تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

الى اليمن في الشتاء والثانية الى الشام في الصيف.

والله تعالى يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله. وهو رب هذا البيت. الذي يعيشون في جواره. آمين ناعمين. ويسيرون باسمة مرعيين سالمين.

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة. وتنال من ورائها ما تنال (الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) وكان الاصل ـ بحسب حالة أرضهم ـ ان يجوعوا فاطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) وكان الأصل ـ بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم ـ أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف.

وهذا تذكير يستجيش الحياء في النفوس. ويثير الخجل في القلوب. وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها. ولكن انحراف الجاهلية واتباع الهوى لا يقف عند منطق. ولا يئوب الى حق. ولا يرجع الى معقول.

وهذه السورة تبدو امتدادا لسورة الفيل قبها. من ناحية موضوعها. وان كانت سورة مستقلة مبدوءة بالبسملة. والله يفعل ما يشاء والحمد لله.

* * *

ـ ١٠٧ ـ سورة الماعون آياتها سبع (٧)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

ـ البيان : ان هذه السورة الصغيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد

٦١

تبدل المفهوم السائد للايمان والكفر تبديلا كاملا. فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة ظاهرة لطبيعة هذه العقيدة. والخير الهائل العظيم. المكنون فيها لهذه البشرية. والرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث اليهم بهذه الرسالة الاخيرة.

ان هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس. ولا تغنى فيه مظاهر العبادات والشعائر ما لم تكن صادرة عن اخلاص لله عزوجل. وتجردة مؤدية بسبب هذا الاخلاص الى آثار في القلب تدفع الى العمل الصالح. وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الارض.

وكذلك ليس هذا الدين أجزاء موزعة. انما هو منهج متكفل تتعاون عباداته وشعائره وتكاليفه الاجتماعية. حيث تنتهي كلها الى غاية تعود كلها على البشر.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) انها تبدأ بهذا الاستفهام الذي يوجه كل ما تتأتى منه الرؤية ليرى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) والذي يقرر القرآن انه يكذب بالدين واذا الجواب : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) ان حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة تقال باللسان. انما هي تحول في القلب يدفعه الى الخير والبر. بأخوانه في البشرية. والمحتاجين الى الرعاية.

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) انه دعاء ووعيد بالهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون. فمن هم هؤلاء انهم (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) ، انهم يصلون ولكنهم لا يقيمون الصلاة في أوقاتها. وقلوبهم لا تعيش معها. وانهم يراؤن للناس.

فأين تذهب البشرية. بعيدا عن هذا الخير. وهذه الرحمة. وهذا المرتقى الجميل؟ وأين تذهب البشرية. وامامها هذا النور في مفترق الطريق ..

٦٢

ـ ١٠٨ ـ سورة الكوثر. آياتها ثلاث (٣)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

البيان : الكوثر ، هو عوض ترد عليه الامة يوم القيامة. وهذا النهر الذي اختص الله تعالى به الرسول وأهل بيته. فلا يشرب منه الا من أقر لعلي (ع) بالولاية والخلافة بعد رسول الله ص الله وآله بلا فصل. ومن انكر ولايته لا يشرب منه.

انه الكوثر الذي لا نهاية لفيضه. (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) وهو رفع اليدين عند التكبير حال الصلاة الى نحره. يعني مقابل الاذنين. مستقبلا للقبلة.

ـ عن علي (ع) قال لما نزلت هذه السورة قال النبي ص وآله لجبرائيل (ع) : ما هذا النحر الذي أمرني ربي به قال يأمرك اذا أحرمت للصلاة. ان ترفع يديك اذا كبرت واذا ركعت واذا رفعت رأسك من الركوع. واذا سجدت فانه صلاتنا في السماء فان لكل شيء زينة. وان زينة الصلاة رفع الايدي عند كل تكبير ..).

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) وقد نزل ذلك في العاصي والد عمرو العاصي. حين مات ابراهيم ابن النبي ص وآله قال ان النبي أصبح ابتر لانه لا ذرية بعده له وانزل الله هذه الآية ردعا للعاصي اللعين. وذرية النبي ص وآله جارية في ولديه الحسن والحسين (ع) يقول النبي كل ذرية من الانسان مباشرة. وانا ذريتي من ابنتي فاطمة واخي علي بن ابي طالب ولهما الحسن والحسين (ع).

* * *

٦٣

ـ ١٠٩ ـ سورة الكافرون آياتها ست (٦)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

ـ البيان : نفي بعد النفي. وجزم بعد جزم. وتوكيد بعد توكيد. فهو الأمر الالهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة يرجع الى الله تعالى وحده. ليس لمحمد فيه شيء. ان الله هو الآمر والحاكم الذي لا راد لحكمه. (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) ناداهم ووصفهم (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) فعبادتي غير عبادتكم انتم تعبدون مخلوقا لا ينفع ولا يضر وانا اعبد خالقا اذا قال للشيء كن فيكون لا يعجزه شيء ولا يقهره شيء.

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) انا هنا وانتم هناك. ولا معبر ولا جسر ولا طريق بيننا. ان التوحيد منهج والشرك منهج آخر. ولا يلتقيان وهذا هو طريق الدعوة الاولى.

* * *

ـ ١١٠ ـ سورة النصر آياتها ثلاث (٣)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

ـ البيان : انه نصر الله يجيء في الوقت الذي يقرره. للغاية التي يرسمها. انها فرجة الظفر بعد طول العناء. وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري. فمن هذا يكون الاستغفار.

وهذه السورة الصغيرة. كما تحمل البشرى لرسول الله ص وآله بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا. كما توجهه ص وآله.

٦٤

حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه الى التوجه الى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار. (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً).

* * *

ـ ١١١ ـ سورة المسد آياتها خمس (٥)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (٢) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (٥))

ـ البيان : أبو لهب ـ (واسمه عبد العزي ابن عبد المطلب) وهو عم النبي ص وآله وكان هو وامرأته (ام جميل) من أشد الناس ايذاء لرسول الله ص وآله.

(تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ) والتباب الهلاك والبوار والقطع (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) وكانت تحمل الحطب وتضعه في طريق رسول الله ص وآله. اذا خرج الى الصلاة.

* * *

ـ ١١٢ ـ سورة الاخلاص آياتها أربع (٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (٤))

ـ البيان : هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن. كما جاء في الخبر. (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) وهو لفظ أدق من لفظ (واحد) وليس

٦٥

كمثله شيء. انها احدية الوجود. فليس هناك حقيقة سواه. وكل موجود سواه مستمد وجوده منه عزوجل.

ومعنى ان الله احد : انه الصمد. وانه لم يلد ولم يولد. (اللهُ الصَّمَدُ).

ومعنى الصمد اللغوي : السيد المقصود الذي لا يقضى أمر الا بأذنه (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) فحقيقة الله ثابته ابديه أزلية. لا تعتورها حال بعد حال.

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) أي لم يوجد له مماثل أو مكافي. لا في حقيقة الوجود ولا في غيرها وهو نفي للعقيدة الثنائية التي تزعم ان الله هو آله الخير. وينهي عن الشر.

* * *

ـ ١١٣ ـ سورة الفلق آياتها خمس (٥)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (٥))

ـ البيان : الفلق من معانيه الصبح. ومن معانيه الخلق كله (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) أي من شر خلقه اطلاقا واجمالا. والاستعاذة بالله من شرها.

(وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) والغاسق في اللغة الدافق. والوقب : الثغرة في الجبل يسيل منها الماء. والمقصود هنا هو الليل وما فيه.

(وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) معناه ومن شر النساء اللاتي ينفثن في العقد.

٦٦

(وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) والحسد انفعال نفسي ازاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها .. وكل ما يأتي العبد ويريده لا يكون الا باذن الله وارادته.

* * *

ـ ١١٤ ـ سورة الناس آياتها ست (٦)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلهِ النَّاسِ (٣) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (٦))

ـ البيان : فالرب هو المربي والموجه. والملك هو الحاكم. والآله هو المستعلي المستولي والله رب كل شيء. والله ـ برحمة منه ـ يوجه رسوله ص وآله ـ وامته الى العياذ به والالتجاء اليه في ما يخشاه ويخافه. (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ).

ـ عن رسول الله ص وآله : الشيطان جاثم على قلب ابن ادم فاذا ذكر الله تعالى خنس الشيطان : هرب وانهزم واندحر. ووسوسة الناس فتنهم وفسادهم. وهذه السورة هي تمامية القرآن المجيد. والحمد لله أولا واخرا.

* * *

٦٧

ايقاذ وتذكير

وحينما يستيقظ ضمير الانسان ، ويتأمل ويتدبر. لابد ان يرتجف جسمه خاشعا ويسجد لخالقه طائعا ، ويتطلع الى مولاه المحسن المنعم عليه دائما وينطلق لسانه قائلا :

(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ)

سورة آل عمران آية ١٩١

أو يخاطبه «اذا هو عاند واستكبر» بقوله عزوجل :

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) سورة الجاثية آية ٦

لقد كان الايمان بالغيب هو مفرق الطريق. في ارتقاء الانسان عن عالم البهيمية. ولكن جماعة الماديين في هذا الزمان ، في القرن العشرين ـ كجماعة الماديين في كل زمان ـ يريدون ان يرجعوا بالانسان القهقرى ، الى عالم البهيمة ، الذي لا وجود فيه لغير المحسوس ، من الشهوات والماديات.

الى ان اصبح عند بعض الناس ، اللؤم قوة ، والمكر السيء براعة. وهو في الحقيقة ضعف وخسّة. لان شريعة الله لخلقه هي طرف من قانونه الكلي في الكون ، والشريعة التي ان هي الا ثمرة الايمان ، التي لا تقوم وحدها بغير أصلها الكبير. وهي تحقيق الحياة بعد الموت.

ومن هنا ينبعث روح النشاط ، والجد في قوى الانسان المؤمن لأنه يحقق نتاج عمله في هذه الحياة وبعدها ، فذلك هو نتاج المستقيمين على منهج الله تعالى وصراطه المستقيم.

واما نتاج الضالين المنحرفين ، الذين اضاعوا الصلوات واتبعوا

٦٨

الشهوات. فسوف يلقون غيا وتتلقاهم ملائكة غلاظ شداد ، عند دنو رحيلهم من هذه الحياة ، وانتقالهم الى دار القرار. فيلاقون جزاء ما قدمت أيديهم ، فينادونهم بما أخبر عزوجل في قرآنه المجيد :

(وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ. أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) سورة الانعام آية ٩١

المشهد الذي يرسمه السياق في جزاء الظالمين. مشهد مفزع مرعب مكروب مرهوب. الظالمون في غمرات الموت وسكراته. يا لها من غمرات وكروب ترعب القلوب والابدان ، والملائكة يبسطون اليهم ايديهم بالعذاب ، وهم يطالبون ارواحهم بالخروج ويهددونهم بالوعد والوعيد. والنكال والتعذيب.

وكل ذلك جزاء الاستكبار ، وجزاء التكذيب وموقف مملوء بالكروب والتأنيب ، وآخذ بالخناق من الهول والكآبة والضيق ، وكل ذلك من الله تعالى للذين كذبوا عليه وها هم اولا ، اذلّاء ضعفاء بين يديه. ويواجههم في غمرات الموت وعند خروج الروح ، وعند نهاية دور اللعب والطرب واللهو والقفز والسكر والغرور في ذلك الموقف الرهيب وفي تلك الساعة العسرة الشديده ساعة الكربة والضيق يناديهم.

(وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى. كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)

ما لكم قد تركتم كلما كنتم تفرحون به ، وتعاركون عليه وتشقون في جمعه وتحصيله ، فما معكم الا ذواتكم مجردة مفردة ، عارية فارغة الا من الجرائم والآثام ، كما خلقناكم اول مرة. لقد تركتم كل شيء وتفرق عنكم كل احد (وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ) تركتم كل شيء من مال وزينة ، وما كنتم تتفاخرون بهم في حياتكم المخدوعة. وقد زال عنكم الجاه والسلطان وترككم الاهل والجيران. وتبرا منكم كل من كان يدنو اليكم.

٦٩

فاين ذهب الشركاء والشفعاء والاقارب والاحباء. انه المشهد الذي يهز القلب البشري هزا عنيفا ، وهو يشخص ويتحرك ويلقي الرعب والخوف ، على النفس ، التي خرجت ناقصة مشوهة ، حزينة ذليلة ملوثة خسيسة. وترى الرعب يأخذها وهو يكسب ايحاءاته في القلب وايحاءات الرعب والكرب الشديد (انه لقرآن مجيد) وهنا يتوجه التحقير والاستهزاء. لاتباع هؤلاء الظلمة العتاة فيقول عزوجل :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً. وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ... وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ) ـ سورة العنكبوت آية ٤١

اذ سمع الفاهم الرشيد لهذا المثال ، ولأشباهه من الامثال التي يضربها منشىء هذا الكتاب ، لجميع المخلوقات في هذا القرآن المجيد يلزمه عقله وضميره لتحقيق وتمحيص ، صحة هذا القول من هذا القدير العظيم ، الذي يتحد هذه المخلوقات بأجمعها ، ويجعلها مع جميع قواها مقابل قوته وعظمته. مثل العنكبوت في ضعفه ووهنه. ويجعل جميع ما يملكون وما يعتمدون عليه ، ويفتخرون به ، من اناس ، واموال ، ومعدات وآلات. كبيت العنكبوت الذي لا يوجد حصن ولا حرز في الوجود اوهن منه) وما هو في الحقيقة الا كالسراب الذي يحسبه الظمآن ماء حتى اذا جاءه لم يجده شيئا فيا لهول ما يجده التحد الباهر.

الذي يجعل جميع قوى المخلوقات بكافة اجناسها وانواعها ، كبيت العنكبوت في خيوطه الواهنة. مقابل قدرة هذا المتحدي وعظمته ، التي لا تحد ولا تعد.

وينتهي التحدي من منشيء هذا الكتاب ، وضارب هذه الامثال الى انكار جميع قوة المخلوقات ، وانه لا يوجد هنالك الا قوة واحدة هي قوة الله عزوجل. وما عداها من قوى الخلق ، فهو هزيل واهن ، لا يزيد على قوة العنكبوت الضعيفة ، وقوة بيتها الواهن فجميع المخلوقات وما

٧٠

تعتمد عليه من قوى الماديات باجمعها ، اوهن من العنكبوت وبيتها الذي هو لا شيء.

انه تصوير عجيب صادق ، لحقيقة القوى في هذا الوجود. الحقيقة التي يغفل عنها الناس احيانا فيسيء تقديرهم لجميع تلك القيم ، ويفسد تصويرهم لجميع الارتباطات. وتختل في ايديهم جميع الموازين ، ولا يعرفون الى أين يتجهون. وماذا يأخذون وما يدعون.

وعندئذ تخدعهم قوة الحكم والسلطان ، يحسبونها القوة القادرة التي تعمل في هذه الارض ، فيتوجهون اليها بمخاوفهم ورغباتهم ، ويخشونها ويفزعون منها ، ويسترضونها ليكفوا عن انفسهم اذاها ، او يضمنوا لأنفسهم حماها.

وتخدعهم قوة المال. يحسبونها القوة ، المسيطرة على اقدار الناس واقدار الحياة ، ويتقدمون اليها في رغب وفي رهب ، ويسعون للحصول عليها ليستطيلوا بها على الرقاب كما يحسبون.

وتخدعهم قوة العلم. يحسبونها اصل القوة ، واصل المال ، واصل سائر القوي ، التي يصول بها من يملكها ، ويتقدمون اليها خاشعين كأنهم عباد في المحاريب.

وتخدعهم هذه القوى الظاهرة. تخدعهم في ايدي الافراد وفي ايدي الجماعات ، وفي ايدي الدول ، فيدورون حولها ، ويتهافتون عليها. كما يدور الفراش حول المصباح ويتهافت على النار.

وينسون أن القوة الوحيدة ، التي تخلق سائر القوى الصغيرة. تملكها وتمنحها وتوجهها وتسخرها كما تشاء وحيثما تريد هي قوة الخالق العظيم.

وينسون أن الالتجاء الى تلك القوى سواء كانت في أيدي الافراد ، أو الجماعات ، أو الدول .. كالتجاء العنكبوت الى بيتها ، التي صنعته من تلك الخيوط الواهنة السخيفة. وليس هنالك الا حماية الله. والا

٧١

ركنه القوي وحصنه الحصين. هي الحقيقة الضخمة ، هي التي وقفت في طريقها ، وداست على كبرياء الجبابرة في الارض ، ودكت بها المعاقل والحصون.

لقد استقرت هذه الحقيقة الضخمة في كل نفس ، وعمرت كل قلب ، واختلطت بالدم وجرت معه في العروق ، ولم تعد كلمة تقال باللسان ، ولا قضية تحتاج الى جدل. بل بديهة مستقرة في النفس. ولا يجول غيرها في حس ولا خيال.

قوة الله وحدها. هي القوة ، وولاية الله وحدها هي الولاية ، وما عداها فهو واهن ضئيل هزيل. مهما علا واستطال ، ومهما تجبر وطغى ، ومهما ملك من وسائل البطش والطغيان والتنكيل. انها العنكبوت : وما تملك من القوى ليست سوى خيوط العنكبوت

(وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ)

وان أصحاب الدعوات الذين يتعرضون للفتنة والاذى ، وللاغراء والاغواء جديرون أن يقفوا أمام هذه الحقيقة الضخمة ، ولا ينسوها لحظة واحدة ، وهم يواجهون القوى المختلفة التي تضربهم وتحاول أن تسحقهم والتي تستهويهم وتحاول أن تشتريهم .. كلها خيوط العنكبوت في حساب الله ، وفي حساب العقيدة. حين تصح العقيدة ، وحين تعرف حقيقة القوى وتحسن التقويم والتقدير :

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ)

انهم يستعينون بأولياء ، يتخذونهم من دون الله. والله يعلم حقيقة هؤلاء الاولياء. وهي الحقيقة التي صورت في المثل السابق. عنكبوت تحتمي بخيوطها الواهنة (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) هو وحده العزيز القادر القاهر الحكيم المدبر لهذا الوجود القادر على حماية عبده من كل مخلوقاته.

٧٢

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ)

فلقد اتخذها جماعة من المشركين ، المغلقي القلوب والعقول ، مادة للسخرية والتهكم وقالوا : ان رب محمد يتحدث عن الذباب والعنكبوت. ولم يهزّ مشاعرهم هذا التصوير العجيب ، لأنهم لا يعقلون ولا يعلمون.«ولا يعقلها الا العالمون».

خاتمة في الاعجاز

المعجز هو الذي يأتي به مدعي النبوة بعناية الله الخاصة. خارقا للعادة وخارجا عن حدود القدرة البشرية وقوانين العلم والتربة. ليكون بذلك دليلا على صدق النبي وحجته في ادعائه النبوة ودعوته انه مرسل من قبل رب العالمين ، ليبلغ شرائعه وأحكامه لكافة من أرسل اليهم «بأمان وكمال ورفق واحسان».

ويشترط في مدعى النبوة أن يكون ظاهر الصلاح ، من مبدأ حياته الى زمان دعوته ، وأن يكون موصوفا بالامانة ، معروفا بصدق اللهجة والاستقامة.

ويشترط في دعوته التي جاء يدعو اليها الخلق ، أن تكون وفق العقل وأساسياته ، والا لما جاز اظهار الدعوة ، لمن لم يكن متصفا بهذه الصفات المذكورة. لانه لو كان مع صفاته المذكورة. كاذبا في دعواه ، لكان اظهار المعجزة على يده وتخصيص الله له بالعناية ، اغراء للناس بالجهل وتوريطا لهم في متاهات الضلال ، وهذا قبيح ممتنع ، على جلال الله وقدسيته العظمى ، ورأفته بعباده الضعفاء.

حكمة تنوع المعجز

ان الحكمة في تنوع المعجز فائدة عظمى وحجة كبرى. لان المعجز ، اذا كان من جنس ما يفتخر به أهل ذلك العصر والزمان ، وما يتفاخر به

٧٣

عظماء تلك الجماعات ، ومع ذلك فقد تحداهم ، على الاتيان بمثل ما جاء به من ربه المرسل من قبله ، دليلا على نبوته وحجة على صحة دعواه ، وحكم عليهم جميعا بالعجز والضعف سلفا بدون امهال. وفعلا قد أقروا واعترفوا بالعجز والقصور والضعف والوهن يكون ذلك أبلغ في الاعجاز وأقوى للحجة والبرهان مما لو كان اتاهم بغير ما يعرفون.

مثلا : كان في عصر موسى (ع) من الرائج بين أبناء عصره السحر وأنواعه فكانوا يعرفون ما هو جار على نواميس هذه الصناعة. وما هو خارج عنها وعن حدود القدرة ، الا لخاصة البشر من الاوحديين في عصرهم وزمانهم.

ولاجل ذلك اقتضت الحكمة ، أن يحتج عليهم بمعجزة العصا ، التي ألقاها موسى (ع) أمام أعينهم فصارت ثعبانا تلقف ما يأفكون وما خيلوا به على أعين الناس من أن حبالهم وعصيهم تسعى. وقد رأوا بأعينهم انها تلقفت حبالهم وعصيهم. ولم يبق لذلك وجود ولا أثر ثم رجعت كحالها الاول ، عصا من خشب ، يراها جميع البشر بدون شك أو ارتياب.

فحينئذ تحقق لديهم أن هذا الذي جرى ورأوه بأعينهم ليس من صنع البشر ، مهما تفنن البشر في هذه المهنة والصنعة. وهو خارج عن حدود السحر وقدرة السحرة. ولذا فورا خر السحرة لرب هارون وموسى ، وآمنوا به بدون تردد أو اهمال كما ذكر في قوله عزوجل :

(قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى. قالَ : بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى. قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا. إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى. فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى.

قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى.)

٧٤

(قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا. إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى. إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) سورة طه آية ٦٢ ـ ٧٣

فقبل التحدي موسى منهم ، وترك لهم فرصة البدء ، واستبقى لنفسه الكلمة الاخيرة ، ولكن ماذا جرى : انه لسحر عظيم فيما يبدو للناظرين وحركة مفاجئة ، ماجة منها القلوب :

«فاذا حبالهم وعصيهم يخيل اليه انها تسعى»

قلنا : لا تخف انك أنت الاعلى. ان الحق لمعك. ومعهم الباطل. ومعك العقيدة الصحيحة ، ومعهم الحرف والتموية. ومعك الايمان والصدق. ومعهم الطمع بجائرة فرعون والرغبة بالمباراة ، وأنت متصل بالقوة الكبرى. وهم يخدمون مخلوقا ضعيفا واهنا وان كان يظنه الجاهلون جبارا عتيا.

قلنا : لا تخف والق ما في يمينك تلقف ما صنعوا فهو سحر من تدبير ساحر مشعبث. والساحر لا يفلح أنى ذهب وفي أي طريق سار. لانه يتبع تخييلا ويصنع تخييلا ، ولا يعتمد على حقيقة ثابتة. شأنه شأن كل مبطل أمام القائم على الحق. المعتمد على الصدق. وقد يبدو باطله ضخما فخما مخيفا. لمن يغفل عن قوة الحق الهائلة التي لا تتبختر ولا تتطاول الا بالواقع والصواب. وهي تدفع الباطل في نهاية المطاف. فاذا هو زاهق وتلقفه وتطويه.

وفعلا فقد ألقى موسى (ع) عصاه. وتلقفت ما صنعوا ووقعت المفاجأة الكبرى. والسياق يصور لنا ضخامة المفاجأة. وعظمة وقعها في نفوس السحرة الذين جاءوا للمباراة وهم يأملون الفوز وكان بعضهم ، يحمّس بعضا ، ويدفع بعضهم بعضا الى التسابق وكأنهم يحققون الجائزة من فرعون.

٧٥

ولم تسمح لهم عقولهم لحظة في التروي ، بل أوجبت عليهم الاسراع في الايمان والسجود لرب موسى وهارون ، الذي له تلك القدرة البالغة والمحجة الناصعة التي تحققت لديهم بدون ارتياب.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً. قالُوا : آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى)

انها اللمسة تصادف العصب الحساس ، فينتفض الجسم كله ، وتصادف «الزر» الصغير فينبعث النور وينشرح الصدر ويستضيء القلب وينكشف الظلام بدون امهال.

انها لمسة الايمان للقلب البشري ، فتحوله في لحظة خاطفة من الكفر الى الايمان ، ومن العناد الى الاذعان. ومن الرهبة والخوف الى الامان والاطمئنان. ولكن انى لمطموسي القلوب ، ومريضي الضمائر ، والجبابرة الطغاة ، أن يدركوها هذا السر اللطيف أنى لهم أن يدركوا كيف تتقلب القلوب ، وتهتز الضمائر الحية في لمحة البصر ، أو هو أقرب.

وهم قد نسوا الله فأنساهم انفسهم وقد طغوا وتجبروا حيث رأوا الاتباع ينقادون لاشارة منهم. وقد نسوا أن الله لهم بالمرصاد وهو مقلب القلوب وبيده أزمة الامور وما هو من الظالمين ببعيد.

(قال ـ فرعون الطاغية ـ (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ)

يا لها من قولة ، صادرة من طاغية جبار ، لا يحسّ قلبه برحمة ولا حنان. وقد خفي عليه ما لمسته قلوبهم من الايمان الصحيح وألزمتهم عقولهم على الاسراع للسجود قبل فوات الأوان وقد أحسّوا بالايمان ينعش قلوبهم وأفئدتهم. ويدعوهم الى الاستسلام والاقرار بالاسلام وقد تكشفت عن بصائرهم غشاوة البطل والضلال ولفد سخروا من فرعون حين هددهم بقوله :

(فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ)

هنا يظهر الاستعلاء بالقوة الغاشمة. وهنا تتجلى القوة التي تمزق

٧٦

الاحشاء والاوصال ولا تفرق بين انسان يقرع بالحجة. وحيوان يقرع بالناب. ولكنه قد فات الاوان. وكانت اللمسة الايمانية قد وصلت الى الذرة الصغيرة ـ في القلب فاستضاء. وأصابت مصدرها الهائل فاتسع وانشرح. فاذا هي قوة قويمة. واذا القوى الارضية كلها ضئيلة ضئيلة واذا الحياة الأرضية كلها زهيدة في نظر أهل الايمان. وكانت قد تفتحت لهذه القلوب آفاق مشرقة لا تبالي أن تنظر بعدها الى الارض وما بها من عرض زائل. ولا الى حياة الارض وما فيها من متاع تافه. ولذا ترى أرباب هذه القلوب قد أسرعت الى الاجهار بالحق المبين وليست مبالية بكل ما يجري أو يصير قائلة بكل اطمئنان ورزانة لمخاطبة الجبار العاتي :

(لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ ، وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ. إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ)

يالها من لمسة فياحة منعشة قد ملأت القلوب ايمانا ، منذ أول لحظة أضاء لها نور الايمان وازدرت بفرعون ، وما يملك من هذه الحياة. ورأت التقرب من خالقها مغنما يجب أن يتسابق اليه المتسابقون ، ويعمل لأجل نيله العالمون. فاذا هي بعد لحظة تواجهه في قوة ايمان ويقين وترخص في نظرتها مملكة فرعون وزخرفه وجاهه وسلطانه ، فأجابته غير خائفة ولا هيابة :

(إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا)

فسلطانك ـ يا فرعون ـ مقيد بهذه الدنيا ومالك من سلطان الا على أبداننا ان أراد بذلك خالقنا ومالكنا. وما أهون هذه الحياة الفانية عند الحياة الابدية ، الخالدة التي لا تزول. وكل ما يخشى من عقابك وعذابك ، أيسر من أن يخشاه قلب قد اتصل بخالقه وتحققت لديه الحياة الخالدة أبدا ... والهم السحرة الذين آمنوا بربهم وزادهم هدى أن يقفوا من الطاغية ، الذي يهددهم بالعذاب والنكال ، موقف المعلم المستعلي على من دونه قائلين :

٧٧

(إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى)

فاذا كان فرعون يتهددهم بمن هو أشد وأبقى. فهاهم يهددونه باظهار صورة من يأتي ربه مجرما : فان له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ، انه العذاب الذي لا ينتهي الى موت أو فناء ، وفي الجانب الآخر (الدَّرَجاتُ الْعُلى) جنات تجري من تحتها الانهار وذلك جزاء من تزكى

وهزأت القلوب المؤمنة بتهديد الطغيان الجائر. وواجهته بكلمة الايمان القوية وباستعلاء الايمان الواثق المطمئن. واتبعته بتحذير الايمان الناصع وبرجاء الايمان العميق. ومضى هذا المشهد في تاريخ البشرية اعلانا لحرية القلب البشري باستعلائه على قيود الارض وسلطان الارض. وعلى الطمع وقد جهر بهذا الاعلان القوي الممتلىء بالايمان. ان للحق والايمان حقيقة ، متى تجسمت في المشاعر أخذت طريقها فاستعلنت ليراها الناس في صورتها الواقعية.

يجب أن تتحقق حقيقة الايمان في النفس. وحقيقة الحق في القلب ، فتصبحان أقوى من حقيقة القوى المادية التي يستعلي بها الباطل ويصول بها الطغيان وهذا هو الذي كان في موقف موسى من السحرة. وموقف السحرة ـ بعد ايمانهم ـ من فرعون وطغيانه. وحزبه وأعوانه. والعاقبة للمتقين.

* * *

وكانت فلسطين وسوريا في عصر المسيح مستعمرة لليونان وفيها منهم خلق كثير وكان للطب فيها رواج هائل. (وكان في الفصل الثالث عشر والرابع عشر من سفر اللاويين من التوراة الرائجة) تعليم طويل في تطهير القرع والبرص بنحو يختص بروحانية الكهنوت ويوهم أنه من بركات الكهنة والآثار الروحية وان كان من نحو الحجر الصحي.

٧٨

فلأجل ذلك كانت الحكمة في معجزة المسيح (ع) أن يكون الشفاء من البرص والعمى وشفاء الأكمه. مما يعرفون انه خارج عن حدود الطب ومزاعم الكهنة وقدرة البشر. ومن خارق العادة التي لا يكون الا بقدرة الله تعالى ولذا قال عزوجل :

(كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ. إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ. أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ. فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ. وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ. وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ. وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .. فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)

سورة آل عمران آية ٤٧ ـ ٥٢

ويفيد هذا النص أن رسالة عيسى (ع) كانت لبني اسرائيل. وفيها الحياة المنظمة لحياة الجماعة الاسرائيلية.

والآية التي واجه بها بالفعل بني اسرائيل هي معجزة النفخ في الموات فيدخله سر الحياة. واحياء الموتى من الناس. وابراء الاعمى. وشفاء الابرص. واخبار بالغيب ـ بالنسبة له ـ وهو المدخر من الطعام وغير لك في بيوت بني اسرائيل.

وحرص النص أن يذكر على لسان المسيح (ع) : أن كل خارقة من هذه الخوارق التي جاءهم بها. انما جاءهم بها من عند الله الخالق العظيم علام الغيوب وهو على كل شيء قدير وهذه المعجزات في عمومها تتعلق بانشاء الحياة أو ردها أو رد العافية باذن الله واذا كان الله تعالى قادرا أن يجري هذه المعجزات على يد واحد من خلقه. فهو قادر على خلق ذلك الواحد من غير مثال. ولا حاجة اذن لكل الشبهات والاساطير التي نشأت عن هذا المولود الخاص ـ من غير أب ـ متى ردّ الامر الى مشيئة

٧٩

الله تعالى الطليقة. ولم يقيد الانسان الله سبحانه بمألوف الانسان.

وبما أن الديانة المسيحية ديانة خاصة لمجموعة من البشر في فترة من الزمان اكتفت بمعجزة موقتة واعتمدت على شريعة موقتة محدودة.

وعلى أية حال فقد انتهت المسيحية الى أن تكون نحلة بغير شريعة واسعة دائمة ومن هنا عجزت عن أن تقود الحياة الاجتماعية للامم التي عاشت عليها ـ أو جاءت بعدها ـ فقيادة الحياة الاجتماعية تقتضي ـ تصورا اعتقاديا يفسر الوجود كله. ويفسر حياة الانسان ومكانه في الوجود. وتقتضي نظاما تعبديا. وقيما اخلاقيا. ثم اقتضى حتما ، تشريعات منظمة لحياة الجماعة. مستمدة من ذلك التصور الاعتقادي. ومن هذا النظام التعبدي. ومن هذه القيم الاخلاقية. وهذا القوام التركيبي للدين هو الذي يضمن قيام نظام اجتماعي له بواعثه المفهومة. وله ضماناته المكينة. فلما وقع ذلك الانفصال في الدين المسيحي عجزت المسيحية عن أن تكون نظاما شاملا للحياة البشرية. واضطر أهلها الى الفصل بين القيم الروحية. والقيم العملية في حياتهم كلها. ومن بينها النظام الاجتماعي الذي تقوم عليه هذه الحياة. وقد قامت على غير قاعدتها الطبيعية فبقيت معلقة في الهواء وقامت عرجاء. وبعد اذ رأت المعجزة لبني اسرائيل قال تعالى :

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ)

ولا بد لكل صاحب عقيدة ودعوة من انصار ينهضون معه. ويحملون دعوته. ويحامون دونها. ويبلغونها الى من يليهم. ويقومون بعده عليها ولذا قال الحواريون :

(آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)

فذكروا الاسلام بمعناه الذي هو حقيقة الدين وأشهدوا عيسى (ع) على اسلامهم هذا وانتدابهم لنصرة الله. أي نصرة رسوله ودينه ومنهجه في الحياة. وفي ذلك تعهد لله واتباع للرسول. فليس الامر مجرد عقيدة في الضمير. ولكنه اتباع لمنهج الحق واليقين. ان المسلم المؤمن بدين

٨٠