تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

١

٢

والآثار التي ترتبت على اقرارها بالفعل في حياة البشرية. ولعلها هي معجزة الاسلام التي ارادها الله لعباده. وان كان هذا التوجيه يرد هكذا ـ تعقيبا على حادث فردي ـ ولكن هو قاعدة كبرى عليه يشاد بنيان العدالة الانسانية في ظل الاسلام الحنيف.

والا فان الحقيقة التي استهدفت هذا التوجيه تقريرها هنا. والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الامة المسلمة .. هي الاسلام في صميمه. وهي الحقيقة التي أرادها الاسلام ـ وكل رسالة سماوية قبله ـ غرسها في الأرض.

هذه الحقيقة ليست هي مجرد : كيف يعامل فرد من الناس. أو كيف يعامل صنف انما هي كيف يزن الناس كل امور الحياة. ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون.

ـ ان الميزان الذي أنزله الله تعالى للناس مع أنبيائه. ليقوّموا به القيم كلها هو : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشين. وهي قيمة سماوية بحتة. لا علاقة لها بموضوعات الارض وملابساتها انها المعجزة. معجزة الميلاد الجديد للانسان على يد الاسلام الحنيف في ذلك العصر المظلم.

ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث العظيم ولكن المسألة لم تكن هيّنة ولا يسيرة في البيئة العربية. غير أن الرسول ص وآله قد استطاع ـ بارادة الله تعالى وبتصرفاته الحكيمة ـ ان يزرع هذه الحقيقة في الضمائر والنفوس. وان يحرسها ويرعاها حتى تتأصل جذورها. وتمتد فروعها. وتظل حياة الجماعة المسلمة بعناية أهل بيت النبي من بعده أن تنمو وتزهو. الى الابد لكن في بعض اتباعهم.

ـ وكان آخر عمل من اعمال الرسول في مثل هذا الحادث ما

٣

صنعه في تأمير اسامة بن زيد على جيشه لغزو الروم. يضم جميع الصحابه من المهاجرين والانصار. وفيهم مثل ابي بكر وعمر وابي عبيد. وسعد بن ابي وقاص وأمثالهم الكثير. وقد تململ بعض هؤلاء من امارة اسامة وهو حدث السن لم يتجاوز الثامنة من عمره فقال النبي ص وآله : (وايم الله ان كان لخليقا للامارة) وقوله لسليمان الفارسي (سليمان من أهل البيت.)

وبعد تقرير تلك الحقيقة الكبيرة في ثنايا التعقيب في المقطع الاول في السورة. يعجب السياق في المقطع الثاني من أمر هذا الانسان. الذي يعرض عن الهدى ويستغني عن الايمان بالطغيان. ويستعلي على الدعوة لله بالدعوة للشيطان. فالله تعالى يعجب من أمره وكفره بنعمة خالقه. وهو لا يذكر مصدر وجوده. واصل شأنه. ولا يرى عناية الله تعالى به. وهيمنته عليه. في كل مراحله. من أول نشأته الى نهاية حياته.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) فانه ليستحق القتل من أول انحرافه وطغيانه على خالقة ما اشد كفره وجحوده ونكرانه لمقتضيات نشأته وخلقته. ولو رعى هذه المقتضيات لما وقع في هذه الغفلات وترك شكر منعمه العظيم. ولو ذكر ذلك لتواضع في دنياه وذكر أخراه.

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) انه من أصل واهن متواضع زهيد. وانما يستمد قيمته من فضل ربه.

(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) من هذا الشيء الذي لا قيمة له. خلق. ولكن خالقه هو الذي قدره وهداه. ومنحه ما به ارتفع واعتلا. الى ارفع مقام فجعله خلقا آخر سويا.

(فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (٦))

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) فقد مهد له خالقه السبيل وهداه الى كل خير وكرامه.

٤

(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) فأمره في اوله ونهايته في يد الذي اخرجه من العدم الى الحياة من الحيوانية الى الانسانية. فكان هذا طرقا من تدبيره وتقديره وعنايته.

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) حتى اذا حان الموعد الذي اقتضته الحكمة الالهية. أعاده الى الحياة لما يريد به من الامر. فليس متروكا ومصيره لا محال اما الى الجنة اول النار.

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) الانسان عامة بافراده جملة. وبأجياله كافة. الى آخر لحظة في حياته. كلا انه لمقصر فلم يؤد واجبه لخالقه. ولم يذكر أصله ونشأته.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢) فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

ـ البيان : هذه قصة طعامه مفصلة مرحلة مرحلة. فلينظر اليها هذا الانسان المنحرف وهي امام عينه. لينظر الى قصته العجيبة اليسيرة. فان يسرها ينسيه ما فيها من عناية وتدبير. وهي معجزة كمعجزة خلقه ونشأته. وكل خطوة من خطواتها تبرهن عن عظمة خالقها العظيم.

(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) المقصود منه النازل من السماء والخارج من الارض بجميع اقسامها.

(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) وهذه هي المرحلة التالية لصب الماء.

(فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) وهو يشمل جميع الحبوب. ما يأكله الناس ويتغذى به الحيوان.

٥

(وَعِنَباً وَقَضْباً) والعنب معروف. والقضب هو كل ما يؤكل رطبا غضا من الخضر.

(وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً). والزيتون والنخل معروفان لكل عربي. والحدائق البساتين ذات الاشجار.

(وَحَدائِقَ غُلْباً.) جمع غلباء. اي ضخمة عظيمة ملتفة الاشجار (وَفاكِهَةً وَأَبًّا) الأب كل ما ترعاه الانعام وما تأكله من تبن وحشيش أخضر ويابس.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) يعني ما ذكر بأجمعه هو مما يصلح للانسان وما يصلح للحيوان (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) فهذه هي خاتمة المتاع. والصاخة التي تنزل بالانسان عند موته وبعثه والهول في هذا المشهد هائل بحيث يذهل كل مخلوق وينسي غيره من اهتمامه بنجاة نفسه لا غير.

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) ذلك حال الخلق جميعا في ذلك اليوم من هوله وبلائه.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) اي منيرة ضاحكة. مطمئنة قد عرفت مصيرها فهيئت زادها ليوم معادها.

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) فهذه المفرطة في حياتها والمنحرفة في سيرها والعاصية لخالقها. فهي يعلوها سواد الوجه واغبراره. والحيرة والندامة (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) والكفر هنا يشمل كل عاص ولم يختم حياته بالتوبة لأن العصيان استدبار وانقطاع فمن جاءه الموت وهو مستدبر للحقائق ومنقطع عن خالقه العظيم فمصير الى جهنم وبئس المصير.

٦

ـ ٨١ ـ سورة التكوير آياتها (٢٩) تسع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

ـ البيان : هذا هو مشهد الانقلاب التام لكل معهود. والثورة الشاملة لكل موجود. الانقلاب الذي يشمل الاجرام السماوية والارضية. والانعام الاليفة. ونفوس البشر اجمع حيث يتكثف كل مستور. ويعلم كل مجهول. وتقف النفس امام ما احضرت من حسن أو قبيح من خير أو شر.

ان تكوير الشمس قد يعني برودتها وانطفأ شعلتها. وقد يكون غير هذا والحقائق بيد خالقها وانكدار النجوم قد يكون معناه انتشار وانطفاء أضوائها. والله أعلم بحقائقها وتسير الجبال قد يكون معناه نسفها وذوبانها وانمحاء وجودها بحيث تصبح هباء منثورا.

(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) فالعشار هي النوق وهي انثى الجمال. ويبطل قابليتها للحمل. وقد يكون بطلان قيمتها لعدم الحاجة اليها في يوم يشغل الناس هم أنفسهم لا غير.

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) فهذه الوحوش النافرة يجمعها خالقها وتصبح كتلة واحدة من شدة الخوف.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) يعني اشتعلت. وقد يكون معناه تفجرت وذهب ماؤها كما أتى.

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) قد يكون ضم كل جماعة الى ما يناسبهم من أصحاب اليمين. واصحاب الشمال. ومن اهل الجنة واهل النار. أي اجتمع الخيرين بالخيرات والاشرار بالشريرات.

٧

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ ..) لقد كان من هو ان النفس الانسانية عند اهل الجاهلية ان يدفنوا الانثى وهي حية. لاسباب عديدة. فمنهم خشية العار. ومنهم خشية الفقر ومنهم لأنها مشؤومة. ومنهم لأنها بنفسها هي تجلب العار والقبح على اهلها وعشيرتها.

(وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ) ..

ـ وحين تحقق ميلاد الانسان الجديد بوجود دين الاسلام الحنيف. استعاد القيم التي وهبها خالق الانسان لبني الانسان عامة. وتحققت على ضوء ذلك كرامة المرأة التي رفع شأنها وجعلها في صف غيرها من أبناء جنسها. ومنحها ما لم تكن تحلم به البشرية من العزة والكرامة. وفي تكريم الذكر والانثى على حد سواء ووضع كل مخلوق في مرتبته.

وحين تعد الدلائل على ان هذا الدين من عند الله. وان جاء به رسول الله ص وآله هو وحى من الله تعالى. تعد هذه النقلة للمرأة احدى هذه الدلائل التي لا تخطىء. حيث لم تكن توجد في البيئة امارة واحدة. ينتظر ان تنتهي بالمرأة الى هذه الكرامات التي منحها الاسلام اياها. وذلك بما نزل به المنهج الالهي ليصنع هذا ابتداء دوافع الارض كلها. فأنشأ وضع المرأة الجديد انشاء. واوجب حجابها لصيانتها من كل ما يشينها.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

ـ البيان : (وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) يعني اعلن ما حوته من اعمال الانسان وافعاله وهذا الاعلان من افعال الانسان على رؤوس الاشهاد اشد

٨

عليه من كل شيء حتى قيل أن أناسا يطلبون من الله أن يؤمر بهم الى النار ولا تنفضح خفاياهم على رؤوس الاشهاد من شدة ما كان يحسنون الظن بهم واذا أخبث خلق الله تعالى.

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) يعني أوقدت وزفرت. حينما ترى أعداء الله الطغاة.

(فانها تكاد تميز من الغيظ من شدة غضبها لعصيانهم لخالقهم المحسن الكريم.

(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) فيا لها من فرحة لأولياء الله حيث تشتاق الجنة الى رؤيتهم وتسرع زلفا الى ملاقاتهم والتقاتهم من بين الخلائق. وتخليصهم من شدة الزحام فتضمهم في حضنها وتنشقهم من طيبها وعبيرها. وتضم اليهم من حورها وولدانها.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) كل نفس تعلم في هذا اليوم ما كانت قدمتة لهوله وكربه. وهي تعلم انه لا ينفعها اليوم الا ما قدمته في حياتها الاولى من خير وصلاح.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ ..) االخنس هي الكواكب التي تجرى وتختفى. كالظباء في اختفائها وظهورها.

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي اذا أظلم واشتد ظلامه. وهو تعبير رائع.

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) يعني ظهوره أول الصباح وظهور نوره مقدمة لمجيىء النهار.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ان هذا القرآن. وهذا الوصف لليوم الآخر لقول رسول كريم قد يكون المراد منه جبرائيل. وقد يكون رسول الله ص وآله فهو شاهد صادق في قوله.

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) يذكرهم بحقيقة وجودهم. وحقيقة نشأتهم

٩

وحقيقة الكون من حولهم. وهو دعوة عالمية من اول مراحله والدعوة في مكة المكرمة لم تزل فيها.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) لمن أراد معرفة الطريق الصحيح الموصل للامن والامان. والسعادة والرضوان. والعافية من كل مصيبة وبلية.

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) وذلك كي لا يفهموا ان مشيئتهم منفصلة عن ارادة الله تعالى. وان تفكيرهم مفتقر الى فيض الوجود من خالقة العظيم. وانه لا حول لهم ولا طول الا بعون الله لهم وفيض جوده عليهم حتى يتمكنوا من الحركة والسكون. والقيام والقعود. والتفكير والتدبير ولا بد في اقرار هذه الحقيقة في تصور كل مؤمن. والا كان ايمانه مزيفا ليدرك كم هو مفتقر في كل لحظة ونفس يتنفسه من عون الله وكرمه عليه والا لبطلت وتعطلت كل جارحة في جسمه واعضائه الصغير منها والكبير فله الحمد وله الشكر على كل حال. وشكرنا له هو فضل ومنّة منه علينا يستوجب علينا الشكر والحمد حتى الأبد.

* * *

ـ ٨٢ ـ سورة الانفطار آياتها (١٩) تسع عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥)

يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

١٠

ـ البيان : لقد تحدثنا في السورة السابقة عن الايحاء الذي يتسرب في الحس من رؤية هذا الكون حينما تتناول يد القدرة تغييره. وتهزّه هزة الانقلاب المثير. فلا يبقى شيء على حاله في هذا الكون الكبير. وقلنا : ان هذا الايحاء يتجه الى خلع النفس من كل ما تركن اليه. في هذا الوجود. الا الى الله الواحد القهار. ويذكرنا هنا من مظاهر الانقلاب. (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي انشقاقها. وهي حقيقة من حقائق ذلك اليوم العصيب. اما انشقاق السماء على وجه التحديد فهو سر من غيب الله تعالى. ومن ذلك قوله تعالى : (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ. وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) وقد مضى هذا البيان ومرجع حقيقته لخالقه العظيم الذي هو أعلم بما خلق وهو اللطيف الخبير.

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) هذا على ما يظهر واضح وهو كشفها عن الاموات وخروجهم منها. (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ) كذلك هذا قد مضى بيانه وهو ظهور الحقائق لأهلها (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) ان هذا الخطاب ينادي في الانسان انسانيته ما الذي دعاك الى الاهمال والتسويف وعدم اهتمامك ليوم معادك ولدار اقامتك وأنت تعرف بما خبرك ربك انه ليس لك من دنياك الا ما قدمته لآخرتك. وانت تعلم ـ بما أخبرك ربك ـ ان الله لا يتقبل الا من المتقين فعلى ما عولت لنجاتك من النار يوم يقوم الناس لرب العالمين. فالآن انكشف لك الغطاء ووقعت بالخسران. (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) فقد تكرم عليك بالحياة من العدم وجهزك بكل ما يسعدك في الدنيا والآخرة. وخلق لأجلك جميع الأشياء وخلقك له فهلا قمت بما أوجبه عليك. وهلا. ابتعدت عما حرمه عليك حتى تستحق النجاة من النار والفوز بالجنات النعيم. أم سوفت وغرتك الأماني وخدعك الشيطان حتى جاء أمر ربك وأنت على معاصيه مقيم ولطاعته من التاركين. فالآن تصلى نار الجحيم.

١١

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ). انه خطاب يهز كل ذرة من كيان الانسان حين يكون مستيقظا. وحين يبلغ لقلب الانسان هذا النداء. المرعب والتأنيب المزعج. فالرب العظيم يوجه العتاب لهذا العبد الضعيف الآبق المتمرد على مولاه. (الَّذِي خَلَقَكَ .. فَعَدَلَكَ) على أحسن صور جميلة ركبك فهلا شكرته على ذلك وهلا تقويت بنعمه على طاعته. أم فعلت بالعكس شخرت ونخرت وقلت لا خبر جاء ولا وحي نزل (انما هي حياتنا الدنيا) فلا حساب ولا رجوع.

(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) كلا كلمة ردع وزجر عما هم فيه. تكذبون بالحساب والمطالبة والجزاء. وهذه هي علة غروركم وعلة تقصيركم وتسويفكم حتى أتاكم اليقين.

(تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) وانتم صائرون اليه وترون في كل يوم من يموت. ولا تفكرون الى أين يذهبون وعما يسئلون فهلا فكرتم في مصيركم كما فكرتم في دنياكم وعملتم لهما معا (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ) هؤلاء المراقبون لهذا الانسان يحصون عليه كل فعل وعمل وقول ونفس وما يضمره في قلبه. وما يخفيه في ضميره هلا فكر في هذا اليوم.(هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ـ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) ان هذا القرآن ليستجيش في القلب البشري أرفع المشاعر باقرار هذه الحقيقة الضرورية. (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) هذا مصيرهم بالتأكيد. وعاقبة أمرهم الفوز والسعادة والنعيم.

(وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) فيا له من مصير. ويا له من منتهى عذاب دائم وعقاب لا يزول. (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) فهو العجز الطبيعي. وهو الشلل الذي لا يزول ولا يبرى (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) يتفرد الخالق العظيم في هذا اليوم العصيب فلا أحد يملك معه شيئا.

١٢

ـ ٨٣ ـ سورة المطففين آياتها (٣٦) ست وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

البيان : تبدأ السورة بحرب يعلنها الله تعالى على المطففين : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ). والويل : الهلاك ... فهم اذا أخذوا من غيرهم أخذوا تماما. أو زائدا. واذا أعطوا ينقصون العطاء. ثم يتعجب تعالى من فعل هؤلاء كأنهم لا يؤمنون بيوم يطالب كل ذي حق بحقه. فالويل لمن يأخذ من أموال الناس ويأخذون منه العوض غدا من حسناته.

والتصدي لشأن المطففين بهذا الاسلوب أمر له شأنه البالغ. ويستحق الانتباه. انه يدل أولا على ان الاسلام كان يواجه في البيئة حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء الذين كانوا في الوقت ذاته هم أصحاب التجارات الواسعة ، التي تكاد تكون احتكارا. والنصوص القرآنية. هنا تشي بان المطففين الذين يتهددهم الله يملكون اكراه الناس على ما يريدون. فكأنما لهم سلطان على الناس.

ولذا كانوا يأخذون الزائد ويعطون الناقص وهذا لا يقبل الا بالاكراه وهذا قد يكون سببه القوة والقهر. أو الاحتكار واضطرار الناس الى النزول على فعلهم. والذين يحاربون سيطرة المنهج الاسلامي على حياة البشر يدركون هذا المعنى من كفاح الاسلام اذا سيطر وصار له قوة تنفيذية. ولذا نبذته الدول العربية.

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) ان أمرهم لعجيب

١٣

فان مجرد الظن بالبعث لذلك اليوم العظيم. يوم يقوم الناس متجردين. ليس لهم شفيع ولا نصير. فمجرد الظن لذلك اليوم كان يكفي لصدهم عن البعد عن أسباب ما يوقعهم في مصائبه وأهواله ، وشدة عذابه فيعدلون عن التطفيف للكيل والبخس للميزان. تجنبا لما يترتب عليه من الضرر الهائل.

(كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) فالقرآن يردعهم ويزجرهم ، ويؤكد لهم احصاء أعمالهم بكاملها ويحدد لهم موضع هذا الكتاب انه في سجين مع أصحابه المطففين. والفجار هم كل من تجاوز حدود قانون الله تعالى الذي يحذر منه فيقول (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها) (انه (كِتابٌ مَرْقُومٌ) مفروغ منه لا يزاد فيه ولا ينقص منه. حتى يعرض اليوم العظيم.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الذين يكذبون بيوم الدين. فسيلاقي المكذب جزاءه وعذابه.

(بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي أصبح عليها غطاء يمنعها من الاحساس والتلقي لما خلقت له من كثرة ارتكاب الجرائم التي تسود القلوب فتعطلها وتلقى عليها غشاء.

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) لقد حجبت المعاصي قلوبهم عن الاحساس بربها في الدنيا وبذلك استحقوا الحجب أيضا في الآخرة.

(مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى. فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى) وهذا الحجاب عن ربهم عذاب يحول بينهم وبين استحقاقهم لرحمة الله ومغفرته.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ

١٤

الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

البيان : كلا. كلمة تجيء في صدر هذا المقطع زجرا عما ذكر قبله من التكذيب في قوله :

(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) ويعقب عليه بقوله (كلا). ثم يبدأ الحديث عن الابرار :

(إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) والابرار لهم درجات أعلاها لمحمد وأهل بيته المعصومين وبعدهم أتباعهم الذين اقتدوا بهم وساروا على خطهم. لانه الصراط المستقيم.

ولفظ عليين ، يوحي بالعلو الشاهق. كما أن (سجين) يفيد الانحطاط السافل.

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) مقابل الاشرار لفي جحيم. وانما يذكر هذا التقابل بين الفجار والابرار. ليقف في القلوب الحية. شوقا للسير على خط الابرار. والبعد عن خط الفجار.

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ) والرحيق هو الشراب المصفى. الذي لا غش فيه. ولا كدورة.

(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) وهو ايقاع عميق يدل على كثير من الحدث على الايمان والعمل الصالح. كما أنه يحث على الابتعاد عن كل ما يخسر الانسان هذا النعيم الخالد.

ومن العجب بين الفريقين ، اذ أن التنافس في نعيم الآخرة ومراتبها العالية. تعلى أربابها ويرفع شأنهم في الدنيا والآخرة. وان التنافس في نعيم الدنيا يسفل صاحبه ويتعبه في الدنيا والاخرة. ويخسره جنات النعيم. ويدخله في نار الجحيم. فكيف العقلاء لا يفرقون بين المقامين ، ويعادلون بين التجارتين ، ويمحصون نتيجة الموردين.

١٥

وانه لتوجيه يمد بأبصار أهل البصائر الى ماوراء منافسات الارض الزهيدة الفانية ويرفعها الى آفاق أرفع وأطهر من مستنقعات الارض. ان عمر الانسان في هذه الحياة محدود وعمره في الآخرة لا نهاية له ولا زوال. وان متاع هذه الدنيا محدود. ومتاع الجنة ليس له حدود فالسباق الى هناك يا أولي الالباب (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ).

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ). فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا.

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) ولكن شتان بين الموردين كما بين النور والظلام.

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) نعم لقد دخلوا الجحيم التي لها كانوا يعملون فهذا ثوابهم.

لقد كان القرآن ينشأ قلوبا طاهرة زكية يعدها لحمل الامانة في هذه الحياة ويملؤها نورا.

* * *

ـ ٨٤ ـ سورة الانشقاق آياتها (٢٥) خمس وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥)

يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١)

١٦

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

البيان : لقد سبق انشقاق السماء. والجديد هنا هو استسلام السماء لربها. ووقوع الحق عليها. وخضوعها لوقع هذا الحق عليها وطاعتها لخالقها.

(وحقت أي وقع عليها الحق. واعترفت بانها محقوقة لربها. لان هذا الحق مسلم به.

(وَأَلْقَتْ ما فِيها) يعني أخرجت من فيها من الاموات في يوم البعث. وخليت من دفائنها.

(وَحُقَّتْ) أيضا بمعنى استسلمت وخضعت وأذعنت كما في قوله :(أَتَيْنا طائِعِينَ).

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ) أي أنك سائر فكل يوم تقطع مرحلة من مراحل سفرك ويمضي قسم من حياتك المحدودة. فهلا استعديت وتزودت بهذا السفر لدار اقامتك فهل أنت قدمت لآخرتك كما قدمت لدنياك. وهلا ميزت بين الدنيا والآخرة وحققت الفارق بينهما. وهل اختبرت ما يلزمك من الزاد للاخرة. كما فعلت في ذلك للدنيا. فقدحك الى الآخرة يوصلك الى الراحة والنعيم الخالد. وقدحك للدنيا يزيدك تعبا وخسرانا.

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) فهو الرابح السعيد. الذي ربح نعيم الجنة وسعد برضا خالقه ورفقة الابرار في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

(وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) فانه كان يحرسهم ويحفظهم من كل ما يشينهم عند خالقهم ويقيهم من الانحراف عن حدود ربه حتى استقاموا وأدى الامانة في وقايتهم كما أمره مولاه ومولاهم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) التحريم.

١٧

ولذا سعد بهم وسعدوا به وشكروه على احسانه ونعموا في النجاة من نار الجحيم.

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) انه التقابل الجذاب. والمنبه من الغفلات لأولي الالباب الذين تنفعهم العبر والعظات. فتنعش قلوبهم ويأخذون حذرهم الشديد من الزلق.

واعطاء الكتاب وراء الظهر كناية عن انقلاب صاحبه من وجهته الطبيعية الى عكسها بمعنى أن كل انسان قسر جده وسعيه لهذه الحياة. وأهمل أو نسي الحياة الاخرة. فانه يمشي وينظر الى ورائه. ويعمل له فقط ، ولم يعد يبصر ما أمامه من الآخرة.

ولذا ورد في الخبر : (ان الانسان من حين خروجه من بطن امه يستدبر الدنيا ويستقبل الاخرة).

فمن نظر بعقله لم يبصر سوى الموت وما بعد الموت فيعمل له ويحذر من بلاياه. ومن نظر بهواه فلم يبصر سوى هذه الدنيا وملذاتها وشهواتها فيقسر عمله لها لا غير. وحينئذ يطلق لشهواته العنان ولا يفكر في نفسه وأهله الا ما يرغبون في هذه الحياة من لهو ولعب. وفسق وفجور. وما أشبه ذلك لان هذا كل ما في هذه الدنيا الخداعة. اذن فقد عاش في أهله مسرورا. يطلق لهم يفسقون ما شاؤوا. وعند الموت سيصلى سعيرا ويدعو ثبورا. جزاء لا عراضه عن أمر ربه. وعوضا عن لعبه ولهوه وسروره مع أهله وخياتنه أمانة ربه.

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) غافلا عما وراء هذه الحياة. تاركا لحفظ الامانة.

(إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ). نعم قد أنسته الجرائم كل شيء حتى أنكر حياته بعد الموت.

(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) فاذا الانسان غفل عن خالقه فخالقه لا يغفل

١٨

عنه ولا يتركه سدى. بل يحصى عليه جميع أفعاله وأقواله حتى ما يكنه في صدره وسيعاقب عليه.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) وهذه اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها. لتوجيه القلب البشرى اليها. انها لمحات ذات طابع خاص. طابع يجمع بين الخشوع الساكن. والجلال المرهوب. والشفق هو الوقت الذي يكون بعد غروب الشمس مباشرة وتظهر فيه حمرة.

(وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي يجمع الليل في طياته من أعمال وخبايا وراحة من عناء النهار. وانما يغمره من النص العجيب. رهبة ووجل. وخشوع وسكون تنسق مع الشفق.

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) مشهد كذلك هادىء رائع ساحر. والاتساق ليالي اكتماله وتمامه. وهو يفيض على الاحياء الحياة من نوره الحالم. وهو جولة تنفق مع الشفق والوسق.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ان موجبات الايمان بالله تعالى كثيرة موفورة. تواجه القلب المفتوح فتملأه ايمانا ويقينا. ورهبة وخشوعا من خالقه العظيم ومولاه المنعم الكريم. وهو يخاطبهم. ويتعجب من عدم ايمانهم بعد كثرة الادلة والآثار على الواحد القهار.

ان هذا الكون جميل في منتهى الجمال. وفيه ما يجيش في القلب أسمى مشاعر اليقين. وان هذا القرآن جميل. وفيه ما يصل القلب البشري بالوجود الجميل. وبارىء الوجود الجليل. ويسكب فيه حقيقة الكون الكبيرة الموحية بحقيقة خالقه العظيم.

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) انه لأمر عجيب حقا يضرب عنه السياق وليأخذ في بيان حقيقة حال العصاة وما ينتظرهم من بلاء وعناء. وعذاب وعقاب وهم فرحون في هذه الحياة.

١٩

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) فالتكذيب طابعهم وطبعهم الاصيل والله أعلم بما يكنون في صدورهم. ويضمون عليه جوانحهم من شر وسوء ودوافع لهذا التكذيب.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فالذين آمنوا آمنون من كل مخاوف الدنيا والآخرة لان الله حار سهم وكافلهم في هذه الحياة. ومنجيهم ومعلي قدرهم في دار الخلود.

(لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) وهو الاجر الدائم الغير مقطوع ولا محدود. جزاء بما كانوا يعملون من الصالحات خالصا لوجه خالقهم العظيم مع الرضا والاستسلام اليه.

* * *

ـ ٨٥ ـ سورة البروج آياتها (٢٢) اثنتان وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

البيان : تبدأ السورة بهذا القسم : ب (السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) فهي اما اجرام النجوم الهائلة. وأما المنازل التي تنتقل فيها تلك الاجرام في أثناء دورانها. والاشارة اليها يوحي بالضخامة.

٢٠