تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

و (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) وهو يوم الفصل يبدأ عند الموت وينتهي عند الحساب بعد البعث. وهو اليوم العظيم. الذي تنطلع اليه الخلائق. وترجف من هوله القلوب والفرائص.

(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) في ذلك اليوم تعرض فيه الاعمال وتنكشف فيه الخبايا والاسرار.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) تبدأ الاشارة الى الحادث باعلان النقمة على أصحاب الاخدود وهي كلمة تدل على الغضب الالهي على الفعلة وفاعليها. كما تدل على شناعة الذنب والجريمة.

(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) الشق في الارض وكان أصحاب الاخدود قد شقوا الارض وأوقدوا النار فيها ومجمل القصة أن جماعة من المؤمنين قبل الاسلام حملهم أعداء الدين على ترك دينهم فأبوا ذلك فأوقدوا لهم نارا وألقوهم فيها : (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ).

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ان الذي حدث في الارض وفي الحياة ليس خاتمة الحوادث وليس نهاية المطاف. والذي يضع الامر في نصابه هو أن الحق والباطل ضدان لا يجتمعان.

(فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) انه حريق يوقده الجبار من غضبه. وهو دائم لا ينتهي ولا يزول.

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) هذا اظهار لحقيقة لا تقبل الشك. فالبطش هو بطش الجبار لا بطش الضعاف المهازيل. الذين يتسلطون على رقعة من الارض محدودة مكانا وزمانا.

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) والبدء والاعادة ، من مختصات الخالق العظيم دون سواه.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) فعفوه ورحمته مبذولتان لكل عبد تاب وأناب وأخلص في عمله لله.

٢١

(فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) هذه صفة الخالق العظيم دون سواه. وكل ما سواه مفتقر في كل ما يريد الى معين.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) وهذه الشارة الى قضيتين في الزمان الغابر مضى عنهما الكلام في ما جرى من اغراق فرعون وقومه ونجاة بني اسرائيل. وأما ثمود فقد أهلكوا بكاملهم.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) فشأن الطغاة في كل زمان ومكان :التكذيب والخداع.

(والله من وراءهم محيط). وهم غافلون عما يحاط بهم من بطش الله ودماره لأعدائه.

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) المجيد الرفيع المكرم. وهل أمجد وأرفع من قول الخالق العظيم.

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) ونحن لا ندرك حقيقة اللوح المحفوظ. لانه من مختصات الله تعالى وأما لوح المحو والاثبات فقد يطلع عليه من أوليائه المقربين. وهو الذي يشير اليه أمير المؤمنين علي (ع) حينما صعد المنبر وقال قولته المتفرد بها دون سواه :

(والله لو كسرت لي الوسادة فجلست عليها لأخبرت وأفتيت أهل التوراة بتوراتهم وأهل الانجيل بانجيلهم. وأهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق كل واحد ويقول صدق علي لقد أخبر بما نزل في من الله والله لو لا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وما يكون وما هو كائن الى يوم القيامة وهي قوله عزوجل : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ)

وهذه الكلمة ما قالها غير علي (ع) الا وفضحه الله تعالى وقد فصلناها فيما مضى فراجع. والقرآن مصون ثابت في كل ما يتناوله من الامور (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى)

٢٢

ـ ٨٦ ـ سورة الطارق آياتها (١٧) سبع عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

البيان : هذا القسم يتضمن مشهدا كونيا وحيققة ايمانية. وهو يبدأ بذكر السماء والطارق ويثني بالاستفهام المعهود في التعبير القرآني.(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ).

فالطارق هو الذي يجيء بالليل ويطرق على أهل الدار. ثم بين معنى الطارق هنا فقال :

(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) الذي يثقب الظلام بشعاعه النافذ فكأنه قال والسماء ونجومها الثاقبة.

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) وهذا ما قال علي (ع) أن لكل انسان عليه حافظ. فاذا جاء أجله خلى بينه وبين أسباب الموت) اذن فليست هناك صدفة أو فوضى. والناس ليسوا مطلقين في الارض هكذا بلا رقيب وحسيب. انما هو الاحصاء الدقيق المباشر لكل حركة.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) فقد خلق من هذا الماء الدافق الذي يجتمع من صلب الرجل وهو عظام ظهره. ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية. ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه مخلوق قط. حتى كان نصف القرن العشرين حيث اطلع العلم الحديث على هذه المعجزة الخارقة من معجزات هذا القرآن المجيد. وكم هي المسافة بين النطفة في الصلب وبين صيرورتها انسانا عاقلا عالما. وكم احتاجت الى حفظ وعناية من خالقها حتى قطعت هذه المسافة.

٢٣

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) ان الله تعالى الذي أخرج هذا المخلوق من العدم الى الوجود ورعاه في رحلته الطويلة كيف يصعب عليه اعادته بعد فناء جسده. انها قولة جاهل غبي. أو ماكر يقول ما لا يؤمن به.

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) الرجع المطر. ترجع به السماء مرة بعد مرة. والصدع النبت. يشق الارض وهما يمثلان مشهدا للحياة في صورة من صورها. حياة نباتية. أشبه بالنطفة المتدفقة من الصلب والترائب. والجنين المنبثق من ظلمات الرحم. الحياة هي الحياة. والمشهد هو المشهد. والحركة هي الحركة. نظام ثابت وصنعة محكمة تدل على عظمة الصانع. الذي لا يشبهه احد.

وهو مشهد قريب الشبه بالطارق. والنجم الثاقب. يقسم الله بهذين الكائنين الحدثين.

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) انهم هؤلاء الضعفاء الذين خلقوا من ماء دافق يكيدون كيدا. وهم في الوقت نفسه لا حول لهم ولا طول. الا بعد ارادة خالقهم العظيم.

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) لا تعجل ولا تستبطىء نهاية المعركة. وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها فانما هي الحكمة البالغة. وراء الامهال ـ وبدون اهمال ـ وهو قليل حتى لو استغرق عمر الدنيا فما هو مقابل خلود الآخرة الا قليل. (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً). كأنه هو ص وآله صاحب الامر وصاحب الاذن. وانما هو الايناس والود في هذا الموضوع.

وكأنما يقول له ربه : (انك مأذون فيهم ولكن امهلهم رويدا) فهو تعظيم لجلالة الرسول ص وآله.

٢٤

ـ ٨٧ ـ سورة الاعلى آياتها (١٩) تسع عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

ـ البيان : ان هذا الافتتاح بهذا المطلع الرخى المديد. ليطلق في الجو ابتداء اصداء التسبيح. الى جانب معنى التسبيح. وان هذه الصفات التي تلبّي الامر بالتسبيح.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) والتسبيح هو التمجيد. واستحضار معاني الصفات الحسنى لله. (و (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) تطلق في الوجدان معنى بالغ الاهمية. وتوحي الاشراق وهذه الحقيقة يدركها القلب البشري. وهذا الادراك الالهامي لا يستعصي على احد. (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) المرعى كل نبات وما من نبات الا وهو صالح لخلق من خلق الله عزوجل. فالله تعالى خلق هذه الارض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب. (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد عن عاتق الرسول ص وآله. اذن فالقرآن قد تلقاها ص وآله بعد النبوة. وهي بشرى له ص وآله. (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) فكلها ترجع الى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى.

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) وهذه بشرى أخرى له ص وآله. وانها تشتمل على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة. فهي تصل الطبيعة بالعقيدة المنتجة في يسر وراحة. (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) لقد أكرمه الله بالقراءة واليسر حتى يؤدي هذه الامانة الكبرى. التي عجز على حملها السموات والارض والجبال فقم ((فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى).

٢٥

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) وسينتفع بالذكرى (مَنْ يَخْشى) ولا يخشى الا من عرف الخطر المحدق بالجاحدين والعاصين. والمنحرفين عن الخط المستقيم منهج الخالق العظيم. ذلك الذي يستشعر قلبه الخوف والرجاء. ويلتزم بتقوى الله رب العالمين. والقلب الحي يتوجل ويخشى كلما يحتمل انه يغضب مولاه العظيم وخالقه الكريم .. (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى) الذي قد اسود قلبه من ارتكاب الجرائم وطمست بصيرته كيف يبقى قابلا للتذكير. فمثل هذا يصبح كالعين الرمداء الذي يفرحها الظلام ويؤلمها الضياء.

(الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) والنار الكبرى هي نار جهنم الكبرى بمدتها ودوامها المؤبد. (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) والتزكّي هو التطهر من كل دنس ورجس (فَصَلَّى) هذا الذي تطهر وذكر وصلى (قَدْ أَفْلَحَ) يقينا أفلح براحة الدنيا وامنها وسعادة الآخرة ونعيمها الخالد الذي لا يزول ولا يفنى.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) ان ايثار الحياة الدنيا يميت القلوب ويعمي البصيرة. ومن هذا الايثار ينشأ الاعراض عن ذكر الله وعن الصلاة. وبذلك تنصب الصائب على هذا المؤثر لدنياه على آخرته ودينه ، وبذلك يستولي عليه الشيطان فينسيه ذكر الله. ويتمكن من خدعه وغوايته. وهيهات أن يدعه أن يعود الى حظيرة القدس.

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى) هذا الذي ورد في هذه السورة من الوعظ والتذكير. وهو الذي يتضمن أصول العقيدة الاكبر. هذا الحق الاصيل هو موجود في صحف ابراهيم وموسى (ع).

٢٦

ووحدة الحق. ووحدة العقيدة. هي الامر الذي تقتضيه وحدة المصدر الواحد. فالخالق واحد ورسالته واحدة ولكن تختلف حسب الحكمة والمناسبة. وتلتقي عند ذلك الاصل الواحد الصادر (من ربك (الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى).

* * *

ـ ٨٨ ـ سورة الغاشية آياتها (٢٦) ست وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

البيان : انه يعمل بمشهد العذاب قبل مشهد النعيم. فهو أقرب الى جو (الْغاشِيَةِ) فهناك وجوه مرهقة. عملت ونصبت لغير الله. ولم ينتج عملها عليها الا الوبال والخسران والعذاب والنيران. والخزي والعار في الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.

(تَصْلى ناراً حامِيَةً) والضريع شجر في جهنم وهي الزقوم. فهذا ثمار العمل لغير الله.

وفي الجانب الآخر : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) فهذه الوجوه التي آمنت بالله وصدقت رسول الله ص وآله وعملت باخلاص لوجه الله. فقد أئمر

٢٧

عليهم الارباح الطائلة. والنعيم الخالد الذي لا يزول ولا يفنى.

(وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) وهي البسط. وانما نستفيد من هذه الاوصاف تصورنا أقصى ما يطيقه من صور اللذائذ. وما ترغب فيه النفوس والشهوات ترغيبا وتشويقا لها.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) تجمع الاصناف الاربعة أطراف بيئة العرب المخاطب لهم القرآن أول مرة. والجمال (ممثلة لسائر الحيوان) من جهات عديدة.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) وتوجيه القلب الى السماء وما تحتويه لمنظر رائع. وكذلك الجبال والارض. ان المشهد الكلي يضم السماء والارض وما فيهما وكفى بذلك عبرة.

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) فذكرهم بأيام الله الخالدة. وذكرهم بافتقارهم الى الله في كل حالة. وما عليك الا التذكير فأنت مسؤول عنه وهو ميسور عليك وهو تكليفك خاص.

(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئا وجزاؤهم وعقابهم علينا. في حال الايمان والطاعة. وفي حال الانكار والعصيان.

(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) فهم راجعون الى الله وحده قطعا. وهو مجازيهم وحده حتما.

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ) بهذا يتحدد دور الرسول ص وآله في دعوته للعباد. انما أنت مذكر وحسابهم بعد ذلك على الله. ولا مفر لهم من العودة اليه.

٢٨

ـ ٨٩ ـ سورة الفجر آياتها (٣٠) ثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤) فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

البيان : هذا القسم في مطلع السورة. يضم هذه المشآهد والخلائق ، ذات الارواح.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) يطلقان على روح الصلاة والعبادة. في ذلك الجو الحبيب. جو الفجر والليالى العشر ، التى قيل انها العشر من ذي الحجة. وقيل العشر من المحرم. وقيل العشر الاخيرة من شهر رمضان.

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) والليل هنا مخلوق حي. يسري في الكون. وكأنه ساهر يجول.

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) وهو سؤال للتقرير. أي لذي لبّ وعقل. ان في ذلك مقنعا لمن له ادراك وفكر. ولكن صيغة الاستفهام مفادها التقرير.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد اثارة لليقظة والالتفات والخطاب للنبي ص وآله ابتداء. ثم يشمل جميع المخلوقات للاعتبار.

٢٩

واضافة الفعل الى ربك فيها للمؤمن طمأنينة وأنس. لانه يعتقد ان الله معه أينما كان وهو قادر على نصره واهلاك عدوه مهما كان كما فعل بعاد وفرعون.

(إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ) وعاد من العرب العاربة. وكان مسكنهم بالاحقاف

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) وكانت ثمود تسكن بين المدينة والشام.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) هو فرعون موسى بن عمران (ع) الذي أهلكه الله بالغرق.

هؤلاء هم (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) وليس وراء الطغيان الا الفساد الذي يدمر البلاد.

(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) فربك راصد كل طاغي وباغي في كل زمان ومكان.

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) هنا تغمر المؤمن الطمأنينة بعناية ربه له ونجاته أينما كان.

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) يرى ويحسب ويعطي ويمنع ويجازي ويعاقب ولا يخفى عليه شيء.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ). فهذا هو تصور الانسان عند امتحان الله تعالى له. فليس ما أعطى من عرض الدنيا. أو منع هو الجزاء ، على الخير ، أو هو العقوبة على الشر. فقيمة العبد عند الله. لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا. ورضى الله او سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الارض. فقد أعطى الصالح والطالح. وقد يمنع الصالح والطالح ولكن ماوراء هذا وذلك هو الذي عليه المعول. فمن استعان بالعطاء على طاعة الله فهو الذي كان عن رضى من الله له. ومن استعان بالعطاء على معاصي الله هو الذي كان عن سخط الله عليه.

٣٠

غير أن الانسان ـ حين يخلو قبله من الايمان ـ لا يدرك هذه الحكمة والامتحان. ولا حقيقة القيم في ميزان الله. فاذا عمر قلبه بالايمان اتصل وعرف ما هنالك. وخفت في ميزانه جميع الاعراض الدنيوية. وتيقظ لما وراء هذا الابتلاء من الكرامة او الهوان من الجنة او النار. واطمأن الى قضاء الله تعالى في الحالتين. وعرف أن قدره غير هذه الاعراض الجوفاء.

(كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ). ليس الامر كما يقول الانسان الخاوي من الايمان. وليس بسط الرزق دليلا على الكرامة من الله. وليس تضييق الرزق دليلا على المهانة والاهمال. فكم من غني ووجيه وزعيم. يتمنى غدا ـ عند موته وكشف الغطاء له ـ ان الذي كان يحسده على زعامته وغناه قد نال ذلك دونه لما يرى ما جلب ذلك عليه من خسران وبلاء وعذاب من أثر ذلك الغني.

(كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) ودك الارض ، تحطيم معالمها وذهاب ما كان عليها.

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) ذلك الانسان الذي كان غافلا ومخدوعا في هذه الحياة ، يتذكر ما كان يجني على نفسه من وبال وخسران. وهو من جهله وغفلته فرحان. يتذكر ما كان معرضا عنه وهو اليوم في أشد الحاجة اليه. يتذكر من كان يظهر له الحب والاخلاص وهو من أشد الاعداء. حيث كان يغريه في معاصي الله ويصرفه عن طاعته. يتذكر حينما ينكشف له نعيم الجنة الذي كان بامكانه الحصول عليه. وينكشف له نار الجحيم التي كان بامكانه الابتعاد عنها. والخلاص منها. ولكن الآن لا ينفعه لا حسرة ولا ندامة.

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم

٣١

الحياة. وهي التي تستأهل العمل لها والاستعداد. والتزود في دار الزوال. ثم يتصور مصيره لعصيانه واجرامه.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ) انه الله الحاكم العادل. العليم الخبير الذي لا يظلم ذرة ولا يغادر مثقال ذرة الا أحصاها. من خير أو شر. فها هو ذا ربك ايها المؤمن يعذب ويوثق من كان يعذب ويوثق عباد الله ظلما وعدوانا. فليكن عذاب الطغاة للناس ما يكون فسيعذبون ويوثقون. بعذاب ووثاق. فوق ما يتصوره كل الطغاة وكل الظالمين الاشرار وفي وسط هذا الهول المروع. وهذا العذاب الشديد. يأتي النداء من المولى الجليل الى عبده المطيع.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ، ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) هكذا يأتي النداء اللطيف في عطف وكرامة. وثناء وتطمين. والانطلاق والرخاء.

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) الى مصدرك الذي أتيت منه وخرجت عنه في رحلتك هذه القصيرة في هذه الحياة الوقتية. في هذا الاختبار والامتحان. لقد كنت نعم الامين ونعم المحافظين ونعم المطيعين. فالان تستحقين شهادة الفوز والنجاح. وتستحقين الجائزة والتكريم. وتستحقين الوسام الغالي الثمين الذي هو أغلى وأثمن من الدنيا وما فيها بأسرها وكاملها.

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) المقربين المختارين (وَادْخُلِي جَنَّتِي) في كنف رحمتي. انها عطفة تتسم فيها أرواح أهل النعيم ، منذ النداء الاوال (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) المطمئنة الى ربها. المطمئنة الى صحة عقيدتها. المطمئنة الى صحة عملها وفعلها. المطمئنة الى صحة طريقها ومبدئها ، الى صحة أئمتها الابرار الاخيار أهل بيت النبي المختار أولهم علي حيدر

٣٢

الكرار. وآخرهم الحجة القائم المنتظر. الذين هدوها سواء السبيل. وعرفوها النجدين طريق الجنة وطريق النار فأمروها بالتزام السير على هذه وحذروها من الدنو الى هذه. فاطاعت. وصدقت واطمأنت بكل ما قالوا لها وطبقت كما أمرت فقد عاشت مطمئنة وانتقلت فرحة مسرورة ففازت براحة الدنيا وسعادة الآخرة وذلك هو الفوز العظيم. الحمد لله الذي هدانا لهذا. وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله فله الحمد والشكر. بينما غيرنا نبذ عقله واتبع هواه فارداه. وصدق المضللين الغاوين الذين كانوا دعاة للشيطان. وللسير على طريق الضلال التي انتهت بهم الى الجحيم وبئس المصير. وخسروا نعيم الجنة وصحبة الابرار وذلك هو الخسران المبين.

* * *

ـ ٩٠ ـ سورة البلد آياتها (٢٠) عشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

البيان : تبدأ السورة بالتلويح بقسم عظيم. على حقيقة في حياة الانسان ثابتة. فالبلد هي مكة المكرمة. ويكرم الله تعالى نبيه محمدا ص وآله. فيذكره ويذكر حله بهذا البلد واقامته بها بوصفها تزيد هذا

٣٣

البلد حرمة. وتزيده شرفا وعظمة. وهي ايماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام. والمشركون يستحلون حرمة البيت. فيؤذون النبي ومن تبعه من المؤمنين.

وحين يقسم الله سبحانه بالبلد والقيم به. فانه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته.

(ثم أقسم بوالد وما ولد ليلفت نظرنا الى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود. ـ وهو طور التوالد ـ والى ما فيه من بالغ الحكمة واتقان الصنع. والتدبير في استمرار الحياة.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي في مكابدة ومشقة. وجهد وكدّ. فالخلية الاولى تبدأ في كدّ. وما تزال كذلك حتى تنتهي الى المخرج فتذوق من المخاض ، ما تذوق ، وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون في عناء في كل خطوة يخطوها. وكل حركة فهو في كبد. ثم بروز الاسنان له في عناء. وهكذا يصحبه العناء والكد في جميع مراحله وتطوراته. حتى بعد بلوغه الى موته.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) بعد قطع هذه المراحل العديدة من تطوراته ينسى كل شيء من عناية خالقه الذي أوجده وتعهده في هذه المراحل ونقله في هذه التطورات العديدة.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) لقد نسي الذي أوجده. والعين الالهية التي ترعاه وتحفظه وتعينه في تقلباته وكأنما ينسى هذا الانسان هذه الحقيقة. ويحسب أنه في خفاء عن رقابة خالقه ومالكه ويحسب أنه متروك لهواه وشهواته. يلعب ويلهو كلما طالب له اللعب واللهو.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ، وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) ان الانسان يغتر بقوته. والله هو المنعم عليه بهذه القوة. ويضن بالمال. والله هو الذي أنعم عليه

٣٤

بهذا المال. وقد جعل له من الحواس ما يهديه في عالم المحسوسات. وما يعينه على مصالح الحياة. وما يقويه على طاعة مولاه. وما يعرفه خالقه ورازقه. وما يلزمه بمعرفة ما يؤول به منتهاه.

فجعل له عينين ولسانا وشفتين يشهدون عليه فيما استعملهم به وما تقوى بهم عليه من طاعة أو عصيان ، من خير أو شر. من هدى أو ضلال. والحساب غدا قريبا.

وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الانسانية ، كما أنها تمثل قاعدة (النظرة النفسية الاسلامية) هي والايات الاخرى مثل قوله : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) ..

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ...) هذه العقبة التي يقتحمها الانسان ـ الا من استعان بالايمان ـ هي العقبة التي يجوز الانسان الى الجنة. فالتقي يجوزها بكل راحة وسرعة. والشقي يسقط عنها في مهاوي جهنم وحريقها المضرم. وقد ورد الى ما يشير الى ذلك عن أمير المؤمنين (ع)

(يا بني ان أمامك عقبة كؤود. لا يجوزها الا المخفون. فاذا وجدت من أهل الفاقة من يحمل لك زادك الى معادك. فأكثر من تزويده وانت قادر عليك. فيوافيك به فيما تكون في أشد الحاجة اليه. وربما يأتيك يوم وأنت غير قادر ...) كما في النهج.

(أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ..) المسغبة المجاعة. والمقربة القريب بالنسب والمتربة الجائع المتهالك. وهذا العمل هو الذي يشير اليه امير المؤمنين في وصيته لولد الحسن (ع) ..

(والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشئمة) وهم أصحاب المعاصي والجرائم حتى ولو كانوا مسلمين فالمتقي له الجنة. وما سواه له النار مهما كان وكيفما كان.

٣٥

(عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي مغلقة أبوابها. ودائمة لا تنتهي ولا تزول ولا تخفف.

* * *

ـ ٩١ ـ سورة الشمس آياتها (١٥) خمس عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

البيان : يقسم الله سبحانه ، بهذه المخلوقات المشاهدة. كما يقسم بالنفس وما سواها ومن شأن هذا القسم أن يخلع على هذه المخلوقات قيمة كبرى. وأن يوجه اليها القلوب النقية. تتملاها وتتدبر ما قيمتها وماذا يراد بها. حتى استحقت ان يقسم بها الجليل العظيم.

فمشاهد الكون وظواهره. بينها وبين القلب الانساني الصحيح لغة سرية. متعارف عليها وهي تنطق للقلب. في صميم الفطرة. وأغوار المشاعر. وبينها وبين الروح الانسانية تجاوب ومناجاة بغير نبرة ولا صوت. فهي توحي للروح. وتنبض بالحياة المأنوسة.

ومن ثم يكثر القرآن المجيد من توجيه القلب الى مشاهد هذا الكون بشتى الاساليب. وهنا نجد القسم الموحى بالشمس وضحاها. وبالقمر وما تلاها. يوحي الى القلب الاتنباه.

ويقسم بالنهار اذا جلاها .. مما يوحي بان المقصود بالضحى هو

٣٦

الفترة الخاصة. لا كل النهار. ومثله (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) والتغشية هي مقابل التجلية. (وَالسَّماءِ وَما بَناها).

كذلك يقسم (بالارض وما طحاها) الطحو كالدحو : البسط والتمهيد للحياة. وهي حقيقة قائمة. حياة الاحياء تتوقف عليها. وهذه الخصائص كلها تديرها اليد الخالقة العليا.

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) وهذه الآيات تمثل قاعدة النظرية النفسية للاسلام.

ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الاسلام الى الانسان بكل معالمها.

ان هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة. مزدوج الاستعداد. مزدوج الاتجاه. ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد. انه بطبيعة تكوينه (من طين الارض. ومن نفخة الله) انه مزود باستعدادات متساوية لان يختار الخير. أو الشر. الهدى. أو الضلال. فهو قادر عليهما معا. وقادر على التمييز بينهما معا. كما أنه قادر على توجيه نفسه الى أيهما شاء. وان كان بفطرته يميل الى جهة الخير والهداية. لو ترك وشأنه بفطرته. ولذا ورد عن النبي ص وآله : (ان كل مولود يولد على الفطرة. وانما أبواه يهودانه أو ينصرانه ..)

وهنالك اذن تبعة مترتبة على منح الانسان هذه القوة المزدوجة الواعية. القادرة على اختيار أي الطريقين تسلك. وأي الجهتين تختار وترغب بدون أدنى اكراه أو اجبار أو عائق. أو مانع. وقد أعانه خالقه الكريم بالرسل والرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة. وتكشف له عن موجبات الهدى والايمان ودلائل الفوز والنجاة. والربح والسعادة والكمال الانساني. وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته

٣٧

الصحيحة. وبذلك يتضح له الطريق السوي والصراط المستقيم. وتلك الحجة من خالقه العظيم قد تمت عليه بكمال واتمام البراهين والأدلة لديه.

(إِمَّا شاكِراً. وَإِمَّا كَفُوراً) اما في الجنة. واما في النار. اما من حزب الرحمان واما من حزب الشيطان.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) وقد وردت قصة ثمود ونبيها صالح (ع) في مواضع شتى.

(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها) والدمدمة الغضب وما يتبعه من عذاب ونكال.

(وَلا يَخافُ عُقْباها) ومن ذا يخاف. وماذا يخاف عزوجل وبيده أزمة الامور وانما يراد من هذا التعبير لازمه المفهوم منه. فالذي لا يخاف عاقبة ما يفعل. يلزم طريقة العدل والانصاف (وانما يعجل من يخاف الفوت).

(وانما يحتاج الى الظلم الضعيف) والله منزه عن جميع ذلك انما هو الجزاء لا غير حتى لا يساوي بين التقي والشقي. ولا بين الاخيار والاشرار فالجزاء ضروري وهو منبع العدالة الالهية. خصوصا بعد الانذار والاعذار وقيام الحجة البالغة.

* * *

٣٨

ـ ٩٢ ـ سورة الليل آياتها (٢١) احدى وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

البيان : يقسم الله تعالى بهاتين الآيتين : الليل والنهار. مع صفة كل واحد منهما بصفة الليل حين يغشى البسيطة ويغمرها. وبالنهار. حين يتجلى ويسفر. وهما آيتان متقابلتان في دور الفلك وفي الآثار. والنفس تتأثر تلقائيا بتقلب الليل والنهار. وعن هذه الظاهرة التي لا يملك البشر من أمرها شيئا. ودلالتهما عند التدبر والتفكير. وعن هذه الظاهرة التي لا يملك البشر من أمرها شيئا. ودلالتهما عند التدبر والتفكر. يرشحان على البصيرة ضياء لامع.

ومهما حاول المنكرون والمضللون أن يلغوا في هذه الحقيقة. فان القلب البشري سيظل موصولا بهذا الكون. يتلقى ايقاعاته. وينظر تقلباته كما يدرك بعد التدبر والتفكر أن هنالك مدبرا لا محيص عن الشعور به. والاعتراف بوجوده من وراء اللغو والهذر. والجحود والنكران.

وكذلك خلقة الذكر والانثى ، والذكر والانثى شاملان بعد ذلك للانواع كلها حتى النبات والجماد والماء والهواء. والذرة والكهرباء وهذه بعض ايحاءات تلك المشاهد الكونية والانسانية.

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي مختلف في حقيقته. مختلف في بواعثه مختلف في اتجاهه ، مختلف في نتائجه ، والناس في هذه الحياة تختلف في طبائعها ومشاربها وتصوراتها.

٣٩

هذه حقيقة. ولكن هناك حقيقة أخرى اجمالية تضم اشتات البشر جميعا. وتضم هذه العوالم المتباينة كلها. تضمها في حزمتين اثنتين. وفي صفين متقابلين تحت رايتين :

(مَنْ أَعْطى وَاتَّقى ... ومَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) هذا الوصفان اللذان يلتقي فيهما شتات النفوس. فالذي يعطي ويتقي ويصدق بالحسنى ـ يعني الاعتراف بولاية علي وأبنائه المعصومين (ع) ـ يكون قد بذل أقصى ما في وسعه ليزكي نفسه ويهديها. عندئذ يستحق عون الله وحراسته والذي يبخل بنفسه وماله. وينكر ولاية علي بن ابي طالب وأبنائه المعصومين (ع) ـ يستحق أن يعسر الله عليه كل شيء. ويجعل له في كل خطوة من خطاه مشقة وعسرة وحرجا ينحرف به عن طريق الرشاد. ويهوي به في طريق الشقاء. وان حسب أنه سائر في طريق الفلاح.

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) هكذا ينتهي المقطع الاول في السورة. وقد تبين طريقان ونهجان للجميع في كل زمان ومكان. وقد تبين انهما حزبان ورايتان مهما تنوعت وتعددت الاشكال والالوان. وان كل انسان يفعل بنفسه ما يختار لها. اما الجنة واما النار.

فاما المقطع الثاني فيتحدث عن مصير كل فريق. ويكشف عن نهاية المطاف لمن يسره لليسرى لاختياره الايمان والهدى. ومن يسره للعسرى وهو الذي طغى وكذب بالحسنى.

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) لقد كتب الله على نفسه أن يبين الهدى لفطرة الناس وأن يبينه لهم كذلك بالرسل والرسالات. وان يقيم الحجة على المعاندي والمكذبين.

(إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) فأين يذهب من يريد أن يذهب عن الله بعيدا (الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

٤٠