تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

البيان : انها لفتة من اللفتات القرآنية. الموحية للمخاطبين بها غير الغائبين فانها تنفر في الاخلاد حقيقة قد ينساها أكثر الناس. وهي تلاحقهم اينما كانوا.

فهذه الحياة الى انتهاء. والبعد عن الله فيها ينتهي للرجعة اليه. فلا ملجأ منه الا اليه. والحساب والجزاء بعد الرجعة كائنان لا محالة وكل ذلك بيده والى أمره. فلا مهرب قبل وبعد. ولا مفر منه الى سواه (اينما تكونوا فهو معكم) فالويل للغافلين عن هذا الانتقال الذي هو اقرب من كل قريب واخطر من كل خطير ..

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) وصلاة الجمعة هي الصلاة الجامعة التي لا تصح الا جماعة. وهي صلاة اسبوعية. وهي عبادة تنظيمية على طريقة اسلامية. وقد وردت في فضلها احاديث لا تحصى.

(ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) هذا مما يوحي بان الانخلاع من شؤون التجارة. كان يقتضي هذا الترغيب. فلا بد من فترات ينخلع فيها القلب من شواغل الدنيا. وهو في الوقت تعليم دائم للنفوس. حتى يتجرد القلب لذكر خالقه العظيم.

(فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) وهذا هو التوازن بين الدنيا والآخرة. فيقع الانسان في الخسران ان حاد عنه واتبع سواه.

(وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) فاي ربح يعادل الارباح لنيل رضا الله والجنة وكل ما سواهما هباء. ووبال على صاحبه في الدنيا والاخرة فالسعادة مع الله والشقاء مع سواه.

٤٦١

ـ ٦٣ ـ سورة المنافقون آياتها (١١) احدى عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (١) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (٣) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (٥))

البيان : هذه السورة تبدأ بوصف المنافقين في مداورتهم واعلانهم الاسلام. وشهادتهم بأن الرسول حق وحلفهم كذبا. وان اظهار ايمانهم كان وقاية لهم من المسلمين وخدعة. فهم كانوا يشهدون بين يدي رسول الله ص وآله انهم يؤمنون به وبرسالته وذلك بالسنتهم خلاف ما يعتقدون في قلوبهم (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ).

والتعبير في غاية الدقة بصورة تثير الانتباه. فهو يبادر بتثبيت الرسالة قبل تكذيب مقالة المنافقين. ولو لا هذا التحفظ لأوهم ظاهر العبارة خلاف هذا المعنى في موضوع شهادتهم. وانما المقصود تكذيب اقرارهم على صحة ايمانهم بالرسالة.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) وهذا يوحي بأنهم يحلفون كذبا بانهم يؤمنون بالنبي انه رسول من عند الله تعالى. وانما قالوا هذا خشية ان ينكشف نفاقهم علنا. ولذا جعلوا ايمانهم وقاية وجنة يجتمعون وراءها. ليواصلوا كيدهم ودسّهم في صفوف المسلمين (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) وهل شيء أسوأ من الكذب والخداع والتضليل (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) بعد ايمانهم (فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) فهم عرفوا الايمان اولا ثم اختاروا الكفر. وهذا مما يدل انهم تظاهروا اولا بالايمان الشكلي والا يستحيل لعاقل مختار ان يختار الضلال على الهدى. والشقاء على السعادة.

٤٦٢

(وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ) فهم يتظاهرون بمظاهر حسنة ينخدع الجاهلون بمظاهرهم فيحسنون الظن بهم ويسمعون لقولهم المعسول المضلل بطلاوته ونعومته. (قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) فالله مقاتلهم حيثما صرفوا وأينما توجهوا والدعاء من الله تعالى بمدلول هذا الدعاء. وقضاء نافذ لا راد له. ولا معقب عليه وهو بمعنى لعنهم من الله تعالى

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ).

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٦) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (٧) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٩) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١١))

البيان : فهم يفعلون الفعلة ويطلقون القولة. فاذا عرفوا انها بلغت رسول الله ص وآله جبنوا وتخاذلوا وراحوا يقسمون بالايمان يتخذونها جنة. فاذا قال لهم قائل : (تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ) ترفعا واستكبارا. وهذه وتلك سمتان متلازمتان. في النفس المنافقة. وان كان هذا التصرف يجييء عادة ممن لهم مركز في قومهم ومكانة كاهل السقيفة روؤساء المنافقين

ومن ثم يتوجه الخطاب لرسول الله ص وآله. بما قضاه الله في شأنهم على كل حال :

(سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) وهي قولة يتجلّى فيها خبث الطبع. ولؤم التحيز. وهي خطة (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ

٤٦٣

لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) خطة التجويع التي تبدو ان خصوم الحق والايمان يتمسكون بها في حرب العقيدة الحقة. انها خطة قريش وهي تقاطع بني هاشم في الشعب لينفضوا عن نصرة رسول الله ص وآله (وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

وهكذا يثبّت الله المؤمنين ويقوي قلوبهم على مواجهة هذه الخطة اللئيمة. التي يلجأ اعداء الله اليها في حربهم للحق واهله. فالتجويع خطة لا يفكر فيها الا الطغاة. (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ) وقد نزلت هذه الآية في عبد الله بن ابي المنافق. لما كانوا في وقعة أحد. فلما بلغت رسول الله ص وآله ـ الذي يعبر عنه بالأذل هذا المنافق ـ وكان عبد الله بن هذا المنافق مع رسول الله وكان من المؤمنين الاخيار ـ فأرسل اليه وأخبره بما يقول أبوه فقال الابن المؤمن غدا سيعرف القائل من هو الاعزّ ومن هو الأذل. ثم توجه الى المدينة وسبق الناس حتى اذا وصل ابوه واراد الدخول لزمه في جلابيبه. وأقسم برب العزة انه سيسقي الأرض من دمه. اذا لم يعف عنه رسول الله ص وآله وقال له : الآن ستعرف من الأعز ومن الأذل. ولزم والده بيده وشهر سيفه فوق رأسه بيد أخرى. ومنعه من دخول المدينة. فلما بلغ رسول الله ص وآله ذلك. ارسل اليه بتركه وعفى عنه. ولم يتركه حتى جاءه الرسول يأمره بتركه بأمر الرسول ص وآله.

(وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) ويضم الله تعالى رسوله والمؤمنين الى جانبه ويضفي عليهم من عزته وهو تكريم هائل لا يكرمه الا الله تعالى. واي تكريم بعد هذا التكريم الملازم لعزة القوي العظيم. وقد صدق الله تعالى. فجعل العزة صنوا الايمان في قلب المؤمن. العزة المستمدة من عزته تعالى. العزة التي لا تهون ولا تنحني لغير الخلاق العظيم. ولا تزايل القلب المؤمن في أحرج اللحظات الا ان يتضعضع فيه

٤٦٤

الايمان. فاذا استقر الايمان ورسخ. فالعزة معه مستقرة راسخة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) الأموال والأولاد ملهاة. ومشغلة اذا لم يستيقظ القلب ويدرك غاية وجوده (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) فيترك كل شيء وراءه لغيره. انها اللمسات المنوعة. في مكان المناسب لتذكير الانسان دائما ولا يغفل عن ذكر الله تعالى. وهو مصدر الامان. وهكذا يربي الله المسلمين بهذا القرآن المجيد.

* * *

ـ ٦٤ ـ سورة التغابن آياتها (١٨) ثماني عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٥))

البيان : فكل ما في السموات والارض لله عزوجل وهو متوجه اليه بالتسبيح والتحميد وقلب هذا الوجود مؤمن بخالقه العظيم. والله مالك لكل شيء والله محمود بذاته. فاذا وقف الانسان وحده في خضم هذا الوجود الكبير كافر القلب جامد الروح. لا يؤمن بالله ولا يمجده فانه يكون شاذا بارزا بالشذوذ. ويكون منبوذا في موقفه. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ. فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) فعن ارادة الله وعن قدرته صدر هذا الانسان. وأودع فيه امكان الاتجاه الى الكفر او الى الايمان. وترك له الخيار والاختيار في أيهما شاء. وقد ميز الله تعالى هذا الانسان بهذه

٤٦٥

الميزة المزدوجة. من بين خلقه ونيطة به امانة ـ لو عرضت على الجبال لأبت حملها من شدة مسؤوليتها) ـ وحملها الانسان انه كان ظلوما جهولا. وهي امانة الايمان بحكم هذا الاستعداد. وهي امانة ضخمة هائلة. ولكن الله كرّم هذا المخلوق فاودعه القوة على تمييزه الخير من الشر. والربح من الخسران والهدى من الضلال. والسعادة من الشقاء ونعيم الآخر الخالد. على جيف الدنيا النتنة. وترك له الخيار بين هذه الاشياء.

(وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو رقيب على هذا الانسان ومحصي عليه كل حركة وسكون ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها. فالويل لمن أنحرف وتساهل فانه يهوي بالنار ويخسر نعيم الجنان وصحبة الابرار. ويصبح ضجيع حجر وقرين شيطان وذلك هو الخسران المبين.

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ) وهذا النصّ يقرر في شعور المؤمن ان الحق أصيل في كيان هذا الكون. ليس وجوده عبثا وصدفة. بل بناء حكيم خبير.

(وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) صورة تشعر الانسان بالكرامة على الله تعالى. وقد تفضّل عليه بتحسين صورته. فالانسان هو اكمل الاحياء في الارض. كما انه ارقاها في شعوره واستعداده الروحي المجهز بأسرار عجيبة ومن ثم اوكلت اليه خلافة الارض.

(وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) ومصير كل شيء الى خالقه العظيم وهو المحاسب والحاكم والرقيب.

(يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) واستقرار هذه الحقيقة في القلب المؤمن يفيده المعرفة بخالقه ومولاه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فباطن الانسان مكشوف لخالقه كظاهره المكشوف لمخلوقاته. بل علم الله تعالى بالظاهر والباطن اكثر لعجز الناس لذلك. وهذه الآيات الثلاث كافية وحدها

٤٦٦

لتوجد في الانسان الحي شعورا مدركا لرقابة الله في كل حركاته وسكناته خشية من الزلق والانحراف عن مخططه الآلهي المستقيم.

(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ) الخطاب هنا للمشركين الذين لم يزالوا معاندين لهذا الدين الحنيف. ومكذبين لهذا الرسول الصادق الامين. (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) ثم يكشف عن السبب الذي استحقوا به العقاب الشديد.

(ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٦) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٧) فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٨) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٠))

البيان : منذ البدء يسمى مقالة الذين كفروا عن عدم البعث زعما وتحريضا فيقضي بكذبهم من اول لفظة. ثم يوجه لرسول الله ص وآله ان يؤكد لهم حقيقة البعث مع الايمان (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ) فليس شيء منه متروك. والله أعلم بهم وبما يعملون (ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) فهو يعلم ما في السموات والارض ويعلم سرهم وجهرهم (وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) وهو يدعوهم الى الايمان بالله ورسوله والنور الذي معه.

(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) فيا له من تحسر على مافات ولم يعد يمكن رجوعه. فكل مخلوق يتحسّر على مافات ويتمنّى الرجوع ليعمل وينال المنازل العالية التي نالها اهل العمل الصالح. حين غفل عن ذلك اهل الشهوات.

(وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ ..)

٤٦٧

وقبل أن يكمل نداءه اليهم بالايمان يقرر قاعدة من قواعد التصور الأيماني في القدر وفي أثر الايمان بالله في هداية القلب. وفي الجنات التي اعدت للمتقين في النعيم الخالد.

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٢) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٥) فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

البيان : ولعل مناسبة ذكر هذه الحقيقة هنا هي مجرد بيانها في صدد عرض حقيقة الايمان. الذي دعاهم اليه في هذا المقطع. فهو الايمان الذي يرد كل شيء الى الله. ويعتقد ان كل ما يصيب من خير من الله. وما يصيب من شر فهو عقوبة لصاحبه من الله تعالى كجزاء لفساده.

وهي حقيقة لا يكون ايمان بغيرها. فهي اساس جميع المشاعر الايمانية عند مواجهة الحياة بأحداثها خيرها وشرها (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ يَهْدِ قَلْبَهُ).

وقد فسرها بعض بانها الايمان بقدر الله والتسليم لأرادته. والرضى بقضائه. (وَأَطِيعُوا اللهَ. وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) وقد عرض عليهم من قبل مصير الذين تولوا وكذبوا الرسل السابقة. وهنا يقرر لهم ان الرسول مبلغ. فاذا بلغ فقد أدى الامانة. وقام بواجبه. واقام الحجة البالغة.

(اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وهذه هي حقيقة التوحيد وهي اساس التصور

٤٦٨

الايماني كله. وعلى مقتضاها يكون التوكل المطلق والتسليم لكل ما يختاره الله لعباده من سراء وضراء.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) وقد ورد ذلك وشاهدنا نحن في عصرنا ان أناسا قد أخرجهم ازواجهم واولادهم من الأيمان الى الكفر ومن اليقين الى الشك واناسا لأجل حبهم لأزواجهم واولادهم تعدوا حدود الله وخالفوا الحق والعدل.

(إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) قد يكونون مشغلة وملهاة عن ذكر الله كما أنهم قد يكونون دافعا للتقصير في تبعات الايمان. وهذا هو المحك والاختبار للاخيار من الأشرار.

والله تعالى يخبرهم لأجل الحذر من الأنحراف عن جادة الحق والعدل لأجل الاولاد وقد يكون حب المال يمنع صاحبه عن أخراج الحق منه أو أخذه من غير حلّه.

(فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) وفي هذا القيد (مَا اسْتَطَعْتُمْ) يتجلى لطف الله بعباده (وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ) فهم ينفقون لأنفسهم. وهو يأمرهم ان ينفقوا الخير لأنفسهم وهذا هو الفارق بين الايمان والكفر ان المؤمن يعتقد انما ينفقه مخلوف عليه ومدّخر له.

(وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) وما اكرم منّه الله على عباده حيث يجعل ما ينفقونه لأنفسهم قرضا عليه قد يوفيهم اضعاف ما انفقوا في دار الدنيا ثم يثيبهم عليه في دار الخلود.

(إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) هنا الكرم والنعم والفضل من الخالق العظيم.

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) فكل شيء لديه مكشوف ومحصى بدون ادنى تفريط كل في كتاب حفيظ ويكفي ان يستقر هذا التصور في القلوب فيملؤها نورا ويقينا وطمأنينة والعاقبة للمتقين.

٤٦٩

ـ ٦٥ ـ سورة الطلاق آياتها (١١) احدى عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (١) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (٤) ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (٥))

البيان : هذه هي أول مرحلة. وهذا هو أول حكم يوجه الخطاب به الى النبي ص وآله :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ) ثم يظهر أن الحكم خاص بالمسلمين لا بشخصه (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ..). وهذه اول محاولة لرأب الصدع في بناء الاسرة. ومحاولة دفع العول عن ذلك البناء.

(وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) كي لا يكون فى عدم احصائها اطالة للامد على المطلقة. ومضادة لها.

(وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ) وهذا أول تنبيه ـ بعد وهلة النداء الاول ـ وأول تحذير من الله عزوجل. وتقديم تقواه. قبل الامر وبعدم اخراجهن من بيوتهن.

(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) وهذا هو التحذير الثاني. فالحارس لهذا الحكم هو الخلاق العليم.

(لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وهي لمسة موحية مؤثرة ، فمن اذا الذي يعلم غيب الله الا هو. وقد تتغير الاحوال ويرجع ويلتئم

٤٧٠

شمل الاسرة التي يحب الله تعالى التئامها.

(فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ) وهذه هي المرحلة الثانية وهذا هو حكمها وبلوغ الاجل آخر فترة العد. وللزوج الرجوع مالم تنتهي بدون أدنى معارض له فهي زوجته مادامت العدة.

(وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ) فالقضية قضية الله. والشهادة فيها لله. هو يأمر بها وهو يراقب استقامتها. وهو يجزي عليها. والتعامل فيها معه.

(ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ) والمخاطبون بهذه الاحكام هم المؤمنون. فهو يقول لهم : انه يعظهم بما هو صلاح لهم وحفظ لكيانهم. فاذا صدقوا الايمان به. التزموا باحكامه.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) مخرجا من الضيق الى السعة. ومن البلاء الى العافية. ومن الخوف الى الامان.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) فمجال الكيد في هذه العلاقة واسع ومسالكه كثيرة. وقد تؤدي محاولة اتقاء الكيد الى الكيد فهنا ايحاء بترك هذه المحاولة. والتوكل على الله. وهو كاف لمن يتوكل عليه فالله بالغ أمره. فما قدر يقع لا محالة. وما شاء لابد أن يكون.

(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) فكل شيء مقدر بمقداره. وبزمانه وبمكانه. وليس هناك شيء يأتي صدفة أو عبثا أو جزافا. في كل هذا الكون وفي نفس الانسان وحياته.

(وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ) وهذا تحديد لمدة العدة لغير ذوات الحيض والحمل.

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً) وليس في الامر الا غاية ما يرجوه كل انسان. وانها لنعمة كبرى أن يجعل الله الامور ميسرة لعبد من

٤٧١

عباده. فلا عنت ولا مشقة ولا عسر ولا ضيقة. ولا حرج. يأخذ الامور في يسر ورخاء وسهولة (ذلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ).

(وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً) فالاولى تيسير للامور. والثانية تكفير للسيئات. واعظام للاجر. فهو الفيض الرباني. وهو حكم لكل مخلوق أراد رضا الله تعالى. وهذا ما يغمر القلب بالشعور بالله وفضله العميم. وباب اليسر والغفران مفتوح لا يغلق.

(أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (٦) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠))

البيان : وهذا هو البيان الاخير لتفصيل مسألة الاقامة في البيوت. والانفاق في فترة العدة ـ على اختلاف مدتها. فالمأمور به هو أن يسكنوهن مما يجدون هم من سكنى. لا أقل مما هم عليه في سكناهم. وما يستطيعونه حسب مقدرتهم. غير عامدين الى مضارتهم.

(سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) فالأمر منوط بالله في الفرج بعد الضيق.

(وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) وهذا انذار طويل وتحذير مفصّل. كما انه تذكير عميق بنعمة الله بالايمان والنور. ووعده بالاجر في الاخرة وهو أحسن العطاء. فأخذ الله لمن يعتو عن أمره ولا يؤمن برسله ولم يتبعهم فيعذبه (عَذاباً نُكْراً).

٤٧٢

(رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (١٢))

البيان : هنا لفتة مبدعة عميقة صادقة ذات دلائل منوعة. وهي أن هذا الذكر. الذي جاء من عند الله تعالى. وصل اليهم من خلال شخصية الرسول الصادق. حتى كأن الذكر نفذ اليهم مباشرة بذاته. لم تحجب شخصية الرسول ص وآله شيئا من حقيقته.

والوجه الثاني لايحاء النص هو أن شخصية الرسول ص وآله قد استحالت ذكرا. فهي صورة مجسمة لهذا الذكر. صنعت به فصارت هو. وهو ترجمة حية لحقيقة القرآن. وكذلك كان رسول الله ص وآله. وهكذا وصفه الواصفون. (كان خلقه القرآن). (قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً) وهو الرزاق في الدنيا والاخرة. وهكذا يلمس نقطة الرزق. (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ) السموات السبع لا علم لنا بحقيقة مدلولها وأبعادها. وكذلك الاراضي السبع. فعلينا التسليم بصحة كلما ورد في القرآن المجيد.

* * *

٤٧٣

ـ ٦٦ ـ سورة التحريم آياتها (١٢) اثنتا عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١) قَدْ فَرَضَ اللهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (٥))

البيان : تبدأ السورة بهذا العتاب من الله سبحانه لرسوله ص وآله (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) وهو عتاب مؤثر (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً).

ومن النص نطلع على نموذج من تلك الفترة العجيبة في تاريخ البشرية. ونعلم أن الله قد أطلع نبيه على ما دار بين زوجتيه عائشة وحفصة بشأن ذلك الحديث الذي أسره الى بعض أزواجه وهي حفصة وانه ص وآله حين راجعها فيه اكتفى بالاشارة الى جانب منه. ترفعا عن السرد الطويل. وتجملا عن الاطالة في التفصيل. وانه انبأها بمصدر علمه وهو المصدر الاول الذي لا تخفى عليه خافية.

(قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) والاشارة الى العلم والخبر هنا اشارة مؤثرة في حالة التآمر والمكيدات المحبوكة وراء الاستار ترد السائلة الى هذه الحقيقة التي ربما نسيتها او غفلت عنها وترد القلوب بصفة عامة الى هذه الحقيقة. كلما قرأت هذا القرآن.

وقد روى ان النبي ص وآله أخبر حفصة بنت عمر بن الخطاب بخبر وقال لها ان انت اخبرت به فعليك لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. فقالت نعم ما هو. فقال لها : ان ابا بكر يلي الخلافة بعدي. ثم بعده أبوك. فقالت من أنبأك هذا قال نبأني الخبير العليم. فأخبرت

٤٧٤

حفصة به عائشة من يومها. وأخبرت عائشة اباها ابابكر. واخبر ابو بكر عمر بن الخطاب بذلك. فاجتمع اربعة مع الرجلين على أن يدسّوا السم لرسول الله ص وآله. فنزل جبرائيل واخبره بذلك ...

(إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما). ومن هذه الحملة الضخمة الهائلة ندرك عمق الحادث وأثره في قلب رسول الله ص وآله. حتى احتاج الامر الى اعلان موالاة الله وجبريل وصالح المؤمنين ـ يعني علي بن ابي طالب (ع) ـ والملائكة بعد ذلك. ليطيب خاطر الرسول ص وآله ويحسّ بالطمأنينة والراحة من ذلك الامر الخطير الذي دبره الرجلان مع ابنتيهما وسيعلم اللذين ظلموا اي منقلب ينقلبون.

وكذلك دلالة الاية التالية. وتفصيل صفات النساء اللاتي يمكن أن يبدل الله النبي ص وآله بهن عن عائشة وحفصة لو طلقهما. مع توجيه الخطاب للجميع في معرض التهديد.

(عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ .. أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ) وهي الصفات التي يدعوهن اليها عن طريق الايحاء والتلميح. يعني هكذا ينبغي أن تكون المؤمنات الصالحات متكاملة الصفات.

(ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) لان نساء النبي ص وآله كان فيهن الثيبات. والابكار. وهو تهديد يدلهن لابد كان له ما يقتضيه من تأثير مكايداتهن في قلب رسول الله ص وآله وشدة غضبه منهما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا

٤٧٥

نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (١٢))

البيان : ان تبعة المؤمن في نفسه وفي أهله تبعة ثقيلة رهيبة. فالنار هناك وهو متعرض لها هو وأهله. وعليه ان يحول دون نفسه وأهله دون هذه النار التي تنتظر هناك. انها نار فظيعة مستعرة (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) الناس فيها والحجارة سواء. وهذا الانسان الكريم على ربه العظيم عند خالقه الذي خلق الكون وما فيه لاجله. وخلق الجنة وما فيها لاجله. اذا هو طغى على ربه واستكبر على خالقه. أصبح كالحجارة بدون أدنى قيمة بل في صورة عصيانه واجرامه قد خلق له سجنا من نار من دخله لا يخرج منه ابدا.

وما أفظعها من النار. انها توقد من الناس والاحجار. وما أشده عذابا هذا الذي يجمع الى شدة الفزع. المهانة والحقارة. وكل ما يلابسها فظيع (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ).

(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) فمن خصائصهم طاعة الله فيما يأمرهم. ومن خصائصهم القوة الهائلة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ) فليس اليوم يوم اعتذار. انما هو يوم الجزاء على ما كان من عمل. وقد علمتم ما تجزون عليه بهذه النار ـ نار موقدة تتطلع على الافئدة ـ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) هذا هو مبدأ

٤٧٦

الطريق للرجوع الى الله عزوجل التوبة النصوح. توبة قوامها شروط أربعة (الندم على ما مضى. والعزم على عدم العود الى عصيان الله ابدا. واعطاء المخلوقين حقوقهم بدون تفريط. وقضاء مافات من الواجبات). فاذا حصلت هذه الشروط الاربعة بدأ الانسان ببناء جديد. ويغفر الله له كل ما سلف من خطيئة.

(يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) انه لاغراء مطمع. وتكريم عظيم للتائبين. فقد ضم الله المؤمنين مع أشرف خلقه وسيد رسله محمد النبي ص وآله. ثم يجعل لهم نورا (يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) نورا يعرفون به في ذلك اليوم المظلم العصيب الرهيب. وهم في رهبة الموقف يلهمون الدعاء (رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا) هو علامة الاستجابة والقبول. ان المؤمن مكلف بهداية أهله كنفسه واصلاح بيته. فأهل البيت مع رب العائلة كالجسم مع أطرافه. فيستحيل أن يسلم الجسم اذا انعطب بعض أطرافه وكذلك الانسان مع أهل بيته.

ان الاسلام دين الاسرة. ومن ثم يقرر تبعة المؤمن في اسرته وواجبه في بيته. والبيت المسلم هو نواة الجماعة المسلمة. وهو الخلية التي يتألف منها ومن الخلايا الاخرى ذلك الجسم الحي في المجتمع.

ولابد من الأمّ المسلمة. فالاب المسلم وحده لا يكفي لتأمين القلعة فالمسؤولية عليهما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً) هذا أمر ينبغي أن يدركه الدعاة الى الاسلام وان يدركه كل عاقل يؤمن بيوم الحساب. ان أول الجهد ينبغي أن يوجه الى البيت الى الزوجة الى الام. ثم الى الاولاد. ثم الى بقية من استطاع هدايتهم وارشادهم.

٤٧٧

(كلكم راع وكلكم مسؤل) وينبغي لمن يريد بناء بيت مسلم ان يبحث له أولا عن زوجة مسلمة. والا فسيتأخّر طويلا ويكون بنيانه على رماد. يستحيل استقامته.

نحن الان نعيش في جاهلية. جاهلية مجتمع. وجاهلية اخلاق. وجاهلية تقاليد. وجاهلية نظم وآداب وثقافة هو جاء معاكسة لجميع الحقائق وأهمها اختلاط الجنسين وتبرج النساء بشكل لم تصل اليه الجاهلية الاولى. بل حتى وحوش الغاب.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ). انها لفتة لها مغزاها وقيمتها بعدما تقدم من أمر المؤمنين. بوقاية أنفسهم وأهليهم من النار وبالتوبة النصوح التي تكفّر عنهم السيئات. وتدخلهم الجنة والنعيم الخالد. لفتة لها معناها وقيمتها بعد الوقاية حماية المحضن الذي تتم فيه الوقاية من النار. فلا تترك هذه العناصر الفاسدة.

وتجمع الاية الكفار والمنافقين في صف واحد. ووجوب جهادهما معا. لان كلا منهما يؤدي دوره في التضليل والفساد. فجهادهما هو الجهاد الواقي من النار. وجزاؤهم هو الغلظة. والشدة. من الله ورسوله والمؤمنين (وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ).

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) المأثور في تفسير خيانة امرأة نوح وامرأة لوط (ع). انها كانت خيانة في الدعوة والعقيدة. وليست خيانة فاحشة معاذ الله ذلك لان نساء الانبياء يستحيل لهن ذلك لانه يرجع شينه على النبي المحروس شينه من خالقه.

ولا يعنينا التحقيق عن امرأة فرعون لانه مدح القرآن لهما كاف في عظمتها وقداستها عند خالقها.

(ومريم بنت عمران) أيضا أمرها ظاهر فيما اختارها الله تعالى لحمل نبي

٤٧٨

من أولي العزم له عظمته وقدسيته. وأفرادها بالذكر مع امرأة فرعون مما يدل على علو مكانتها وهما نموذج أهل الايمان.

* * *

ـ ٦٧ ـ سورة الملك (٣١) احدى وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (٢) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (٤) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (٥))

البيان : هذه النسخة من التسبيح في مطلع السورة توحي بزيادة هذه البركة من الله تعالى ومضاعفتها. وتمجيد هذه البركة الربانية الفائضة. وذكر الملك بجوارها يوحي بفيض هذه البركة على هذا الملك. وتمجيدها في الكون بعد تمجيدها في جنات الذات الالهية. وهي تنطلق من النطق الالهي في كتابه المجيد. من كتاب الكون من كتاب مكنون لا يمسّه الا المطهرون.

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) فهو المالك المهيمن عليه. القابض على ناصيته المتصرف فيه وهي حقيقة حين تستقر في الضمير تحدد له الوجهة والمصير. وتوحدها في الواحد القهار.

(وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه شيء ولا يفوته شيء ولا يخفى عليه شيء وهو العزيز الحكيم.

(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فمن آثار

٤٧٩

تمكنه المطلق من الملك وآثار قدرته وارادته. انه خلق الموت والحياة. حيث لا محيص من ذلك لكل موجود وجد.

والحياة تشمل الاولى والاخرة. وكلها من خلق الله كما تقرر هذه الاية. الحقيقة في التصور الانساني. وتثير الى جانبها اليقظة لما وراءها من قصد وابتلاء. وليست المسألة مصادفة. بلا تدبير وتصميم. انما هو الابتلاء لاظهار المكنون في علم الله تعالى من سلوك هذا الانسان على هذه الارض. واستحقاقه للكرامة والنعيم. او للاهانة والجحيم.

(لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) واستقرار هذه الحقيقة في الضمير يدعه أبدا يقظا حذرا. لا يدع للغفلة واللهو اليه سبيلا. كذلك لا يدعه يطمئن او يستريح لتحتوشه الفتورة والكسل.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) وهنا يسكب الطمأنينة بالقلب وينعشه بلمساته البلسمية.

ان الله تعالى في الحقيقة التي يصورها الاسلام لتستقر في القلوب. وتستيقظ لغاية وجود هذا الانسان الذي أوجده خالقه العظيم. ليتكامل حتى يصبح عظيما في قوته وارادته وطهارته : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً). وكل ما في هذه الآيات آثار لمدلول الاية الاولى. ومظاهر للهيمنة المتصرفة في هذا الكون وما حواه.

والسموات السبع التي تشير اليها الاية لا يمكن الحزم بمدلولها من النظريات التي يقولها بعض البشر لان الانسان لم يزل ينتقل من رأي الى رأي ومن قول الى قول وشأنه التغيير والتبديل في نظرياته وكم من قول تبين خطأه لمن قاله او لغيره بعده. فلا يعوّل على ما قيل في المقام لعدم ثبوت القطع في صحته. والقرآن المجيد يوجه النظر الى خلق الله في

٤٨٠