تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٥

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

عبد الرحمن بن حماد الكوفي ، عن الحسين بن علوان وعمر بن مصعب ، عن ابي عبد الله عليه‌السلام قال : اني امرؤ ، من قريش ولدني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلمت كتاب الله ، وفيه تبيان كل شيء ، وفيه بدء الخلق ، وأمر السماء ، وأمر الارض ، وأمر الاولين ، وأمر الآخرين ، وما يكون كأني أنظر ذلك نصب عيني.

٣٤ ـ وفيه ١ / ١٤ : تفسير العياشي ، عن الاصبغ بن نباتة ، قال : لما قدم أمير المؤمنين عليه‌السلام الكوفة صلى بهم أربعين صباحا يقرأ بهم (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال : فقال المنافقون لا والله ما يحسن ابن أبي طالب أن يقرأ القرآن ، ولو أحسن أن يقرأ القرآن اقرأ غير هذه السورة قال : فبلغه ذلك فقال : ويل لهم اني لأعرف ناسخه من منسوخه ومحكمه من متشابهه ، وفصله من فصاله ، وحروفه من معانيه ، والله ما من حرف نزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الا اني اعرف فيمن نزل وفي أي يوم وفي أي موضع ، ويل لهم اما يقرؤن (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) والله انهما عندي ورثتهما من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد انهى لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ابراهيم وموسى ، ويل لهم والله انا الذي أنزل الله فيّ (وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ) فانما كنا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخبرنا بالوحي فأعيه أنا ومن يعيه ، فاذا خرجنا قالوا : ماذا قال آنفا.

٣٥ ـ تفسير العياشي : عن سليم بن قيس الهلالي ، قال : سمعت أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : ما نزلت آية على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الا اقرأنيها واملاها علي ، فأكتبها بخطي ، وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ، ومحكمها ومتشابهها ، ودعا الله لي أن يعلمني فهمها وحفظها ، فما نسيت من كتاب الله ولا علما أملاه ولا أمر ولا نهي كان أو يكون من طاعة أو معصية الا علمنيه وحفظته ، فلم

١٦١

أنس منه حرفا واحدا ، ثم وضع يده على صدري ودعا الله أن يملأ قلبي علما وفهما وحكمة ونورا لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه.

فقلت : يا رسول الله أو تخوفت النسيان علي فيما بعد؟ فقال : لست أتخوف عليك نسيانا ولا جهلا ، وقد أخبرني انه قد استجاب فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك.

فقلت : يا رسول الله ومن شركائي من بعدي؟ الذين قرنهم الله بنفسه وبي فقال الاوصياء مني الى أن يردون علي الحوض كلهم هاد مهتد لا يضرهم من خذلهم ، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه. بهم تنصر أمتي ويمطرون ، وبهم يدفع عنهم ، وبهم استجاب دعاءهم.

فقلت : يا رسول الله سمهم لي. فقال لي : ابني هذا ووضع يده على رأس الحسن عليه‌السلام ، ثم ابني هذا ووضع يده على رأس الحسين عليه‌السلام ، ثم ابن له يقال له (علي) وسيولد في حياتك فاقرأه مني السّلام. تكلمت اثني عشر من ولد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وانت اولهم يا ابا الحسن.

فقلت له : بأبي أنت وأمي فسمهم لي ، فسماهم رجلا رجلا منهم. والله يا أخي بني هلال مهدي أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما ، والله لأعرف من يبايعه بين الركن والمقام واعرف اسماء آبائهم وقبائلهم.

٣٦ ـ تفسير البرهان ١ / ١٧ : عن سلمة بن كهيل ، عمن حدثه ، عن علي عليه‌السلام قال : لو استقامت لي الامرة ، وكسرت أو ثنيت لي الوسادة لحكمت لأهل التوراة بما أنزل الله في التوراة حتى تذهب الى الله اني قد حكمت بما أنزل الله فيها ، ولحكمت لأهل الانجيل بما أنزل الله في الانجيل حتى يذهب الى الله اني قد حكمت بما أنزل الله فيه ، ولحكمت في أهل القرآن بما أنزل في القرآن حتى يذهب الى الله اني قد حكمت بما أنزل الله فيه.

١٦٢

٣٧ ـ بصائر الدرجات : حدثنا أحمد بن محمد ، عن الحسن بن العباس بن الجريش ، قال : قال ابو عبد الله عليه‌السلام في صبح أول ليلة القدر التي كانت بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : سلوني ، فو الله لأخبرنكم بما يكون الى ثلاثمائة وستين يوما من الذرة فما دونها فما فوقها ، ثم لأخبرنكم بشيء من ذلك لا بتكلف ولا برأي ولا بادعاء في وما علمي الا من علم الله وتعليمه. والله لا يسألني أهل التوراة ولا اهل الانجيل ولا أهل الزبور ولا اهل الفرقان الا فرقت بين كل أهل كتاب بحكم ما في كتابهم. قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رأيت ما تعلمونه في ليلة القدر هل تمضي تلك السنة وبقي شيء لم تتكلموا به؟ قال : لا والذي نفسي بيده لو أنه فيما علمنا في تلك الليلة ان انصتوا لأعدائكم لصنتنا فالصنت أشد من الكلام.

٣٨ ـ وفيه : حدثنا عبد الله بن محمد ، عن محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عن محمد بن عبد الله ، عن يونس ، عن عمر بن يزيد قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : رأيت من لم يقر بما يأتيكم في ليلة القدر كما ذكر ولم يجحده؟ قال : أما اذا قامت عليه الحجة من ثبوته في علمنا فلم يثق به فهو كافر ، وأما من لا يسمع ذلك فهو في عذر ، حتى يسمع. ثم قال عليه‌السلام : (يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).

٣٩ ـ تفسير الرهان ١ / ١٧ : عن أيوب بن حر ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قلت له الائمة بعضهم أعلم من بعض؟ قال : نعم ، وعلمهم بالحلال والحرام وتفسير القرآن واحد.

٤٠ ـ وفيه ١ / ١٧ : عن حفص بن قراط الجهني ، عن جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : كان علي عليه‌السلام صاحب حلال وحرام وعلم بالقرآن ، ونحن على منهاجه.

٤١ ـ وفيه ١ / ١٧ : عن السكوني ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن جده ،

١٦٣

عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، وهو علي بن ابي طالب عليه‌السلام.

٤٢ ـ وفيه ١ / ١٧ : عن بشير الدهان ، قال سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : ان الله فرض طاعتنا في كتابه فلا يسع الناس جهلا ، لنا صفو المال ، ولنا الانفال ، ولنا كرايم القرآن ، ولا أقول لكم أنا صاحب الغيب ، ونعلم كتاب الله ، وكتاب الله يحتمل كل شيء ، ان الله أعلمنا علما لا يعلمه أحد غيره ، وعلما قد أعلمه ملائكته ورسله ، فما علمته ملائكته ورسله فنحن نعلمه.

٤٣ ـ وفيه ١ / ١٧ : عن الحكم بن عينية ، قال : قال ابو عبد الله عليه‌السلام لرجل من أهل الكوفة وسأله عن شيء قال : لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرائيل في دورنا ونزوله على جدي بالوحي والقرآن والعلم ، فيستسقي الناس العلم من عندنا ، أفيهدون هم وضللنا نحن؟! هذا محال.

٤٤ ـ وفيه ١ / ١٧ : عن يوسف بن السخت البصري ، قال : يقول رأيت التوقيع بخط محمد بن محمد بن الحسن بن علي ، فكان فيه : والذي يجب عليكم ولكم أن تقولوا : انا قدوة الله وابناء أئمته ، خلفاء الله في أرضه ، وأمناؤه على خلقه ، وحججه في بلاده ، نعرف الحلال والحرام ، ونعرف تأويل الكتاب وفصل الخطاب.

٤٥ ـ وفيه ١ / ١٧ : عن ثوير بن أبي فاختة ، عن أبيه ، قال : قال علي عليه‌السلام : ما بين اللوحين شيء الا وأنا أعلمه.

٤٦ ـ وفيه : ١ / ١٧ : عن سليمان بن الاعمش عن أبيه ، قال : قال علي عليه‌السلام : ما نزلت الآية الا وأنا علمت فيمن انزلت ، واين أنزلت وعلى من نزلت ، ان ربي وهب لي قلبا عقولا ، ولسانا ناطقا.

١٦٤

٤٧ ـ وفيه ١ / ١٧ : عن أبي الصباح ، قال : قال أبو عبد الله عليه‌السلام : ان الله علم نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله التنزيل والتأويل ، فعلمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام.

* * *

في إعجاز القرآن الكريم

هذا الفصل كله منقول باختصار من كتاب البيان في تفسير القرآن ص ٤٣ ـ ٩١ تأليف سماحة آية الله العظمى الامام الخوئي دام ظله.

١ ـ معنى الاعجاز

قد ذكر للاعجاز في اللغة عدة معان : الفوت ، وجدان العجز ، احداثه كالتعجيز. فيقال : اعجزه الفلاني أي فاته. ويقال : اعجزت زيدا أي وجدته عاجزا ، أو جعلته عاجزا.

وهو في الاصطلاح أن يأتي المدعى لمنصب من المناصب الالهية بما يخرق نواميس الطبية ويعجز عنه غيره شاهدا على صدق دعواه.

وانما يكون المعجز شاهدا على صدق ذلك المدعي اذا امكن أن يكون صادقا في تلك الدعوى. وأما اذا امتنع صدقه في دعواه بحكم العقل او بحكم النقل الثابت عن نبي ، او امام معلوم العصمة ، فلا يكون ذلك شاهدا على الصدق ، ولا يسمى معجزا في الاصطلاح وان عجز البشر عن أمثاله

وليس من الاعجاز المصطلح عليه ما يظهره الساحر والمشعوذ ، أو العالم ببعض العلوم النظرية الدقيقة ، وان يأتي بشيء يعجز عنه غيره ، ولا يجب على الله ابطاله اذا علم استناده في عمله الى امر طبيعي من سحر ، او شعبذة ، أو نحو ذلك وان ادعى ذلك الشخص منصبا الهيا ، وقد أتى

١٦٥

بذلك الفعل شاهدا على صدقه ، فان العلوم النظرية الدقيقة لها قواعد معلومة عند أهلها ، وتلك القواعد لابد من أن توصل الى نتاجها ، وان احتاجت الى دقة في التطبيق. وعلى هذا القياس تخرج غرائب علم الطب المنوطة بطبايع الأشياء ، وان كانت خفية على عامة الناس ، بل وان كانت خفية على الأطباء أنفسهم.

٢ ـ لا بد للنبي من اقامة المعجز

تكليف عامة البشر واجب على الله سبحانه ، وهذا الحكم قطعي قد ثبت بالبراهين الصحيحة ، والأدلة العقلية الواضحة ، فانهم محتاجون الى التكليف في طريق تكاملهم ، وحصولهم على السعادة الكبرى ، والتجارة الرابحة. فاذا لم يكلفهم الله سبحانه ، فاما ان يكون ذلك لعدم علمه بحاجتهم الى التكليف ، وهذا جهل يتنزه عنه الحق تعالى ، واما لان الله أراد حجتهم عن الوصول الى كمالاتهم ، وهذا بخل يستحيل على الجواد المطلق ، واما لأنه أراد تكليفهم فلم يمكنه ذلك ، وهو عجز يمتنع على القادر المطلق ، واذن فلا بد من تكليف البشر ، ومن الضروري أن التكليف يحتاج الى مبلغ من نوع البشر يوقفهم على خفي التكليف وجليه : (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (١).

ومن الضروري أيضا أن السفارة الالهية من المناصب العظيمة التي يكثر لها المدعون ، ويرغب في الحصول عليها الراغبون ، ونتيجة هذا أن يشتبه الصادق بالكاذب ، ويختلط المضل بالهادي. واذن فلا بد لمدعي السفارة أن يقيم شاهدا واضحا يدل على صدقة في الدعوى ، وأمانته في التبليغ ، ولا يكون هذا الشاهد من الافعال العادية التي يمكن غيره أن يأتي بنظيرها ، فينحصر الطريق بما يخرق النوامس الطبيعية.

__________________

(١) سورة الانفال آية ٤٢.

١٦٦

وانما يكون الاعجاز دليلا على صدق المدعي ، لأن المعجز فيه خرق للنواميس الطبيعية ، فلا يمكن أن يقع من أحد الا بعناية من الله تعالى ، واقدار منه ، فلو كان مدعي النبوة كاذبا في دعواه ، كان اقداره على المعجز من قبل الله تعالى اغراء بالجهل واشادة بالباطل ، وذلك محال على الحكيم تعالى. فاذا ظهرت المعجزة على يده كانت دالة على صدقة ، وكاشفة عن رضا الحق سبحانه بنبوته.

ولكن دلالة المعجز على صدق مدعي النبوة متوقفة على القول بأن العقل يحكم بالحسن والقبح. أما الأشاعرة الذين ينكرون هذا القول ، ويمنعون حكم العقل بذلك فلا بد لهم من سد باب التصديق بالنبوة. وهذا أحد مفاسد هذا القول ، وانما لزم من قولهم هذا سد باب التصديق بالنبوة ، لأن المعجز انما يكون دليلا على صدق النبوة اذا قبح في العقل أن يظهر المعجز على يد الكاذب ، واذا لم يحكم العقل بذلك لم يستطع احد أن يميز بين الصادق والكاذب.

٣ ـ خير المعجزات ما شابه أرقى فنون العصر

المعجز ـ ما عرفت ـ هو ما يخرق نواميس الطبيعة ، ويعجز عنه سائر أفراد البشر اذا اتى به المدعى شاهدا على سفارة الهية. ومما لا يرتاب فيه أن معرفة ذلك تختص بعلماء الصنعة التي يشابهها ذلك المعجز ، فان علماء أي صنعة أعرف بخصوصياتها ، واكثر احاطة بمزاياها ، فهم يميزون بين ما يعجز البشر عن الاتيان بمثله وبين ما يمكنهم. ولذلك فالعلماء اسرع تصديقا بالمعجز.

أما الجاهل فباب الشك عنده مفتوح على مصراعيه ما دام جاهلا بمباديء الصنعة ، ومادام يحتمل أن المدعي قد اعتمد على مباديء معلومة عند الخاصة من أهل تلك الصنعة ، فيكون متباطئا عن الاذعان. ولذلك

١٦٧

اقتضت الحكمة الالهية أن يخص كل نبي بمعجزة تشابه الصنعة المعروفة في زمانه ، والتي يكثر العلماء بها من أهل عصره ، فانه أسرع للتصديق وأقوم للحجة فكان من الحكمة أن يخص موسى (ع) بالعصا واليد البيضاء لما شاع السحر في زمانه وكثر الساحرون. ولذلك كانت السحرة أسرع الناس الى تصديق ذلك البرهان والاذعان به ، حين رأوا العصا تنقلب ثعبانا ، وتلقف ما يأفكون ثم ترجع الى حالتها الأولى.

وشاع الطب اليوناني في عصر المسيح (ع) واتى الاطباء في زمانه بالعجب العجاب ، وكان للطب رواج باهر في سوريا وفلسطين ، لأنهما كانتا مستعمرتين لليونان. وحين بعث الله نبيه المسيح في هذين القطرين شاءت الحكمة أن تجعل برهانه شيئا يشبه الطب ، فكان من معجزاته أن يحيى الموتى ، وان يبرىء الأكمة والابرص. ليعلم أهل زمانه أن ذلك شيء خارج عن قدرة البشر ، وغير مرتبط بمباديء الطب ، وأنه ناشيء عما وراء الطبيعة.

وأما العرب فقد برعت في البلاغة ، وامتازت بالفصاحة ، وبلغت الذروة في فنون الأدب ، حتى عقدت النوادى وأقامت الأسواق للمباراة في الشعر والخطابة. فكان المرء يقدر على ما يحسنه من الكلام ، وبلغ من تقديرهم للشعر أن عمدوا لسبع قصائد من خيرة الشعر القديم ، وكتبوها بماء الذهب في القباطي ، وعلقت على الكعبة ، فكان يقال هذه مذهبة فلان اذا كانت أجود شعره.

ولذلك اقتضت الحكمة أن يخص نبي الاسلام بمعجزة البيان ، وبلاغة القرآن ، فعلم كل عربي أن هذا من كلام الله ، وانه خارج ببلاغته عن طوق البشر ، واعترف بذلك كل عربي غير معاند.

ويدل على هذه الحقيقة ما روي عن ابن السكيت انه قال لابي الحسن الرضا عليه‌السلام : لماذا بعث الله موسى بن عمران (ع) بالعصا ، ويده البيضا ، وآله السحر؟ وبعث عيسى بآلة الطب؟ وبعث محمدا ـ صلّى الله

١٦٨

عليه وآله وعلى جميع الانبياء ـ بالكلام والخطب؟ فقال ابو الحسن (ع) : ان الله لما بعث موسى (ع) كان الغالب على أهل عصره السحر ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله ، وما أبطل به سحرهم ، واثبت به الحجة عليهم. وان الله بعث عيسى (ع) في وقت قد ظهرت فيه الزمانات ، واحتاج الناس الى الطب ، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله ، وبما احيى لهم الموتى ، وأبرأ الأكمه والأبرص بأذن الله ، واثبت به الحجة عليهم. وان الله بعث محمدا (ص) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام ـ وأظنه قال : الشعر ـ فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل قولهم ، وأثبت به الحجة عليهم ..

٤ ـ القرآن معجزة الهية

قد علم كل عاقل بلغته لدعوة الاسلامية ، أن محمدا (ص) بشرّ جميع الامم بدعوتهم الى الاسلام ، وأقام الحجة عليهم بالقرآن ، وتحدّاهم باعجازه ، وطلب منهم ان يأتوا بمثله وان كان بعضهم لبعض ظهيرا ، ثم تنزل عن ذلك فطلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، ثم تحداهم الى الاتيان بسورة واحدة.

وكان من الجدير بالعرب ـ وفيهم الفصحاء النابغون في الفصاحة ـ أن يجيبوه الى ما يريد ، ويسقطوا حجته بالمعارضة ، لو ان ذلك ممكنا غير مستحيل. نعم كان من الجدير بهم أن يعارضوا سورة واحدة من سور القرآن ، ويأتوا بنظيرها في البلاغة ، فيسقطوا حجة هذا هذا المدعي الذي تحداهم في أبرع كمالاتهم ، وأظهر ميزاتهم ، ويسجّلوا لأنفسهم ظهور الغلبة وخلود الذكر ، وسمو الشرف والمكانة ، ويستريحوا بهذه المعارضة البسيطة من حروب طاحنة ، وبذل أموال ، ومفارقة أوطان ، وتحمل شدائد ومكاره.

١٦٩

ولكن العرب فكرت في بلاغة القرآن فأذعنت لاعجازه ، وعلمت أنها مهزومة اذا أرادت المعارضة ، فصدق منها قوم داعي الحق ، وخضعوا لدعوة القرآن ، وفازوا بشرف الاسلام ، وركب آخرون جادة العناد ، فاختاروا المقابلة بالسيوف على المقاومة بالحروف ، وآثروا المبارزة بالسنان على المعارضة في البيان ، فكان هذا العجز والمقاومة أعظم حجة على أن القرآن وحي الهي خارج عن طوق البشر.

على أن من مارس كلاما بليغا ، وبالغ في ممارسته زمانا ، أمكنه أن يأتي بمثله أو بما يقاربه في الاسلوب ، وهذا مشاهد في العادة ، ولا يجري مثل هذا في القرآن ، فان كثرة ممارسته ودراسته لا تمكن الانسان من مشابهته في قليل ولا كثير ، وهذا يكشف لنا أن للقرآن أسلوبا خارجا عن حدود التعليم والتعلم ، ولو كان القرآن من كلام الرسول وانشائه ، لوجدنا في بعض خطبه وكلماته ما يشبه القرآن في اسلوبه ، ويضارعه في بلاغته ، وكلمات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله وخطبه محفوظة مدونة تختص بأسلوب آخر. ولو كان في كلماته ما يشبه القرآن لشاع نقله وتدوينه ، وخصوصا من اعدائه الذين يريدون كيد الاسلام بكل وسيلة وذريعة. مع أن للبلاغة المألوفة حدودا لا تتعداها في الاغلب ، فانا نرى البليغ العربي الشاعر أو الناثر تختص بلاغته في جهة واحدة أو جهتين أو ثلاث جهات ، فيجيد في الحماسة مثلا دون المديح ، أو في الرثاء دون النسيب. والقرآن قد استطرد مواضيع عديدة ، وتعرض لفنون من الكلام كثيرة ، وأتى في جميع ذلك بما يعجز عنه غيره ، وهذا ممتنع على البشر في العادة.

٥ ـ القرآن معجزة خالدة

قد عرفت أن طريق التصديق بالنبوة والايمان بها ، ينحصر بالمعجز الذي يقيمه شاهدا لدعواه ، ولما كانت نبوات الانبياء السابقين مختصة

١٧٠

بأزمانهم وأجيالهم ، كان مقتضى الحكمة أن تكون معاجزهم مقصورة الأمد ، ومحدودة ، لأنها شواهد على نبوات محدودة ، فكان البعض من أهل تلك الأزمنة يشاهد تلك المعجزات فتقوم عليه الحجة ، والبعض الآخر تنتقل اليه أخبارها من المشاهدين على وجه التواتر ، فتقوم عليه الحجة ايضا.

أما الشريعة الخالدة ، فيجب أن تكون المعجزة التي تشهد بصدقها خالدة أيضا ، لأن المعجزة اذا كانت محدودة قصيرة الامد لم يشاهدها البعيد ، وقد تنقطع أخبارها المتواترة ، فلا يمكن لهذا البعيد أن يحصل له العلم بصدق تلك النبوة ، فاذا كلفه الله بالايمان بها كان من التكليف بالممتنع ، والتكليف بالممتنع مستحيل على الله تعالى ، فلابد للنبوة الدائمة المستمرة من معجزات دائمه. وهكذا أنزل الله القرآن معجزة خالدة ليكون برهانا على صدق الرسالة الخالدة ، وليكون حجة على الخلف كما كان حجة على السلف.

ثم ان القرآن يختص بخاصة اخرى ، وبها يتفوق على جميع المعجزات التي جاء بها الانبياء السابقون ، وهذه الخاصة هي تكلفة بهداية البشر وسوقهم الى غاية كمالهم. فان القرآن هو المرشد الذي ارشد العرب الجفاة الطغاة ، المعتنقين أقبح العادات والعاكفين على الاصنام ، والمشتغلين عن تحصيل المعارف ، وتهذيب النفوس ـ بالحروب الداخلية ، والمفاخرات الجاهلية ، فتكونت منهم ـ في مدة يسيرة ـ أمة ذات خطر في معارفها ، وذات عظمة في تاريخها ، وذات سمو في عادتها. ومن نظر في تاريخ الاسلام وسبر تراجم اصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله المستشهدين بين يديه ظهرت له عظمة القرآن في بليغ هدايته ، وكبير أثره ، فانه هو الذي أخرجهم من حضيض الجاهلية الى أعلى مراتب العلم والكمال ، وجعلهم يتفانون في سبيل الدين واحياء الشريعة ، ولا يعبأون بما تركوا من مال وولد وأزواج.

١٧١

أن القرآن هو الذي نور قلوب اولئك العاكفين على الاصنام المشتغلين بالحروب الداخلية والمفاخرات الجاهلية ، فجعلهم أشداء على الكفار رحماء بينهم ، ويؤثر أحدهم حياة صاحبه على نفسه ، فحصل للمسلمين بفضل الاسلام من فتوح البلدان في ثمانين سنة ما لم يحصل لغيرهم في ثمانمائة سنة. ومن قارن بين سيرة اصحاب النبي وسيرة اصحاب الانبياء السابقين علم ان في ذلك سرا الهيا ، وأن مبدأ هذا السر هو كتاب الله الذي أشرق على النفوس ، وطهر القلوب والأرواح بسمو العقيدة ، وثبات المبدأ.

واذا قد عرف أن القرآن معجزة الهية ، في بلاغته واسلوبه فاعلم أن اعجازه لا ينحصر في ذلك ، بل هو معجزة ربانية ، وبرهان صدق على نبوة من أنزل اليه من جهات شتى ، فيحسن بنا أن نتعرض الى جملة منها على نحو الاختصار :

أ ـ القرآن والمعارف

صرح الكتاب في كثير من آياته الكريمة بأن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله امي ، وقد جهر النبي بهذه الدعوى بين ملا من قومه وعشيرته الذين نشأ بين أظهرهم ، وتربى في أوساطهم ، فلم ينكر أحد عليه هذه الدعوى وفي ذلك دلالة قطعية على صدقه فيما يدعيه. ومع اميته فقد أتى في كتابه من المعارف بما أبهر عقول الفلاسفة ، وأدهش مفكري الشرق والغرب منذ ظهور الاسلام الى هذا اليوم ، وسيبقى موضوعا لدهشة المفكرين وحيرتهم الى اليوم الأخير ، وهذا من أعظم نواحي الاعجاز.

ولنتنازل للخصوم عن هذه الدعوى ، ولنفرض أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن أميا ، ولتنصوره قد تلقن المعارف ، وأخذ الفنون والتاريخ بالتعليم ، أفليس لازم هذا أنه اكتسب معارفه وفنونه من مثقفي عصره الذين نشأ بين أظهرهم؟ ونحن نرى هؤلاء الذين نشأ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله بينهم ، منهم وثنيون يعتقدون بالأوهام ، ويؤمنون بالخرافات ،

١٧٢

وذلك ظاهر. ومنهم كتابيون يأخذون معارفهم وتأريخهم وأحكامهم من كتب العهدين التي ينسبونها الى الوحي ، ويعزونها الى الأنبياء. واذا فرضنا أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله أخذ تعاليمه من أهل عصره ، أفليس لازم هذا أن ينعكس على أقواله ومعارفه ظلال هذه العقائد التي اكتسبها من معلميه ومرشديه ، ومن هذه الكتب التي كانت مصدر ثقافته وعلومه؟ ونحن نرى مخالفة القرآن لكتب العهدين في جميع النواحي ، وتنزيهه لحقائق المعارف عن الموهومات الخرافية التي ملأت كتب العهدين وغيرها من مصادر التعليم في ذلك العصر بل هو قد خطا جميع اهل زمانه بما اتى

وقد تعرض القرآن الكريم لصفات الله جل شأنه في آيات كثيرة ، فوصفه بما يليق بشأنه من صفات الكمال ، ونزهه عن لوازم النقص والحدوث. وهذه نماذج منها : «وقالوا اتخذ الله ولدا سبحانه بل له ما في السماوات والأرض كل له قانتون. بديع السماوات والارض واذا قضى أمرا فانما يقول له كن فيكون. والهكم اله واحد لا اله الّا هو الرحمن الرحيم. الله لا اله الا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الارض» (١) (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢) «قل (اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)» (٣) (قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) (٤) (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ

__________________

(١) سورة البقرة آية ١٦ ، ١٧ ، ١٦٣ ، ٢٥٥.

(٢) سورة آل عمران آية ٥ ، ٦.

(٣) سورة الانعام آية ١٠٢ ، ١٠٣.

(٤) سورة يونس آية ٣٤.

١٧٣

يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) (١) (وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٢) (هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٣).

هكذا يصف القرآن اله العالمين ، ويأتي بالمعارف التي تتمشى مع البرهان الصريح ، ويسير مع العقل الصحيح ، وهل يمكن لبشر أمي نشأ في محيط جاهل أن يأتي بمثل هذه المعارف العالية؟ ثم هي كلام مولى عظيم

ويتعرض القرآن لذكر الأنبياء فيصفهم بكل جميل ينبغي أن يوصفوا به ، وينسب اليهم كل مأثرة كريمة تلازم قداسة النبوة ، ونزاهة السفارة الالهية ، واليك نماذج منها : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (٤) (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٥) (وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٦) (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ

__________________

(١) سورة الرعد آية ٢.

(٢) سورة القصص آية ٧٠.

(٣) سورة الحشر آية ٢٢ ـ ٢٤.

(٤) سورة الاعراف آية ١٥٧.

(٥) سورة الجمعة آية ٢.

(٦) سورة القلم آية ٣ ـ ٤.

١٧٤

إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ) (١) (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ) (٢) «(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ. وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ). (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)» (٣) (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) (٤) (وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) (٥) (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا) (٦).

هذه جملة من الآيات التي جاء بها الكتاب العزيز في تنزيه الأنبياء وتقديسهم ، واظهارهم على حقيقتهم من القداسة والنزاهة وجميل الذكر.

__________________

(١) سورة آل عمران آية ٢٣.

(٢) سورة الزخرف آية ٢٦ ـ ٢٧.

(٣) سورة الانعام آية ٧٥ ، ٨٤ ـ ٨٧.

(٤) سورة النمل آية ١٥.

(٥) سورة ص آية ٤٨.

(٦) سورة مريم آية ٥٨.

١٧٥

ب ـ القرآن والاستقامة في البيان

قد علم كل عاقل جرب الامور ، وعرف مجاريها ان الذي يبني امره على الكذب والافتراء في تشريعه واخباره ، لابد من أن يقع منه التناقض والاختلاف ، ولا سيما أذا تعرض لكثير من الامور المهمة في التشريع والاجتماع والعقائد ، والنظم الاخلاقية المبتنية على أدق القواعد وأحكم الاسس ، ولا سيما اذا طالت على ذلك المفترى أيام ، ومرت عليه أعوام نعم لا بد من أن يقع في التناقض والتهافت من حيث يريد أولا يريد ، لأن ذلك مقتضى الطبع البشري الناقص اذا خلا من التسديد. وقد قيل في المثل المعروف : (لا حافظة لكذوب.)

وقد تعرض القرآن الكريم لمختلف الشؤون ، وتوسع فيها احسن التوسع فبحث في الالهيات ومباحث النبوات ، ووضع الاصول في تعاليم الاحكام والسياسات المدنية ، والنظم الاجتماعية ، وقواعد الاخلاق. وتعرض لأمور أخرى تتعلق بالفلكيات والتاريخ ، وقوانين السلم والحرب ، ووصف الموجودات السماوية والأرضية من ملك وكواكب ورياح ، وبحار ونبات وحيوان وانسان ، وتعرض لأنواع الأمثال ، ووصف أهوال القيامة ومشاهدها فلم تجد فيه أية مناقضة ولا ادنى اختلاف ، ولم يتباعد عن أصل مسلم عند العقل والعقلاء. وربما يستعرض الحادثة الواحدة مرتين او اكثر ، فلا تجد فيه أقل تهافت وتدافع. واليك قصة موسى عليه‌السلام : فقد تكررت في القرآن مرارا عديدة ، وفي كل مرة تجد لها مزية تمتاز بها من غير اختلاف في جوهر المعنى.

واذا عرفت ان الآيات نزلت نجوما متفرقه على الحوادث ، علمت أن القرآن بوحي من أمر الله ، لأن هذا التفرق يقضي بطبعه عدم الملائكة والتناسب حين يجتمع ، ونحن نرى القرآن معجزا في كلتا الحالتين ، نزل متفرقا فكان معجزا حال تفرقه ، فلما اجتمع حصل له اعجاز آخر.

١٧٦

وقد أشار الى هذا النحو من الاعجاز قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (١).

وهذه الآية تدل الناس على أمر يحسونه بفطرتهم ، ويدركونه بغريزتهم وهو أن من يعتمد في دعواه على الكذب والافتراء لابد له من التهافت في القول ، والتناقض في البيان ، وهذا شيء لم يقع في الكتاب العزيز قطعا.

والقرآن يتبع هذه الخطة في كثير من استدلالاته واحتجاجاته ، فيرشد الناس الى حكم الفطرة ، ويرجعهم الى الغريزة ، وهي أنجح طريقة في الارشاد ، وأقربها الى الهداية وقد أحست العرب بهذه الاستقامة في اساليب القرأن ، واستيقنت بذلك بلغاؤهم. وان كلمة الوليد بن المغيرة في صفة القرآن تفسر لنا ذلك ، حيث قال ـ حين سأله ابو جهل أن يقول في القرآن قوله : ـ فما أقول فيه؟ فو الله ما منكم رجل اعلم في الأشعار مني ولا أعلم برجزه مني ولا بقصيده ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا ، والله ان لقوله لحلاوة ، وانه ليحطم ما تحته وانه ليعلو ولا يعلى عليه. قال ابو جهل : والله لا يرضي قومك حتى تقول فيه. قال الوليد : فدعني حتى افكر فيه ، فلما فكّر قال : هذا سحر يأثره عن غيره. وبه نزل قوله تعالى : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ) الى ان يقول فقال ان هو الا سحر يؤثر) سورة المدثر.

وفي بعض الروايات قال الوليد : والله لقد سمعت منه كلاما ما هو من كلام الانس ولا من كلام الجن ، وان له لحلاوة ، وان عليه لطلاوة وان أعلاه لمثمر ، وان أسفله لمغدق ، وانه ليعلو ولا يعلى عليه ، وما يقول هذا بشر ...

واذا اردت ان تحسّ ذلك من نفسك فانظر الى الكتب المنسوبة الى الوحي ، فانك تجدها متناقضة المعاني ، مضطربة الاسلوب ، لا تنهض

__________________

(١) سورة النساء آية ٨٢.

١٧٧

بحجتها ولا تنماسك باسلوبها. واذا نظرت الى كتب العهدين ، وما فيها من تضارب وتناقض تجلت لك حقيقة الامر ، وبان لك الحق من الباطل.

ج ـ القرآن في نظامه وتشريعه

يبدو لكل متتبع للتاريخ ما كانت عليه الامم قبل الاسلام ، وما وصلت اليه من الانحطاط في معارفهم وأخلاقهم. فكانت الهمجية سائدة عليهم ، والغارات متواصلة فيما بينهم ، والقلوب متجهة الى النهب والغنيمة ، والخطى مسرعة الى اصلاء نيران الحروب والمعارك. وكان للعرب القسم الوافر من خرافات العقيدة ، ووحشية السلوك ، فلا دين يجمعهم ، ولا نظام يربطهم. وعادات الاباء تذهب بهم يمينا وشمالا. وكان الوثنيون في بلاد العرب هم السواد الأعظم ، فكانت لهم ـ باختلاف قبائهم واسرهم ـ آلهة يعبدونها ـ ويتخذونها شفعاء الى الله وشاع بينهم الاستقسام بالانصاب والازلام ، واللعب بالميسر ، حين كان الميسر من مفاخرهم ، وكان من عاداتهم التزويج بنساء الآباء ، ولهم عادة أخرى هي أفظع منها ـ وهي وأد البنات ـ دفنهن في حال الحياة.

هذه بعض عادات العرب في جاهليتهم. وحين بزغ نور محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وأشرقت شمس الاسلام في مكة ، تنوروا بالمعارف ، وتخلقوا بمكارم الاخلاق ، فاستبدلوا التوحيد بالوثنية ، والعلم بالجهل ، والفضائل بالرذائل ، والاخاء والتآلف بالشقاق والتخالف ، فأصبحوا أمة وثيقة العرى مدت جناح ملكها على العالم ، ورفعت أعلام الحضارة في أقطار الارض وأرجائها. قال الدوري «وبعد هذا ظهور الذي جمع قبائل العرب أمة واحدة ، تقصد مقصدا واحدا ظهرت للعيان أمة كبيرة ، مدت جناح ملكها من نهر تاج اسبانيا الى نهر الجناح في الهند ، ورفعت على منار الاشادة أعلام التمدن في أقطار الارض ، أيام كانت

١٧٨

اوربا مظلمة بجهالات أهلها في القرون المتوسطة. ثم قال : انهم كانوا في القرون المتوسطة بالعلوم من بين سائر الامم ، وانقشعت بسببهم سحائب البربرية التي امتدت على اوربا حين اختل نظامها بفتوحات المتوحشين.

نعم ان جميع ذلك كان بفضل تعاليم كتاب الله الكريم الذي فاق جميع الصحف السماوية ، فان القرآن في أنظمته وتعاليمه يتمشى مع البراهين الواضحة ، وحكم العقل السليم ، فقد سلك سبيل العدل ، وتجنب عن طرفي الافراط والتفريط.

د ـ القرآن والاتقان في المعاني

تعرض القرآن الكريم لمواضيع كثيرة العدد ، متباعدة الأغراض من الالهيات والمعارف ، وبدء الخلق والمعاد ، وما وراء الطبيعة من الروح والملك وابليس والجن ، والفلكيات ، والارض ، والتاريخ ، وشؤون فريق من الأنبياء الماضين ، وما جرى بينهم وبين أممهم ، وللامثال واحتجاجات والاخلاقيات ، والحقوق العائلية ، والسياسات المدنية ، والنظم الاجتماعية والحربية ، والقضاء والقدر ، والكسب والاختيار ، والعبادات والمعاملات والنكاح والطلاق ، والفرائض ، والحدود والقصاص وغير ذلك. وقد اتى في جميع ذلك بالحقائق الراهنة ، التي لا يتطرق اليها الفساد والنفد في أية جهة من جهاتها ، ولا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها ، وهذا شيء يمتنع وقوعه عادة من البشر ـ ولا سيما ممن نشأ بين أمة جاهلية لا نصيب لها من المعارف ، ولا غيرها من العلوم ولذلك نجد كل من الف في علم من العلوم النظرية ، لا تمضي على مؤلفه بطلان كثير من آرائه ، فان العلوم النظرية كلما ازداد البحث فيها وكثر ، ازدادت الحقائق فيها وضوحا ، وظهر للمتأخر خلاف ما أثبته المتقدم ، والحقيقة ـ كما يقولون ـ بنت البحث ، وكم ترك الأول للآخر. ولهذا

١٧٩

نرى كتب الفلاسفة الاقدمين ، ومن تأخر عنهم من أهل التحقيق والنظر قد صارت عرضة لسهام النقد ممن تأخر ، حتى أن بعض ما اعتقده السابقون برهانا ، يقينيا ، أصبح بعد وهما من الاوهام ، وخيالا من الأخيلة.

والقرآن مع تطاول الزمان عليه ، وكثرة أغراضه ، وسمو معانيه ، لم يوجد فيه ما يكون معرضا للنقد والاعتراض. اللهم الّا وهم من بعض المكابرين ، حسبوها من النقد. وسنتعرض لها ، ونوضح بطلانها أن شاء الله تعالى.

ه ـ القرآن والاخبار بالغيب

أخبر القرآن الكريم في عدة من آياته عن أمور مهمة ، تتعلق بما يأتي من الأنبياء والحوادث ، وقد كان في جميع ما اخبر به صادقا ، لم يخالف الواقع في شيء منها. ولا شك في ان هذا من الاخبار بالغيب ، ولا سبيل اليه غير طريق الوحي والنبوة.

فمن الآيات التي انبأت عن الغيب قوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) (١).

وهذه الآية نزلت في وقعة بدر ، وقد وعد الله فيها المؤمنين بالنصر على عدوهم ويقطع دابر الكافرين ، والمؤمنون على ما هم عليه من قلّة العدد والعدة ، حتى أن الفارس فيهم كان هو المقداد ، أو هو والزبير ابن العوام والكافرون هم الكثيرون الشديدون في القوة ، وقد وصفتهم الآية بأنهم ذوو شوكة ، وأن المؤمنين أشفقوا من قتالهم ، ولكن الله يريد ان يحق الحق بكلماته. وقد وفى للمؤمنين بوعده ، ونصرهم على اعدائهم ، وقطع دابر الكافرين.

__________________

(١) سورة الاعراف آية ٧.

١٨٠