التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

مقامها تتحمل كل هذا (١).

(٢) مريدا : متمردا.

(٣) فليبتكن : من البتك وهو الشقّ أو الخرق.

(٤) فليغيرن خلق الله : القصد من الجملة ما كان يفعله العرب في الحيوانات والأرقاء من خصي وكي ووشم إلخ. وقيل إن القصد منها تغيير فطرة الله ودينه.

والقول الأول هو الأوجه في مقام الجملة وهو متناسب مع البتك.

(٥) محيصا : مهربا ومخلصا.

(٦) قيلا : قولا.

تعليق على الآية

(إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ...) إلخ.

والآيات التالية لها إلى آخر الآية [١٢٢] ومدى المراد من تغيير خلق الله

عبارة الآيات واضحة. وقد تضمنت تقريرا بعدم إمكان غفران الله للمشرك به مع ما هناك من أمل في هذا الغفران لغير المشرك. وتقريرا بشدة خسران المشرك وضلاله البعيد وسخفه. لأنه إنما يدعو من لا قدرة له على نفع وضرر ، بل لأنه في الحقيقة إنما يدعو الشيطان المتمرد على الله الذي آلى على نفسه أن يضلّ من قدر عليه من عباد الله بالأماني الباطلة والتغريرات الخادعة. وأن يجعلهم ـ فيما يجعلهم ـ أن يشقوا آذان الأنعام وأن يغيروا خلق الله ويشوهوه. وتقريرا بكون مصير الذين ينخدعون به فيدعون غير الله ويغيرون خلق الله جهنّم بينما يكون مصير الذين لا ينخدعون به ويؤمنون بالله ويعملون الأعمال الصالحة الجنات التي وعدهم الله بها وليس من أحد أصدق قولا وأوفى وعدا من الله.

ولقد روى المفسرون روايتين في نزول الآية الأولى. إحداهما تذكر أنها

__________________

(١) انظر تفسير الطبري الذي ورد فيه جميع هذه الأقوال وقد أوردها مفسرون آخرون بعده انظر ابن كثير والطبرسي والخازن مثلا.

٢٤١

نزلت في ابن أبيرق بشير أو طعمة الذي نزلت فيه الآيات السابقة والذي ارتدّ ولحق بالمشركين لتؤذن أنه لن يكون له مغفرة من الله. وثانيتهما تذكر أنها نزلت في شيخ أعرابي جاء إلى رسول الله يقول إني منهمك في ذنوب كثيرة ولكن لم أشرك بالله شيئا منذ عرفة وإني تائب فما حالي فنزلت بالبشرى له.

والروايتان لم تردا في الصحاح. وتقتضيان أن تكون الآية الأولى نزلت منفردة في حين أنها مع الآيات التالية لها وحدة تامة مستقلة ، وبتك آذان الأنعام وتغيير خلق الله بالكي والخصي والوشم من عادات الجاهلية بحيث يرد على البال أن حديثا جرى في صدد ذلك أو حادثا وقع من ذلك أو سؤالا ورد على ذلك في الظرف الذي سبق نزول الآيات فأوحى الله بالآيات لتعلن أن كلّ ذلك من وساوس الشيطان الذي يوحي بها إلى المشركين. ولتشنّع على الشرك وتنذر المشركين وتنوه بالمؤمنين الذين يعملون الصالحات بالمقابلة وتبشرهم بالجنة. وقد وضعت في مكانها لأنها نزلت بعدها. وقد يكون ذكر ارتداد ابن أبيرق أو جاء الأعرابي ليسأل عن حاله فتليت الآية الأولى فالتبس على الرواة الذين رووا الروايتين. والله أعلم.

ولقد ورد في سياق سابق صيغة قريبة لصيغة الآية الأولى وهي الآية [٤٨] حيث يبدو أن حكمة التنزيل اقتضت التكرار لتكرار المناسبة مما جرى عليه التنزيل القرآني. على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة. ولقد جاءت الآية [٤٨] في سلسلة في حق اليهود لتلبسهم بموقف شرك شديد البشاعة. وجاءت هنا في حقّ مشركي العرب. ولقد علّقنا على الآية [٤٨] وأوردنا طائفة من الأحاديث في صدد غفران الله لغير المشركين وأوردنا تعليقا لبعض المفسرين على ذلك فلم يعد محلّ للإعادة والزيادة في صدد مدى الآية.

ولقد أوردنا معاني كلمة (إِناثاً) التي رواها المفسرون في مكان شرح كلمات الآيات وقلنا إن الكلمة قد تتحمل كل هذه المعاني فنكتفي بهذا التنبيه. وقد يكون استعمال الكلمة في مقامها قد قصدت زيادة التشنيع والإفحام من حيث إنه

٢٤٢

كان يقوم في أذهان المخاطبين لأول مرة وهم العرب قناعة بعجز الإناث عن أي عون مجد. وهذا المعنى ملموح في آيات أخرى جاءت في صدد مثل هذا الصدد. مثل آيات الزخرف هذه (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨)) [١٦ ـ ١٨].

وحكاية أقوال الشيطان في الآيتين [١١٨ و ١١٩] التي تفيد أن الشيطان يزعم أنه سوف يؤثر على فريق من الناس ويزين لهم ويغويهم قد تكررت في آيات سابقة وبخاصة في سياق حكاية قصة آدم وإبليس. وقد علقنا على ذلك في سياق هذه القصة في سورة ص وغيرها بما يغني عن التكرار. والإيمان بكل ما يخبر به القرآن من مثل هذه الأمور الغيبية واجب على ما نبّهنا عليه في مناسبات مماثلة مع واجب الإيمان بأن لذكرها بالأسلوب الذي جاءت به حكمة. وقد تكون حكمتها في مقام الآيات التي نحن في صددها إيذان المشركين بأنّ ما هم عليه من هذه العادات الفاسدة هي من وساوس الشيطان وتغريراته ولقد كانوا يعرفون ماهية الشيطان وكونه متمردا على الله وكونه ملعونا من الله وكون الذين يستمعون لوساوسه وتغريراته مدموغين بالفساد والانحراف عن الحقّ والهدى فاستحكم فيهم التنديد القرآني.

وواضح أن الآيات قد تضمنت إعلان بطلان هذه العادات الجاهلية وفسادها وتحذيرا للمسلمين منها في الوقت نفسه.

والعادات التي حكت الآيات أنها من وساوس الشيطان وتغريراته نوعان : نوع متصل بالأنعام ومتمثل هنا ببتك آذانها. ونوع عام هو ما عبر عنه بجملة (فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) ولقد أشار القرآن في آيات سورة الأنعام [١٣٥ ـ ١٤٤] التي مرّ تفسيرها إلى بعض عادات متصلة بالأنعام كان ينسبها المشركون إلى الله افتراء وشرحناها وعلقنا عليها بما يغني عن التكرار ، وفي سورة المائدة هذه الآية (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (١٠٣)) حيث احتوت إشارة إلى عادات عديدة أخرى

٢٤٣

للمشركين في الأنعام وينسبونها إلى الله ومنها البحيرة التي تعنيها جملة (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) في الآية التي نحن في صددها حيث كانوا يثقبون أو يبتكون أو يبحرون آذان النوق التي تنتج خمسة بطون ويخلون سبيلها على ما شرحناه أيضا في سياق تفسير آيات الأنعام. وقد روى المفسرون أحاديث تفيد أن أول من سنّ هذه العادات ومنها بتك آذان الأنعام أبو خزاعة عمرو بن عامر وأن رسول الله قال إنه يجر قصبته في النار ويتأذى أهل النار بنتن رائحته بسبب ذلك.

ولقد تعددت الأقوال التي يرويها المفسرون عن ابن عباس وغيره في مدى جملة (وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللهِ) منها أنها عنت تغيير دين الله وتبديل فطرة التوحيد. وأيد القائلون قولهم استنادا إلى آية الروم هذه (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) [٣٠] ومنها أنها عنت الخصي والوشم والوشر وتفليج الأسنان ووصل الشعر. وأورد القائلون حديثا رواه البخاري عن عبد الله أنه قال «لعن الله الواشمات والموتشمات والنامصات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد تسمّى أمّ يعقوب فجاءت فقالت بلغني أنك لعنت كيت وكيت فقال ومالي لا ألعن من لعن رسول الله. ومن هو في كتاب الله. فقالت لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول قال لو قرأتيه لوجدتيه أما قرأت (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧]. قالت بلى. قال فإنه قد نهى عنه. قالت فإني أرى أهلك يفعلونه قال فاذهبي فانظري فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئا» (١). ومنها أنه التخنّث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن. وقد رجح الطبري القول الأول. غير أن العادات الأخرى ألصق بمعنى تغيير خلق الله وأكثر تناسبا مع جملة (فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ) فيما هو المتبادر.

ولقد أورد المفسرون في سياق الآيات أحاديث أخرى. فمما أورده القاسمي

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٢٣٠ و ٢٣١.

٢٤٤

منها حديث رواه الإمام أحمد وابن عساكر عن ابن عمر قال «نهى رسول الله عن الإخصاء وفي رواية عن خصاء الخيل والبهائم» وحديث رواه الطبراني عن ابن مسعود قال «نهى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يخصى أحد من ولد آدم» وحديث رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال «نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الوشم» ومما أورده الخازن حديث عن أسماء قالت «لعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الواصلة والمستوصلة».

ومما أورده الطبري حديث عبد الله جاء فيه «لعن رسول الله الواشرات بالإضافة إلى المستوشمات المتنمصات المتفلجات». وباستثناء الحديث الذي رواه البخاري ليس شيء من هذه الأحاديث واردا في الصحاح. وأكثرها مع ذلك من باب ما رواه البخاري.

وتعليقا على ذلك نقول إن موضوع الآيات الأصلي هو تعظيم الشرك ثم تقرير كون المشركين إنما يدعون الشيطان الذي يجعلهم يعملون هذه العادات وإن الأولى أن يبقى الأمر مربوطا بعضه ببعض. وأن تؤخذ الأحاديث كتعليمات نبوية للمسلمين منفصلة عن مدى الآيات. وإن على المسلمين أن يلتزموا بما ثبت منها. وعلى احتمال أن يكون النهي عن الخصاء صادرا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نقول إن الحكمة فيه ظاهرة لأن فيه تشويها وتعطيلا لمهمة الإخصاب التي أودعها الله في الإنسان وجعلها وسيلة لحفظ النوع. أما عدا ذلك مما كانت تفعله المرأة للتزين من وشم وتنمّص ووصل شعر وتطويله وتفلّج (١) فلا تبدو حكمة النهي عنه لنا ظاهرة. والتنمّص يقرب من تقليم الأظفار حينما تطول ومن حلق شعر الرأس والعانة ونتف شعر الإبط. وكان هذا مع التمشط والتدهن بالطيب والتكحل مما كان يمارسه النساء في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدون حرج في غير وقت الحداد على ما تفيده الآثار التي منها حديث رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن أم عطية قالت «كنا ننهى أن نحدّ على ميت فوق ثلاث إلّا على زوج أربعة أشهر وعشرا ولا نكتحل أثناء ذلك

__________________

(١) التنمّص : هو نتف شعر اليدين والساق. والتفلّج : هو تفريق الأسنان عن بعضها للتحسين.

٢٤٥

ولا نتطيب ولا نلبس ثوبا مصبوغا» (١) وهناك أحاديث نبوية تحثّ المرأة على التزين. منها حديث رواه النسائي وأبو داود عن عائشة قالت «إنّ امرأة أومأت من وراء ستر ، بيدها كتاب إلى رسول الله فقبض يده وقال ما أدري أيد رجل أم امرأة. قالت بل يد امرأة قال لو كنت امرأة لغيّرت أظفارك بالحنّاء» (٢) وحديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن جابر قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمهلوا حتى تدخلوا لكي تمتشط الشعثة وتستحدّ المغيبة وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يكره أن يأتي الرجل أهله طروقا» (٣). وهذا ما يجعلنا نتوقف أمام الحديث المروي عن عبد الله والذي عزي فيه لعن الواشمات والمتنمصات والمتفلّجات إلا إذا كان قصد بذلك المبالغة حتى يبدو تشويها أكثر منه تزيينا. ولقد روى الطبري «أن رجلا سأل الحسن ما تقول في امرأة قشرت وجهها قال مالها لعنها الله غيّرت خلق الله» حيث ينطوي في هذا صورة لما كان بعض النساء يفعلن في وجوههن بالتنمص أو غيره حتى يقشرنها قشرا. وهناك أحاديث تبيح خضاب اللحية بل تستحبه. منها حديث رواه البخاري وأبو داود عن ابن عمر قال «كان النبي يلبس النعال السبتية ويصفر لحيته بالورس والزعفران» (٤) وحديث رواه أصحاب السنن جاء فيه «قال أبو رميثة أتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنا وأبي وكان قد لطخ لحيته بالحناء» (٥) وحديث رواه هؤلاء أيضا عن أبي ذر قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم إن أحسن ما غيّر به هذا الشيب الحناء والكتم» (٦) وبعضهم يرى حلق اللحية الحديث الشائع هو من تغيير خلق الله. ونحن لا نرى ذلك من ناحيتين : من ناحية الآية التي تربط الشرك وتغيير خلق الله برباط واحد بحيث لا يجوز أن يوصم مسلم يؤمن بالله وحده بالشرك بسبب حلق ذقنه. ومن ناحية الأحاديث لأنها تذكر

__________________

(١) انظر التاج ج ٢ ص ٣٣٠ والحديث يفيد أن ذلك كان مباحا للنساء في غير وقت الحداد.

(٢) التاج ج ٣ ص ١٥٧.

(٣) التاج ج ٢ ص ٢٨٨ و ٢٨٩ أي لا تتعجلوا الدخول في الليل على زوجاتكم وأعطوهن فرصة للتمشط والاستعداد. والاستحداد حلق شعر العانة بالحديدة أي السكينة.

(٤) التاج ج ٣ ص ١٥٧.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) المصدر نفسه.

٢٤٦

أشياء بأعيانها وليس لأحد أن يتجاوز ذلك. والله تعالى أعلم.

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (١٢٤) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (١٢٥) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (١٢٦)) [١٢٣ ـ ١٢٦].

في الآيات :

(١) تقرير بأن مصير الناس في الآخرة لن يكون وفقا لأماني السامعين ولا أماني الكتابيين وظنونهم ورغباتهم ، وبأن من يعمل السوء لا بد من أن يجزى عليه بما يستحق دون أن يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ، وبأن من يؤمن بالله ويعمل صالحا من ذكر أو أنثى يدخل الجنة دون أن يبخس من حقه شيء.

(٢) وتساؤل على سبيل الاستطراد والحثّ والتنويه عما إذا كان يصح أن يكون أحد أحسن دينا ومنهجا ممن أسلم وجهه لله وأخلص له وحده واتبع ملّة إبراهيم المستقيمة الموحدة الذي اتخذه له خليلا.

(٣) وتقرير استطرادي وتعقيبي بأن لله ما في السموات وما في الأرض وأنه محيط بكل شيء. ومحص لكل عمل يصدر من أي كان فلا تخفى عليه خافية ولا يفلت منه أحد.

تعليق على الآية

(لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)

والآيات الثلاث التي بعدها

روى المفسرون روايات متعددة الطرق والصيغ والأسماء متفقة المدى في نزول الآيات يستفاد منها أن جدلا جرى بين فريق من أهل الكتاب وفريق من

٢٤٧

المسلمين حول الأقرب إلى الله تعالى والأولى به من الفريقين حيث قال الكتابيّون كتبنا وأنبياؤنا أسبق وقال المسلمون نبيّنا خاتم الأنبياء وكتابنا مهيمن على كتبكم وشريعتنا أو فى الشرائع ونحن مؤمنون بكتبكم وأنبيائكم وأنتم غير مؤمنين بكتابنا ونبيّنا فنحن الأقرب والأولى. وهناك رواية تذكر أن الآية الأولى نزلت بسبيل الردّ على قريش التي كانت تنكر الآخرة وحسابها وعلى الكتابيين الذين كانوا يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى.

وليس شيء من الروايات واردا في الصحاح ومع ذلك فالآيات متناسبة معها بحيث يمكن القول إنها نزلت في مناسبة مماثلة لتقرر الحق في الموقف الجدلي أو التفاخري ولتنبه على أن رضاء الله ورحمته إنما ينالا بالإيمان والعمل الصالح وليس بالتفاخر والآمال والادعاء. والآية [١٢٥] احتوت ثناء على من اتبع ملة إبراهيم. وهي منسجمة في الآيات بحيث يمكن القول إنها جزء منها. ولقد كان يقوم جدل بين النبي والكتابيين حول ملّة إبراهيم وأولى الناس به وحكي ذلك في آيات سورة آل عمران [٦٥ ـ ٦٨] التي مرّ تفسيرها. ومن الجائز أن يكون الكلام في الجدل الجديد تطرق إلى ذلك فاقتضت حكمة التنزيل بيان كنه ملّة إبراهيم التوحيدية الإسلامية والتنويه بأن أحسن الناس هم الذين يسلمون وجوههم له ويتبعون هذه الملّة حيث يبدو أن رواية الجدل بين المسلمين والكتابيين هي الأكثر ورودا كسبب لنزول الآيات. وعلى ضوء آيات سورة آل عمران يمكن القول بأن الآيات انطوت على تقرير أولوية وأفضلية النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين به على أهل الكتاب الذين هم طرف في الموقف الجدلي لأنهم هم الذين اتبعوا هذه الملة.

ومن الممكن أن يلمح شيء من الصلة بين موضوع هذه الآيات والآيات السابقة فإما أن تكون قد نزلت هذه بعد تلك فوضعت مكانها للتناسب الظرفي والموضوعي. وإما أن تكون وقعت بعدها للتناسب الموضوعي والله تعالى أعلم.

وعلى كل حال فالآيات قوية حاسمة في التعبير والتقريب والتلقين كما هو واضح فلا يصح لامرىء أن يركن على الدعوى والأمانيّ والانتساب والظواهر.

٢٤٨

وعلى كل إنسان أن يتأكد من أنه ملاق جزاء عمله إن خيرا فخيرا وإن سوءا فسوءا. وأن النهج القويم الذي يرضى الله عنه ولا نهج خيرا منه هو إسلام النفس لله عزوجل ونبذ سواه والعمل الصالح في اتباع ملّة الإسلام المستقيمة التي هي ملة إبراهيم عليه‌السلام. وتقرير كون كل امرئ ملاقيا جزاء عمله بدون ظلم خيرا كان أو سوءا مما تكرر في القرآن كثيرا بل ومما دار عليه كل هدف قرآني بالنسبة لحياة الإنسان في الدنيا والآخرة.

ولقد كان كثير من العرب والكتابيين ينتسبون إلى إبراهيم فاستحكمت الآيات في الجميع فالانتساب إلى إبراهيم لا يفيد إلا باتباع ملته. وكل دعوى خلاف ذلك باطلة. وهذا المعنى مما تضمنه وهدف إليه كثير مما جاء في قصص إبراهيم عليه‌السلام على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة عديدة.

ولقد أورد المفسرون أحاديث عديدة تذكر أن المسلمين فزعوا من الآيات وراجعوا النبي في صددها واعتبروها من أشد آيات القرآن عليهم وأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم هدّأ روعهم وطمأنهم وبشّرهم. ولم يرد من ذلك في الكتب الخمسة إلا حديث واحد رواه الترمذي عن أبي هريرة قال «لما نزل (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) شقّ ذلك على المسلمين فشكوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال قاربوا وسدّدوا. ففي كل ما يصيب المؤمن كفارة حتى الشوكة يشاكها أو النكبة ينكبها. حتى إن العبد ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير» (١) ويلحظ أن في القرآن المكي آيات فيها من التقرير الحاسم ما في هذه الآيات مثل آيات سورة الزلزلة (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) وآية سورة فصلت (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (٤٦)). ويبدو أن الآية الجديدة قد شقت على المستجدين في الإسلام في العهد المدني ، الذين كانت لهم من المصالح والمشاغل الدنيوية ما يؤثر في سلوكهم فأفرغتهم وجعلتهم يراجعون النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فاقتضت حكمته هذا التطمين الذي في الحديث مع الترجيح أن الكفارة

__________________

(١) التاج ج ٤ ص ٨٨.

٢٤٩

التي تكون في ما يصاب به المسلم هي بالنسبة للهفوات الصغيرة التي وعد الله بالتجاوز عنها للمسلمين إذا ما اجتنبوا الكبائر على ما جاء في الآية [٣١] من هذه السورة والله أعلم.

وبمناسبة جملة (وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً) روى المفسرون روايات عديدة في سبب ذلك ليس منها شيء معزوا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أو واردا في كتب الصحاح. ومن ذلك أنه أجدب وضاق على أهله العيش فخرج يلتمس رزقا وعاد دون فائدة فوجد عند أهله خبزا فقالوا له هذا من الدقيق الذي أرسله خليلك. ومنها أن جبريل أو الملائكة بشّروه بأن الله اتخذه خليلا لأنه يعطي الناس دون أن يسألهم. ولعل ذلك مما كان متداولا في بيئة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وزمنه كأمثاله من قصص إبراهيم عليه‌السلام. ويتبادر لنا أن الله قد أذن في هذه الآية بأنه اتخذ إبراهيم خليلا لما كان من إخلاصه له وإسلام النفس إليه وتوحيده توحيدا لا شائبة فيه. وهو ما وصف به في آيات قرآنية عديدة منها آيات سورة النحل [١٣٠ ـ ١٣٢] التي فيها تقرير كون الله اجتباه وأتاه في الدنيا حسنة. وفي الاجتباء معنى من معاني الخلّة التي منها الخليل. والله تعالى أعلم.

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (١٢٧) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٢٨) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (١٢٩) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللهُ واسِعاً حَكِيماً (١٣٠)). [١٢٧ ـ ١٣٠]

(١) وأحضرت الأنفس الشحّ : الجملة استطرادية معترضة تشير في معرض

٢٥٠

الكلام عن الصلح إلى ما انطبعت عليه نفوس الناس من الشح والضنّ وعدم التسامح ويصدق ذلك على الزوج والزوجة معا.

تعليق على الآية

(وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ ...) إلخ

والآيات الثلاث التي بعدها وما فيها من أحكام وتلقين

في الآية الأولى :

(١) حكاية استفتاء النبي من قبل بعض المسلمين في أمر النساء.

(٢) وجواب بأن الله سوف يفتيهم فيهن وفي ما أنزل الله في الكتاب من قبل في يتامى النساء اللاتي يريدون أن يتزوجوهن ولا يريدون في الوقت نفسه أن يعطوهن حقهن الذي كتب الله لهن. ثم في الأولاد المستضعفين.

(٣) وتنبيه بأن الفتيا هي أن يقوموا لليتامى بالقسط فلا يظلموهم على أي حال.

(٤) وتحذير لهم بأن الله يعلم كل شيء من أعمالهم ونواياهم.

في الآية الثانية وما بعدها تتمة الجواب في أمر النساء تنطوي على مايلي :

(١) إذا خافت إحدى النساء أن يعرض عنها زوجها ويهملها فلا مانع من صلح يعقده الزوجان بينهما والصلح خير على كل حال مهما كان الإنسان مطبوعا على الشحّ وعدم التسامح مع تنبيه الأزواج إلى وجوب تقوى الله والتصرف بالحسنى في هذه الحالة وإلى كون الله خبيرا بما يعملون على سبيل التحذير.

(٢) وإذا كان الأزواج لن يستطيعوا حقا أن يعدلوا بين زوجاتهم فلا يجوز لهم أن يميلوا كل الميل لواحدة دون أخرى منهن فيذروا هذه كالمعلقة ليست زوجة وليست مطلقة. وعليهم على كل حال أن يسيروا فيما فيه الإصلاح وتقوى الله فإن فعلوا فالله الغفور الرحيم قد يغفر ما قد يبدو منهم من بعض الميل.

(٣) وإذا لم يمكن إصلاح ولا عدل بقدر الإمكان فخير للزوجين أن يتفرقا

٢٥١

عن بعضهما والله الواسع الحكيم ييسّر لكل منهما ما يجعله مستغنيا عن الآخر.

والآيات فصل جديد. ومن المحتمل أن تكون نزلت بعد الآيات السابقة فوضعت في مكانها للتناسب الظرفي.

روى المفسرون في صدد الآية الأولى روايات عديدة. منها أنه لما نزلت آيات المواريث شقّ على الناس أن يرث الأطفال والنساء الذين ليس لهم جهد في مال وعمل وكثيرا ما كانوا يحرمون من الإرث في الجاهلية ففاتحوا النبي في الأمر فنزلت. ومنها أنه كان لجابر بن عبد الله بنت عم دميمة عمياء ولها إرث من أبيها فلم يرد أن ينكحها ومنع أن ينكحها غيره حتى لا يذهب بمالها فسأل النبي في الأمر فنزلت. ومنها أن الذي يكون في حجره يتيمة لها مال نكحها أو أنكحها ابنه بدون صداق إن كانت جميلة وإن كانت دميمة منع زواجها حتى تموت ويرثها فأنزل الله الآية. ومنها أنّ الآية توضيح للآية الثالثة من السورة (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى) النساء [٣] حيث كانوا يرغبون في التزوج باليتيمات اللائي في حجورهم إذا كان لهن مال وكانوا لا يؤتونهن صداقا وكن يتعرضن للاضطهاد إذا كن دميمات فرفع الأمر للنبي فأنزل الله الآية (١).

ورووا في صدد الآيات الأخرى أنها نزلت في الرجل تكون عنده المرأة ليس بمستكثر منها يريد أن يفارقها فتقول أجعلك في شأني في حلّ. أو نزلت في سودة زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث خشيت أن يطلقها النبي فقالت لا تطلقني وامسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت الآية فما اصطلحا عليه فهو جائز. أو في رافع بن خديج الذي كانت عنده زوجة كبيرة فأراد أن يتزوج ثانية جميلة ويؤثرها على القديمة فقال لها إن شئت أن تقيمي على ما ترين من أثرة فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي وإن شئت خليت سبيلك (٢) وباستثناء الروايتين الأولى والثانية الواردتين في صدد الآيات

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي والخازن وابن كثير. وهناك روايات أخرى من باب المروي مع اختلاف في الصيغ والأسماء.

(٢) انظر كتب التفسير السابقة التي فيها روايات أخرى من باب الروايات.

٢٥٢

التالية للأولى واللتين رواهما الشيخان والترمذي (١) فليس شيء من الروايات واردا في الصحاح. والروايات والأحاديث الصحيحة متساوقة إجمالا مع فحوى الآيات ولكنها لا تفسر كل ما فيها على ما هو المتبادر. وعلى كل حال ففي الآيات على ضوء الأحاديث والروايات صور لما كان من مواقف كانت تصدر من بعض الرجال إزاء الأيتام من بنين وبنات وإزاء الزوجات بدون مراعاة لما نبهت عليه آيات سابقة في السورة هي الآيات [٢ و ٣ و ٦ و ١١ ـ ١٤ و ١٩ ـ ٢١] فاقتضت حكمة التنزيل توكيد ذلك في الآيات التي نرجح أنها نزلت جميعها معا محل الأمور العارضة.

ولقد قال بعضهم إن جملة (ما كُتِبَ لَهُنَ) تشمل الصداق والإرث معا حيث كانوا يتزوجون اليتيمات بدون صداق ولا يؤتونهن إرثهن وهذا وجيه سديد.

ولقد احتوت الآيات الثانية والثالثة والرابعة تنظيما للعلاقة الزوجية في بعض حالاتها كما هو واضح. ولقد احتوت آيات السورة [٣٤ و ٣٥] معالجة حالة نشوز الزوجة فجاءت هذه الآيات لمعالجة حالة نشوز الزوج. وفيها تشجيع على إقامة صلح بين الزوجين ولو بشيء من التضحية والتغلّب بذلك على طبقة شح النفس تفاديا من الطلاق وتنبه على أن لا يلجأ إليه إلّا في حالة تعذر استمرار الحياة الزوجية بصورة ما. وهذا متسق مع التلقينات التي تضمنتها آيات البقرة [٢٢٤ ـ ٢٣٢] والنساء [١٩ ـ ٢١ و ٣٥].

ويتبادر أن الآيات الثلاث متصلة بشكل ما بموضوع الآية الثالثة من هذه السورة التي تضمنت إباحة جمع الرجل في عصمته زوجتين وثلاثا وأربعا ثم حذرته من عدم العدل وأمرته بالاكتفاء بواحدة تفاديا من الظلم فجاءت الآيات الثلاث توضح ما حذرت منه وتقرر تعذره. ولكنها لا تمنع التعدد بالمرة لما قد يكون هناك من ضرورة ملزمة إليه وتوصي بعدم الميل الشديد إلى الواحدة دون الأخرى في حالة تلك الضرورة الملزمة إلى التعدد والتي شرحنا بعض وجوهها في سياق شرح

__________________

(١) الرواية الأولى رواها الشيخان عن عائشة كما جاء في التاج ج ٤ ص ٨٨ والثانية رواها الترمذي كما جاء في نفس المصدر.

٢٥٣

آية النساء الثالثة. وفي هذا ما فيه من جليل الحكمة والتلقين.

وفي الروايات وبخاصة رواية رافع بن خديج صورة من تلك الضرورة الملزمة فزوجته كبيرة وغير مشتهاة ولم ير بدّا من التزوج بأخرى صغيرة. وكان من الطبيعي أن يؤثر هذه على تلك. فرضيت الكبيرة بالبقاء في عصمته مع التنازل عن شيء من حقوقها الزوجية كراهية للطلاق. ولقد روى الطبري في سياق تطبيق هذه المسألة صورة أخرى وهي أن رجلا أتى إلى علي بن أبي طالب يستفتيه في جملة (وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً) فقال قد تكون المرأة عند الرجل فتنبو عيناه منها من دمامتها أو فقرها أو كبرها أو سوء خلقها فتكره فرقته فإن وضعت له من مهرها شيئا حلّ. وإن تنازلت عن بعض أيامها لزوجة أخرى له فلا حرج. وإذا رجعت عما رضيت عنه فعليه أن يرضيها أو يطلقها لأنه لا يجوز له أن يمسكها خسفا وظلما.

وعبارة الآيات الثلاث وإن كانت كما قلنا لا تمنع التعدد بالمرة فإنها تنطوي على ذلك فيما يتبادر لنا في حالة عدم الضرورة الملزمة إليه. فهي هنا تقرر استحالة استطاعة الأزواج العدل مهما حرصوا. وآية النساء الثالثة تأمر بالاكتفاء بواحدة إذا كان العدل غير محتمل أو غير ممكن.

ويلفت النظر بخاصة إلى ما انطوى في الآيات من حثّ على الإحسان والإصلاح وتحبيذ الصلح وتقرير الخير فيه. وتقوى الله وعدم الانسياق مع ميول النفس حيث يتسق هذا مع ما تكرر توكيده في القرآن من تعظيم الرابطة الزوجية واحترامها والإبقاء عليها ما أمكن وبأية وسيلة كانت. وعدم حلها إلّا إذا استنفدت كل وسيلة. حيث يكون الفراق حينئذ خيرا للطرفين. وهو ما عنته الفقرة الأخيرة من الآية الأخيرة بأسلوبها البليغ النافذ الهادف إلى تخفيف مرارة الفراق على الطرفين وتأميل كل منهما بفضل الله ورحمته وسعته. وهذا فضلا عن ما فيها من تلقين جليل يجعل ذلك أسلوبا عاما لتعامل المسلمين فيما بينهم.

ولقد رويت أحاديث عديدة في صدد الآية الثانية وما بعدها منها حديث رواه

٢٥٤

أصحاب السنن عن أبي هريرة جاء فيه «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقّه مائل» (١) وحديث ثان رواه كذلك أصحاب السنن عن عائشة قالت «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ويقول اللهمّ هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك» (٢) وحديث ثالث رواه البخاري وأبو داود وأحمد عن عائشة أيضا قالت «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يفضّل بعضنا على بعض في القسم من مكثه عندنا وكان قلّ يوم إلّا وهو يطوف علينا جميعا فيدنو من كلّ امرأة من غير مسيس حتى يبلغ التي هو يومها فيبيت عندها» (٣).

وهكذا يتساوق التلقين النبوي مع التلقين القرآني في هذا الأمر. وبخاصة في وجوب بذل الجهد في العدل بين الزوجات. وفي الحديث الثاني توضيح لمعنى دقيق وهو أن الميل القلبي هو غير العدل الفعلي الذي لا ينبغي أن يحول الأول الذي قد يكون طبيعيا دونه. وليس في الأحاديث تبرير للتعدد. وإنما بسبيل معالجة المعايشة الزوجية في حالة قيامه. ويبقى تلقين الآية بالامتناع منه ما أمكن واردا ما دام العدل غير مستطاع مهما حرص المرء عليه.

ولقد روى الطبري أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه ولي اليتيمة فإن كانت حسناء فتية قال له زوّجها غيرك والتمس لها من هو خير منك. وإن كانت دميمة لا مال لها قال له تزوجها فأنت أحق بها. وروي عن علي بن أبي طالب أنه جاءه رجل قال له ماذا تأمرني يا أمير المؤمنين في أمر يتيمتي فقال له إن كنت خيرا لها فتزوجها وإن كان غيرك خيرا لها فألحقها بالخير. حيث يصح أن يستأنس بذلك فيقال إن لأولي أمر المسلمين وقضاتهم أن يتدخلوا في هذه الأمور ويأمروا ويقضوا بما هو الأولى في نطاق تلقينات كتاب الله وسنة رسوله كما هو الشأن في الأمور الزوجية والأسروية الأخرى على ما نبهنا عليه في مناسبات سابقة استئناسا بالصيغ والعبارات القرآنية وما كان من مراجعات الزوجات والأزواج للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقضاؤه في أمورهم. والله أعلم.

__________________

(١) التاج ج ٢ ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

٢٥٥

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللهُ غَنِيًّا حَمِيداً (١٣١) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (١٣٢) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (١٣٣) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً بَصِيراً (١٣٤)) [١٣١ ـ ١٣٤].

عبارة الآيات واضحة. وليس فيها موضوع خاص. ولم يرو المفسرون شيئا في نزولها. ولقد تكرر في الآيات السابقة تنبيه السامعين المؤمنين إلى وجوب التقوى. فالمتبادر أن حكمة التنزيل اقتضت ردفها بهذه الآيات وتعقيبا لها لتؤكد ذلك عليهم وتقول لهم إن الله وصّاهم بتقوى الله كما وصّى الذين أوتوا الكتاب من قبلهم ولتنبههم في الوقت نفسه إلى أن هذا لمصلحتهم وخيرهم. لأن الله غني عن الناس إذا لم يتقوه وكفروا. وهو في الوقت نفسه حميد لهم إذا أمنوا وأخلصوا. وله ما في السموات وما في الأرض وهو يستطيع إذا شاء أن يذهب بالموجودين من الناس ويأتي بغيرهم. وإنه إذا كان من الناس من يهتم لمنافع الدنيا ومتاعها فإنهم إذا اتقوه وأخلصوا له يسّر ذلك لهم بالإضافة إلى ثواب الآخرة فهو مالك الدنيا والآخرة ، وعنده ثوابهما وهو السميع لكل شيء البصير بكل شيء.

والآيات قوية في ردفها وتعقيبها وهدفها وقد جاءت مطلقة لتوكيد وجوب تقوى الله في جميع الأعمال والمواقف وتطمين من يفعل ذلك بفضل الله وثوابه في الدنيا والآخرة. مما هو متسق مع الأسلوب القرآني البليغ النافذ.

ولقد أورد رشيد رضا في سياقها حديثا قدسيا رواه مسلم عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء فيه «يقول الله يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرّي فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنّكم قاموا في صعيد واحد فأعطيت كل واحد مسألته

٢٥٦

ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر. يا عبادي إنما هي هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها. فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلّا نفسه».

وفي الحديث حقائق عن ذات الله تعالى نؤمن بها. وقد تكرر تقريرها في القرآن بأساليب متنوعة والحكمة الملموحة في الحديث تنبه الناس والمسلمين بخاصة أن أعمالهم هي العائدة لهم حسب ما تكون من خير وشر وأن عليهم إذا أرادوا لأنفسهم الخير أن يتقوا الله فيها.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥)) [١٣٥].

(١) وإن تلووا : قال المؤولون إنها بمعنى محاباة الحكام لأحد الخصمين ، كما قالوا إنها بمعنى ليّ اللسان بتحريف الشهادة والدعاوى وقد يكون هذا هو الأوجه ، وهو ما عليه الجمهور.

في الآية أمر موجه إلى المؤمنين :

(١) بأن يكونوا شديدي الاهتمام للعدل والحق والتزامهما في كل حال وفيما يطلب من شهادة وقول في صددهما.

(٢) وبأن لا يراقبوا في ذلك إلّا الله تعالى وحده ولو كانت الشهادة وقول الحقّ على نفس الواحد منهم أو على أبويه أو ذوي قرباه. وبقطع النظر عن أي اعتبار. وعن كون الذي يشهد بالحق عليه ويقال كلمة العدل في حقه غنيا يخشى منه أو فقيرا يشفق عليه فالله أولى بهما منه.

(٣) وبأنّ عليهم في أي حال التزام هذا النهج وعدم اتباع الهوى والعاطفة وجعلهما مؤثرين فيما يجب عليهم من الحق والعدل. فالله سبحانه يعلم حقائق

٢٥٧

الأمور والنوايا وعليهم أن يتقوه ويحذروه ولا يغيروا أو يبدلوا أو يكتموا الشهادة أو يحرفوها أو يعرضوا عن القول الحق والعمل العدل وتوطيدها في أي حال.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ ...) إلخ

ولقد روى الطبري عن السدي أن الآية نزلت تأديبا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث تخاصم عنده غني وفقير فكان ميله نحو الفقير باجتهاد أن الفقير لا يمكن أن يكون ظالما للغني وروى الطبري إلى هذا أنها في صدد قضية بني أبيرق وما كان من اتجاه النبي إلى تبرئتهم بسبب تزويقهم الكلام مما أوردنا تفصيله قبل. والروايات لم ترد في الصحاح.

ويلحظ في صدد القول بصلة الآية بحادث بني أبيرق أن سياق هذا الحادث قد انتهى وجاءت بعده فصول لا علاقة لها به. ويلحظ في صدد رواية السدي أنه لو كانت الآية في موقف النبي من الخصومة بين الغني والفقير لكان الخطاب فيها موجها له كما كان الأمر في حادث بني أبيرق على ما جاء في الآية [١٠٥] وما بعدها.

والذي يتبادر لنا أن الآية جاءت هي الأخرى معقبة كسابقاتها على فصل الاستفتاء في النساء ويتاماهن حيث احتوت بدورها توكيدا بوجوب تقوى الله ومراقبته في حقوق الناس وعدم التلاعب فيها بأي سبب واعتبار.

وفي التلقينات التي احتوتها الآية من الجلالة والروعة ما يجعلها من أمهات الآيات القرآنية المحكمة في بابها. وغرة وهاجة السناء في جبهة الشريعة الإسلامية حيث تأمر بأسلوب قوي نافذ وحاسم وموجه إلى العقل والقلب معا بما يجب على المسلمين في كل ظرف ومكان وسواء في ذلك أفرادهم وجماعاتهم وحكامهم من قول الحق والشهادة بالحق وتسويد الحق على كل اعتبار وعاطفة ومصلحة خاصة ولو على أنفسهم أو والديهم أو أقربائهم ودون خوف من أحد أو شفقة على أحد. والتضامن في ذلك أشد تضامن وأقواه. على اعتبار أن قوة البنيان الاجتماعي

٢٥٨

والطمأنينة الاجتماعية ومصلحة الأفراد والجماعات منوطة به وقائمة عليه. وعلى اعتبار أن استشعار كل فرد بواجب الإنصاف في كل موقف وحال هو أقوى عماد لصلاح المجتمع وقوته وسعادته.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً (١٤٧)) [١٣٦ ـ ١٤٧].

(١) ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين : قال الزمخشري في تأويلها :

٢٥٩

ألم نتمكن من أمركم أو قتلكم فأبقينا عليكم ولم نساعد المسلمين عليكم وثبطناهم عنكم! والاستحواذ بمعنى الإحاطة والحيازة. وروى الطبري عن أهل التأويل أنها بمعنى (ألم نكن نثبط عنكم المسلمين أو ألم نكن أعلناكم أنا معكم عليهم). ومما يرد في البال أن يكون معنى الجملة (ألم نحل دونكم ودون المسلمين الذين كانوا قادرين عليكم ونمنعكم بذلك منهم).

(٢) يخادعون الله وهو خادعهم : تعبير وهو خادعهم أسلوبي للمشاكلة وللمقابلة على الجملة السابقة. من قبيل ومكروا ومكر الله.

(٣) مذبذبين : حائرين ، أو متموجين ، أو مترددين.

تعليق على الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ...) إلخ

وما بعدها إلى آخر الآية [١٤٧] وما فيها من مواقف المنافقين

عبارة الآيات واضحة. وهي فصل جديد. ويلحظ أنها بدأت بخطاب موجه إلى المؤمنين. وهذا ما بدأت به الآية السابقة لها. ولعلها وضعت بعدها لهذا التناسب اللفظي عند تأليف السورة بقطع النظر عن التناسب الظرفي. لأن من المحتمل كثيرا أن تكون المواقف المذكورة فيها قد نزلت في وقت مبكر وقبل أن يشمل التنكيل جميع اليهود في المدينة على ما سوف يأتي شرحه.

وفي كتب التفسير روايات وأقوال كثيرة في هذه الآيات : فقد رووا أن الآية الأولى نزلت بمناسبة قول عبد الله بن سلام ورفاقه من مسلمة اليهود إننا نؤمن بالقرآن والتوراة وبموسى فقط فأنزل الله الآية للتنبيه على أن على المؤمن برسالة النبي أن يؤمن بكل ما أنزل الله قبله بالإضافة إلى ما أنزله الله عليه. وأن الآية الثانية في حق اليهود الذين آمنوا بموسى ثم كفروا وعبدوا العجل ثم آمنوا ثم كفروا. وفي حق النصارى الذين آمنوا بموسى والأنبياء بعده وكفروا بمحمد أو أنها في حق المنافقين الذين تكررت دعواهم بالإيمان ونقضها بما فيه كفرهم. وأن الآية [١٤٠]

٢٦٠