تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

ويرضوا بقضائه فانه الأعرف بصلاحهم واصلاحهم. فينالوا بذلك سعادة الدنيا والاخرة وذلك هو الفوز العظيم. ولعلهم يرجعوا ان شاء الله

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ. فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ).

* * *

ـ ٥٥ ـ سورة الرحمن آياتها (٧٨) ثمان وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الرَّحْمنُ (١) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (٢) خَلَقَ الْإِنْسانَ (٣) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (٤) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (٥) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (٦) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (٧) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (٨) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (٩) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (١٠) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (١١) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (١٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٣) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (١٤) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (١٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٦) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (١٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (١٨) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (١٩) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (٢٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢١) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (٢٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٣) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٢٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٨) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (٢٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٠))

البيان : أن هذه السورة كلها اعلان عام في ساحة الوجود الكبير اعلان ينطلق من الملأ الاعلى الى هذا الانسان الذي خلق الكون لاجله. وخلقه ليتكامل في انسانيته. المنحصر ذلك في طاعته لخالقه والاذعان لارادته. والتسليم لأمره وتدبيره.

(الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ) هذه النعمة الكبرى. التي تتجلى فيها رحمة الخالق العظيم. على هذا الانسان. ان عرّفه نفسه ليلتجىء اليه في حوله وطوله. في كل شدة ورخاء. وفزع وامان. والقرآن الذي

٤٠١

يفتح حواسهم ومشاعرهم على هذا الكون الجميل. القرآن الذي يقر في اخلادهم. انهم خلفاء الله في أرضه. ان هم أطاعوه وأذعنوا لارادته وهم أشقى الاشقياء ان هم عصوه. وانحرفوا عن منهاجه. القرآن المجيد الذي يحيي في ارواحهم نفحة الله التي اودعها في هذا الانسان.

(الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ) هنا تتجلى دقة التقدير. في تنسيق التكوين. بما يملأ القلب روعة ودهشة. بضخامة هذه الاشارة. وما في طياتها من حقائق بعيدة الآماد. عميقة الاغوار. ان الشمس ليست هي اكبر ما في السماء من أجرام. فهنالك في هذا الفضاء ما هو اكبر من الشمس باضعاف وكذلك القمر وهو تابع صغير للارض. ولكنه ذو أثر قوي في حياتها. وهو العامل الاهم في حياتها.

(وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) كيفية سجود غير العقلائية لخالقها. يمكن ان يكون له وجه لا نعرفه ولكن الوجه الذي نفهمه نحن : انما سجودهم وتسبيحهم لخالقهم بلحاظ كمال خلقتهم وتركيبهم واتقان تنظيمهم الذي في ابدع ترتيب وتنظيم (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ. ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ). اي بدون ان ترى أدنى خلل او نقص في هذا الكون.

وهذا معنى من معاني العبودية للخالق العظيم. فالوجود مرتبط ارتباطا هائلا بالأذعان والاستسلام الى خالقه العلام. والكون حقيقة حية بمعنى يتناسب مع تكوينه.

ولقد أدرك القلب البشري منذ عهد بعيد حقيقة هذه الحياة السارية في الكون كله وتأمل هذه الحقيقة ومتابعة الكون في طاعته لخالقه واذعانه لأرادته. مما يمنح القلب البشري متاعا ينبهه من غفلته. ويزيد في ضيائه وانارته بنور خالقه العظيم الحكيم الكريم.

(وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ) والاشارة الى السماء ـ كباقي

٤٠٢

الاشارات تأتي لمناسبات زمنية او قومية ـ ويستفيد منها القلب تنبيها ويقينا. واهتماما بعناية خالقه له دائما والميزان هو قانون الله الحق المبين. فقد انزل لهذا الانسان ليسعد بتطبيقه بدون تفريط ومن ثم فان الحق يرتبط في هذه الارض. وفي حياة البشر. بدون ميل ولا انحراف. مقدار شعرة.

(وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ) فمن جملة النعم التي منحها الله تعالى لهذا الانسان ان جعل له الارض قرارا ومستقرا. ومناخا متلائما مع حياته. وراحته وتجارته. والبشر خليقون ان يؤدوا شكر هذه النعمة لخالقهم الكريم. وان يتذكروا هذه الحقيقة في كل لحظة من وجودهم في هذه الحياة التي خلقت لهم ليتزودوا منها لحياة الخلود والدوام.

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ) واعظم نعم الله نعمة الايجاد ونعمة معرفته والايمان به. لأن ذلك سبب تكامل الانسان دون سواه. والا كان كالدواب والبهائم. فحين يذكّر الله تعالى الانس والجن بنعمة الايجاد. فانما يذكّرهم باعظم نعمة انعمها عليهم وخلق الكون وما حواه لخدمتهم ـ ان هم اطاعوه واذعنوا لأمره ـ وخلقهم لنفسه ـ

(رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ) وهذه الاشارة ايضا تملأ القلب بفيض غامر من الشعور. بوجود خالقه العظيم. كيفما توجه وحيثما التفت. وحيثما امتد به النظر.

والمشرقان والمغربان. قد يراد منهما مشرق الشمس والقمر. وقد يراد منها نهاية الخط حال طوله في الصيف. ونهاية قصره في الشتاء اقتضت ذلك حكمته البالغة. والرصيد الذي يحرك القلوب الحية من هذا التأمل في المشارق والمغارب. انه لجليل. وكل هذه النعم هي من فيض ألاء الخلق العظيم على الثقلين : الجن والانس اللذين هما محل

٤٠٣

التكليف والاختبار في هذه الدار. واللذين خلقهما الله تعالى لدار الخلود والدوام (فريق في الجنة. وفريق في النار) والاختيار لهم مدة هذه الحياة وغدا الحساب.

وهذه ايضا معجزة بالغة لان طبيعة المياه ان تختلط اذا اتصلت. ولكن الخالق العظيم جعل بينهما برزخ. فلا يمتزجان مهما اتصلا ببعضهما. وكأن بينهما سدا مانعا من اختلاطهما انه لأمر عجيب.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) اللؤلؤ ـ في اصله ـ حيوان ولعل صيرورة هذا الحيوان لؤلؤا من أعجب العجائب. فهو يهبط الى الاعماق وهو داخل صدفة لتقيه من الاخطار. ويختلف هذا الحيوان عن الكائنات الحية. في تركيبه وطريقة معيشته. فله شبكة دقيقة كشبكة الصياد. عجيبة النسج. تكون كالمصفاة تسمح بدخول الماء. والهواء والغذاء الى جوفه. وتحت الشبكة افواه الحيوان. ولكل فم اربع شفاه فاذا دخلت ذرة من رمل او قطعة من حصى الى الصدفة. سارع الحيوان الى افراز مادة لزجة يغطيها بها ثم تتجمد فتصبح لؤلؤة. وعلى حسب حجم الذرة تكون الللؤلؤة. (١)

(وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) الجواري السفن وينسبها اليه تعالى لأنه قد هيى اسبابها. وهدى الانسان لصنعها ولو لا ذلك لكان اعجز من ان يقدر او يهتدي لذلك. (كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ) وعند هذا النص القرآني تخفت الانفاس. وتخشع الاصوات. وتسكن الجوارح. وظل الفناء يشمل كل حيّ. ويغمر افاق الكون. ولا يبقى الا الحي القيوم حيا لا يموت. والنص القرآني يسكب في الجوارح السكون الخاشع. والصمت المرهب. وسكون الموت المخيم بلا حركة

__________________

(١) عن كتاب الله والعلم الحديث ص ١٠٥.

٤٠٤

(يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ. لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

ويعقب هذه اللمسة العميقة الاثر. حقيقة نعمة الفناء لكل من عليها. وبقاء الواحد القهار. نعمة يواجه بها الجن والانس في معرض الآلاء : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) وانها النعمة. بل هي اساس النعم كلها جميعا. فمن حقيقة الوجود الباقي ينبثق كل هذا الخلق وناموسه ونظامه وخصائصه. والحي الباقي هو الذي يخلق ويبدع. وهو الذي يحفظ ويكلأ. وهو الذي يحاسب ويجزي وهو الذي يشرف من افق البقاء. على ساحة الفناء فمن حقيقة البقاء. تنبثق جميع الآلاء. (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ. لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

(سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (٣١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٤) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (٣٥) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٦) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (٣٧) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٨) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (٣٩) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٠) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (٤١) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٢) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (٤٣) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (٤٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٥) وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (٤٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٧))

البيان : يا للهول المرعب المزلزل. الذي لا يثبت له انس ولا جان ولا تقف له الجبال الرواسي. ولا النجوم والافلاك. الله العظيم القوي القدير. يهدد هؤلاء الضعاف الضعاف. ويقول لهم : (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) ونحاسبكم على تجبركم وطغيانكم على خالقكم المنعم المحسن اليكم.

انه امر هائل. انه فوق ما تتصوره العقول والاوهام. فالله تعالى ليس مشغولا عنهم اليوم حتى يتفرغ اليهم غدا. ولا هو بعيد. وانما

٤٠٥

هو التهديد الشديد لهؤلاء المتنمردين عليه المتعدين لحدوده. والنابذين لقانونه. والمكذبين لانبيائه واوصيائه.

وفي هذا الهول الشديد. والتهديد المرعب. يسأل الثقلين المرهوبين ويذكرهم (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) ثم يمضي في تحديهم المرعب. يتحداهما ان يهربوا من بين يديه الان في اقطار السماء والارض ان استطاعوا الهرب والنجاة مما سينزل بهم من العذاب.

(يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا) هيهات وانّى لهم الهروب والنجاة. ولله ملك السموات والارض وهو معهم اينما كانوا. ولكنه التهديد يستمر ويزيد بلواهم. بما يصف لهم ما سينزل بهم من النكال والعقاب (يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ. وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) انها صورة من الهول فوق ما هو مآلوف البشر ـ وفوق مألوف كل مخلوق ـ وفوق تصور العقول. (فذرني والمكذبين أولى النعمة) (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً)

(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ) يا لهول هذا الانشقاق. فما ذا سيكون حال هؤلاء الضعفاء. فلا تكذيب عندئذ ولا نكران (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ)

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ) انه موقف الشهود الذي يستحيل تكذيبهم او اتهامهم انهم الجوارح اللسان يشهد بما تكلم. والعين تشهد بما رأت. والاذن تشهد بما سمعت. واليد تشهد بما اخذت واعطت. والرجل تشهد بما سعت ومشت. والفم يشهد بما اكلل وبلع والقلب يشهد بما اضمر وكتم. والعقل يشهد بما فكر وقرر. فأين الفرار والمهرب. وكيف يستطيع الانسان ان يهرب او يفر من جواره التي بها يتحرك. فالهول شديد. والحاكم خبير بصير. والميزان عادل لا يحيف ولا ينقص والكتاب يحتوي كلما فعل وعمل. والتفزيون يأخذ

٤٠٦

الصور في كل حركة او سكون ويعرضها كما صدرت بدون ادنى زيادة أو نقصان. والعلم يعرض كما هو تماما. فأين تذهبون ايها المجرمون فأين الفرار والمهرب. والغرامة هائلة والخسران نعيم الجنة. والعقاب فظيع لهب الجحيم وثياب من قطران. وسلاسل من نار (وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ) (سَنَفْرُغُ لَكُمْ) ايها الضعفاء تنمردوا اليوم على مولاكم المنعم المحسن المحسن واستعدوا غدا الى الحساب والنقاش. والجزاء والعقاب فالويل للغافلين والمنحرفين غدا غدا وهذه هي الافلام التي كنتم تنفقون أموالكم وأعماركم عليها تعلمون بها أولادكم الرقص والفجور هاهي معروضة امامكم كما كنتم تشاهدونها في حياتكم الدنيا هل تستيطعون التكذيب او الانكار.

(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ) وهذا مشهد ايضا عنيف ومع العنف هوان. حيث يقترن بتلك الصورة البشعة التي تعتري المجرمين حين تقرن رقابهم الى أقدامهم بسلاسل من نار. واغلال من نار. والسياق يبرز تلك الحالة بصورة كأنها امام اعين السامعين لتلك الآيات التي تصور حالة المجرمين حين خروج ارواحهم من ابدانهم وحين خروجهم من قبورهم وجرهم الى المشهد العام والعرض الاكبر بحالتهم المزرية مهانة. (هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ) هذه هي برزت للعيان وارتفع عنها الحجاب وأصبحت أمام أعين المجتمعين بدون ادنى شك او ارتياب. بمجرد خروج الروح من البدن وانعدام عالم الغرور والخداع في هذه الحياة. وظهور عالم البرزخ بجنته وناره الموقدة.

(يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ) انظروا ومحصوا هل بعد ذلك ارتياب.

(وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) الا ظهر ان الجنتين هما جنة البرزخ

٤٠٧

يتعنم بها حتى ينثر الله الاجسام بعد البلى وتدخل كل روح الى جساها التي خرجت منه وهناك النعيم الخالد. او العذاب الدائم. (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ).

(ذَواتا أَفْنانٍ (٤٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٤٩) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (٥٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥١) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (٥٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٣) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٥) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٥٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٧) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (٥٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٥٩))

البيان : الافنان. الاغصان الصغيرة الندية. (فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ ..) فهن عفيفات لا تمتد ابصارهن الى غير اصجابهن مصونات لم يمسسهن انس ولا جن.

(هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (٦٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦١) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (٦٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٣) مُدْهامَّتانِ (٦٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٥) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (٦٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٧) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (٦٨) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٦٩) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (٧٠) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧١) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (٧٢) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٣) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (٧٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٥) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (٧٦) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٧٨))

البيان : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) فتارة تحمل هذه الاية على أن الواجب يحتم على العبد الذي قد أنعم عليه مولاه بنعم لا تحصى أن يقابله بالشكر على ما أنعم عليه. فيكون قد قابل احسان المولى عليه بشكره له واعترافه بفضله ومنته عليه ويكون هذا جزاء المولى من لقاء احسانه عليه وتفضله عليه. وهذا معنى من أهداف الاية.

٤٠٨

وأخرى يراد منها أن الله تعالى سيجازي عبده المطيع له المذعن لامره في هذه الدنيا. النعيم الخالد في دار الخلود على طاعته له في هذه الدار. ويكون الاحسان الاول من العبد ـ وهو الطاعة ـ وجزاؤه الاحسان من المولى على طاعته وهو نعيم الجنة في الاخرة. وكلا المعنيين حسن. والاول أولى من الثاني. والثاني أظهر من الاول لان الاية وردت في مقام النعم الاخروية التي استحقها العبد المطيع من مولاه الكريم على طاعته.

(مُدْهامَّتانِ). أي مخضرتان تميل الى السواد من شدة خصابتهما).

(حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ) كأن الاية تشوق العرب الذين يسكنون البادية في الخيام.

(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) يعني عذراء ابكار في منتهى الصيانة والعفة.

(مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ) وهي الابسطة. وكأنها من صنع عبقري ماهر في صنعته.

(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ. تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ)

فآلاء الخالق العظيم على مخلوقاته الادميين. في الدنيا لا تعد ولا تحصى في الدنيا فكيف يمكن احصاؤها في دار الخلود والدوام. ويقابلها دار عذاب ونكال لمن عصاه في هذه الحياة وتعد حدوده. وانحرف عن منهجه وخالف قانونه الحق المبين الخلود في النار.

٤٠٩

ـ ٥٦ ـ سورة الواقعة آياتها (٩٩) تسع وتسعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (١) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (٢) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (٣) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (٤) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (٥) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (٦) وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (٧) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (٨) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (٩) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (١٢) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (١٤) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (١٥) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (١٦) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (١٧) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (١٨) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (٢٠) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢١) وَحُورٌ عِينٌ (٢٢) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (٢٣) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (٢٥) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (٢٦))

البيان : هذا المطلع واضح فيه التهويل في عرض هذا الحدث الهائل. وهو يتبع أسلوبا خاصا. يلحظ فيه هذا المعنى. ويتناسق مع مدلولات العبادة (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ).

(خافضة رافعة) ومعنى ذلك أن الانسان اذا مات جسمه فنفسه اما أن تهوى في الجحيم. ونار البرزخ ـ وفي نار جهنم بعد النشور والحساب. ان كان من المجرمين الاشرار.

واما أن تصعد الى جنة البرزخ ـ وفي الاخرة الى جنة الخلد ان كان من المتقين الاخيار.

(خافضة رافعة) ان الموت يخفض اناسا كانوا في القصور العالية والرياسة الواسعة ويرفع اناسا كانوا يسكنون الاكواخ الحقيرة. الى أعلى جنات النعيم. ومراتب القديسين.

(وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا) فما أهول هذا الهول. الذي يرج الارض. ويبس الجبال. ويتركها هباء منبثا. فالويل لمن يغفلون عن ذلك اليوم. الذي يخفض اناسا. ويرفع اخرين.

(وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً) فأهل الجنة قسمان. الانبياء والاوصياء. في أعلى الجنان والباقي أدنى منهم لان الاجر بمقدار المشقة وأشد

٤١٠

الناس عناء الانبياء. والاوصياء (ع) ثم الامثل فالامثل فالويل لمن يعيشون في الرفاهية في هذه الحياة. ويمنون أنفسهم بالمراتب العالية في دار الخلود.

وأما أهل النار فلهم سبع طبقات وأسفلها طبقة المنافقين الذين أنكروا ولاية علي (ع) ونكثوا ببيعته يوم السقيفة وعبدوا العجل واتبعوا السامري المنافقين ورسولهم لم يدفن بعد.

(وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (٣٠) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (٣١) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (٣٤) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (٣٥) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (٣٦) عُرُباً أَتْراباً (٣٧) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (٣٨) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (٣٩) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (٤٠)

وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (٤٣) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (٤٤) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (٤٥) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (٤٦) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (٤٧) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (٤٨) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (٤٩) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٥٠) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (٥١) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (٥٢) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (٥٣) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (٥٤) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (٥٥) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (٥٦))

البيان : فلئن كان أصحاب اليمين (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ) فأصحاب الشمال مقابل ذلك. (فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) فياله من شراب ساخن ينفذ الى المسام. ويشوي البطون. وظل من دخان خانق .. فيا لها من سخرية واستصغار لأولئك الاشرار.

(إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ) كأنما الدنيا التي كانوا يتجبرون فيها قد طويت وذهبت وانكشف الغطاء. وبطل الهزل واللعب وجاء الجد والحق. واذا هؤلاء الذين كانوا مترفين قد نزلوا في هاوية الجحيم. وزال عنهم كل ما كانوا به يفتخرون ولم يبق الا البلاء والعناء.

٤١١

(ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ) ما أحد يدري ما هي شجرة الزقوم ولكنه طعام يناسب أهل النار. وأهل الترف والعناد. وأهل الاجرام والفساد كما كانوا عليه في هذه الحياة.

(هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) فياله من منزل وفندق من ناطحات السحاب شاهق كان في الدنيا. وسافل صار بعد الموت بمقدار ارتفاعه سابقا. فالهبوط يكون مساويا للارتفاع فبقدر ارتفاع أهل الباطل يكون تسافلهم وانحدارهم في دركات الجحيم بعد هذا النعيم الموهوم الذي يخدع المطموس على قلوبهم فهم لا يعقلون.

(نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (٥٧) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (٥٨) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (٥٩) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (٦٠) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (٦٥) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (٦٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٦٧) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (٦٨) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (٦٩) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (٧٠) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (٧٣) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٧٤))

البيان : ان هذا الامر أمر النشأة الاولى ونهايتها. أمر الخلق وأمر الفناء. انه أمر منظور يستحيل انكاره او تكذيبه. فكيف لا يفكر به هؤلاء الذين يدعون العلم والثقافة. والفهم والذكاء. وهم مغموسون بالفجور والجرائم. وبعد لحظات ينهارون الى أسفل درك من الجحيم والعذاب الاليم. ان ضغط هذه الحقيقة على الفطرة أضخم وأثقل من أن يقف لها الكيان البشري لو كان هناك أحياء تحس وتبصر الهول المحدق بكل مخلوق غافل.

(أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) ان دور البشر

٤١٢

في أمر هذا الخلق لا يزيد على أن يودع الرجل ما يمني في رحم المرأة. ثم ينقطع عمله وعملها. ويرجع الامر كله الى الخلاق الحكيم. فان أراد انماء هذه الغرسة أخذ بتعهدها وتنقلها وتبدلها. من نطفة الى علقة الى مضغة الى عظام الى كسوى العظام لحما والتخطيط الكامل.

(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) ونفخ فيه من روحه. تلك النفخة أو النفحة. ومنذ اللحظة الاولى. وفي كل لحظة تالية تتم معجزة. وتقع خارقة على هذا المخلوق وهو داخل ظلمات ثلاث ـ ظلمة البطن. وظلمة الرحم. وظلمة المشيمة. ذلك كله صنع الله العظيم الخبير. ولم يزل البشر بأجمعه عاجزا عن معرفة كنه هذا المخلوق.

(نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ. وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) هذا الموت الذي ينتهي اليه كل حي.

ليس هو اقل اعجازا وتعقيدا من سر الحياة. واخراجها من العدم الى الوجود. صنع الخالق القهار (كما تنامون تموتون. وكما تنتبهون تحييون بعد هذا الموت السريع) واكثر الناس عن هذا غافلون. وعن الاعتبار به معرضون. فيا لها من غفلة يعقبها حسرة. (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) هذا الزرع الذي ينبت بين ايديهم. وقوام حياتهم عليه ـ من حبوب وثمار ـ وهل يفكرون كيف يحيا وكيف ينمو وكيف يكبر. وكيف يثمر. وكيف يحلو. وكيف يتنوع صنوانا وغير صنوان ويسقى بماء واحد ويغرس في ارض واحدة جنبا لجنب. ونفضل بعضه على بعض في الأكل ان في ذلك لعبرة لقوم يعقلون. من الذي احياه ومن الذي انماه. ومن أثمره ومن حلاه. ونوعه وشكله وصنفه. ومن الذي ركبه (مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ) بدون تفريط انها يد القدرة القاهرة. انها حكمة العناية الحكيمة. انها نعمة الله الوافرة

٤١٣

فهلا تشكرون هلا تشكرون هذا المنعم ايها الضعفاء الفقراء. حتى يزيدكم من فضله ونعمه التي لا تحصى. وقد وعدكم على الشكر المزيد (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ. وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ).

(أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ)؟ فيا لها من نعمة. ويا له من تفضل على هذا المخلوق الضعيف الفقير. الى هذا الخالق العظيم القدير. اليس حياة كل حي يدور مدار هذا الماء. ولولاه لاستحال وجود الحياة. انها نعمة وافرة. والماء عنصر الحياة. ويستحيل ان يوجده الا الله عزوجل.

(لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ) اجاجا مالحا. يميت الاحياء من النبات والحيوان. فهلا تشكرون خالق هذا الماء. ومنزل هذا الماء ومن جعله لذيذا عذبا (ذلكم الله رب العالمين) والله تعالى يتعجب من اولئك الجاهليين على عدم شكرهم لخالقهم على نعمة الماء الذي فيه حياتهم اذن أليس يجب ان يتوجه الذل والتوبيخ اضعاف ذلك لابناء القرن العشرين الذين اصبحوا يمكنهم ان يحلّلوا الماء ويفسرون نشأته. فما أقبح هؤلاء الذين يهتمون بالقشور وينبذون اللباب. أفلا يجب عليهم ان يفكروا قبل كل شيء بمن أوجد الماء وانزله لهم ويؤدون له الشكر عليه. (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ) ولقد كان كشف الانسان للنار حادثا عظيما في حياته. ولكنه أصبح شيئا مألوفا لا يثير فيه أدنى اهتماما. ثم من الذي جعل لكم من الشجر الاخضر نارا فاذا انتم منه توقدون) فقد اوجد النار واوجد شجرها (نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً) لعل هذا الانسان الضعيف ـ الذي تؤلمه البقة وتدميه العثرة ـ يتذكر بهذه النار نار جهنم وحريقها المضرم. فيأخذ لنفسه الحيطة. لئلا يكون وقودا لتلك النار. فالويل لمن يغفل او يهمل حتى يكون غدا عن قريب بين طابقين من نار قرين حجر وضجيع شيطان.

٤١٤

(فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (٧٥) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (٧٦) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (٧٧) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (٧٨) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (٧٩) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨٠) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (٨١) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (٨٢) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (٨٣) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (٨٤) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (٨٥) فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (٨٦) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٨٧) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١))

وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (٩٥) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (٩٦))

البيان : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ). فلم يكن المخاطبون يومذاك يعرفون عن مواقع النجوم الا القليل. وهو ما يدركونه بعيونهم المجردة ومن ثم قال لهم : (وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ).

اما اهل العصر فقد ادركوا عظمة النجوم التي لا تحصى في الفضاء الهائل الذي لا تعرف له حدود. فمجموعة واحدة ـ هي المجرة التي تنتسب اليها اسرتنا الشمسية ـ تبلغ الف مليون نجم. ويقول الفلكيون ان من هذه النجوم والكواكب التي تزيد على عدة ملايين نجم. ما يمكن رؤيته بالعين المجردة. وما لا يرى الا بالمجاهر والاجهزة المكبرة. هذه كلها تسبح في الفلك الغامض. ولا يوجد اي احتمال ان يقترب مجال مغناطيسي لنجم من مجال نجم اخر. او يصطدم بكوكب آخر. الا كما يحتمل تصادم مركب في البحر الابيض المتوسط. بمركب اخر في المحيط الهادي. وهو احتمال بعيد. هذا ما يسيره البشر.

اما ما يسير بادارة خالق البشر فمن المستحيل حصول ذلك الا بارادته واختياره.

وكل نجم في موقعه المتباعد عن الموقع الذي يسير فيه غيره لا يدركه

٤١٥

الا الله تعالى وكلها تسير بحكمة الهية منسقة في آثارها. وكلها تسير في هذا الفضاء فما اوسع هذا الفضاء (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) فالامر اوضح واجلى من ان يحتاج الى قسم لانها ثابتة واضحة.

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) وليس كما يدعون قول كاهن. ولا قول مجنون ولا مفتري.

(فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) مصون (لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) طهارة القلب قبل طهارة الظواهر (أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ) أفأنتم شاكّون في هذا القرآن الذي يخبركم عن الحياة بعد الموت وانها دار الخلود والدوام وما يقرره لكم من عقيدة التوحيد لله وحده لا شريك له. (فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ) انه تصوير بديع. كأنك تسمع صوت الحشرجة. وتحس بنهاية الانفاس من هذا المحتضر. كما تريك حالة العجز وذهول اليأس (وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ).

هنا في هذه اللحظة وكأنما الروح قد خرجت من هذا البدن الوقتي وقد خلفت وراءها الارض ومن عليها. وهي الآن تستقبل عالم البرزخ بما أعدّ لها من جنة او نار من سعادة او شقاء. من نعيم او جحيم. من سلام او تهديد.

(وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) وهنا يجلل الموقف جلال الله سبحانه وهو حاضر في كل وقت. ولكن التعبير يوقظ الشعور البشري ـ ليأخذ حذره واستعداده ـ لمثل هذا الموقف الخطير. والانتقال المرعب الهائل فليحذر المؤمنون وهو على مفرق طريقين اما جنّة ونعيم. واما نار وجحيم. واذا مجلس الموت تجلله رهبة الحضور فوق ما فيه من عجز.

(فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ) فلو كان الامر كما تقولون : انه لا حساب ولا جزاء. فأنتم اذن طلقاء. قد عدتم الى التراب كالبهائم والحيوانات. هيهات هيهات (قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً)

٤١٦

(وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها. وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) بتمامه (فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ).

(وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ. فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ).

(فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ).

* * *

ـ ٥٧ ـ سورة الحديد آياتها (٢٩) تسع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٥) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٦))

البيان : (سَبَّحَ لِلَّهِ) هكذا ينطلق النص القرآني المجيد في مفتتح السورة. فيتناول القلوب الحية. فيهزها هزا ويأخذها اخذا. وهو يجول بها في الوجود كله. فلا تجد الا الواحد القهار. مقلب القلوب والابصار. ولا ترى الا الله وحده لا شريك له. فلا تحسّ بغيره. ولا تعلم لها مهربا ـ عند كل نائبة ـ الا اليه. ولا تجد لها موردا لنيل ما تحتاج اليه الا منه. وعند ذلك تتجاوب القلوب الحية في أرجاء هذا الوجود كله بالتسبيح لله وحده ويترنم كل شيء في السموات والارض بذكر خالقه فيسمعه كل قلب مفتوح غير محجوب بأحجبة الفناء. ولا حاجة

٤١٧

لتأويل النص عن ظاهر مدلوله فالله يقول عزوجل :

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهذا التسبيح قد يكون على ظاهره فكل شيء حي بحسبه وما اعده الله له. وقد يكون التسبيح بكماله وجماله واتقانه يسبح خالقه العظيم. والمنظم الحكيم. وكلا الاحتمالين يتقبله العقل ويقره الشرع بكل ترحيب.

(لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ان كل شيء في السموات والارض سبح لله. مالكهما الذي لا شريك له في ملكه. فهو تسبيح المملوك لمالكه المتفرد في ملكه. الذي يحيي ويميت. فهو يخلق الحياة. ويحيي الموت. فلا يحتاج الى آلة تميت وتحيي بل ارادته (كُنْ فَيَكُونُ) (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) الاول فليس قبله شيء. والاخر فليس بعده شيء ... بل هو الموجود بذاته. ليس له بدء ولا نهاية. وانما هي المسامحة والتقريب لتفهيم البشر. والظاهر فليس فوقه شيء. والباطن فليس دونه شيء (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) علم الحقيقة الكاملة. فحقيقة كل شيء مستمدة من الحقيقة الالهية وصادرة عنها.

فاذا أستقرت هذه الحقيقة الكبرى في قلب. توحد اهتمامه بالله تعالى دون سواه فيصبح يرى ان لا حقيقة. ولا وجود ـ حتى ذلك القلب ذاته ـ الا ما يستمده من تلك الحقيقة الكبرى. وان استقرار هذه الحقيقة في قلب ليحيله قطعة من هذه الحقيقة الكبرى.

(يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها). ففي كل لحظة يلج في الارض ما لا عداد له. ولا حصر من شتى انواع الأحياء والأشياء. ويخرج منها ما لا عداد له ولا حصر من خلائق لا يعلمها الا الله. وفي كل لحظة ينزل من السماء من الامطار والاشعة. والملائكة والاسرار ويعرج فيها كذلك من المنظور والمستور مالا يحصيه الا الله (الذي يعلم كل شيء).

٤١٨

والقلب في تلفته ذاك وفي يقظته هذه يعيش مع الله. ويسبح في ملكوته. بينما هو ثاو في مكانه. ويسلك فجاج الكون ويجوب اقطار الوجود في حساسية ورعشة من الروعة.

(وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ) وهي ثمة على الحقيقة لا على الكناية والمجاز. فالله مع كل احد ومع كل شيء في كل زمان ومكان. فهو مطلع على ما يعلمون بصير كل حركة وسكون.

وهي حقيقة هائلة حين يتمثلها القلب. حقيقة مذهلة من جانب. ومؤنسة من جانب آخر مذهلة بروعة الجلال. ومؤنسة بروعة القربى وهي كفيلة وحدها حين يحسها القلب البشري على حقيقتها ان ترفعه. وتظهره. وتحصر انشغاله بها عن كل اعراض الارض. كما تدعه في حذر دائم وخشية دائمة. مع الحياة والتحرج من كل دنس وانحراف عن جادة الحق والعدل.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) والشعور بهذه الحقيقة. يحرس القلب من كل لفتة لغير الله في أي طلب في أول الامر وفي آخره. ويحميه من التطلع لغير الله في كل حاجة.

(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ. وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) وهذه حركة دائمة دائبة. ومثل هذه الحركة في حفائها ولطفها. حركة العلم بذات الصدور. وهي الأسرار التي تنطوي عليها وتخفيه عن المخلوقين وقد تكون حريصة على عدم ظهورها او العلم بها لكنها لا تخفى على الله تعالى.

(آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٩)

٤١٩

وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٠))

البيان : المخاطبون هنا هم مسلمون. لكنهم يدعون الايمان بالله ورسوله. فهي اذن دعوة غير صحيحة. والله تعالى يدعوهم ليصبحوا حقيقة مؤمنين. والايمان على قسمين تارة يكون بمعنى اليقين الثابت. واخرى يكون بمعنى الاعتراف لعلي وابنائه (ع) بالخلافة والولاية بعد رسول الله ص وآله بدون فصل. وهو الذي يتوقف عليه قبول الاعمال وفاقد الولاية لعلي بن ابي طالب وابنائه الاحد عشر (ع) ليس له في الاخر الا النار وكل ما يعمله الانسان بلا ايمان بهذا المعنى فهو هباء منثورا.

(فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) هذا اذا كان من المؤمنين المتقين لا غير. (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فما الذي يعوقهم عن الايمان ـ بولاية علي (ع) ـ والله ورسوله يدعوهما لذلك. وقد بايعوه على الأطاعة المطلقة.

(وما لكم لا تنفقوا في سبيل الله) فهذه الاشارة عودة الى الحقيقة الكبرى. فميراث السموات والارض ملكه وراجع اليه وليس من حاجة اليهم ولكن ليضاعف لهم ويختبرهم بذلك لان من يؤمن بان ما بيده لله تعالى. وهو يخلف المنفق اضعافا كثيرة. يستحيل ان يبخل او يتأخر عن الانفاق لحظة واحدة.

(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) أن ينفق ويقاتل والعقيدة مطاردة والانصار قلة. وليس هناك منفعة ولا سلطان. غير الذي ينفق ويقاتل والعقيدة آمنة. والانصار كثرة والنصر والغلبة والفوز قد تحقق او قرب تحقيقه. فالاول خالص لوجه الله. بخالف الثاني قد يكون

٤٢٠