتيجة لما كان من تأويلات لأقوال عيسى المروية في الأناجيل بل هي قديمة تداولتها الأمم قبل النصرانية بقرون كثيرة حيث كانت عند المصريين والفرس والبراهمة والبوذيين (١). وقد تسربت إلى المسيحية من طريق الرومان الذين كان لهم الحكم في بلاد الشام في وقت ظهور المسيح وبعده إلى أمد طويل فنكتفي بالإشارة إلى ذلك.

وفي كتاب العقائد الوثنية في الديانة النصرانية لطاهر التنير فصول عديدة مستندة إلى مدونات قديمة وحديثة غريبة كتابها ممن ينتسبون إلى النصرانية أصلا في قدم عقيدة التثليث والفداء والقيامة من الموت وتجسد الإله في ناسوت والصلب ومعجزة الولادة بدون مسّ إلخ بسبيل تقرير كون هذه العقائد مما تسرّب إلى النصرانية من العقائد القديمة فنكتفي بالإشارة إلى ذلك كذلك.

ومن العجيب أن يتخطى المبشرون النصارى كل هذه الحقائق ويتجاهلونها

__________________

(١) نضيف إلى هذا أن في عقائد الآراميين والآشوريين والبابليين والكنعانيين في بلاد الشام والسبئيين والمعنيين في اليمن شيئا من ذلك حيث كان عندهم ثالوث مؤلف من القمر كزوج والشمس كزوجة وعشتار كابن لهما انظر الأجزاء ١ و ٢ و ٣ و ٤ من كتابنا تاريخ الجنس العربي.

٢٩٢

وتصل بهم الجرأة والصفاقة إلى القول إن عقيدة التوحيد الإسلامية الصافية الخالية من كل تعقيد وشائبة هي بدائية تتناسب مع العرب البدائيين الذين جاء الإسلام إليهم (١). في حين أن عقيدة التثليث فيها معان فلسفية رفيعة تتناسب مع الأمم المتحضرة المثقفة التي انبعثت فيها النصرانية على ما قرأناه في رسالة نشرها مبشر اسمه موفق سعيد وفي كتب كتبها مبشر سمّى نفسه الأستاذ حداد اللذان قالا فيما قالاه إن الذين نعتهم القرآن بالكفر من النصارى هم نصارى العرب الذين حرفوا العقيدة النصرانية الفلسفية السامية ولم يفهموها. ولقد وقع كلاهما في تناقض مضحك حيث أرادوا تشبيه التثليث النصراني بمدى الآية القرآنية (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) على اعتبار أن تعدد الأقانيم هو تعدد صفات لإله واحد وهذه الجملة هي عنوان من عناوين التوحيد الإسلامي الذي نعتوه بالبدائية.

وهذه المزاعم متهافتة لا تكاد تتحمل تفنيدا. وقد تكفل القرآن بالرد على كل ذلك. وقد ألممنا بهذه المسألة في كتابنا (القرآن والمبشرون) ووضعناها في نصابها الحق بتوفيق الله فنكتفي بهذه الإشارة أيضا.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)) [١٧٤ ـ ١٧٥].

عبارة الآيتين واضحة ؛ وفيها هتاف للمرة الثانية موجّه للناس أن قد جاءهم برهان من الله ونور واضح على لسان رسوله. فلم يبق شيء غامض من حقائق ما يجب عليهم أن يسيروا فيه من سبيل الحق. وفيها بشرى للذين آمنوا بالله

__________________

(١) في هذا تجاهل وغباء آخر لأن في القرآن آيات كثيرة صريحة وقطعية بأن الإسلام جاء إلى الناس كافة من مختلف الأجناس والأديان وإلى أهل الكتاب نصا. وفيه آيات بأن الله سيظهره على الدين كله وقد اعتنقه ناس من مختلف الأجناس والألوان والأديان في حياة النبي واستمر بعده كذلك ومن جملتهم أهل كتاب فسقطت حجة كل مكابر.

٢٩٣

واعتصموا به وحده استجابة لله ورسوله فهم الذين يدخلهم الله في رحمته ويهديهم إلى طريقه المستقيم.

ولم نطلع على رواية خاصة في نزولهما والمتبادر أنهما متصلتان بالآيات السابقة اتصالا موضوعيا وتعقيبيا. وأسلوبها قوي نافذ موجه إلى القلوب والعقول. ولعل حكمة عدم ذكر الذين لم يؤمنوا ولم يعتصموا هي في كون المهم في الأمر هو التنويه بالمؤمنين المستجيبين المعتصمين والحثّ على الاستجابة والاعتصام.

هذا ، ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن هذه الآيات وما قبلها مما هو موجّه للنصارى واليهود وللناس انطوت على دلالة نصّية حاسمة بأن الدعوة المحمدية موجهة للناس جميعهم على اختلاف نحلهم وأجناسهم. وهذه العمومية موطدة في النصوص المكية وفي غير هذه الآيات من السور المدنية أيضا على ما نبهنا عليه في المناسبات السابقة. وفي هذا وذاك ردّ حاسم على بعض المستشرقين الذين يحلو لهم أن يزعموا أن فكرة العمومية في الرسالة المحمدية لم تكن صريحة أو على الأقل كانت طارئة ومتأخرة.

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)) [١٧٦].

(١) أن تضلوا : بمعنى لئلا تضلوا.

تعليق على الآية

(يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ ...) إلخ.

في الآية حكاية استفتاء أورد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في شأن إرث الكلالة ، أي الذي

٢٩٤

يموت ولم يكن له ورثة أصليون أو فرعيون أي آباء وأولاد ، وجواب بفتوى الله في ذلك ينطوي على القواعد التالية :

١ ـ إذا كان الميت كلالة رجلا وله أخت واحدة فلها نصف تركته. وإذا كان له أختان فلهما ثلثاها.

٢ ـ إذا كان الميت امرأة ولها أخ واحد فله جميع تركتها.

٣ ـ إذا كان للميت ـ رجلا كان أو امرأة ـ إخوة وأخوات عديدة فالتركة تقسم عليهم على أساس أن يكون نصيب الذكر ضعف نصيب الأنثى.

وقد روى المفسرون روايات عديدة في نزول هذه الآية. منها أنها نزلت بناء على سؤال من عمر بن الخطاب أو أنها نزلت في أمر جابر بن عبد الله الذي مرض وعنده مال ولم يكن له إلّا شقائق. أو أنها نزلت لأن المسلمين لم يكتفوا بالآية [١٢] من السورة التي فيها تشريع في صدد الكلالة فسألوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وجوه أخرى عنها. وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. والمجمع عليه أن حكم الآية [١٢] هو في حق من يموت كلالة وله أخوة وأخوات من أمه. وأن حكم الآية التي نحن في صددها هو في حق من يموت كلالة وله أخوة وأخوات أشقاء أو من أبيه. وهذا مستلهم من نص الآيتين. فالأولى تعطي الأخوة والأخوات الثلث وهذه تعطيهم جميع التركة إن كان فيهم ذكور وثلثيها إذا كان شقيقتان أو أكثر. بحيث يصح القول إن المسلمين استعظموا أن يكون نصيب الذي يموت أخوهم كلالة واحدا سواء أكانوا من أمه أم أشقاءه فاستفتوا النبي فأنزل الله الآية.

ويلحظ أنه يبقى بواق في حالة إرث الأخت والأختين لأخيهما الشقيق.

ومثل هذه البواقي ملموح في آيات المواريث الواردة في أول هذه السورة ... وقد تكفلت السنّة النبوية إيضاح ذلك على ما شرحناه سابقا وهذا ينسحب على هذه الآية.

ولم نطلع على أثر نبوي أو صحابي في أمر الذي يموت كلالة إذا لم يكن له أشقاء وله أخوة من أبيه فقط. أو إذا كان له أشقاء وله في نفس الوقت أخوة من أبيه

٢٩٥

أيضا. وفي موطأ مالك ما يفيد أن من كان له أخوة أشقاء ثم أخوة لأبيه فقط. فالأشقاء يحجبون الأخوة للأب فقط. وقد قال مالك إنه لا يعرف خلافا لذلك عند أهل العلم. أيضا وفي صدد حديث الكلالة عن أخوة للأب فقط جاء في الموطأ أيضا : إن مما لا خلاف عليه عند أهل العلم أن الأخ للأب أولى من بني الأخ لأم وأب. وهذا يعني أن الوارث هو الأخوة من أب إذا لم يكن للميت أشقاء من أم وأب وأنهم يحجبون أبناء الأخوة الأشقاء. والسداد والحق واضحان في هذا القول الذي يتفق فيه أهل العلم والذي يحتمل أن يكون مستندا إلى آثار نبوية وصحابية. وفي الموطإ أولويات مستندة كذلك إلى اتفاق أهل العلم. رأينا من المفيد إيرادها وفيها حق وسداد كما هو المتبادر وهي : إن بني الأخ للأب والأم أولى من بني الأخ للأب. وبني الأخ للأب أولى من أبناء بني الأخ للأب والأم. وبني الأخ للأب أولى من العم أخي الأب للأب والأم. والعم أخو الأب والأم أولى من العم أخي الأب للأب. والعم أخو العم للأب أولى من بني العم أخي الأب للأم والأب. وبني العم للأب والأم أولى من عم الأب أخي أبي الأب للأب والأم (١).

وهناك مسألة أخرى وهي ما إذا كانت الآية التي نحن في صددها والتي تعطي جميع التركة للأشقاء إذا كانوا أكثر من رجل وامرأة وتعطي جميع تركة الأخت لشقيقها وثلثي تركة الشقيق لشقيقتيه ونصفها لشقيقته. نسخت حكم الآية [١٢] التي تعطي سدس التركة للأخ أو الأخت لأم وثلثها إذا كانوا أكثر. والجاري المتفق عليه أنها لم تنسخها فالآية [١٢] قد فرضت للأخوة للأم فرضا فيبقى وما بقي بعد ذلك يعطى للأشقاء أو الأخوة من أب على الوجه المشروح بالنسبة للآية التي نحن في صددها.

والمتفق والجاري أن نصيب الزوجة من زوجها الذي يموت كلالة يبقى قائما مع الآية التي نحن في صددها لأنه مفروض في القرآن فرضا. وهذا مثل ذاك. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) انظر كل ما تقدم في الموطأ ج ٢ ص ١٣.

٢٩٦

هذا ولقد روى الطبري وغيره روايات عديدة من طرق مختلفة في صيغ متقاربة تفيد أن الآية التي نحن في صددها آخر آية نزلت من القرآن. وقد روى الشيخان والترمذي صيغة من هذه الرواية عن البراء قال «آخر سورة نزلت براءة وآخر آية نزلت (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ)» (١) هذا مع التنبيه على أن هناك حديثا يرويه البخاري عن ابن عباس جاء فيه «آخر آية نزلت على النبي آية الربا» (٢) ومهما يكن من أمر فالذي يتبادر لنا أن الآية التي نحن في صددها من أواخر ما نزل من آيات القرآن إن لم تكن آخرها. وقد يكون وضعها في آخر سورة النساء دون أن يكون لها أي صلة بالآيات السابقة لها دليلا قويا على ذلك. ثم على أن الآية نزلت بعد أن تمّ ترتيب وتأليف هذه السورة وعلى أن ذلك كان بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبالتالي على صحة ما ورد من آثار وأقوال بأن آيات السور القرآنية قد رتبت في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبأمره. لأنه لو كان جرى ذلك بعده اجتهادا من أصحاب رسول الله كما يقول بعضهم لكان من المعقول أن توضع الآية في سياق آيات المواريث أو بعدها بقليل.

وننبه على أن هناك أحاديث صحيحة تذكر أن آخر سورة نزلت هي سورة براءة أو سورة النصر ولا نرى تعارضا. فالأحاديث السابقة هي في صدد نزول آيات وهذه في صدد نزول سور وسوف نزيد هذا شرحا في مناسباته إن شاء الله.

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٨٩.

(٢) المصدر نفسه ص ٦٢ والمقصود من آية الربا هي على الأرجح آيات سورة البقرة [٢٧٥ ـ ٢٨٠] وقد نبهنا على ذلك في مناسباته السابقة.

٢٩٧

سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم

في هذه السورة تنديد بالكفار وكفرهم وصدهم عن سبيل الله. وحض للمؤمنين على قتالهم على أن لا يكون قتل إبادة. وتشريع بحق أسراهم. ومقايسات بين المسلمين والكفار ومصائر كل من الفريقين. وتنديد بمرضى القلوب ، وصور عن مواقفهم وتآمرهم مع اليهود. وحث للمسلمين على طاعة الله ورسوله والجهاد والبذل في سبيله ، وتنديد بمن يبخل أو يتهاون مع الأعداء. وقد روى بعض المفسرين (١) اسما آخر لها هو (سورة القتال) لما فيها من حض على قتال الكفار كما هو المتبادر.

وأسلوب السورة النظمي فريد. ويسوغ القول بوحدة نزولها أو تتابع فصولها حتى تمت. وقد روى المصحف الذي اعتمدناه أن الآية [١٣] نزلت لحدتها في طريق هجرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة. وانسجامها مع الآيات يحمل على التوقف في الرواية.

وترتيب هذه السورة في روايات ترتيب النزول التي يرويها المصحف الذي اعتمدنا عليه وغيره (٢) بعد سورة الحديد التي جاء ترتيبها في الروايات المذكورة بعد سورة النساء ، ولما كان محتوى سورة الحديد يدل على أنها نزلت بعد الفتح المكي فقد أخرنا تفسيرها فصار ترتيب هذه السورة بعد سورة النساء مباشرة. وبين بعض فصول سورة النساء وفصول هذه السورة تماثل غير يسير.

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والزمخشري وابن كثير.

(٢) انظر الجزء الثاني من كتابنا سيرة الرسول ص ٩.

٢٩٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣)) [١ ـ ٣].

(١) أضل أعمالهم : أحبطها أو لم يوفقهم فيها إلى الرشاد ، أو أبطل كيدهم.

(٢) أصلح بالهم : أصلح أمورهم أو سكن روعهم.

في الآيات :

(١) تنديد بالكافرين الذين يصدون عن سبيل الله بالإضافة إلى كفرهم وإيذان بأن الله أبطل كيدهم وأحبط أعمالهم.

(٢) وتنويه بالمؤمنين الصالحي الأعمال المصدقين برسالة النبي وما أنزل عليه وإيذان بتكفير الله عنهم سيئاتهم وبإصلاحه لأمورهم وتهدئته لروعهم.

(٣) وتعليل للتنديد والتوبة والإيذان. فالكفار ضالون متبعون للباطل. والمؤمنون مهتدون متبعون للحق. وكل ينال ما يطابق خطته وعمله. وهذا جريا على عادة الله في ضربه الأمثال للناس للتذكير والموعظة.

ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآيات. وإنما رووا عن ابن عباس أن الآية الأولى نزلت في كفار مكة والثانية في الأنصار. ووصف الكفار بأنهم الذين صدوا عن سبيل الله قد يجعل صرف الآية الأولى إلى كفار مكة صوابا ووجيها. غير أن الآية الثانية من شأنها أن تكون شاملة لمؤمني الأنصار والمهاجرين معا. ومهما يكن من أمر فالمتبادر المستلهم من روحها وروح الآيات التالية أن الآيات مقدمة لما بعدها.

ولقد قال المفسرون (١) إن جملة (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) تعني أنه أذهب فضل

__________________

(١) انظر تفسير الطبري وابن كثير والخازن والبغوي.

٢٩٩

وثواب ما كان الكفار يفعلونه من المكرمات هباء بسبب كفرهم ، وعزوا ذلك إلى بعض التابعين. وإلى هذا فإن البغوي عزا إلى الضحاك تأويلا آخر وهو أن معناها (أبطل الله كيدهم ومكرهم بالنبي وجعل الدائرة تدور عليهم) (١). وهذا أوجه وأرجح فيما هو المتبادر.

هذا ، وعبارة الآيات المطلقة تشمل في الوقت ذاته كل كافر حاد عن سبيل الله وكل مؤمن صالح العمل في كل ظرف. وعلى هذا الاعتبار ينطوي فيها أولا تعليل لما يحل بالكافرين من سخط الله ولما يناله المؤمنون من عفوه ورضائه. وهو تعليل متسق مع ما جاء من ذلك في مناسبات كثيرة سابقة ومع المبدأ القرآني المحكم المتكرر بأن كل فئة تنال من الجزاء حسب ما تختاره وتسير فيه من طريقي الضلال والهدى. وثانيا تلقين مستمر المدى بتقبيح الباطل وأهله وتقرير لما ينتج عن أعمالهم من شرّ وضرر عليهم وتحسين الحق ومتبعيه وتقرير لما ينتج عن أعمالهم من خير وفائدة. وهو ما تكرر في القرآن بأساليب عديدة.

ومع ما قلناه فإننا نكرر هنا ما ذكرناه في مناسبات سابقة أن ما ذكر من أمر الكافرين بالنسبة لظروف الآيات هو من قبيل تسجيل الواقع وليس هو على التأبيد. إلّا بالنسبة لمن يستمر على كفره وصده عن سبيل الله.

وكالعادة وقف مفسرو الشيعة عند الآية الثالثة وفسروا (الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ) بأنهم أعداء علي وآل الرسول رغم الصراحة القطعية على أنها في صدد الكافرين بالله مقابل الذين آمنوا ... (٢).

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥)

__________________

(١) روى هذا الخازن أيضا.

(٢) التفسير والمفسرون للذهبي ج ٢ ص ٧١.

٣٠٠