تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

والسياق يطيل عرض تفاصيل احوال هذا القسم من البشر عند العرض الاكبر والمصاب الاخطر. وغاية هذا العرض تحريك النفوس الغافلة واللاهية عن هذا اليوم الذي يشيب الاطفال. ويشغل كل فرد بنفسه دون سواه. وتذهل المراضع عن اطفالها. وتنقطع الصلات عن ارحامها

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ) فقد انكشف عنه الغطاء وزالت عنه السكرة والغفلة وعرف انه مؤخذ بجرائمه. وانه الى النيران مصيره. وهنا يقف وقفة الحائر المذهول.

(فيقول (يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ) كما يتمنى ان لو كانت حياته عدما ولم يولد. ولم يحيى بعد الموت (ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ) فيا لها من حسرة ان يكون ما كان يفرح بجمعه قد تبرء منه عند الشدة. (هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ) فيا ليت الذي كنت احسد عليه ناله غيري وسلمت من جرائمه فلا المال اغنى. ولا السلطان ينفع او دفع. وقد اخذته الرنّة الحزينة. والحسرة المديدة. (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) يا للهول الهائل. ويا للرعب المذهل (خذوه) انها كلمة تصدر من العلي الاعلى. فيهتز لها الكون فزعا ورعبا. وتأتي الملائكة الغلاظ الشداد المكلفون بتنفيذ اوامر الخالق القهار. فابتدر سبعون الفا من زبانية جهنم الى هذا الصغير الهزيل. كلهم يحتوش هذه الحشرة الصغيرة. الضعيفة المذهولة (فغلوه) العنق مع الأيدي (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ) ونكاد نسمع كيف تشويه النار وتلتهبه من جميع جهاته انها جهنم التي : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ. قالُوا بَلى فَكَذَّبْنا) (ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ) ذراع واحد من سلاسل النار يكفيه. بل يكفي لأن يشعل الدنيا ومن فيها بكاملها في لحظة واحدة. ولكن لا بد ان يكون الجزاء بقدر الاجرام (فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ) وهي تكملة الاعلان العلوي عن مصير الاشقياء .. (وَلا

٥٠١

طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ) وهو غسلة اهل جهنم من قيح وصديد. وهذا ما يناسب هؤلاء. وينتهي هذا المشهد العنيف المثير. الذي جاء في هذه الصورة الهائلة. كي تؤثر في قلوب الغافلين. فتهزها وتستجيشها. لعلها تفيق من سكرتها. وتنتبه من غفلتها. قبل الرحيل من هذه الدار. وقبل الوقوع في هذا المصاب الذي ليس له حد ولا نهاية.

والقرآن المجيد يخاطب كل نفس بحسب مستواها. وبما يؤثر فيها كهذه الكلمات.

(فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (٣٨) وَما لا تُبْصِرُونَ (٣٩) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (٤٠) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (٤١) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٣) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (٤٩) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (٥١) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٥٢))

البيان : أن الأمر لا يحتاج الى قسم. وهو واضح في غاية الوضوح. وثابت في غاية الثبوت. فالوجود لا تحده حدود يدركها المخلوق. وما فيه لا يعلمه الا الخلاق العليم اللطيف الخبير. أنه الحق وصادر عن الحق. وليس شعر شاعر. ولا أفتراء مفتري. وما هو بحاجة الى يمين. ومثل هذه الاشارة تفتح القلب وتنبّه الوعي الى أن هناك وراء مدّ البصر آفاق لا يدركها مخلوق. فالكون أوسع والحقيقة أكبر من ذلك الجهاز الانساني. المقدر المحدود في جميع مداركه. أن الذين يحصرون أنفسهم في حدود ما يبصرون بواسطة او بغير واسطة. هم مساكين سجناء وان دل هذا على شيء فأنه يدل على جهل صاحبه وضيق تفكيره وقلة معرفته بحقائق الامور. (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) لقد كان مما تقول به المشركون على القرآن وعلى رسول الله ص وآله : أنه شاعر

٥٠٢

وأنه كاهن. ولكن الذي دعاهم لهذا عجزهم عن ما تحداهم به ولأجل تضليل العوام وكبراء قريش كانوا يراجعون انفسهم ويردون على هذه الشبهة بين الحين والحين. وفيما يروى : أن الوليد بن المغيرة. اجتمع اليه نفر من قريش. وكان ذا سنّ فيهم. وقد حضر الموسم فقال لهم :يا معشر قريش ، انه قد حضر هذا الموسم. وان وفود العرب ستقدم عليكم فيه. وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا. فاجمعوا فيه رأيا واحدا. ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا ..

فقالوا : فأنت يا أبا عبد شمس فقل. وأقم لنا رأيا نقل به. قال : بل أنتم فقولوا أسمع قالوا : نقول كاهن. قال : لا والله ما هو بكاهن. لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن. ولا سجعه. قالوا : نقول مجنون. قال : ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه. فما هو بخنقه ولا وسوسته. قالوا : نقول شاعر. قال : ما هو بشاعر. لقد عرفنا الشعر كله رجزه وقريضه فما هو بالشعر. قالوا : نقول ساحر قال : فما هو بساحر لقد رأينا السحار. فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا : فما نقول. قال : والله ان لقوله لحلاوة. وان أصله لعذق. وان فرعه لمثمر. وأن اقرب القول فيه لأن تقولوا : انه ساحر جاء يفرق بين المرء وابيه. والاخ وأخيه. والمرء وعشيرته. فتفرقوا عنه بذلك. ويرددون هذا القول.

وروى عن النضر ابن الحارث. انه قال لقريش : يا معشر قريش أنه والله قد نزل بكم امر ما أتيتم له بحيلة. قد كان محمد فيكم غلاما حدثا. ارضاكم قيلا. واصدقكم حديثا. واعظمكم امانة. حتى اذا رأيتم في صدغيه الشيب. وجاءكم بما جاءكم به.

قلتم : ساحر لا والله. ما هو بساحر. لقد رأينا السحرة ونفثهم

٥٠٣

وعقدهم. وقلتم كاهن. لا والله ما هو بكاهن. قد رأينا الكهنة وتخالجهم. وسمعنا سجعهم. وقلتم شاعر. لا والله ما هو بشاعر. لقد رأينا الشعر. وسمعنا أصنافه كلها. وقلتم مجنون. لا والله ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون ووسوسته. وتخليطه. يا معشر قريش فانظروا في شأنكم. فانه والله قد نزل بكم أمر عظيم ..)

والمطابقة بين كلام الوليد والنضر. تكاد تكون تامة. وقول عتبة قريب من هذا فما كان قولهم : ساحر أو كاهن. الا اظهارا لعجزهم عن تحديه. وتصلبا في اتباع الهوى وتضليلا للبسطاء. وهي شبهة مفصوحة. والامر أوضح من أن يلتبس عند كل تدبر.

(قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) .. (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) مدلوله نفي الايمان. ونفى التذكر عنهم.

(وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) ومفاد هذا القول. ان محمد ص وآله صادق فيما أبلغهم وانه لو تقول بعض الأقاويل التي لم يوح بها اليه. لأخذه الله فقتله على هذا النحو. وقطع الوتين. وهي حركة عنيفة هائلة مروعة. كما ان وراءها الايماء الى جدية هذا الامر.

(وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) فهذا القرآن المجيد يذكر القلوب التقية لتأخذ حظها من هذه الحياة. ـ التي لا متجر ولا مزرعة ـ لهذا الانسان وسعادته في دار الخلود ـ سواها فاما القلوب التي قد أعمتها الجرائم فهي لا تنتفع بالتذكير ولا يفيدها الا نار الجحيم.

(وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ) وهذا ايضا ينتفع به اولوا الالباب المفتحة. (وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ) وهذا ايضا عبرة وعظة لمن ينفعه ضرب الامثال. (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ) وهو تعبير خاص يضاعف المعنى بالتوكيد.

٥٠٤

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) والتسبيح بما فيه من تنزيه وتمجيد. وبما فيه من اعتراف وتحقيق. وبما فيه من عبودية وخشوع. هو الشعور الذي يخالج القلب بعد هذا التقرير الاخير. وبعد ذلك الاستعراض الطويل لقدرة الله العظيم.

* * *

ـ ٧٠ ـ سورة المعارج آياتها (٤٤) أربع واربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (١) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (٢) مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ (٣) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (٦) وَنَراهُ قَرِيباً (٧) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (٨) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (٩) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠))

البيان : كانت حقيقة الاخرة من الحقائق العسيرة الادراك. عند مشركي العرب. وقد لقيت منهم معارضة عميقة. وكانوا يتلقونها في غاية العجب والدهشة. وينكرونها اشد الانكار. ويتحدون الرسول ص وآله. في صور شتى عن ذلك اليوم الموعود.

روى ان السائل كان النضر بن الحارث. وتقرر ان هذا العذاب واقع. وانه قريب الوقوع. وليس له من دافع (مِنَ اللهِ ذِي الْمَعارِجِ) وهو تعبير عن الرفعة والاستعلاء.

(تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) ويمكن ان يكون يوم القيامة. لموافقته للسياق. والروح هو جبرائيل. واذا كان يوم واحد من ايام الله تعالى (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً) والدعوة الى الصبر الجميل. لانها مبدأ كل خير وسعادة للصابرين الذين لا يتكلمون ولا يفعلون الا

٥٠٥

بعد التحقيق والتمحيص. ولا تثيرهم النوائب والهزاهز. (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً) .. (يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ). المهل هو المعدن الذائب والعهن. هو الصوف المنفوش. ومن الاحداث ان تذوب السماء كما يذوب المعدن. وكذلك الجبال (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً) ان الناس في همّ وغم قد اشغلهم عن كل شيء وعن كل قريب وبعيد مشهد الحشر.

(يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (١١) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (١٢) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (١٣) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (١٤) كَلاَّ إِنَّها لَظى (١٥) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (١٦) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (١٧) وَجَمَعَ فَأَوْعى (١٨) إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (٢٣) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (٢٥) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (٢٦) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٢٧) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (٢٨) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٢٩) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٣٠) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٣١) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٣٢) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (٣٣) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (٣٤) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (٣٥))

البيان : فلقد طلع الهول المروع. وحبس الانفاس على همها لا تتعداه (يبصّرونهم) ولكن لكل منهم همه وكربه. ولكل ضمير شغله. فالكرب يلف الجميع فما بال (المجرم).

ان الهول ليأخذ بحسه. وان الرعب ليذهب بنفسه. وانه ليود لو يفتدى من عذاب يومئذ. بأعز الناس عليه. ممن كان يفتديهم بنفسه في الحياة الدنيا. ويناضل عنهم ويشقى لأجلهم. من زوجة وبنين. وعشيرة وأقارب واصحاب كل ذلك زال عنه.

(كَلَّا إِنَّها لَظى) انه مشهد تطير له النفوس شعاعا. بعدما أذهلها كرب الموقف انها نار تتلظى. وتحرق الداخل والخارج. نزعاة للجلود والوجوه والرؤوس نزعا.

(تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى) تدعوه كما كان يدعى من قبل الى الهدى

٥٠٦

فيول ويدبر. ولكن اليوم اذ تدعوه فالى جهنم الى الحريق والشوي في الجحيم. ولقد كان من قبل مشغولا. بالأهل والاموال. والملاهي والملذات. وقد زال عنه الجميع وبقيت التبعات والعذاب. (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) وصورة الانسان ـ عند خواء قلبه من الايمان ـ انها لصورة عجيبة. فانه يخيفه كل شيء ويؤلمه كل شيء كما يفرحه كل شيء يهواه.

(إِلَّا الْمُصَلِّينَ) والصلاة فوق انها ركن من اركان الاسلام وعلامة الايمان. هي وسيلة الاتصال بين الخالق والمخلوق. وهذا الاتصال ضروري لكل انسان وبدونها يصبح اخس من الحيوانات والديدان. فبهذا الاتصال يضييء قلب الانسان كما يضيء المصباح اذا اتصل بمادة الكهرباء. وبالانقطاع يظلم القلب كما يظلم المصباح اذا انقطعت عنه مادة الكهرباء. والصلاة التي لها هذا الامر هي صلاة المتقين التي تنهي صاحبها عن كل فحشاء ومنكر. ومن ثم كان التصديق بيوم القيامة. شطر الايمان. الذي يقوم عليه منهج الحياة في الاسلام.

(وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) وهذه درجة اخرى وراء مجرد التصديق بيوم الدين. وهي درجة الرقابة التي لا تنقطع. ولا يجوز الاهمال لها طرفة عين. وكان رسول الله ص وآله ـ مع ما هو عليه من العصمة والطاهرة ـ دائما حذرا خائفا من الغفلة (إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ) تحذير من الغفلة وترك المجال للهوى والشهوات في هذه الحياة المليئة بالاخطار والزلقات. فالويل لمن غفل واطلق لنفسه العنان. (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) وهذه تعني الطاهرة للنفس والجماعة. فالاسلام يريد مجتمعا طاهرا نزيها. مجتمعا يقوم على اساس ظاهرة الأسرة. المقيدة باحكام الشرع المقدس. (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) وبذلك يغلق الباب في وجه كل قذارة. جنسية. وشهوة بهيمية. في أية صورة غير هاتين الصورتين الصريحتين.

٥٠٧

(وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) وهذه من القوائم الاخلاقية التي يقيم الاسلام عليها نظام المجتمع ورعاية الامانات والعهود تبدو بان لها شأن عظيم. تبدأ من رعاية الامانة الكبرى التي عرضها الله على السموات والارض فأبين ان يحملنها واشفقن منها وحملها الانسان. وهي امانة العقيدة والامامة لعلي وابنائه المعصومين (ع).

ومن رعاية العهد : العهد الذي اخذه الله ورسوله يوم (غدير خم) في البيعة والامامة والخلافة لعلي (ع) وابنائه المعصومين (ع) في رجوعه من حجة الوداع. على مسمع مائة الف او ما يزيدون. والتي انكرها اهل السقيفة. ولم يحفظوها وسارعوا الى عقدة البيعة ورسول الله ص وآله لم يزل مسجى على فراشه لم يوارى جثمانه.

ومن رعاية العهد : العهد الذي اخذه الله تعالى على عباده في عالم الذرّ والذي فطر الناس عليه. ومن رعاية تلك الامانة وهذا العهد ينبثق رعاية سائر الامانات. والعهود في معاملات الارض. وقد شدد الاسلام في حفظ الامانة والعهد. وكرر واكد ليقيم المجتمع على أسس متينة من الخلق والثقة والطمأنينة. وجعل رعاية الامانة والعهد سمة النفس المؤمنة كما جعل خيانة الامانة واخلاف العهد سمة النفس المنافقة. والكافرة. وقد كرر ذلك في مواقع كثيرة في هذا القرآن المجيد حتى لا يدع مجال للشك او التردد (وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ) وقد ناط الله باداء الشهادة حقوقا كثيرة وحدودا وقد شدد الله تعالى في القيام بالشهادة على واقعها بدون ادنى تقصير او انحراف.

فقال عزوجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (١٣٥)) سورة النساء ـ ١٣٥ ـ

٥٠٨

وهذا القانون الآلهي العادل ـ لشدة عدالته ـ دعا الدول العربية الى تركه وتبديله بقانون يناسب ظلمها وفجورها ـ اما اشتراكي. أو رأسمالي. وهي تدعي الاسلام والله ورسوله والاسلام يبرأون منهم جميعا وهل الدولة الا بقانونها ونظامها فاذا صار قانون الدول اجنبيا. فمعناه ان نفس الدولة صارت أجنبية عن الاسلام. فدعواها مع ذلك الاسلام كذب وبهتان.

ولذا فقد جعل الاسلام الحق المبين حفظ الامانات سمة من سمات المؤمنين فمن خانهما فقد برىء الاسلام منه وخرج عن خطه المستقيم ووجب عقابه وقصاصه بدون تأخير.

(وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ) وهي صفة غير صفة الدوام التي ذكرت في صدر هذه الصفات. فالدوام يشير الى الاستمرار الدائم. والحفاظ يشير الى الالتزام لهذا الدوام في اوقاته الخاصة به. فالصلاة كما يجب استمرار دوامها يجب اداؤها في اوقاتها الخاصة بدون تأخير او تقديم. فلا يشتبه عليك الفرق بين الصفتين وعندئذ يقرر مصير هذا الفريق المتزم بدون تفريط بتطبيق قانون الاسلام الحق المبين.

(أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ) في جنات مكرمون في الدنيا والاخرة. ولذا يشير الى هذا بقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ. أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ) فصلت ي ٣١ فعناية الله تعالى بعباده المطيعين في الدنيا قبل الآخرة. وفي الحياة الاولى قبل الثانية. ولذا يستحيل ان يدنو الخوف او الحاجة لعبد مطيع حقيقة الا عند خروجه عن الاستقامة وعصيانه لخالقه العظيم الكريم. الذي كل من اطاعه واخلص له أصبح من الآمنين.

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (٣٨) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا

٥٠٩

يَعْلَمُونَ (٣٩) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (٤٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٤١) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٤٢) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (٤٣) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (٤٤))

البيان : المهطع هو الذي يسرع الخطي ما ذا عنقه كالمقود. وعزين جمع عزة. كفئة وزنا وفي التعبير تهكم خفي بحركتهم المريبة. وتصوير لهذه الحركة والهيئة التي تتم بها. وتعجّب منهم وتساؤل عن هذا الحال منهم وهم لا يسرعون الخطى تجاه الرسول ليسمعوا ويهتدوا ولكن فقط ليستطلعوا في دهشة ثم يتفرقوا كى يتحلقوا حلقات يتناجون في الكيد والرد على ما يسمعون ثم اهل النفاق يطمعون بما لا يكون

(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ) وهم على هذه الحالة من النفاق والكيد للاسلام وانما تؤدي بهم هذه الحالة الى لظى والجحيم لا الى الجنة والنعيم ورؤساء هؤلاء اهل السقيفة. لعلهم يخدعون انفسهم ويرون ان لهم كرامة عند الله. كلا انما هم كافرون في نفوسهم وأن تظاهروا بالاسلام فالعمدة على النوايا والضمائر (حسب نواياكم ترزقون). وتؤجرون او تعاقبون غدا.

(كلا) في ردع وفي تحقير (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) والتعبير القرآني المبدع يلمسهم هذه اللمسة الحقيقة العميقة في الوقت ذاته. فيمسح بها كبرياءهم مسحا. وينكس بها خيلاءهم تنكيسا. دون لفظة واحدة نابية. او تعبير واحد جارح ـ ثم ها أنا أعبر انهم اشرار هذه الامة ـ.

بينما أن هذه الاشارة العابرة تصور الهوان والسخرية بهم اكمل تصوير. فكيف احدهم يطمع ان يدخل جنة نعيم وقلوبهم لم تدخلها ذرة ايمان او يقين مما جاء به الرسول الامين ص وآله.

(فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) والأمر ليس في حاجة الى قسم

٥١٠

ولكن التلويح بذكر المشارق والمغارب. يوحي بعظمة الخالق الذي خلق هذا الكون ونظمه في ابدع تنظيم وايا كان مدلول المشارق والمغارب. فهو يوحي الى القلب بضخامة هذا الوجود وعظمة من اوجده فهل يحتاج امر اولئك المخلوقين المنافقين الى قسم برب المشارق والمغارب مع نفاقهم وضلالهم المبين.

وعند ما يبلغ السياق في هذا المقطع ـ الى ما ابداه وأوضحه من حال المنافقين وبعد تصوير هول العذاب لهم في الاخرة والهوان في هذه الدنيا الفانية. يرسم مشهدهم فيه وهو مشهد مكروب ذليل. ليدعهم لذلك اليوم ولذلك العذاب ويرسم مشهدهم (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا)

وفي هذا الخطاب من تهوين شأنهم. ومن التهديد لهم. ما يثير الخوف والترقب. وفي مشهدهم وهيئتهم وحركتهم في ذلك اليوم وفي هذه الحياة التي عاشوا فيها في الخوض في الباطل واللهو واللعب. ما يثير الفزع والتخوف ـ لمن يريد ان يتعظ ويعتبر ـ كما ان في التعبير من التهكم والسخرية ما يناسب اعتزاز هؤلاء المنافقين برياستهم التي سلبوها لأهلها الشرعيين آل محمد وسيدهم علي بن أبي طالب (ع). وجعلوا يتلاعبون بأحكام الله تعالى فسوف يعلمون. فهؤلاء الخارجون عن الدين الصحيح. يسرعون الخطى ـ غدا بين يدي رب العالمين ـ كأنهم ذاهبون الى نصب يعبدونه .. وفي هذا التهكم تناسق مع حالهم في الدنيا.

فلقد كانوا يسارعون الى الانصاب في الاعياد ويتجمعون حولها. فها هم اولاء يسارعون اليوم الى الجحيم. الى العذاب الاليم. الى ما كانوا به يوعدون وهم به مكذبون.

ثم تتمم سماتهم بقوله : (خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) فتلمح من

٥١١

خلال الكلمات سيماهم كاملة. وترسم لنا من قسماتهم صورة واضحة صورة ذليلة مخزية. مقابل فرحتهم السابقة. يوم اقبلوا يحملون الحطب لحرق بيت علي بن ابي طالب وفاطمة بنت محمد ص وآله على كل من فيه ، وفيه الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة سبطا رسول الله ص وآله وفيه جميع بني هاشم وفيه خيار صحابة رسول الله ص وآله مثل سلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري. وعمار بن ياسر والمقداد بن الاسود. فكل هؤلاء اراد اهل السقيفة حرقهم بالنار اذا لم يخرج علي (ع) ويبايع سامريهم وعجلهم الذي اتخذوه شعارهم الوحيد.

(ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ) فكانوا يستريبون فيه ويكذبون فقد رأوه وضل عنهم ما كانوا يعبدون. وما لأجله تظاهروا بالاسلام وكادوا المسلمين حتى استحقوا هذا العذاب.

* * *

ـ ٧١ ـ سورة نوح آياتها (٢٨) ثمان وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢) أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (٣) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (٦) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (١٠) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (١٢) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤))

٥١٢

البيان : تبدأ السورة بتقرير مصدر الرسالة والعقيدة وتوكيده (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) فهذا المصدر الذي يتلقى منه الرسل التكليف كما يتلقون حقيقة العقيدة. وهو المصدر الذي صدر منه الوجود كله وصدرت منه الحياة. وهو الذي خلق البشر واودع فطرتهم الاستعداد لأن تعرفه وتعبده. فلما انحرفوا عنها وزاغوا ارسل اليهم رسله. يردونهم اليه ونوح (ع) كان اول هؤلاء الرسل ـ بعد آدم (ع) وآدم لا يذكر القرآن له رسالة بعد مجيئه الى هذه الارض. وممارسته لهذه الحياة. ولعله كان معلما لأبنائه وحفدته.

(أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) الحالة التي كان قوم نوح قد انتهوا اليها. من اعراض واستكبار وعناد وضلال ـ كما تبرز من خلال الحساب الذي قدمه نوح في النهاية ـ تجعل الانذار هو أنسب ما تلخص به رسالته. واول ما يفتتح به الدعوة لقومه.

الانذار بعذاب اليم. في الدنيا أو في الاخرة. أو فيهما جميعا.

(قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) مفصح عن نذارته. مبين عن حجته لا يتمتم ولا يتلعثم في دعوته. ولا يدع لبسا ولا غموضا في حقيقة ما يدعو اليه.

(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) وعلامة الاستجابة للدعوة عبادة الله تعالى وتقواه. وطاعة رسوله (ع) فهي المغفرة والتخليص من الذنوب التي سلفت. ثم بين لهم ان ذلك الاجل المضروب حتمي يجييء في موعده. ولا يؤخر عذاب الدنيا. وذلك لتقرير هذه الحقيقة الاعتقادية الكبرى (إِنَّ أَجَلَ اللهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وراح نوح (ع) يواصل جهوده لهداية قومه. ويحتمل في سبيل هذه الغاية النبيلة ما يحتمل من اعراض واستكبار واستهزاء. الف سنة الا

٥١٣

خمسين عاما. وعدد المستجيبين له لا يكاد يزيد. ودرجة الاعراض والاهراء ترتفع وتزداد. ثم عاد في نهاية المطاف يقدم حسابه لربه الذي كلفه هذا لواجب النبيل. وحمله ذلك العبىء الثقيل.

(قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) هذا ما صنع نوح وهذا ما قال وهو يعرضه على ربه وهو يقدم حسابه الاخر في نهاية الامد الطويل.

(وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) وهي صورة تكشف عن عنادهم الشديد والتعبير يرسم بكلماته صورة العناد الكامل. وفي اثناء ذلك اطمعهم في ملذات الدنيا.

(فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ) وقد ربط بين الاستغفار وهذه الارزاق. وفي القرآن مواضع متكررة فيها هذا الارتباط بين صلاح القلوب واستقامتها على الهدى. وبين تيسير الارزاق وعموم الرخاء.

(ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) الاطوار التي يخاطب بها قوم نوح هي تنقلات النطفة في رحم المرأة عند الحمل. وهذا احد مدلولات الاية.

(قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي) فقد عصوه بعد كل هذا الجهاد. وبعد كل هذا العناء. هؤلاء القادة لم يكتفوا بالضلال والتضليل (وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً) مكرا متناهيا في الكبر.

(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (١٦) وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (١٨) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (٢٠) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (٢١) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (٢٢) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (٢٣) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (٢٤)

٥١٤

مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْصاراً (٢٥) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (٢٨))

البيان : (وَمَكَرُوا مَكْراً) اي متناهيا في الكبر والابطال لاتباع الحق. واغلاق الطريق في وجه الذين يريدون الحق. ومكروا في تزيين الكفر والضلال. ومن جملة مكرهم تحريض الناس على الاستمساك بعبادة الاصنام. (وَقالُوا : لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ) التي تعبد في الجاهلية. (وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) ككل قيادة ضالة تجمع الناس حول الاصنام لغاياتها الخاصة (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالاً) ذلك الدعاء المنبعث من قلب جاهد متألم على قومه.

(أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) والتعقيب بالفاء مقصود هنا. وهذا ما يقتضيه العطف بالفاء للفور. فالترتيب لفور حاصل بين الاغراق ودخول النار (وهي نار البرزخ ـ وجنة البرزخ).

(قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً) فقد الهم قلب نوح (ع) بهذا الدعاء (إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ) وعبادك بمعنى مخلوقاتك. والا فهم يعبدون الشيطان.

(رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ) وهو الادب النبوي في حضرة الخالق العظيم ودعاؤه لوالديه هو برّ لهما وشفقة بالمؤمنين. (وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) وهذا علامة الايمان الصحيح الحب لاؤلياء الله والدعاء لهم. والبغض لاعداء الله والدعاء عليهم بالدمار. بعد ان استمر في دعوتهم للهدى الف سنة الا خمسين عاما. وقد قطع الامل من هدايتهم.

٥١٥

ـ ٧٢ ـ سورة الجنّ وآياتها (٢٨) ثمان وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً (٤) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللهِ كَذِباً (٥) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (٦) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً (٧) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (٨) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (٩) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (١٠))

البيان : هذا الافتتاح يدل على معرفة النبي ص وآله بأمر استماع الجن له. وما كان منهم بعد ان سمعوا القرآن منه. كانت بوحي من الله سبحانه اليه. واخبارا عن امر وقع ولم يعلم به الرسول ص وآله ولكن الله اطلعه عليه. وقد تكون هذه هي المرة الاولى.

(إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) فاول ما بدى لهم منه انه (عجيب) وانه يثير الدهشة في القلوب وهذه صفة القرآن المجيد عند من يتلقاه بحس واع وقلب مفتوح. ومشاعر مرهفة.

(يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) وهذه هي الصفة الثانية البارزة في هذا القرآن والتي احسّها النفر من الجنّ حين وجدوا حقيقتها في قلوبهم وكلمة الرشد في ذاتها تلقى دلالة واسعة المدى. والمعرفة الرشيدة للهدى والحق والصواب هو الادراك الذاتي البصير لهذه الحقائق.

(فَآمَنَّا بِهِ) وهي الاستجابة الطبيعية المستقيمة لسماع القرآن. وادراك طبيعته. يعرضها على المشركين. الذين كانوا يسمعون هذا القرآن ثم لا يؤمنون.

(وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً) فهو الايمان الخالص الصريح الصحيح غير

٥١٦

مشوب بشرك ولا تلبيس. ولا خرافة. الايمان الذي ينبعث من ادراك حقيقة القرآن. وحقيقة التوحيد.

(وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً) والجد : الحظ والنصيب. وهو العظمة والسلطان. وكلها اشعاعات تناسب المقام. وكانت العرب تزعم ان الملائكة بنات الله تعالى.

(وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) وهذه مراجعة من الجن لما كانوا يسمعون من سفهائهم من الشرك بالله عزوجل. وادعاء الصاحبة والولد. والشريك. بعدما تبين لهم من سماع القرآن انه لم يكن حقا ولا صوابا. وان قائليه سفهاء لا يعقلون.

وهذه الانتفاضات من مس الحق. جديرة بان تنبه قلوبا كثيرة مخدوعة من كبراء قريش وزعمهم ان لله شركاء. وان تثير في هذه القلوب الحذر واليقظة. والبعث عن الحقيقة.

(وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ) وهذه اشارة من الجن الى ما كان متعارفا في الجاهلية. من ان للجن سلطانا على الارض وعلى الناس. وان لهم قدرة على النفع والضر. والشيطان على قلوب بني آدم الا من اعتصم بالله تعالى. وانه في نجوة منه. واما من يركن اليه فهو لا ينفعه وعظ ولا تذكير. والقلب البشري حين يلجأ الى غير الله طمعا في نفع ما في هذه الحياة. هنالك المصيبة الكبرى في علاجه من هذا المرض.

ان كل شيء ـ سوى الله ـ وكل احد متقلب غير ثابت. ذاهب غير دائم. فاذا تعلق به قلب بقي يتأرجح ويتقلب تبعا لما تعلق به. وهذا تمام ما ورد عن امير المؤمنين (ع).

(من أخذ دينه من الرجال ردته الرجال. قد يمسي مؤمنا ويصبح

٥١٧

كافرا. ولكن من اخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله ص وآله زالت الجبال ولم يزل) يعني أهل بيته (ع).

(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً) وهذه الوقائع التي حكاها القرآن المجيد. عن الجن من قولهم. توحى بأنهم قبل الاسلام كانوا يسترقون السمع من السماء ومما يدور فيه بين الملائكة عن شؤون الخلائق في الارض مما يكلفون قضاءه تنفيذا لمشيئة الله تعالى. ثم يوحون بما التقطوه لاوليائهم من الكهان والعرافيين ليقوم هؤلاء بفتنة الناس وفق خطة ابليس. على ايدي هؤلاء الكهان والعرافين وحين بزوغ الاسلام حجبوا عن ذلك.

(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (١٢) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (١٣) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (١٤) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (١٥) وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (١٦) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (١٧) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً (١٨) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (١٩) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (٢٠))

البيان : هذا التقرير من الجن بأن منهم صالحين. وغير صالحين مسلمين وقاسطين. يفيد ازدواج طبيعة الجن واستعدادهم للخير والشر كالبشر ـ الا من تمخض للشر منهم. وهو ابليس وقبيله ـ وهذا تقرير ذو أهمية بالغة في تصحيح تصورنا العام عن هذا الخلق فاغلب الناس حتى الدارسين الفاهمين. على اعتقاد ان الجن يمثلون الشر دائما .. وان البشر وحده مزدوجة الطبيعة التي تأهله للخير والشر. وهذا الاعتقاد جهل وغلط.

٥١٨

وهذا القرآن يخبر عن خالق الجن ان منهم صالح وطالح. ومطيع وعاصي. وخير وشرير. (وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ) فهم يعرفون قدرة الله تعالى عليهم في الارض ويعترفون بعجزهم عن الهرب من سلطانه عزوجل. وعدم الافلات من قبضته. والفكاك من سطوته. وهؤلاء الجن هم الذين يعوذ بهم رجال من الانس ويعترفون بعجزهم وقهر الله لهم. ثم يصفون حالهم عند ما سمعوا الهدى (وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ)

(فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً) وهي ثقة المطمئن الى عدل الله والى قدرته. ثم الى طبيعة الايمان وحقيقته. فالله سبحانه عادل ويستحيل ان يعذب او يترك عبده المؤمن المطيع المستسلم لمشيئته وارادته. ولن يرهقه فوق طاقته. فالمؤمن في امان الله وكفالته في كل ما يخشاه ويحتاج اليه. ما زال العبد مطيعا لخالقه.

(وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) واوضح مصاديقهم اهل السقيفة الميشومة. اذن فالجن كالبشر تماما المطيع منهم ينعم في جنات النعيم. والعاص منهم يعذب في نار الجحيم. وليس الامر كما ورد عن ابي حنيفة انه قال : تعجبت من جعفر الصادق فانه يقول ان الله سيعذب ابليس بالنار. وكيف يعذب من كان من النار في النار فهذا قول هراء لا اساس له ولا بنيان. وابو حنيفة قياسه قد ارده واورده المهالك.

(وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً) وهذا مما يربط بين الاستقامة على طاعة الخالق العظيم. وبين اغداق النعم والخيرات من عند الرزاق الكريم. وهذا ما يصدقه قوله عزوجل : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (٧ ـ ٩٥)

وهذا الارتباط بين الاستقامة على الهدى والطاعة. والامن والرخاء

٥١٩

والعيش الرغد هي حقيقة قائمة لا يمكن انثلامها في زمان او مكان (وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).

واذا كانت هناك فئات وامم لا تستقيم على طاعة الله تعالى. ثم توفر عليهم النعم فانها تعذب بآفات أخرى في انسانيتها وأمنها وكرامتها وهذا اعظم بلا من قلة الطعام والمال والجاه.

وهناك شيء آخر وهو انه اذا كان الرخاء يورد اربابه الخلود في النار. فأي رخاء ونعمة بعد هذا البلاء الذي لا يخفف ولا ينتهي ولا يطاق ولذا يقول تعالى (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ. إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) ١٧٨ ي ٣ س

(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) فتارة تحمل المساجد على اماكن العبادة. واخرى تحمل على الاعضاء التي يعتمد المصلي عليها حال السجود لربه. وكلا الامرين جائز وقد يكون.

ومما يروى عن الامام الهادي عاشر أئمة اهل البيت (ع) ان الناس لما اختلفوا في قطع السارق وراجعوه في الامر فقال (ع) تقطع من اصل اصابع اليد. وحين سألوه عن الدليل فتلى عليهم الآية. وقال الاكف مما يعتمد عليها حال السجود فهي لله تعالى فلا يجوز قطعها وتم الامر.)

(وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللهِ يَدْعُوهُ) اي لما قام رسول الله ص وآله يقرأ القرآن تجمع بعض الجن وكاد يركب بعضهم على بعض من شدة الازدحام لسماع قراءة القرآن. وكذا كان الحال من الانصار لما كانوا يسمعون قارىء القرآن من شدة اقبالهم عليه.

(قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً) أي قل يا محمد للناس :انما ادعو ربي. واعبده. وادعوا الى عبادة ربي ولا اشرك معه احدا

٥٢٠