تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

لأجل الدنيا. والاول عميق الثقة. وقدره اعظم من الثاني حتى مع صحة عقيدته.

(وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى) ومرد ذلك التفاوت الى ما يعلمه الله عزوجل من النوايا.

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١١) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (١٣) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللهِ وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (١٤) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٥))

البيان : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) انه هتاف موح مؤثر في القلوب الحية والخالق العظيم الغني القدير ينادي عباده الفقراء الضعفاء. المحاويج اليه عز شأنه ـ في كل حركة وسكون ـ (من يقرض الله) ومجرد ان يتصور القلب المفتوح انه هو الفقير الضئيل وخالقه يدعوه ليقرضه حتى يضاعف له اضعافا كثيرة. كفيل بان يطير به الى البذل طيرانا. ان الناس ليتسابقون عادة الى اقراض الفقير مقابل ربا قليل. فكيف اذا كانوا يقرضون غنيا لا يفتقر ولا يحدّ غناه. وجوادا لا يقدر جوده وعطاه. بدون قرض.

(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) انه النور الذي اخرجه الله اليه وبه من الظلمات. والذي اشرق في ارواحهم وجباههم مكان سجودهم لخالقهم حال الصلاة.

٤٢١

(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) فالمؤمنون والمؤمنات يشع ذلك النور من وجوههم والمنافقون والمنافقات لم يزالوا في ظلام دامس. لا يرى بعضهم بعضا من شدة الظلام. وينادون المؤمنين لينظروا اليهم ليقتبسوا من نورهم.

ولكن المؤمنين يجيبونهم بان ارجعوا الى دنياكم واعملوا صالحا حتى تنير وجوهكم ولكن هيهات وانى للرجوع من سبيل وقد فات ما فات. ولم يعد أمل بالرجوع أبدا.

(ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) ويبدو ان هذا من باب التهكم بهم والسخرية بهم.

(فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ. وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ) ويبدو انه سور يمنع الرؤية. ولكنه لا يمنع الصوت. ولذا نرى المنافقين يردون على المؤمنين : (أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ) فما بالنا نفترق عنكم وكنا نعيش سوية في الدنيا ، في زمن واحد.

(وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) أي صرفتموها عن الهدى وتركتم طاعة خالقكم (وارتبتم) أي لم يكن ايمانكم ثابت. بل كنتم تعيشون بالشكوك والارتياب (وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) حتى جاءكم الموت الذي يحول بينكم وبين كل خبر (وَغَرَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) وهو الهوى والشيطان.

(فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ). (وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وهذا مما يظهر أن الخطاب كان في هذا الحوار مع من كان يدعي الاسلام. ولكن مع خراب العمل لا ينفع معه شيء.

(مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ) وننظر من ناحية التناسق الفني في عرض المشهد فنجد لاختيار مشهد النور في هذا الموضع بالذات حكمة خاصة. والحديث عن المنافقين. وكونهم في ظلام لنفاقهم. وبان النور

٤٢٢

بين يدي المؤمنين لايمانهم وطاعتهم لخالقهم بانه مشهد يهز القلوب الحية المفتوحة. بل أي قلب يتصور ذلك العرض الهائل والفارق بين أن يشع النور بين أيديهم وبين من هم في ظلام حالك لا يبصرون شيئا فكيف يرضى الفاهم لنفسه بالنفاق دون الايمان. وبالظلام دون النور الوهاج.

انه القرآن المجيد الذي يعالج القلوب ويوقظها بلطف وثبات لتنهض من رقدتها وتنتبه من غفلها وتسعى لسعادتها في الدنيا والاخرة ، وذلك هو الفوز العظيم.

(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (١٦) اعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (١٧) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (١٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٩) اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (٢٠))

البيان : انه عتاب مؤثر من المولى العظيم الى عبده الضعيف المنحرف عن عدله. انه عتاب لارباب تلك القلوب التي ينبغي أن تكون دائما مستسلمة لأمر خالقها المحسن اليها المنعم عليها بما لا يحصى من جوده وكرمه. انه عتاب وتحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ حين يمتد بها الزمن بدون جلاء. وحين تغفل عن ذكر خالقها العظيم.

٤٢٣

(وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ. وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ) انها قساوة القلب الغافل عن ذكر ربه. وليس وراء قسوة القلوب الا الفسوق والطغيان. ان هذا القلب البشري سريع النسيان. وقد خلقه الله تعالى ليشرق ويفيض بالنور. ولكن اذا طال عليه الامد بلا تذكير تبلد وقسى وانطمست اشراقته. وأظلم وأعتم. وقد يصل به البلاء الى العمى والموت نهائيا.

فلابد من تذكير هذا القلب دائما حتى ينتعش ويخشع لذكر الله. ولابد من اليقظة الدائمة.

(واعلموا ان الله يحيي الارض بعد موتها) وفي هذا القرآن ما يحيي القلوب. كما تحيا الارض بالماء.

(قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) لعلكم تنتفعون بها وتسعدوا بتطبيقها في الدارين.

(ان (الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ)) فالتصدق هو عبارة عن قرض لله. والوفاء منه أضعاف مضاعفة. فأي حافز للبذل والتجارة أوقع وأعمق في القلوب المؤمنة وأعظم منه للارباح.

(والذين آمنوا بالله ورسوله اولئك هم الصديقون) فالتصدق في سبيل الله يصعد صاحبه أرقى الدرجات.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) فمن ذا الذي لديه أدنى فهم او رشاد فيترك الكرامة والنعيم الخالد. ويختار ان ينخدع بلذائذ هذه الحياة. ثم يكون من أصحاب الجحيم.

(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ) وهذه الحياة حين تقاس بمقاييسها. وتوزن بموازينها تبدو في العين وفي الحس أمرا عظيما هائلا ـ كما تتراءى للنائم احلامه ـ ولكنها حين تقاس بمقاييس

٤٢٤

الوجود. وتوزن بموازين العقل والنعيم الخالد في الاخرة. تبدو شيئا زهيدا تافها. وهي في هذا التصوير تبدو لعبة أطفال بالقياس الى ما في جنات النعيم ودار الخلود التي لا تزول.

فالحياة الدنيا معظمها ، لهو ولعب وزينة وهمية. (كمثل زرع أعجب أصحابه. ثم صار حطاما). فأما الاخرة. فلها شأن غير هذا الشأن. لها شأن يستحق ان يحسب حسابه. ويرغب في دوامه.

(وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) فما لهذا المتاع حقيقة ذاتية انه متاع خداع مكار. يخدع ارباب القلوب المطموسة. واتباع الهوى المردى. وعباد الشهوات الحيوانية لا غير. ويبدو ذلك عيانا حين يتعمق القلب في طلب الحقيقة. والعزم على اتباعها ولو بمفرده فقط.

(سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (٢٢) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (٢٣) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٢٤) لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢٥))

البيان : فليس السباق الى احراز اللهو واللعب والتفاخر. انما السباق لمن استحقروا هذه الاشياء. واستقذروها. ولم ينخدعوا بزخارفها وغرورها. وتسابقوا الى نيل المعالي والفضائل. وتسابقوا الى ذلك الافق الرفيع والقصور الشاهقة والنعيم الخالد والمناصب السامية في جنات النعيم في مقعد صدق عند مليك مقتدر لا مثيل لها ولا زوال.

٤٢٥

(ذلِكَ فَضْلُ اللهِ ..) ذاك الثراء. والفخار. ذاك المعالي والكمال ، الذي يجب أن يتسابق على نيله الاحرار. وأرباب العقول الرزينة. والقلوب النيرة (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ).

وذلك الفضل مبذول لكل طالب وراغب يستحيل أن يقف في وجه طالبه واقف. الا ما يصدر من نفسه الامارة واتباع الهوى. والانقياد الى شهواته الحيوانية لا غير.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) وفضل الله لا محجوز ولا محجوز. فهو مبذول لكل من عمل لله وأحرز رضاه. وفي هذا فليتسابق المتسابقون ولله خزائن السموات والارض وهو الجواد الكريم.

ومن ثم يبقى صاحب العقيدة في افق الحقيقة الكبيرة مستعليا على واقع الارض الصغير. وفي القيم الايمانية الثابتة التي لا تهتز لخلل يقع في موازين الحياة الدنيا الصغيرة الخادعة. وتلك وظيفة الايمان في حياة أصحاب العقائد المختارين لتعديل قيم الحياة وموازينها. لا للتعامل بها والخضوع لمقتضياتها ...

(ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) وقيمة هذه الحقيقة التي لا يتصور العقل غيرها حين يتصور حقيقة الوجود الكبرى قيمتها في النفس البشرية ان تسكب فيها السكون والطمأنينة عند الضراء. ولا تفرح الفرح الذي تستطار به وتفقد الاتزان عند السراء.

(لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) ان الانسان يجزع ويستطار وتستخفه الاحداث حين ينفصل عن هذا الوجود. ويتعامل مع الاحداث كأنها شيء عارض يصادم وجوده. اما حين يستقر في تصوره وشعوره انه هو والاحداث التي تمر به بغيره والارض كلها.

٤٢٦

(وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) فمن ينفق فانما ينفق لنفسه. ومن يستجب فانما يستجيب لمصلحته. والله هو الغني. فما به من حاجة الى العباد الفقراء اليه حتى في قيامهم وقعودهم.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ) فالرسالة واحدة في جوهرها. جاء بها الرسل ومعهم البينات على صدقها وصحتها. ومعظمهم جاء بالمعجزات الخوارق (وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ). هذا الميزان الذي أنزله الله في الرسالة هو الضمان الوحيد للبشرية من العواصف والزلازل.

اذن فلا بد من ميزان ثابت يثوب اليه من البشر. فيجدون عنده الحق والعدل والنصفة بلا محاباة. (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) فبغير هذا الميزان الالهي الثابت في منهج الله وشريعته. لا يهتدي الناس الى عدله أبدا وان اهتدوا اليه لم يثبت في أيديهم ميزانه.

(وأنزلنا من (الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) كلاهما يشير الى ارادة الله وتقديره في خلق الاشياء والاحداث. فهي منزلة بقدره وتقديره. فوق ما فيه هنا من تناسق مع جو الاية.

أنزل الله الحديد (فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) وهو قوة في الحرب والسلم.(وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ). وتكاد حضارة البشر القائمة الان تقوم على الحديد.(وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ). وهي اشارة الى الجهاد بالسلاح تجيء في موضعها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٦) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٢٧) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ

٤٢٧

رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩))

البيان : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) فهي شجرة واحدة باسقة. متشابكة الفروع. فيها النبوة والكتاب ممتدة من فجر البشرية منذ نوح (ع) حتى اذا انتهت الى ابراهيم (ع) تفرعت وامتدت :

(ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا. وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي من ذرية نوح وابراهيم. ويظهر من النص ان هذه الرهبانية التي عرفها تاريخ المسيحية. كانت اختيارا من بعض اتباع عيسى (ع) ابتدعوها من عند أنفسهم ـ ابتدعوها يقصدون بها التقرب الى الله. وهي تبعدهم عن الله.

(فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) والله لا يأخذ الناس بالمظاهر والاشكال. انما يأخذهم بالعمل والنوايا. ويحاسبهم على ما أمرهم به ونهاهم عنه. وهو الذي يعلم خبايا القلوب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) فيه لمسة خاصة لقلوبهم. واستجاشة للصلة التي تربطهم بربهم الذي يناديهم هذا النداء الكريم. وباسم هذه الصلة يدعوهم الى تقوى الله والايمان برسوله. (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) أي يعطيهم نصيبين من رحمته. وهو تعبير عجيب ...

(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) وهي هبة الدنيا يودعها الله القلوب التي تستشعر تقواه وتؤمن حق الايمان برسوله. هبة تنير تلك القلوب فتشرق. وترى الحقيقة من وراء الحجب والحواجز. فلا تتخبط. ولا تلتوي بها الطريق.

(وَيَغْفِرْ لَكُمْ. وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فالانسان انسان مهما وهب

٤٢٨

من النور. انسان قد يقصر انسان يحتاج الى المغفرة والرحمة من خالقه الكريم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ) لتنالوا كفلين من رحمته. ويكون لكم ذلك النور تمشون به وتدرككم رحمة الله بالمغفرة.

(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ) لقد كان أهل الكتاب يزعمون انهم شعب الله المختار. وانهم أبناء الله وأحباؤه. (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا). فالله ينكر عليهم هذا الادعاء الكاذب. ويدعوهم الى الايمان به وبرسوله ص وآله ويخبرهم انهم لا يستحقون شيئا من فضل الله ورحمته. اذا لم يؤمنوا به وبرسوله محمد ص وآله.

(وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) انها دعوة فيها تحضيض واستجاشة وابطال ما ادعوه. ومع الهتاف المكرر فيها لهذه القلوب كي تحقق الايمان الصحيح يدعوهم خالقهم العظيم ويحذرهم من العناد والتعصب الممقوت. الذي تمسّك به الامم السابقة فأوردهم الدمار والهلاك في هذه الحياة. وانتهى بهم الى عذاب النار وبئس المصير الدائم.

* * *

ـ ٥٨ ـ سورة المجادلة آياتها (٢١) احدى وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (١) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٢) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٣) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ

٤٢٩

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (٥))

كان الرجل في الجاهلية يغضب لأمر عن امرأته فيقول لها : انت علي كظهر أمي. فتحرم عليه ولا تطلق منه. وتبقى هكذا لا هي حل له فتقوم بينهما الصلات الزوجية. ولا هي خالصة منه فتختار طريقا يناسبها وكان هذا طرفا من العنت والظلم الذي تبتلي به نساء الجاهلية. فلما جاء الاسلام وقعت هذه الحادثة التي تشير اليها الايات. فنزل قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) وجاء القرار الالهي لهذه القضية :

(الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ) فهو علاج للقضية من جهة واستنكارها من جهة اخرى فعقاب من يفعل ذلك عقوبة وتأديبا له (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا).

(ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) مع انهم مؤمنون. ومعنى ذلك ان العصيان يخرج المؤمن من الايمان الحقيقي حتى يرجع ويتوب واذا مات على غير توبة مات على غير دين الاسلام.

(وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ) اقامها ليقف الناس عندها لا يتعدونها. والله تعالى يغضب على كل من تعد حدوده وخالف شريعته ويجعله من الكافرين المستحقين للعذاب الاليم.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ) فقد ربط التعدي لحدود الله بالكفر والعذاب الأليم.

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) قد ذكر المحادة بمناسبة ذكره قبلها لحدود الله. فهؤلاء لا يقفون عند حد الله

٤٣٠

ورسوله. بل عند الحد الاخر المواجه وهو تمثيل للمتخاصمين المتنازعين لتفظيع عملهم وتقبيح موقفهم وساء موقف مخلوق يتحدى فيه خالقه ورازقه ويقف في تبجيح عند الحد المواجه لحده.

(وقد نزل آيات بينات) تفصل هذه العبارة بين مصير الذين يحادون الله ورسوله في الدنيا ومصيرهم في الاخرة. لتقرير ان هذا المصير وذاك تكفلت ببيانه هذه الايات.

(وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ) فيا للمهانة جزاء التبجيح. وهي مهانة يوم يبعثهم الله جميعا (فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا. أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ) مهانة على رؤوس الاشهاد والجموع. وهو عذاب يقوم على حق وبيان لما عملوا. ان كانوا قد نسوه. فان الله أحصاه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ).

(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللهُ وَنَسُوهُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٦) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٨)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٠))

البيان : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فعلم الله شامل لكل شيء في الكون فتدع القلب يتفكر في افاق الكون

٤٣١

مع علم الله المحيط بكل شيء في هذا المدى الوسيع المتطاول من صغير وكبير وخاف وظاهر. ومعلوم ومجهول. ثم تتدرج الايات في تنبيه القلوب.

(ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ. وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ. وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا).

انها حقيقة في ذاتها. ولكنها تخرج في صورة لفظية عميقة التأثير صورة تترك القلوب وجلة وترتعش مرة. وتأنس مرة. وهي مأخوذة بمحضر من الله العظيم القدير الغني الكريم. فيالها من أمانة لعباد الله المتقين. ويا له من انس ورفيق (هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ).

انها حالة لا يثبت لها قلب حي. ولا يقوى على مواجهتها الا وهو يرتعش ويهتز خشية الانزلاق وهو محضر مأنوس. نعم ولكنه كذلك جليل رهيب. محضر الله (وهو معهم اينما كانوا).

(ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) وهذه لمسة اخرى ترجف وتزلزل. ان مجرد حضور الله وسماعه امر هائل. فكيف اذا كان لهذا الحضور. والسماع ما بعده. من حساب وعقاب. كيف اذا كان ما يسره المتناجون وينعزلون به ليخفوه. سيعرض على رؤوس الاشهاد يوم القيامة. وينبئهم الله به

(أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) هكذا تستقر حقيقة العلم الالهي في القلوب. بهذه الأساليب المتنوعة في عرضها في الآية الواحدة. الاساليب التي تعمق الحقيقة في القلب البشري. وهي تدخل بها عليه من شتى المسالك والدروب.

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى) الآية توحي بان خطة رسول الله ص وآله مع المنافقين. في أول الامر كانت هي النصح لهم والاستقامة والاخلاص. ونهيهم عن الدسائس والمؤمرات التي يدبرونها بالاتفاق مع اليهود في المدينة.

٤٣٢

كما انها توحي بان بعضهم كان يلتوي في صيغة التحية فيحورها. الى معنى سيء خفي (وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ) كأن يقولوا لو كان نبيا حقا لعاقبنا الله على قولنا هذا الذي يتناجون فيه ويدبرون الدسائس والمؤمرات. (وانه (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ (حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ) وكشف هذه المؤمرات الخفية وافشاء نجواهم التي عادوا اليها بعد ما نهوا عنها. وكذلك فضح ما كانوا يقولون في انفسهم (لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللهُ بِما نَقُولُ) هذا كله هو تصديق وتطبيق لحقيقة علم الله بما في السموات وما في الارض وحضوره لكل نجوى.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ) يبدو ان بعض المسلمين ممن لم تنطبع نفوسهم بعد بحاسة التنظيم الاسلامي ـ الذين ابرزهم أهل السقيفة ـ فكانوا يجتمعون عند ما تحزم الامور ليتناجوا فيما بينهم ويتشاوروا بعيدا عن قيادتهم. الامر الذي لا تقره طبيعة الجماعة الاسلامية. وروح التنظيم الاسلامي.

وهنا يناديهم الله بصفتهم التي تربطهم به. وتجعل للنداء وقعه وتأثيره (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لينهاهم عن التناجي. ويبين لهم ما يليق بهم من الموضوعات التي يتناجى بها المؤمنون.

(وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى) لتدبير وسائلهما وتحقيق مدلولهما. والبر : الخير عامة. والتقوى اليقظة والرقابة لله سبحانه. وهي لا توحي الا بالخير. ويذكرهم بمخافة الله الذي يحشرون اليه. (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) وهذا يكون عادة بين القادة المسؤولين عن الجماعة. ولا يجوز المناجاة في غير ما يرضي الله تعالى. وهذا هو الذي نهى عنه القرآن ونهى عنه الرسول ص وآله وهذا هو الذي يفتت الجماعة او يوقع في صفوفها الشك وفقدان الثقة. وهذا هو الذي يدبره الشيطان

٤٣٣

ليحزن الذين آمنوا. ووعد الله قاطع في ان الشيطان لن يبلغ بهذه الوسيلة نيله.

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فهو الحارس الحامي. وهو القوي العزيز. وهو العليم الخبير. وهو الشاهد الحاضر الذي لا يغيب. ولا يكون في الكون الا ما يريد. وقد وعد بحراسة المؤمنين.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٣) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥))

البيان : فالآية تحض على الافساح للقادم ليجلس. كما تحض على اطاعة الامر اذا قيل لجالس ان يرفع فيرفع. وهذا الامر يجىء من القائد المسؤول عن تنظيم الجماعة لا من القادم.

والغرض هو ايجاد الفسحة في النفس قبل ايجاد الفسحة في المكان ومتى رحب القلب اتسع وتسامح واستقبل الجالس اخوانه بالحب والسماحة.

وعلى طريقة القرآن في استجاشة الشعور عند كل تكليف. وقد كانت المناسبة مناسبة القرب من الرسول ص وآله من المنافقين لمنع الاخيار كسليمان وأبي ذر رضوان الله عليهما.

ان الايمان الذي يدفع الى فسحة الصدر وطاعة الامر. والعلم الذي يهذب القلب. فيتسع ويطيع. يؤديان الى الرفعة عند الله درجات. وفي

٤٣٤

هذا مقابل لرفعة المكان الذي تطوعوا بتركه. ورفعوا عنه لاعتبار رآه الرسول ص وآله (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) وقد عمل بهذه الآية امير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) لا غير وقد أحجم الناس عن مناجاة الرسول واختص به علي (ع) وشق ذلك على الناس حيث حسدوا عليا (ع) وأبت نفوسهم ان تجود بالصدقة فرفع ذلك عنهم.

(أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ) وفي هاتين الآيتين تنديد على المنافقين (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ) وهذه الحملة القوية على المنافقين الذين يتولون قوما غضب الله عليهم. كما تدل على عظمة المسلمين يومذاك ويكشف ايضا عن كذب المنافقين بانكار ما كانوا يدبرون ضد الاسلام وهم يتظاهرون بالاسلام لكيد المسلمين (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) (وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ) وهم يعلمون انهم كاذبون. في هذه الايمان. انما هم يتقون بايمانهم ما يتوقعونه من مؤاخذتهم. بما ينكشف من دسائسهم (اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً) وبذلك يستمرون في دسائسهم للصدّ عن الحق.

(اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨)

اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٩) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (٢٠) كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ

٤٣٥

بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٢٢))

البيان : (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) انه يصور مشهدهم يوم القيامة في وضع مزر مهين وهم يحلفون لله كما كانوا يحلفون للناس (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ) فهم على اهواء لا يستندون الى شيء ويدمغهم بالكذب الاصيل (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) ثم يكشف عن علّة حالهم هذه. فقد استولى عليهم الشيطان كلية (فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) والقلب الذي ينسى ذكر الله يفسد ويتمحض للشر. (أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ) الخالص للشيطان الذي يقف تحت لوائه وينفذ غاياته.(أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ).

(إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) وهذا وعد الله الصادق الذي كان والذي لا بد ان يكون على الرغم مما قد يبدو أحيانا من الظاهر الذي يخالف هذا الوعد الصادق.

والمؤمن يتعامل مع وعد الله على انه الحقيقة الواقعة. فاذا كان الواقع الصغير في جيل محدود. وحين ينظر الانسان اليوم الى الحرب الهائلة التي شنها اعداء الايمان على أهل الايمان في صورها المتنوعة. ولم يزل الأيمان يرتفع ويعلو ولو في بعض افراده المخلصين. فلا يخالج المؤمن شك في أن وعد الله هو الحقيقة الكائنة التي لا بد ان تظهر في الوجود. وان الذين يحادون الله ورسوله هم الاذلون ولو ملكوا الدنيا بأسرها فبعد لحظات سينحدرون في مهاوي جهنم ولهيبها الذي لا يطاق ولا يخفف ولا يزول أبد الآباد.

(لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه.

وما يجمع انسان في قلب واحد حبين وودين. ودّا لله ولرسوله

٤٣٦

وودّا لاعداء الله. فاما ايمان ثابت لله ولرسوله مع البراءة من اعداءهما واما كفر بالله وبالرسول.

(وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ) فروابط الدم والقرابة هذه تنقطع عند حد الايمان انها يمكن ان ترعى اذا لم تكن هناك محادة وخصومة بين لوائين. هناك حرب بين حزب الله وحزب الشيطان منذ يوم ابني ادم هابيل وقابيل. الى عصرنا والى يوم القيامة (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) فهو ايمان مثبت في قلوبهم بيد الله مكتوب في صدورهم.(وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) وما يمكن ان يعزموا هذه العزمة الا بروح من الله عزوجل. (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ) جزاء ما تجردوا في الارض من كل رابطة وآصرة ونفضوا عن قلوبهم كل عرض من اعراضها الفانية (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

وهذه صورة وضيئة راضية مطمئنة. ترسم حالة المؤمنين هؤلاء في مقام عال رفيع وفي جوّ راض وديع. ربهم راض عنهم وهم راضون عن ربهم .. انقطعوا عن كل شيء .. ووصلوا انفسهم به. فتقبلهم في كنفه. وافسح لهم في جنانه. واشعرهم برضاه فرضوا ورضيت نفوسهم بهذا القرب. وأنست به واطمأنت اليه (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ).

فهم جماعته المتجمعة تحت لوائه. المتحركة بقيادته. المهتدين بهديه. المحققة لمنهجه الراضية بقضائه وقدره فهي قدر من قدر الله (أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ومن يفلح اذا لم يفلح انصار الله عزوجل وحزبه المختارون.

وهكذا تنقسم البشرية الى حزبين اثنين حزب الله وحزب الشيطان والى رايتين راية الحق وراية الباطل. فكل فرد بشري. اما ان يكون من حزب الله المفلح. فهو واقف تحت راية الحق. واما ان يكون من

٤٣٧

حزب الشيطان الخاسر. فهو واقف تحت راية الباطل وهما صفان. متميزان لا يختلطان. ولا يأتلفان. بل هما متباينان دائما. فلا نسب ولا صهر. ولا اهل ولا قرابة. ولا وطن ولا جنس. ولا عصبية ولا قومية. انما هي العقيدة وحدها. فمن انحاز الى حزب الله فهو المفلح الفائز. ومن انحاز الى حزب الشيطان فهو الخاسر.

* * *

ـ ٥٩ ـ سورة الحشر آياتها (٢٤) أربع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (٢) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللهَ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥))

البيان : تبدأ السورة وتختم بتسبيح الله عزوجل. بهذه الحقيقة التي وقعت وكانت في الوجود. حقيقة تسبيح كل شيء في السموات والارض لله تعالى. واتجاهها اليه بوجودها وكمال تركيبها ومنافعها. وهذه السورة تقص قصة اخراج الله للذين كفروا من أهل الكتاب. من ديارهم. واعطائها للمؤمنين به المسبحين بحمده المتبعين لرسوله (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

(هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) من هذه الايات نعلم ان الله هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم

٤٣٨

لأول الحشر. والله هو فاعل كل شيء. ولكن صيغة التعبير تقرر هذه الحقيقة في صورة مباشرة. فتوقع في الحس ان الله تولى هذا الاخراج. وساق المخرجين للارض التي منها يحشرون. فلم تعد لهم عودة الى هذه الارض ليوم الحشر.

(ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا) فلا أنتم كنتم تتوقعون خروجهم ولا هم كانوا يحتملون الخروج. فقد كانوا من القوة والمنعة في حصونهم بحيث يمنعهم ذلك من أن يغلبهم غالب.

(فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أتاهم من داخل أنفسهم لا من الخارج فقد قذف الرعب في قلوبهم بارادة خالقهم العظيم. ففتحوا حصونهم بأيديهم وأراهم انهم لا يملكون مع الله شيئا. حتى قلوبهم قد خرجت عن ارادتهم. وقد كانوا يحسبون حساب الخارج وقد غفلوا عن أن الله تعالى يملكهم من داخلهم وخارجهم على حد سواء.

(يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) وبهذا تتم حكاية ما وقع للذين كفروا من أهل الكتاب.

(فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) وهو هتاف يجيء في مكانه وفي أوانه والقلوب متهيئة للعظة. متفتحة للاعتبار في ذلك الوقت. فهل لها ان تتلقى ذلك في هذا العصر.

(وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا) فقدرة الله لا تتوقف على جهة دون أخرى فلو أنهم تأخروا بالخروج والجلاء. لأنزل عليهم عذابا من السماء أو أتاهم من حيث لم يحتسبوا.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ) يعني خرجوا عن حدود الله وكذبوا رسلهم الذين أمروهم باتباع الرسول العربي الامي الذين يبين لهم ما أخفوا من الحقائق والبينات التي أنزلها. ولا بد أن يكون كذلك

٤٣٩

مصير كل من شاق الله ونبذ قانونه وتجبر وطغى بالباطل. وبمصير هؤلاء الكفرة. تعبئة روحية تطمئن لها قلوب المتقين الذين أنابوا الله تعالى.

(ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللهِ) واللينة الجيدة من النخل وكان المسلمون قد قطعوا بعض النخل وتركوا بعضا. فجاءهم هذا البيان يربط الفعل والترك باذن الله. وبذلك تستقر قلوبهم المتحرجة. وتشفى صدورهم. مما حاك فيها. مما فعلوا

(وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (٨) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٩) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (١٠))

البيان : هذه الايات التي تبين حكم الله في هذا الفيء وامثاله نحوي في الوقت ذاته وصفا لأحوال الجماعة المسلمة في حينها. والايجاف : الركض والاسراع.

والاية تذكر للمسلمين ان هذا الفيء الذي خلفه وراءهم بنو النضير ـ لم يكن بالحرب ـ فحكمه ليس حكم الغنيمة التي تغنم بواسطة الحرب والغلبة.

٤٤٠