التّفسير الحديث - ج ٨

محمّد عزّة دروزة

التّفسير الحديث - ج ٨

المؤلف:

محمّد عزّة دروزة


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الغرب الإسلامي ـ بيروت
الطبعة: ٢
الصفحات: ٦٢٢

وتأديب للمسلمين فيما يجب أن يسيروا عليه في مثل هذا الموقف وتقريع للذين يخالفون ذلك.

والمقصد من ذكر أولي الأمر مع الرسول يحتمل أن يكون كما هو المتبادر إيجاب ردّ الأمر إلى أولي الأمر أو الرؤساء في حال غيبة الرسول عنهم أو غيبتهم عنه أو في حالة وجودهم في سرية جهادية حيث كان قواد السرايا يلقبون بالأمراء وبأمراء المؤمنين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

ومع خصوصية الآية الزمنية فإن فيها تلقينات جليلة مستمرة المدى سواء أفي صدد ما يجب على أفراد المسلمين أم على أولي الأمر منهم : فليس للأفراد أن يقوموا بأعمال منفردة مما هو متصل بشؤون الدولة وأمنها وسلامتها. وعليهم حينما يتصل بعلمهم خبر متعلق بمثل ذلك أن يرفعوه إلى أولي الأمر فيهم. وعلى أولي الأمر أن يوكلوا أمور الدولة ومسائل سلامتها وأمنها إلى الخبراء المختصين أو يستشيروا فيها الخبراء المختصين أو يفعلوا الأمرين معا لأنهم هم القادرون على فهم الأمور واستنباط الحقائق من الوقائع وتحديد ما هو الأفضل والأصلح والأقوم. وقد يتفرع عن هذا أنه ليس للأفراد أن ينفردوا في تنفيذ ما قد يتراءى لهم من أعمال متصلة بشؤون الدولة. فهذا من شأن أولي الأمر والحل والعقد والعلم والخبرة. وعلى الأفراد أن يرفعوا ما يتراءى لهم أن فيه مصلحة إلى هؤلاء وأن يسمعوا ويطيعوا لهم. فإن الانفراد في ذلك مؤدّ إلى الفتنة والفوضى فضلا عن أنه غير مضمون الصواب.

والآية وإن كانت للتنديد بمن يتسرع في إذاعة ما يبلغه من أمر متصل بالأمن والخوف فإنه يتبادر لنا أن تلقينها شامل لكل من يتسرع في الكلام على عواهنه ويندمج في إشاعة الشائعات بغير تثبت وبكثير من الخوض فيما ليس فيه خير ومصلحة. ولقد أورد ابن كثير في سياق الآية بعض الأحاديث النبوية التي تنهى عن ذلك حيث يكون هذا المفسر قد استلهم منها ما استلهمناه من التلقين العام. ومما

__________________

(١) انظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ٤٨ ـ ٤٩.

١٨١

أورده حديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «كفى بالمرء إثما أن يحدث بكل ما سمع» (١) وحديث رواه الشيخان عن المغيرة بن شعبة قال «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نهى عن قيل وقال». وحديث رواه أبو داود جاء فيه : «بئس مطية الرجل زعموا». وهناك أحاديث أخرى يمكن أن تساق في هذا المساق منها حديث رواه الشيخان والترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن العبد ليتكلّم بالكلمة ما يتبيّن ما فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب وفي رواية إنّ العبد ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسا يهوي بها سبعين خريفا في النار» (٢) وحديث رواه الشيخان والترمذي وأبو داود عن أبي هريرة قال «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت» (٣) وحديث رواه الترمذي والحاكم وأحمد عن علي بن الحسين عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «إن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» (٤).

وفي الأحاديث تلقين وتأديب نبويان رائعان استلهمناهما من الآية من الشمول والله أعلم.

وكما أوّل بعض المفسرين جملة (وَأُولِي الْأَمْرِ) في الآية [٥٩] من هذه السورة بعلماء الدين وفقهائه أوّلوا الجملة هنا بذلك أيضا. وقالوا إن على الأفراد أن يردوا كل أمر من أمور الدين إليهم ويسيروا وفق ما يستنبطونه من قواعد وأحكام (٥). ولقد علقنا على ذلك ورجحنا أن المقصود بأولي الأمر هم أولو الأمر السياسيون والعسكريون في الدرجة الأولى.

والعبارة القرآنية هنا أكثر صراحة ودلالة على كون المقصود بأولي الأمر هم

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٤٢.

(٢) المصدر نفسه ص ١٨٣.

(٣) المصدر نفسه ص ١٨٦.

(٤) المصدر نفسه ص ١٨٦.

(٥) انظر تفسير الآية في المنار حيث عزي القول إلى الرازي وردّ السيد رشيد رضا عليه ردا قويا محكما.

١٨٢

أصحاب الحكم والسلطان والقيادة لأن الأمر الذي يجب على الناس ردّه إليهم هو مسائل الأمن والخوف وبعبارة ثانية مسائل الحرب والسياسة.

على أن محتوى الآية يمكن أن يكون موضع قياس من حيث إيجاب ردّ كل شيء إلى أولي العلم والخبرة والشأن فيه والسير فيه وفق ما يستنبطونه من مآخذه القرآنية والنبوية والأمثلة والعرف والمصلحة وحيث يدخل في ذلك الشؤون الفقهية والشؤون الاجتماعية والسياسية والحربية.

ومن تحصيل الحاصل أن نقول إن ذلك منوط بقدرة هؤلاء على الاستنباط علما وعقلا وخبرة وأنه شامل لكل ظرف ودور.

ولقد روى الطبري أقوالا عديدة في مدى جملة (إِلَّا قَلِيلاً) منها أنهم أكابر أصحاب رسول الله. ومنها أنهم القادرون على الاستنباط ومعرفة الحقائق منهم. ومنها أنهم الذين لا يذيعون ما يصل إليهم ويرفعونه إلى الرسول وأولي الأمر والعلم.

وجميع هذه الأقوال واردة. مع القول إن روح العبارة تسوغ القول بأنها هدفت إلى تحذير الجمهور من التصرف الفردي الاعتباطي ورفعها إلى القادرين على التصرف فيها وهم عادة الأقل. والله تعالى أعلم.

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (٨٤)) [٨٤].

الخطاب في الآية موجّه إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويتضمن :

(١) تقرير ما يجب عليه : فعليه أن يقاتل في سبيل الله. وهو في هذا الأمر مسؤول عن نفسه غير ملزم بإجبار غيره. وعليه كذلك أن يحرّض المؤمنين على القتال.

(٢) وتأميلا للنبي والمؤمنين فعسى الله إذا ما وقفوا من الأعداء موقف الاستعداد والجهاد والتضامن أن يكفّ عنهم بأسهم وضررهم ويعينهم. وهو القادر على ذلك لأنه الأشدّ بأسا والأشدّ تنكيلا.

١٨٣

تعليق على الآية

(فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ)

ومسألة الإجبار على الجهاد والجندية

وقد روى المفسرون أن الآية نزلت في مناسبة دعوة النبي المسلمين إلى الخروج إلى موعد أبي سفيان الذي واعده بعد وقعة أحد من سنتها القابلة ، حيث تثاقل الناس. فأعلن النبي بناء على هذه الآية أنه ذاهب إلى الموعد ولو بنفسه فانضمّ إليه من أصحابه سبعون ووصلوا المكان المتفق عليه وهو بدر فلم يجدوا أعداءهم لأن أبا سفيان أخلف الوعد بحجة الجدب (١).

والرواية لم ترد في كتب الصحاح. ولم يروها الطبري. ولكنّا نرى صحتها محتملة بل إنه يرد على الخاطر أن السياق السابق منذ الآية [٧١] قد نزل والله أعلم في هذه المناسبة. فمن المحتمل أن يكون فريق من المسلمين المستجدين أو الذين في قلوبهم مرض ولم يرسخ إيمانهم قد ترددوا في الاستجابة إلى دعوة النبي إلى الخروج للقاء المشركين القرشيين بناء على موعد أبي سفيان وتذمروا بعد أن وقع عليهم ما وقع من هزيمة وخسائر في وقعة أحد فنزلت الآيات منددة مذكرة منذرة واعظة ثم جاءت الأخيرة التي نحن في صددها لحسم الموقف فأوجبت على النبي القتال بنفسه على كل حال وأعفته من المسئولية عن غيره والاكتفاء بتحريض المسلمين على القتال.

وفي الآية ثم في الآيات السابقة لها من الآية [٧٠] وما بعد صورة لما كان عليه الحال حين نزولها في أمر الجهاد كما هو المتبادر. حيث كان سلطان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يتوطد توطيدا يجعله قادرا على التجنيد الإجباري إن صح التعبير. وقد استمر هذا طيلة حياته أيضا على ما تفيده آيات عديدة منها فصل طويل في سورة التوبة ، نزل في مناسبة غزوة تبوك التي كانت في السنة التاسعة للهجرة. ولعل ذلك متصل بحياة العرب الاجتماعية والمعاشية. غير أن المنافقين وبعض المسلمين في

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الخازن والطبرسي وانظر طبقات ابن سعد ج ٣ ص ١٠٠ ـ ١٠٢.

١٨٤

المدينة والبادية كانوا يقفون نتيجة لذلك مواقف سلبية من دعوة النبي إلى الجهاد ويتثاقلون ويترددون فكان ذلك مما يؤلم النبي ويحزنه ويثيره وقد نزل في ذلك آيات قوية منددة منذرة ، ومن أقوى ما نزل في هذا الباب آيات التوبة هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (٣٨) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٩)) وآيات سورة الصف هذه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤)).

وفي الآية معنى قوي حيث تأمر النبي بقتال من يجب قتاله في سبيل الله ولو كان وحده. لأن عليه أن يقوم بهذا الواجب على كل حال. والفرق بين هذه الآية والآية [٧٤] هو أن الآية [٧٤] هتفت بكل من يشري الحياة الدنيا بالآخرة أن يقاتل ويدخل في الهتاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وغيره وجماعات المسلمين وأفرادهم بعده في حين أن هذه الآية توجب ذلك على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم شخصيا ولو كان لوحده ولقد قال بعضهم (١) إن الله لم يأمره بذلك إلّا لما عرف من شجاعته وقدرته على مواجهة أعدائه مهما كثروا. ويتبادر لنا أن ما ذكرناه هو الأكثر وجاهة وورودا. وفي الآية [٧٤] دعم لذلك حيث تأمر كل مسلم ولو كان فردا بالقيام بهذا الواجب.

ولقد أورد ابن كثير (٢) حديثا رواه ابن أبي حاتم عن أبي إسحاق قال «سألت البراء بن عازب عن الرجل يلقى المائة من العدو فيقاتل فيكون ممن قال الله (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ). قال لا. لقد قال الله تعالى لنبيه (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ)». والحديث ليس من الصحاح ، ولكن صحته محتملة. وهو تفسير لأحد كبار أصحاب رسول الله للآية متطابق مع مداها نصا

__________________

(١) انظر تفسير الآية في كتب تفسير الخازن ورشيد رضا.

(٢) أورد ابن كثير صيغة أخرى مقاربة برواية للإمام أحمد أيضا.

١٨٥

وروحا وفي النطاق الذي تبادر لنا أنه الأوجه والله تعالى أعلم.

ونستطرد إلى القول إنه ليس في هذا ـ فيما نعتقد ـ ما يمنع السلطان في الإسلام على إجبار القادرين من المسلمين على التجنيد والقتال ضدّ البغي والعدوان إذا قدر على ذلك. فالجهاد فرض من فروض الإسلام كالزكاة. وكونه فرض كفاية لا يضعف من فرضيته. ولقد ظلت أساليب الدعوة إلى أداء الزكاة هي الأخرى في نطاق الترغيب والترهيب والتشويق في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث كان هذا هو المتسق مع الحياة الاجتماعية والمعاشية القائمة ، ثم صار السلطان الإسلامي آمرا مجبرا عليها وصار هذا الإجبار نظاما محكما من أنظمة الدولة في عهد أبي بكر ومن بعده حتى إن أبا بكر قاتل الممتنعين عن أداء الزكاة واعتبرهم مرتدين عن الإسلام. فليس ما يمنع أن يقاس الجهاد على الزكاة وأن يكون للسلطان الإسلامي حق إجبار القادرين عليه في نطاق ما تتطلبه المصلحة من ضمان سلامة المسلمين وكيانهم وحريتهم ودفع الأذى والبغي عنهم. وفي سورة التوبة آية تأمر بالمناوبة في النفرة إلى الجهاد وتجعل ذلك كفرض على مختلف فئات المسلمين وهي هذه (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)) والله سبحانه وتعالى أعلم.

هذا ، ومع خصوصية الآية الزمنية من حيث صلتها بالسيرة النبوية وبشخص النبي الكريم فإنّ فيها تلقينا جليلا شاملا وهو أن على كل مسلم أن يعتبر نفسه مخاطبا بالآية لأن له الأسوة الحسنة برسول الله. وأن على كل مسلم حينما يدعو داعي القتال في سبيل الله والقيام بواجب من الواجبات التي تتصل بمصلحة المسلمين العامة وأمنهم وسلامتهم أن يسارع إلى ذلك ويقدم عليه دون أن يعتذر بغيره أو يبالي بكثرة عدوه وصعوبة العمل المدعو إليه. وأن هذا مما يجب كذلك ومن باب أولى على أولي الأمر وأصحاب الشأن في المسلمين مع واجب آخر هو أن يكونوا في الطليعة في الإقدام على القيام بذلك الواجب ليكونوا الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة لغيرهم.

١٨٦

ولقد ضرب الخليفة الأول أبو بكر رضي الله عنه المثل العظيم في ذلك بعد رسول الله حينما نشبت حركة الردة ، واتسع نطاقها حيث أبى أن يتراجع أو يتساهل حينما طلب إليه بعض كبار أصحابه ذلك بسبب الظروف الصعبة وخوفا من تفاقم الخطب فقال قولته الشهيرة بأنه لو لم يبق إلّا وحده لقاتلهم (١).

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (٨٥)). [٨٥]

(١) من يشفع : قيل في تأويلها في مقامها إنها من شفاعة الناس بعضهم ببعض أو بعضهم لبعض وقيل إنها بمعنى التأييد والمساندة والموالاة. ولعل هذا المعنى أكثر ورودا في مقامها مع سياق الآيات.

(٢) كفل : هنا بمعنى نصيب أو قسم أو تبعة.

(٣) مقيتا : قادرا أو مراقبا أو حسيبا.

في الآية تقرير عام يتضمن كون الذي يدعو إلى الخير ويشجع عليه ويعضده له نصيب من عواقبه الحسنة. وكون الذي يدعو إلى شرّ ويشجع عليه ويعضده له نصيب من عواقبه السيئة ؛ والله قادر على كل شيء مجز كلا بما يستحق.

تعليق على الآية

(مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها ...) إلخ

ولم يرو المفسرون رواية خاصة في نزول الآية. ولكنهم رووا عن بعض التابعين أنها نزلت في شفاعات الناس في بعضهم أو لبعضهم (٢). وقد صرف

__________________

(١) انظر تاريخ الطبري ج ٢ ص ٤٧٦ وبعدها.

(٢) انظر تفسير الطبري والطبرسي والخازن وابن كثير.

١٨٧

الطبري الشفاعة الحسنة إلى الدعوة إلى الجهاد في سبيل الله ضد الكفار الأعداء ، والشفاعة السيئة إلى موالاة الكفار ضد المسلمين. والذي يتبادر لنا أن الآية قد جاءت معقبة على الآيات السابقة. وأن القصد من الشفاعة الحسنة هو الدعوة إلى الجهاد وتعضيده والإقدام عليه ، ومن الشفاعة السيئة التثبيط عنه والمعارضة فيه. وهذا وذاك كان من متناول الآيات السابقة تنويها وتنديدا. ويأتي بعد الآية التالية لهذه الآية آيات فيها حملة وتحريض على المنافقين موضوع الكلام السابق حيث يؤيد هذا ما قلناه من صلة الآية بالسياق السابق وكونها استمرارا له.

ولقد رأينا رشيد رضا يذكر وجها آخر لتأويل الآية وهو أن من المحتمل أن يكون بعضهم اعتذر عن المنافقين الذين يقفون من الدعوة إلى الجهاد موقف المثبط والمتثاقل. أو يكون بعضهم تشفعوا فيهم فنزلت الآية لتنبههم إلى أن لكل صاحب شفاعة نصيبا من مدى شفاعته. من يشفع في مقام فيه خير ومصلحة يكن مصيبا وله الحسنى. ومن يشفع في مقام فيه شرّ وضرر لمصلحة المسلمين يكن مخطئا وعليه وزر ذلك. ولا يخلو هذا من وجاهة. وهو متصل بمدى الآية وشرحنا لها. ويجعل الاتصال بينها وبين ما قبلها قائما أيضا.

وينطوي في الآية تلقين مستمر المدى بتجنيد كل دعوة إلى الخير والسعي فيه وتقبيح كل دعوة إلى الضرر والسعي فيه ، وتبشير لفاعلي الخير والساعين فيه والداعين إليه وإنذار لفاعلي الضرر والساعين فيه والداعين إليه.

ولقد اعتبر المفسرون الآية كما قلنا في صدد الشفاعة أي الوساطة بين الناس في قضاء مصالحهم وتجنيبهم ضرر بعضهم. والعبارة القرآنية بإطلاقها تتحمل هذا أيضا. ولقد أوردوا في سياق ذلك حديثا نبويا فيه حثّ على الشفاعة بين الناس جاء فيه عن أبي موسى قال «جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يسأل فأقبل علينا بوجهه وقال : اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء» (١).

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الخازن وابن كثير وقد روى هذا الحديث البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي بزيادة مهمة وهذا هو نصه «عن أبي موسى عن النبي قال المؤمن للمؤمن كالبنيان

١٨٨

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (٨٦)) [٨٦].

في الآية خطاب موجّه للمسلمين فيه تنبيه على أنهم إذا ما حيّاهم أحد بتحية فواجبهم أن يجيبوا عليها بأحسن منها أو بمثلها على الأقل. وأن الله محص على الناس أعمالهم ومحاسبهم عليها.

تعليق على الآية

(وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ...) إلخ

ولم يرو المفسرون فيما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول الآية. وكلام المفسرين فيها كلام عن آية مستقلة فيها تأديب وتعليم للمسلمين في صدد السلام. والذي يتبادر لنا أنها هي الأخرى متصلة بالآيات السابقة كسابقاتها اتصال تعقيب وعظة وتأديب وتمثيل. فالمسلمون قد دعوا إلى الجهاد وهي دعوة إلى الخير. والمنافقون يقفون من هذه الدعوة موقف المعارضة والتثبيط. وواجب المسلمين الإجابة على الدعوة وأن لا يقصروا في ذلك أو يثبطوا عنها كما هو الأمر في حالة ما إذا حيّوا بتحية. حيث يجب عليهم أن يقابلوها بما هو أحسن منها أو بمثلها.

والآية بحدّ ذاتها فصل تام المعنى تحتوي تلقينا تأديبيا رفيعا للمسلمين في كل ظرف بوجوب مقابلة التحية بأحسن منها أو بمثلها على الأقل. وروحها تلهم أن التلقين التأديبي شامل للتحية أو الكلمة الطيبة أو الدعوة الطيبة أو العمل الطيب على السواء. وتوجب على المسلم حسن المقابلة على أي قول وعمل فيه خير وأدب وعطف وبرّ ونفع.

__________________

يشدّ بعضه بعضا ثم شبك بين أصابعه ، وكان جالسا إذ جاء رجل يسأل ، أو صاحب حاجة أقبل علينا بوجهه فقال : اشفعوا تؤجروا وليقض الله على لسان نبيه ما شاء» انظر التاج ج ٥ ص ٤٩ ـ ٥٠.

١٨٩

وإطلاق الجملة القرآنية ، وصيغة المجهول في جملة (وَإِذا حُيِّيتُمْ) تسوغان القول إن الأمر فيها عام يشمل كل فئة من الناس بقطع النظر عن الجنس والدين والعمر.

ولقد روى المفسرون أحاديث نبوية عديدة في السلام وآدابه ، ومنها ما رواه أصحاب كتب الأحاديث الصحيحة. وفيها تأييد للشمول الذي ذكرناه آنفا.

من ذلك حديث رواه أبو داود والترمذي ومسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. أفلا أدلّكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم» (١) ، وحديث عن أبي هريرة رواه الترمذي «قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : اعبدوا الرحمن وأطعموا الطعام وأفشوا السلام» (٢) وحديث عن أبي هريرة رواه البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي عن النبي «يسلّم الراكب على الماشي والماشي على القاعد والقليل على الكثير» وحديث عن أنس رواه الترمذي قال «قال لي النبيّ : يا بني إذا دخلت على أهلك فسلّم يكون بركة عليك وعلى أهل بيتك» (٣) وحديث عن سيار رواه الخمسة قال «كنت أمشي مع ثابت البناني فمرّ بصبيان فسلّم عليهم وقال كنت أمشي مع أنس فمرّ بصبيان فسلّم عليهم ، وحدّث أنس أنه كان يمشي مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فمرّ بصبيان فسلّم عليهم» (٤) وحديث رواه أبو داود وابن ماجه عن أنس جاء فيه «انتهى إلينا رسول الله وأنا غلام في الغلمان فسلّم علينا» (٥) وحديث رواه الترمذي وأبو داود عن أسماء بنت زيد قالت «مرّ علينا النبي في المسجد يوما وعصبة من النساء قعود فألوى بيده بالتسليم» (٦) وحديث رواه البخاري والترمذي عن أسامة بن زيد جاء

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٢٢٣.

(٢) المصدر نفسه ص ٢٢٢ ـ ٢٢٨.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) المصدر نفسه.

١٩٠

فيه «إن النبيّ مرّ بمجلس وفيه أخلاط من المسلمين واليهود فسلّم عليهم» (١) وحديث رواه أبو داود عن علي أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «يجزىء عن الجماعة إذا مرّوا أن يسلّم أحدهم ، ويجزىء عن الجلوس أن يردّ أحدهم» (٢) وحديث رواه أصحاب السنن عن أبي هريرة قال «قال النبي إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم فإذا أراد أن يقوم فليسلّم فليست الأولى بأحقّ من الآخرة» (٣) وحديث رواه الترمذي عن أبي جريّ أن النبي قال «إذا لقي الرجل أخاه المسلم فليقل السلام عليكم ورحمة الله» (٤) وحديث عن جابر أن النبي قال «السلام قبل الكلام» (٥) وعنه قال «لا تدعوا أحدا إلى الطعام حتى يسلّم». وكلا الحديثين رواهما الترمذي بسند واحد. وحديث رواه الترمذي وأبو داود جاء فيه «قيل يا رسول الله : الرجلان يلتقيان أيهما يبدأ بالسلام قال أولاهما بالله» (٦). ولقد أثر عن ابن عباس أنه قال «من سلّم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسيا» (٧).

وجمهور العلماء متفقون على أن البدء بالسلام سنة مستحبة والردّ عليه واجب والممتنع عن الردّ آثم (٨). وهذا متسق مع روح الآية ومضمونها.

ولقد روى مسلم وأبو داود حديثا جاء فيه «إنّ بعض أصحاب رسول الله قالوا له إنّ أهل الكتاب يسلّمون علينا فكيف نردّ عليهم فقال : قولوا وعليكم» (٩). ومع هذا الحديث أحاديث مفسّرة ومعلّلة منها حديث عن ابن عمر عن النبي رواه البخاري ومسلم وأبو داود جاء فيه «إذا سلّم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام

__________________

(١) التاج ج ٥ ص ٢٢٢ ـ ٢٢٨.

(٢) المصدر نفسه.

(٣) المصدر نفسه.

(٤) المصدر نفسه.

(٥) المصدر نفسه.

(٦) انظر تفسير الخازن وابن كثير.

(٧) المصدر نفسه.

(٨) المصدر نفسه.

(٩) انظر التاج ج ٥ ص ٢٢٧.

١٩١

عليك فقولوا وعليك» (١) ومنها حديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة قالت «دخل رهط من اليهود على رسول الله فقالوا : السام عليك ، ففهمتها فقلت : عليكم السام واللعنة ، فقال رسول الله ، مهلا يا عائشة فإنّ الله يحبّ الرفق في الأمر كله. فقلت يا رسول الله أو لم تسمع ما قالوا؟! قال فقد قلت وعليكم» وفي رواية لمسلم «فسمعت عائشة فسبّتهم فقال رسول الله : مه يا عائشة فإنّ الله لا يحبّ الفحش ولا التفحّش» (٢). وواضح من هذا أن التعليم النبوي متصل بما كان من مواقف اليهود الكيدية والعدائية والمؤذية ، بحيث يسوغ القول إنه ليس من شأنه أن يمنع المسلم من ردّ التحية على غير المسلم بأحسن منها أو بمثلها إذا كانت بريئة من الكيد واللمز صادرة عن رغبة المسالمة والموادة عملا بنصّ الآية وبنص آية سورة الممتحنة هذه (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨)) بل وليس من شأنه أن يمنع المسلم من التسليم على جماعة من أهل الكتاب أو فيهم أهل كتاب استنادا إلى الحديث الذي رواه البخاري والترمذي الذي أوردناه آنفا. والله أعلم.

ويلحظ أن بعض الأحاديث لا تقتصر في تلقينها على التساوق مع الآية في إيجاب ردّ التحية بالأحسن أو بالمثل بل احتوت تأديبا ببدء الغير بالتحية أيضا. وليس في هذا تناقض مع الآية وإنما هو توضيح وتتمة نبويان واجب الالتزام بهما أيضا.

ولقد علقنا في سورة الزخرف على موضوع السلام في القرآن والحديث ومداه فننبّه على ذلك في هذه المناسبة.

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثاً (٨٧)) [٨٧]

__________________

(١) انظر التاج ج ٥ ص ٢٢٧. وقد فسّر الشراح كلمة السام بالموت.

(٢) انظر المصدر نفسه.

١٩٢

في الآية خطاب موجّه إلى السامعين يؤكد لهم بأن الله تعالى جامعهم إلى يوم القيامة وأن هذا أمر حتم لا يحتمل أي شكّ. فالله متنزه عن الإخلاف بوعده ووعيده ولا يمكن أن يقول إلّا صدقا.

ولم يرو المفسرون كذلك في ما اطلعنا عليه رواية خاصة في مناسبة نزول هذه الآية. والمتبادر أنها هي الأخرى متصلة بالسياق اتصالا تعقيبيا كسابقاتها. فقد احتوت الآيات السابقة وعدا ووعيدا وتقرير كون الله تعالى حسيبا وقادرا على كل شيء ومحصيا أعمال الناس ومجزيا عليها بما تستحق فجاءت هذه الآية لتؤكد هذا بتوكيد جمع الناس إلى القيامة الذي يكون فيه الحساب والجزاء.

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٨٩)) [٨٨ ـ ٨٩].

(١) أركسهم : أخزاهم وردّهم وأهلكهم.

(٢) من أضلّ الله : في بعض الأقوال أنها هنا في معنى من خذله الله وأخزاه وأشقاه. وعلى كل حال فجملة (بِما كَسَبُوا) تجعل جملة (مَنْ أَضَلَّ اللهُ) من باب (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) [البقرة : ٢٦].

في هاتين الآيتين :

(١) سؤال موجّه إلى المؤمنين على سبيل الإنكار والتعجب عن سبب انقسامهم فرقتين في أمر المنافقين في حين أن أمرهم لا يتحمل ذلك لأن ما بدا منهم من نفاق ومواقف أظهر حالتهم التي ارتدوا بها إلى الكفر واستحقوا بها خزي الله وخذلانه وإضلاله.

(٢) وسؤال استنكاري عما إذا كان المؤمنون يريدون أو يظنون أنهم

١٩٣

يستطيعون أن يهدوا من أضلّه الله وأخزاه في حين أن من يخذله الله ويخزيه لن يكون له سبيل للخلاص من خزيه وخذلانه.

(٣) وتقرير لواقع نية المنافقين نحو المؤمنين. فهم يودون أن يكفروا كما كفروا ويرتكسوا في الخزي والضلال والكفر كما ارتكسوا حتى يكونوا وإياهم سواء.

(٤) ونهي للمؤمنين عن اتخاذ أولياء ونصراء منهم إلّا إذا هاجروا في سبيل الله وأخلصوا وقاموا بما عليهم من واجبات.

(٥) وإهدار لدمائهم إذا لم يرجعوا عن غيّهم ولم يتعظوا من هذا الإنذار حيث يجب على المسلمين في هذه الحالة أن يقتلوهم حيث وجدوهم وأن لا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا في أي حال.

تعليق على الآية

(فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ) إلخ والآية التالية لها

وقد روى المفسرون (١) في سبب نزول هذه الآيات ثلاث روايات : منها أنها نزلت بحق أناس أسلموا وهاجروا إلى المدينة ثم احتالوا ولحقوا بدار الكفر زاعمين أنهم استوبؤوا المدينة واستثقلوا المقام فيها. ومنها أنها بحق أناس أسلموا ولم يهاجروا إلى المدينة مع قدرتهم على الهجرة. ومنها أنها بحق منافقي المدينة الذين خذلوا المسلمين في وقعة أحد حيث اختلف المخلصون في أمرهم فقالت فرقة بقتلهم وقالت فرقة بعدم قتلهم. والروايتان الأوليان لم تردا في الصحاح وقد ورد في معنى الرواية الثالثة حديث رواه البخاري والترمذي عن زيد بن ثابت جاء فيه «رجع ناس من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أحد. وكان الناس فيهم فرقتين. فريق يقول اقتلهم وفريق يقول لا فنزلت (* فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ)» (٢).

__________________

(١) انظر تفسير الآيات في الطبري والطبرسي وابن كثير والبغوي والخازن.

(٢) التاج ج ٤ ص ٩٣ ..

١٩٤

ولقد تعددت التأويلات التي يرويها المفسرون لمعنى جملة (حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) منها (١) أنها بمعنى الهجرة والانتقال إل المدينة والالتحاق بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنها أنها تعني طاعة الله ورسوله والإخلاص لهما. والتضامن مع النبي والمسلمين. وروح الآية تتحمل هذه التأويلات. غير أن ظروف السيرة النبوية وانصباب الكلام والتنديد على المنافقين يجعل المعنى الأخير هو الأكثر ورودا ، والله أعلم.

وبدء الآيات بحرف الفاء الذي فيه معنى التعقيب على ما سبق وذكر مواقف التثبيط والتبطيء والمراوغة والاعتراض على القتال في السياق السابق يجعل الصلة قائمة بين هذه الآيات والآيات السابقة. وأصحاب تلك المواقف هم منافقو المدينة بحيث يمكن أن يكون في هذا تأييد لحديث زيد. غير أننا مع ذلك نتوقف أن تكون الآيات نزلت في أمر وقعة أحد لأننا لا نرى مناسبة لذلك في هذا السياق. وقد ورد تفصيل ما جرى في هذه الوقعة في سورة آل عمران وندد فيها بالمنافقين تنديدا شديدا. ونرجح أنها في صدد مواقفهم المحكية في السياق السابق ، وإن في الحديث التباسا أو تطبيقا والله أعلم.

ولقد رأينا القاسمي يستشكل أن يكون المقصودون منافقي المدينة من ناحية أنهم كانوا بين المسلمين فلا يكون محل للقول (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ولسنا نرى إشكالا ونرى أن العبارة يمكن أن تصدق على منافقي المدينة ولا سيما إذا أخذ بتأويل جملة (حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بمعنى حتى يطيعوا الله ورسوله ويتضامنوا مع المسلمين. والله تعالى أعلم.

لقد جاءت الآيات حاسمة لاختلاف المسلمين في منافقي المدينة حيث أمرتهم إذا ظلوا على موقفهم وإعراضهم عن الجهاد في سبيل الله والإخلاص في طاعة الله ورسوله بأن يقتلوهم حيث وجدوهم ولا يتخذوا منهم وليا ولا نصيرا.

__________________

(١) انظر كتب التفسير السابقة.

١٩٥

وهذه هي المرة الثانية التي يأمر القرآن المسلمين فيها بقتل المنافقين حيث وجدوهم. والمرة الأولى جاءت في آية سورة الأحزاب [٦٠] باختلاف في الشرط والتعبير حيث ذكر في آية الأحزاب جملة (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ ...) وذكر في هذه الآيات جملة (فَإِنْ تَوَلَّوْا ...).

ولقد علقنا على هذه المسألة في سياق آية الأحزاب بما فيه الكفاية فلا نرى حاجة للإعادة أو الزيادة.

هذا ، ولقد انطوى في الآيات تلقين جليل المدى بتحريم كل من يدعي الإسلام ثم لا يتضامن مع المسلمين في الأزمات والمواقف العصيبة التي تلمّ بهم ولا يقيم البرهان بذلك على صحة إسلامه وإخلاصه بل ويرتكس في الخزي أكثر فيودّ أن يكون المسلمون مثله في التخاذل. وهذه الصورة تظهر في كل ظرف ومكان في الأزمات والمواقف العصيبة والنضالية. وقد أمرت الآيات هنا وهناك بوجوب الوقوف منهم موقف الشدة والمطاردة والتنكيل. فضلا عن عدم التناصر والتضامن والتسامح معهم.

(إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (٩٠)) [٩٠].

(١) حصرت صدورهم : بمعنى ضاق عليهم الأمر أو تضايقوا من قتالكم أو قتال قومهم.

(٢) السلم : بمعنى الانقياد أو المسالمة.

في الآية استدراك استثنائي من حكم الآيتين السابقتين لمن ينتسبون إلى قوم بينهم وبين المسلمين ميثاق سلم ولمن جاءوا إلى المسلمين يعتذرون عن قتالهم

١٩٦

وقتال قومهم ويعلنون لهم أنهم لا يريدون أن يقاتلوهم مع قومهم ولا يريدون أن يقاتلوا قومهم معهم. فهؤلاء وأولئك إذا وقفوا فعلا موقف الكافّ عن قتال المسلمين وأظهروا لهم المسالمة الصادقة فليس للمسلمين عليهم سبيل لعداء وقتال. وجملة (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ) جاءت معترضة لبيان فضل الله على المسلمين بإلهام هؤلاء المسالمة وتعليل أو تدعيم عدم جعل الله للمسلمين عليهم سبيلا.

تعليق على الآية

(إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ ...) إلخ

وحكم علاقة المسالمين بالمسلمين

وقد روى المفسرون (١) أن المعني بالفريق الأول إما هو هلال بن عويمر السلمي الذي واثق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن قومه على أن لا يحيف على من أتاه منهم ولا يحيفون على من أتاهم منه ، وإما سراقة بن مالك المدلجي الذي جاء إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأخذ منه ميثاقا بأن لا يغزو قومه فإن أسلمت قريش أسلموا لأنهم كانوا في عقد مع قريش. ورووا أن المعنّى بالفريق الثاني هم قبيلة أشجع التي قدم منها إلى المدينة نحو سبعمائة فحلوا في ضواحيها فأرسل النبي إليهم أحمالا من التمر ضيافة ثم سألهم ما الذي جاء بكم قالوا قرب دارنا منك وكراهيتنا حربك وحرب قومنا يعنون بني ضمرة الذين بينهم وبينهم عهد فجئنا لنوادعك فقبل النبي ووادعهم.

وإلى هذه الروايات رووا أيضا أن الآية في صدد بني بكر الذين دخلوا في عهد قريش وبني خزاعة الذين دخلوا في عهد النبي ـ وهما قبيلتان في ناحية مكة متعاديتان ـ حينما عقد النبي مع قريش الصلح المعروف بصلح الحديبية حيث خيروا القبيلتين فاختار بنو بكر أن يكونوا مع قريش واختار بنو خزاعة أن يكونوا مع النبي. فصار بين بني خزاعة وبين النبي والمسلمين ميثاق وصار بنو بكر يصلون إلى قريش الذين صار بينهم وبين النبي والمسلمين ميثاق. وليس شيء من هذه

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والبغوي والطبرسي والخازن وابن كثير.

١٩٧

الروايات واردا في الصحاح. والآية متصلة بالآيات السابقة وقد رجحنا نزول هذه الآيات في وقت مبكر. ولهذا فإننا نستبعد احتمال كون الآية في صدد بني بكر وبني خزاعة لأن صلح الحديبية كان متأخرا نوعا أي في السنة الهجرية السادسة. وروح الآية تلهم أن الاستثناء عائد إلى أناس معاهدين وإلى أناس يريدون الموادعة والوقوف موقف الحياد. وهذا وذاك ينطبقان على الروايات الأولى والثانية أكثر. غير أن الذي يشكل علينا في الآية هو ما إذا كان المستثنون فيها ممن يدعي الإسلام أو ممن يصح عليه نعت المنافقين أو من الكفار. فصيغة الاستثناء تفيد أن المستثنين من نوع الفريق الذي هو موضوع الحديث في الآيات السابقة وهم المنافقون أو الذين اعتبروا كذلك لأنهم لم يقيموا الدليل على إيمانهم بالتضامن والقتال مع المسلمين والإخلاص في الطاعة لله ولرسوله. غير أن فحوى الآية يحتمل كثيرا معنى كون المستثنين غير مسلمين. فالمعاهدون والذين تنقبض صدورهم عن قتال المسلمين والذين لو شاء الله لسلطهم على المسلمين فقاتلوهم لا يكونون مسلمين بطبيعة الحال. وتعبير (أَوْ جاؤُكُمْ) مما يزيد الإشكال أيضا. فإنه قد يفيد أن يكونوا جاءوا مسلمين وأرادوا أن يقفوا في قتال المسلمين مع قومهم موقف الحياد. كما يفيد أنهم جاءوا معتذرين معلنين حيادهم. وفحوى الآية يفيد أن حكمة التنزيل تعذرهم على هذا الموقف. ولم يشف صدرنا ما اطلعنا عليه من أقوال المفسرين في هذا الصدد.

على أننا مع كل هذا نرى النفس تطمئن إلى ترجيح كون الفريقين موضوع الحديث غير مسلمين. وهو ما تفيده الروايات أيضا. ولعل الاستثناء عائد إلى الفقرة الأخيرة من الآية السابقة التي تنهى عن الأمر بالقتل. وإذا صحّ هذا كما نرجو ، تكون الآية استطرادية ويزول الإشكال.

ومهما يكن من أمر فالآية تنهى المسلمين عن قتال وقتل من ينتسب إلى معاهديهم ، أو من يدخل في عهد معاهديهم ، أو من يقف منهم موقف الحياد والسلم ولو كان منتسبا إلى قوم محاربين للمسلمين. وهكذا تكون قد احتوت

١٩٨

تنظيما للعلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين. ووصفا لثلاث فئات من غير المسلمين وهي :

(١) المعاهدون. (٢) ومن يدخل في جوارهم وميثاقهم. (٣) والحياديون الذين يعلنون موقفا مسالما نحو المسلمين ويعتزلون قتالهم مع قومهم المحاربين للمسلمين. وقد قررت أنه ليس للمسلمين أن يقاتلوا أية فئة من هذه الفئات. وفي هذا من الحكمة ما يظل في أعلى مرتبة من أصول تنظيم العلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين على مدى الدهر. ويقوم على أسمى أسس الحق والعدل والإنصاف.

ولقد روى المفسرون (١) أن هذه الآية قد نسخت بآية في سورة التوبة تأمر بقتل المشركين إلى أن يتوبوا عن الشرك ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وهي الآية [٥] ونصّها (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) والآيات التي جاءت قبل آية سورة التوبة هذه وبعدها تستثني الذين بينهم وبين المسلمين عهد وتأمر بإتمام عهدهم إلى مدته بالنسبة لمن بينهم وبين المسلمين مدة محددة وبالاستقامة معهم على العهد ما استقاموا لمن لم يكن بينهم مدة محددة. وبالتالي تجعل القول بنسخها وبخاصة بالنسبة للمعاهدين غريبا بل في غير محله. وقد لا حظ ذلك بعضهم (٢) وتساءل تساؤل المستنكر عما إذا كان يصح أن تكون منسوخة بشأن المعاهدين لأن ذلك يعني نقضا للعهد. وهي ملاحظة حق.

ولقد علقنا على هذه المسألة بما فيه الكفاية في مناسبات سابقة (٣). وإن كان

__________________

(١) انظر تفسير الطبري والخازن والطبرسي. ويعزو المفسرون الأقوال إلى ابن عباس وغيره من أصحاب رسول الله وتابعيهم.

(٢) انظر تفسير الخازن.

(٣) انظر تفسيرنا لسورة (الكافرون) ولآيات البقرة [١٩٠ ـ ١٩٤].

١٩٩

من شيء نقوله هنا زيادة على ذلك فهو كون ما تقدم هنا وفي المناسبات السابقة يسوغ التوكيد بمحكمية الآية. وهناك آثار نبوية وراشدية يستند إليها أئمة الفقه في إيجاب الدية على قاتل الذمي خطأ وفي إيجاب الدية المغلظة أي المضاعفة في قول وإيجاب القصاص في قول على قاتل الذمي عمدا (١). وفي هذا توكيد بمحكمية حكم الآية. وتعبير الذمي مرادف للمعاهد. والتسمية آتية من كون المعاهدين يعطون العهد على ذمة الله ورسوله والمؤمنين أي كفالتهم وضمانهم. ولقد روى البخاري والترمذي عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال «من قتل نفسا معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما» (٢) حيث ينطوي في هذا توثيق لما قررناه. وليس في الآثار ما يمنع أن يقاس على هذا المسالم والحيادي بحيث يصح أن يقال إن حكم الآية شامل للمعاهدين والمسالمين والحياديين والله أعلم.

ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن حكم الآية ينطبق على الفئات الثلاث المستثناة سواء أكانوا أفرادا أم جماعة. فلا يجوز قتال أحد منهم ولا قتله. وهذا مثلهم من الآية بالإضافة إلى أنه المتسق مع المبدأ القرآني العام (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الأنعام : ١٦٤].

(سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (٩١)) [٩١].

في هذه الآية إشارة إلى فريق آخر ينتسبون إلى قوم أعداء للمسلمين يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين وجانب قومهم معا. ولكنهم مذبذبون لا يستقرون على

__________________

(١) انظر تفسير الآية التي نحن في صددها والآية [٩٢] من سورة النساء في تفسير الخازن والطبرسي وانظر التاج ج ٣ ص ٩ ـ ١٠.

(٢) انظر التاج ج ٣ ص ٦.

٢٠٠