تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) وهو الاسعد في مقابل الاشقى. ثم يبين من هو الاتقى. (الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ). (والذي صدق بالحسنى) بولاية أهل البيت (ع). (وَلَسَوْفَ يَرْضى) انه الرضى ينسكب في قلب هذا التقى. انه الرضا يغمر روحه. انه يفيض على جوارحه. انه الرضا يشيع في كيانه.

(وَلَسَوْفَ يَرْضى) يرضى بدينه. ويرضى بربه. ويرضى بقدره وقضائه (وَلَسَوْفَ يَرْضى).

* * *

ـ ٩٣ ـ سورة الضحى آياتها (١١) احدى عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

البيان : يقسم الله سبحانه ـ بهاتين الآيتين. فيربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس ويوحى الى القلب البشري بالحياة الشاعرة المتجاوبة مع هذا الوجود الجميل الحي.

وبعد الايحاء الكوني يجيء التوكيد المباشر (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) أي ما تركك ربك ولا جفاك كما زعم من يريدون ايذاء روحك. وهو (رَبُّكَ) وأنت عبده ورسوله وهو راعيك. فان لك عنده في الآخرة من الحسنى خيرا مما يعطيك في هذه الدنيا.

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) من التوفيق والنصر والرعاية وظهور حقك ودينك.

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى ...) انظر في واقع حالك .. وماضي

٤١

حياتك. ألم تحط يتمك دعايته لقد ولدت يتيما فآواك اليه. وعطف عليك القلوب وبالخصوص قلب عمك أبي طالب (ع) ولقد كنت فقيرا فأغناك بالقناعة وبمال خديجة بنت خويلد (ع).

ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد. فهداك الى دين الحنفية.

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) وهذه المقصود فيها غير النبي ص وآله. الى اكرام اليتيم. واعطاء السائل. مع الرفق والكرامة. والا فالنبي ص وآله هو منتهى الرأفة والرحمة. وهذه التوجيات الى اكرام اليتيم. مطلوبة من كل مسلم ومسلمة بقدر الامكان.

وأما التحدث بنعمة الله ـ وبخاصة نعمة الهدى والايمان ـ فهو صورة من صور الشكر للمنعم الكريم. يكملها البر بعباده. وهو المظهر العملي للشكر. والحديث الصامت النافع.

* * *

ـ ٩٤ ـ سورة الانشراح (٨) آياتها ثمان آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

البيان : ألم نشرح صدرك لهذه الدعوة. ونيسر لك أمرها. ونجعلها حبيبة لقلبك. ونشرع لك طريقها. والانشراح : هو الاشراق والنور يقذفه الله في قلب من أحبه).

ووضعنا عنك عبئك الذي أثقل ظهرك. وأعلنا لك ذكرك ورسالتك وذكرك على رؤوس المآذن في افتتاح كل خطبة وكلام. وفي ختام كل

٤٢

حديث وخطاب. فلا يذكر اسم الله تعالى الا ويقرن اسمك اليه. كل ذلك تفضلا من الله وكرمه عليك.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) ولانه لامر مؤكد يكرره للتأكيد اللفظي فلا داع للقنوط من اليسر بعد العسر ولو طال لمن يؤمن بالله تعالى ويتمسك برجائه وقضائه.

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) فخذ في أسباب اليسر. والدعاء لمن بيده أزمة الامور فاذا فرغت من أي عمل فتوجه بقلبك كله الى ربك فان بيده مقاليد الامور.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) فانقطع الى ربك وحده واقطع أملك من كل من سواه فانه قريب مجيب لمن دعاه عن اخلاص وايمان وتوسل اليه بأحب الخلق عليه محمد وأهل بيته المعصومين الميامين الاثني عشر اماما أولهم علي وآخرهم المهدي (ع) انها الدعوة. وانها الامانة الثقيلة. والعبء الذي ينقض الظهر من ثقله. وهي مع هذا وذاك مشرق النور الالهي. ومهبطه. ووصلة الفناء بالبقاء والعدم بالوجود.

* * *

ـ ٩٥ ـ سورة التين آياتها (٨) ثمان آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

البيان : الحقيقة الرئيسية التي تعرضها هذه السورة هي حقيقة

٤٣

الفطرة القويمة التي فطر الله الناس عليها. واستقامتها مع طبيعة الايمان. وبالوصول بها الى منتهى الكمال.

وقد يهبط الانسان عن مستواه الطبيعي الى أسفل من الحيوان الوحشي اذا اتبع هواه. وطور سينين هو الطور الذي نودي عليه موسى (ع). وهذا القسم ـ على ما عهدنا في كثير من سور هذا الجزء ـ هو الاطار الذي تعرض فيه تلك الحقيقة. وقد رأينا في السور المماثلة ان الاطار يتناسق مع الحقيقة التي تعرض فيه تناسقا دقيقا. والبلد هو مكة المكرمة. فأما التين والزيتون. فلا يتضح فيهما هذا الظل فيما يبدو لنا.

ومن ثم فاننا لا نملك أن نجزم بشيء في هذا الامر. (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ومنها تبدو عناية الله بخلق هذا الانسان ابتداء في أحسن تقويم. والله سبحانه. أحسن كل شيء خلقه. فتخصيص الانسان هنا وفي مواضع قرآنية أخرى فيه فضل عناية.

والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية. فبها يرتفع الى أعلا عليين. وبها يرتكس الى أسفل سافلين. ومنشأ ذلك ، استعمال العقل أو اتباع الهوى والشهوات.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فهؤلاء هم الذين يبقون على طهارة الفطرة ونقائها. ويستعملون العقل فيرفع بهم الى الايمان بالله والعمل الصالح الذين يتكاملون ويتفاضلون به.

فاما الذين يرتكسون بفطرتهم لاتباعهم لهواهم. ينحدرون بها في مهاوي جهنم وحريقها المضرم فهذه وتلك يتباينان ويتعاكسان سيرا. وأعمالا ، مبدئا ، ومنتهى الى الجنة او الى النار :

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) انه العدل الواضح. والحاكم العادل.

٤٤

ـ ٩٦ ـ سورة العلق آياتها (١٩) تسع عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

البيان : انها السورة الاولى من هذا القرآن. فهي تبدأ باسم الله تعالى وتوجه النبي ص وآله أول ما توجهه في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الاعلى. وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها. توجهه الى أن يقرأ باسم الله : (اقرأ باسم ربك الاعلى).

وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء. (الَّذِي خَلَقَ) ثم تخصص : خلق الانسان ومبدأه. (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) من تلك النطفة الدموية بالرحم. من ذلك المنشأ الصغير الساذج. فتدل على كرم الخالق فوق ما تدل على قدرته. فمن كرمه رفع هذا العلق الى درجة الانسان الذي يعلم فيتعلم : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ..

وانها لنقلة بعيدة بين المنشأ والمصير. ولكن الله قادر. ومن ثم كانت هذه النقلة ، تدير الرؤوس وتحير ذوي الالباب.

والى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم. تعليم الرب للانسان (بِالْقَلَمِ) لان القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثرا في حياة الانسان. ولم تكن هذه الحقيقة اذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الان ونعرفه في حياة البشرية.

والله الذي خلق ، هو الذي علم ، فمنه البدء والنشأة. ومنه التعليم والمعرفة.

٤٥

وهذه الحقيقة القرآنية الاولى. التي تلقاها قلب رسول الله ص وآله ، في اللحظة الاولى. هي التي ظلت تصرف شعوره. وتصرف لسانه وعمله واتجاهه. بعد طول حياته ...

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى). ان الذي أعطاه فأغناه هو الله تعالى. كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلمه. ولكن الانسان في عمومه لا يشكر حين يعطي فيستغني فيطغى.

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) فأين يذهب هذا الذي طغى واستغنى واستعان بنعم الله على عصيانه واليه يرجع هذا الذي يطغى اذا أغناه مولاه. (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى).

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) التشنيع والتعجيب واضح في طريقة التعبير. أرأيت هذا الامر المستنكر. أرأيته يقع من مخلوق غير هذا الانسان الطاغي.

(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) يرى تكذيبه. ويرى طغيانه. انه تهديد المصور بجرسه لمعناه والسفع : الاخذ بعنف. والناصية : الجبهة. أعلى مكان يرفعه الطاغية المتكبر. مقدم الرأس : انها الناصية تستحق السفع والصرع : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ).

* * *

ـ ٩٧ ـ سورة القدر آياتها (٥) خمس آياتها

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

البيان : الحديث في السورة عن تلك الليلة. قد سجلها الوجود

٤٦

كله بفرح وابتهاج ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب أشرف خلق الله تعالى بدون استثناء. وفي آثاره حياة البشرية جمعاء. والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث المبارك تفيض بالنور الهادىء. نور الله المشرق في قرآنه الذي أنزله في ليلة مباركة (فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ونور الملائكة وجبرائيل معهم. (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) ونور الفجر الذي تعرضه النصوص مع نور الوحي ونور الملائكة. وقد ورد اخبار في وقت نزولها سابقا ولا حقا انها في الليالي الوترية في العشر الاواخر من شهر رمضان المبارك (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) والمنهج الاسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير وقد ثبت ان هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لا حياء هذه الحقائق ومنهج الحركة في الضمير وعالم السلوك له أثره البالغ.

* * *

ـ ٩٨ ـ سورة البينة آياتها (٨) ثمان آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

البيان : لقد كانت الارض في حاجة ماسّة الى رسالة جديدة ، لان الحقائق قد بدّلت وما تبقى منها قد شوّهت. حتى أصبح وجودها أضر

٤٧

من فقدانها. لانها أصبحت مصدرا للتضليل كما تراها في عصرنا الحاضر. بحيث كل فاهم يقتصر نظره عليها يصبح ملحدا زنديقا.

وكان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح (ع) من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف. فكانت الانسانية منحدرة دوما على وجه الارض لا قوة تمسك بيدها. وتمنعها من التردي.

وكان الانسان في ذلك القرن قد نسي خالقه ونسي نفسه ومصيره. وفقد رشده. وأصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين. حتى لو بعث أصحابها الاولون لم يعرفوها. وقد أشار القرآن المجيد الى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب والمشركين.

(قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ. وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ).

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) وكان أشد هذا الخلاف. ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية. وبين نصارى مصر.

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ) فعبادة الله وحده التي أمروا بها (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) عقيدة خالصة في الضمير والعقيدة. فأين هذا من التصورات الزائفة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ).

ان محمدا ص وآله. هو الرسول الاخير. وان الاسلام الذي جاء به هو الرسالة الاخيرة .. وقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الارض ، فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات بهذه الرسالة. فقد تحددت الفرصة الاخيرة فاما ايمان فنجاة. واما كفر فهلاك. والكفر دلالة على الشر.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) حكم

٤٨

قاطع لا جدال فيه انه الايمان المجرد من كل شائبة. انه الايمان الذي ينشىء بآثاره واقع الحياة السعيدة.

(أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ. جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ ..) نعيم دائم وصحبة أبرار.

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) انه تعبير يلقى روحانية منعشة حيث يعجز تعبير آخر عنه.

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) وذلك هو التوكيد الاخير. يوصل القلب بخالقه العظيم.

عن جابر بن عبد الله الانصاري قال : كنا عند النبي ص وآله ، فأقبل علي بن ابي طالب (ع) فقال النبي : أتاكم أخي ثم التفت الى الكعبة فضربها بيده. ثم قال : والذي نفسي بيده ، ان هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة. ثم قال : انه أولكم ايمانا. وأوفاكم بعهد الله. وأقومكم بأمر الله. وأعدلكم في الرعية. وأقسمكم بالسوية. وأعظمكم عند الله مزية.

قال جابر : فنزلت (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ). قال وكان أصحاب محمد ص وآله حوله اذا أقبل علي (ع) فقال : (جاء خير البرية).

عن علي (ع) : قبض رسول الله ص وآله وأنا مسنده الى صدري. فقال يا علي : ألم تسمع قول الله عزوجل : ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية. قال ص وآله : (هم انت وشيعتك ، وموعدي وموعدكم الحوض اذا اجتمعت الامم للحساب يدعون غراء محجلين). وفيه عن عباس كذلك الحديث.

٤٩

ـ ٩٩ ـ سورة الزلزلة وهي ثمان آيات (٨)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

البيان : انه يوم القيامة حيث ترتجف الارض الثابتة ارتجافا. وتزلزل ، وتنفض ما في جوفها نفضا. وتخرج ما يثقلها من أجساد الطغاة والمنافقين. وكراهتها لهم في بطنها. وهو مشهد يهز الارض تحت أقدام المستمعين لهذه السورة. ويخيل اليهم انهم مأخوذون. مشهد يخلع القلوب الحية ، من كل ما تتشبث به من هذه الحياة القذرة وأهلها المتكالبين عليها. ويزيد هذا الاثر وضوحا بتصوير (الانسان) حيال المشهد المعروض ورسم انفعالاته.

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) وهو سؤال المشدوه المبهوت المفجوء الذي يرى ما لم يعهد. ويواجه ما لم يكن يحتمل (والانسان) قد شهد الزلزال والبراكين من قبل وكان يصاب منها بالهلع والذعر. ولكنه حين الزلزال يوم القيامة لا يجد أن هناك شبها بين الزلزالين فهذا أمر جديد لا عهد للانسان به أمر لا يعرف له مثيل ولا نظير. أمر هائل يقع للمرة الاولى.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً) يومئذ تحدث لهذه الارض اخبارها.

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) وأمرها أن تمور مورا. وأن تزلزل زلزالها. وأن تخرج أثقالها. فالطاعة مذعنة (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) والانسان مأخوذ يلهث فزعا ورعبا وعجبا.

وفي لمحة ترى مشهد القيامة وبعثرة القبور. كأنهم الجراد المنتشر ، وهو مشهد مرعب (يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً) وحيثما يمتد البصر رأى شبحا ينبعث ثم ينطلق مسرعا لا يلوي على شيء. ولا ينظر وراءه ولا

٥٠

حوله. (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) (أبصارهم خاشعة) ممدودة رقابهم. (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ).

انه مشهد لا يمكن التعبير عن صفته. انه هائل مروع مرعب مذهل مفزع ...

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) وهذه أشد وأدهى .. انهم ذاهبون الى حيث تعرض عليهم أعمالهم. انهم يواجهون وجها لوجه جزاءها. ومواجهة الانسان الى عمله قد تكون أحيانا أقسى من كل جزاء. وان من عمله ما يهرب من مواجته بينه وبين نفسه ـ بعد نهايته منه ـ ويشيح بوجهه عنه لبشاعته حين يصحو من لذته وسكرته.

فكيف وماذا يصيبه من ذلك اذا كان كل ذلك الانكشاف على رؤوس الاشهاد. وفي حضرة العظيم الجبار. القوي القهار. الذي ينهاه عنه ويحذره منه وهو معرض عنه.

انها لعقوبة هائلة رهيبة. مجرد أن يروا أعمالهم. وان يواجهوا بما كان منهم هو مرعب :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

يا لطيف حتى الذرة ، وحتى حبة الخردل ، وهل هناك شيء أصغر من ذلك حتى يضربه لنا. كل ذلك سيحضر امام عينيك ايها الانسان. وكيف يمكن احصاء ذلك وأين يوجد ذلك.

(هذا كتابنا ينطق عليك بالحق انا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون).(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً). يوم تشهد عليهم أيديهم وجلودهم بما كانوا يعملون. فياله من مشهد. وياله من عرض وفضيحة على رؤوس الاشهاد انه موقف هائل فالويل للغافلين عن هذا الموقف المرعب والويل للمتكبرين على خالقهم العظيم.

٥١

فالعاقل من وعظ بغيره وسارع الى التوبة والانابة والرجوع الى الله تعالى فان الله تعالى يحب التوابين ويحب المتطهرين والتائب من الذنب كمن لا ذنب له.

وها هو يقول عزوجل (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ). اللهم اجعلنا من التائبين واغفر لنا ما سلف من ذنوبنا بحق محمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

* * *

ـ ١٠٠ ـ سورة العاديات آياتها (١١) احدى عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

ـ البيان : يقسم الله تعالى بخيل المعركة ويصف حركاتها. واحدة واحدة. منذ تحركت حتى انتهت. بأصواتها حين تجري قارعة للصخر بحوافرها. ويثير الغبار تارة أخرى.

ـ عن الصادق (ع) انه قال وجه رسول الله ص وآله ابا بكر في سرية الى اهل وادي اليابس ، وقد تجمعوا اثنا عشر ألف فارس. وتعاقدوا على ان يقتلوا محمدا أو علي بن ابي طالب (ع). فنزل جبرائيل على النبي ص وآله فأخبره بقصتهم وما تعاقدوا عليه. وأمره أن يرسل اليهم أبا بكر في أربعة آلاف فارس. فلما وصلوا اليهم خرج منهم مئتا فارس وسألوهم من انتم فقال ابو بكر أنا فلان وقد أرسلنا

٥٢

رسول الله اليكم. فقالوا له ليس انت بغيتنا فنحن ننصحكم ان ترجعوا وانجوا بأنفسكم. فلما رأى ابو بكر كثرتهم خاف وأمر أصحابه بالرجوع فقالوا له كيف تخالف رسول الله فقال الذي يراه الحاضر لا يراه الغائب نرجع اليه ونخبره بكثرتهم. فرجع بهم فلما رآه رسول الله ص وآله غضب وقال لابي بكر : كيف تخالف ما أمرتك به عن جبرائيل عن الله. ثم دعا عمر بن الخطاب وأمره ان يسير الى القوم فيقاتلهم ان أبوا الاسلام ولا يفعل كما فعل صاحبه بالأمس. فذهب عمر مع الاربعة آلاف فارس حتى وصلوا الى القوم فخرجوا اليهم وسألوهم فاخبروهم كما قال أبو بكر فوجهوا اليهم النصيحة وأمروهم بالرجوع حتى يأتي محمد او ابن عمه علي فهما طلبتنا وبغيتنا. فدخل الخوف على ابن الخطاب كما شمل من قبل زميله أبا بكر. فأمر برجوع الجيش الى المدينة. فلما رآه النبي ص وآله راجعا تأسف كثيرا وعاتبه على مخالفة أمره وأمر الله عزوجل فيما اسند اليه. فصعد النبي المنبر فحمد الله واثنى عليه. وأخبر بما صنع عمر وما كان منه وانه قد انصرف مع الجيش مخالفا لامري عاصيا لقولي. ثم قال يا عمر عصيت الله في عرشه وعصيتني وخالفت قولي. ثم قال : ان الله قد أمرني أن ابعث علي بن أبي طالب في هؤلاء المسلمين. واخبرني ان الله سيفتح عليه وعلى أصحابه. فدعا عليا (ع) وأوصاه بما أوصى به أبا بكر وعمر. بعده. فخرج علي (ع) بأمر رسول الله ص وآله. وغير سير ابي بكر وعمر. وجعل يحث السير حتى كاد بعض جيشه ان ينقطع من التعب. وساروا حتى اذا كانوا قريبا منهم حيث يرونهم ويراهم أمر أصحابه أن ينزلوا. وسمع أهل وادي اليابس بمقدم علي بن أبي طالب (ع) وأصحابه فأخرجوا اليه منهم مائتي رجل شاكين بالسلاح. فلما رآهم علي (ع) خرج اليهم في نفر من أصحابه.

٥٣

فقالوا لهم من انتم ومن أين أقبلتم واين تريدون. قال لهم علي (ع) انا علي ابن عم رسول الله وأخوه ورسوله اليكم ادعوكم الى شهادة ان لا اله الا الله. وان محمدا عبده ورسوله. ولكم ان آمنتم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم. فقالوا له : اياك أردنا وانت طلبتنا قد سمعنا مقالتك فخذ حذرك واستعد للحرب. واعلم انا قاتلوك واصحابك. والموعد فيما بيننا وبينكم غدا ضحا وقد أعذرنا فيما بيننا وبينك. فقال لهم علي (ع) الويل لكم تهددوني بكثرتكم وجمعكم. فانا استعين بالله وملائكته. والمسلمين عليكم ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. فانصرفوا الى مراكزهم. فلما جن الليل أمر أصحابه ان يحسنوا الى دوابهم. فلما انشق عمود الصبح صلى بالناس. ثم غار عليهم باصحابه فلم يعلموا حتى وطهم الخيل فما أدرك آخر أصحابه حتى قتل مقاتليهم وسبى ذراريهم واستباح أموالهم. وأقبل بالاسارى واموالهم معه. فنزل جبرائيل (ع) وأخبر رسول الله ص وآله بما فتح الله على علي (ع) وجماعة المسلمين. فصعد رسول الله ص وآله المنبر. فحمد الله واثنى عليه واخبر الناس بما فتح الله على المسلمين. وأعلمهم انه لم يصب منهم الارجلين. ولم يغنم المسلمون مثلها وسميت غزوة ذات السلاسل لانه كتفهم في السلاسل. ونزلت هذه السورة في هذه الغزوة. ونزلت في الرجلين اللذين خالف أمر الله ورسوله قوله عزوجل :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ. وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ. وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) يعني حب الحياة لذلك هربا.

* * *

٥٤

ـ ١٠١ ـ سورة القارعة آياتها (١١) احدى عشر آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

ـ البيان : القارعة : القيامة. والصاخة والطامة والحاقة والغاشية. والقارعة توحي بالقرع واللطم. فهي تقرع القلوب بهولها. والسورة كلها عن هذه القارعة. حقيقتها وما يقع فيها. وما ينتهي اليها. فهي تعرض مشهدا من مشاهد القيامة.

والمشهد المعروض هنا مشهد هول. تتناول أثارة الناس والجبال. فيبدو الناس في ظله صغارا ضئالا على كثرتهم. فهم (كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) مستطارون في حيرة كالفراش الذي يتهافت على النار. ولا يعرف له هدفا. وتبدو الجبال التي كانت شاهقة كالصوف المنفوش. تتقاذفه الرياح. وبذلك تلقى ايحاءها في القلب والمشاعر. تمهيدا لما ينتهي اليه الانسان.

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) والمراد بالميزان الثقيل ان صاحبه قد قدم توبته قبل موته واشتغل بالاعمال الصالحة. وتوسل بمحمد وآله ان يشفعوا له بالعفو عما سلف منه من خطايا وعصيان. ولابد من قبول هذه التوبة من كل مؤمن تائب نادما قد أخلص في ايمانه واخلص لخالقه وتوسل بالنبي واهل بيته (ع) ليشفعوا له عند خالقه (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) وجنة عالية قطوفها دانية. كلوا واشربوا بما اسلفتم في الايام الخالية. (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) وهذا الذي كان غير تائب عند موته ومات على عصيانه لخالقه وهذا هو المسلم المؤمن بحياته بحسب الظاهر. ولكنه كان يرتكب المعاصي ولم يتب حتى مات والكفار لا تقيم لها موازين. بل يساقون الى جهنم زمرا (فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ

٥٥

يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً) (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) هذا منتهى العصاة والمجرمين حتى ولو كانوا ـ في الدنيا ـ مسلمين حسب الظاهر (وما ادراك ما هي نار حامية) هذا هو منتهى الذي خفت موازينه ومات على غير توبة وندم على ما فات.

* * *

ـ ١٠٢ ـ سورة التكاثر آياتها (٨) ثمان آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)

ـ البيان : هذه السورة ذات ايقاع جليل رهيب عميق. وكأنما هي صوت نذير قائم على شرف عال يمد بصوته. ويصيح بالنائمين الغافلين ثم يناديهم (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ). أيها السادرون المخمورون. أيها اللاهون بالتكاثر في الأموال والاولاد. واعراض الدنيا الفانية. أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه. أيها التاركون ما خلقتم لأجله وستنزلون في حفرة ضيقة فاستيقظوا وانظروا فقد (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ). ثم يقرع قلوبهم بهول ما ينتظرهم هناك بعد نزولهم في عميق سحيق (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ. ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ).

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) ثم يؤكد هذه الحقيقة ويعمق وقعها الرهيب في القلوب. (ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) نعم لو طهر القلب من الأعمال السيئة. وآمن بقلبه يقينا بما وصفه الله تعالى في كتابه المجيد لرأى يقينا الجنة والنار كما لو كان ينظر اليهما.

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) وأي نعمة تساوي نعمة الايمان بالله

٥٦

ورسوله وأهل بيته المعصومين الذين هم نموذج الاسلام الصحيح. ووجود القرآن هو نعمة كبرى.

انها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها. وتلقى في الحس ما تلقى بمعناها وايقاعها. وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفاسف الحياة الدنيا. وصغائر اهتماماتها. التي يهش لها الفارغون.

انها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) وما يقرأ الانسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة. بايقاعاتها في الفضاء.

* * *

ـ ١٠٣ ـ سورة العصر آياتها ثلاث (٣)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

ـ البيان : السورة تشتمل على الايمان بالله. والعمل الصالح. والتواصي بالحق والصبر.

فالايمان بآله واحد. يرفع الانسان. عن عبودية سواه. وعن الاعتماد والاتجاه على غير الله عزوجل. فلا يذل لمخلوق ويختص ذلك بالله لا غير. ومن هنا ينطلق التحرر الحقيقي للانسان. ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق.

والاستقامة على المنهج الذي يريده الله تعالى فلا يكون الخير فلته عارضة. ولا نزوة طارئة. ولا حادثة منقطعة. انما ينبعث عن دوافع ويتجه الى هدف.

٥٧

ويتعاون عليه الافراد المرتبطون بالاجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين.

والاعتقاد بكرامة الانسان على الله تعالى. يرفع من اعتباره في نظر نفسه. ويثير في ضميره الحياء من التدني عن الرتبة التي رفعه الله اليها. وهذا رفع تصور يتصوره الانسان لنفسه. انه كريم عند الله. وكل مذهب او تصور يحط من قدر الانسان فهو ضلال.

ان الايمان هو أهل الحياة الكبير. الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير. ان الايمان دليل على صحة الفطرة وسلامه التكوين الانساني وتناسقه مع فطرة الكون كله. ودليل التجاوب بين الانسان والكون من حوله.

والعمل الصالح هو الثمرة الطبيعية للايمان. والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الايمان في القلب. فالايمان حقيقة ايجابية متحركة.

ومن هنا قيمة الايمان. انه حركة وعمل وبناء وتعمير. يتجه الى الله. وهذا مفهوم ما دام الايمان هو الارتباط بالمنهج الرباني. وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود. صادرة عن تدبير. متجهة الى غاية وقيادة الايمان البشرية هي قيادة الحق والتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود. الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن الله عزوجل.

* * *

٥٨

ـ ١٠٤ ـ سورة الهمزة آياتها (٩) تسع آيات

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥))

ـ البيان : تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول. وهي صورة لئيمة حقيرة من صور النفوس البشرية حين تخلو من المرؤة وتعرى من الايمان والاسلام يكره هذه الصورة الهابطة من صور النفوس بحكم ترفعه الاخلاقي.

والتهديد يجيء في صورة مشهد من مشاهد القيامة. يمثل صورة للعذاب مادية ونفسية وصورة للنار حسية معنوية. وقد لوحظ فيها التقابل بين المجرم وطريقية الجزاء. وهو العقاب فالهمز هو الهزء بالناس. واللمز هو ما يكون في اعراض الناس.

(نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) واضافتها الى الله يوحى بأنها نار ملهبة غير معهودة وتمكن في ذلك السخرية (وهي (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) على فؤاد الانسان المحطم. الذي ينبعث من الهمز واللمز. هذه النار مغلقة على صاحبها. لقد كان القرآن يتابع احداث الدعوة ويقودها في الوقت ذاته (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ).

* * *

ـ ١٠٥ ـ سورة الفيل وهي خمس آيات (٥)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

ـ البيان : وهو سؤال للتعجيب من الحادث. والتنبيه الى دلالته العظيمة. فالحادث كان معروفا للعرب ومشهورا عندهم. حتى لقد جعلوه

٥٩

مبدأ تاريخ لهم فيقولون : حدث شيء الفلان كذا عام الفيل. وبعد عام الفيل وهكذا كان والمشهود ان مولد رسول الله ص وآله كان في عام الفيل ذاته. ثم القصة.

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) ولعله بهذا يذكر قريشا بنعمته عليهم في حماية هذا البلد وصيانته في الوقت الذي عجزواهم عن الوقوف في وجه اصحاب الفيل.

ولقد كان من مقتض هذا التدخل السافر من القدرة الآلهية لحماية البيت الحرام تبادر قريش ويبادر العرب الى الدخول في دين الله افواجا. وان يكون اعتزازهم بدين قوامه الحق والعدل. والعلم والعقل. وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم. والتعجب من موقفهم العنيد. وهذا ما يجب ان يذكره العرب جيدا اذا هم ارادوا الحياة وارادوا القوة وارادوا القيادة والله الهادي من الضلال.

* * *

ـ ١٠٦ ـ سورة قريش آياتها أربع (٤)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

ـ البيان : لقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيارة حرمة البيت. عند العرب. في جميع انحاء الجزيرة. وزيارة مكانة أهله وسدنته من قريش. مما ساعدهم على ان يسيروا في الارض آمنين. حيثما حلوا ووجدوا. والكرامة والرعاية لهم. وشجعهم ذلك على انشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة ـ عن طريق القوافل ـ الى اليمن في الجنوب. والى الشام في الشمال. والى تنظيم رحلتين تجارتين ضخمتين احداهما

٦٠