تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

عشواء يستحيل أن يتذوقوا لذة أمن أو أمان مهما ملكوا وحازوا من هذه الدنيا الفانية. وعند موت الجسم يهوون في حفر النيران مدى الابد.

والقرآن المجيد يغذّي هذا الاحساس ويقويه باطلاق مشاعر الانسان من الانشغال بهمّ الرزق. ومن شحّ النفس. فالرزق في ذاته مكفول. تكفل به الله تعالى لعباده عند اطاعتهم له وانقيادهم لارادته. وهو لا يطلب منهم الا دون وسعهم وما أقدرهم عليه.

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) فهنيئا لمن أطاع مولاه ومال؟؟؟ همّه على سواه واستراح. وتخلى عن الهموم الا همّا واحد انفرد به هو الطاعة المطلقة لمولاه. والاخلاص له دون سواه.

* * *

ـ ٥٢ ـ سورة الطور آياتها (٤٩) تسع واربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

البيان : تبدأ السورة بقسم من الله تعالى. بمقدسات في الارض والسماء. بعضها مكشوف وبعضها مستور. والقسم على أمر عظيم رهيب. ترجف له القلوب (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ).

وفي وسط المشهد المفزع نرى ونسمع ما يزلزل ويرعب من ويل وهول وتقريع وتفزيع.

٣٨١

(فويل للمكذبين) هذا شوط من حملة المطاردة. يليه شوط اخر من لون اخر. شوط في اطماع القلوب التي رأت ذلك الهول المرعب. يعرض صورة المتقين وما أعد لهم من تكريم. وما هيّء لهم من نعيم. يطول عرضه. وتكثر تفصيلاته. مما يجيش الحسّ الى روح النعيم وبرده.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ) والان وقد أحس القلب البشري سياط العذاب في الشوط الاول. وتذوق حلاوة النعيم في الشوط الثاني. يجيء الشوط الثالث. يطارد الهواجس والوساوس. ويلاحق الشبهات والاضاليل. ويدحض الحجج والمعاذير. ويعرض الحقيقة بارزة واضحة بسيطة عنيفة. تتحدث بمنطق نافذ لا يحتمل التأويل. مستقيم لا يقبل اللف والدوران. يلوى الاعناق ليّا. ويلجئها الى الاذعان والتسليم قهرا او اختيارا.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠))

٣٨٢

وعقب هذه الاسئلة المتلاحقة. بل هذه القذائف الصاعقة. التي تنسف الباطل نسفا وتحرج المكابر والمعاند. وتخرس كل لسان يزيغ عن الحق أو يجادل فيه عقب هذا.

والطور : الجبل المعروف. والكتاب المسطور. هو القرآن المجيد المحفوظ عند خالقه قبل نزوله نجوما عند كل مناسبة. والرق ـ ما كان يكتب عليه القرآن ـ والبحر المسجور ـ الملتهب.

قال تعالى (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي توقدت نيرانا.

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً وَتَسِيرُ الْجِبالُ) في زحمة هذا الهول الذي لا يثبت عليه شيء.

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) الدعاء بالويل من الله حكم وقضاء. يتناسب مع هذا الهول.

(فَذَكِّرْ. فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) والخطاب للرسول ص وآله ليظل مستديم التذكير ولا يملّ ولا ييأس انما واجبه التذكير فمن اهتدى فلنفسه ومن ضلّ فعليها ـ والى الله المصير ـ

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) وفي السؤال الاول تهكم لاذع. وفي الثاني اتهام مزر. ان في هذا القرآن سرا خاصا. يشعر به كل من يواجه نصوصه ابتداء. قبل ان يبحث عن مواضع الاعجاز فيها. انه يشعر بسلطان خاص في عبارات هذا القرآن. يشعر أن هنالك شيئا ما وراء المعاني. التي يدركها العقل من التعبير. وان هنالك عنصرا ما ينسكب في الحس بمجرد سماع القرآن. ذلك سرّ مودع في كل نص قرآني. يشعر به كل من يواجه هذا القرآن ابتدا ثم تأتي وراءه الاسرار المدركة بالتدبر والنظر والتفكير في بناء القرآن كله.

٣٨٣

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) فهل وجدوا بدون موجد أم هم أوجدوا أنفسهم أم خلق مثلهم مفتقر الى من يخلقه. ولماذا لا يقولون ذلك في كل موجود ومصنوع مما أوجده الانسان انه لا موجد له ولا صانع له فالطائرة والسيارة. والراديو والتلفزيون لم لا يقولون انها باجمعها ليس لها صانع بل كلها وجدت صدفة ومن مهب الرياح أفلا يعقلون. ولكن الامر لم يصل الى هذا الحد من البله والبساطة. بل الذي دعاهم لانكار الحقائق. شهواتهم ونزواتهم. وحبهم للجاه والرياسة التي لا تحصل الا بالفساد والعدوان الذي ينكره الاسلام ويحاربه القرآن ويزر على فاعليه ويقبح أفعالهم ويهددهم بالعذاب الاليم.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) واذا كان يستحيل عليهم الادعاء بصحة ذلك اذن فمن غير الخالق العظيم يملك الخزائن. ويبسط رزقه للمطيع والعاصي والحساب غدا عند الموت.

(أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

البيان : فاذا لم يكونوا كذلك. ولم يدّعوا هذه الدعوى. فمن ذا يملك خزائن الدنيا. ومن ذا يسيطر على مقاليد الامور. القرآن المجيد يقول : ان الله تعالى هو القابض الباسط. المدبر المتصرف وهذا هو التفسير التوحيد لما يجري في الكون من قبض وبسط وتنظيم وتدبير. ثم يتنازل معهم.

٣٨٤

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) ان محمدا ص وآله يقول لهم : انه رسول يوحى اليه. وان هذا القرآن يتنزل عليه من الملأ الاعلى. وهم يكذبونه فبما يمكنهم البرهان على صحة ما يدعون قل هاتوا برهانكم ان كنتم صادقين. وان محمدا على استعداد تام ليريهم برهانه على صحة دعواه.

(أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) فاذا كان الواقع على خلاف ذلك فلا أجر ولا غرامة. فما الذي دعاهم لتكذيب الصادق. ومصادمة الحق بالباطل أفلا تعقلون.

(أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يقيهم ويتولاهم. ويرد عنهم كيد من يريد بهم الشقاء.

(سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) وبهذا التنزيه لله سبحانه عن الشرك والشركاء. يكون الجواب الصحيح. وقد انكشف لهم الامر بأجلى وضوحه ودحضت حجتهم الزائفة.

(فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) وهو شوط جديد في الحملة على المعاندين المكذبين. يبدأ بالتهديد بذلك اليوم الرهيب. ذلك اليوم أوله اخر ايام الدنيا واخره يوم النشور. (يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) فهم في ذلك اليوم لا يغني كيد ولا تكذيب.

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) فياله من تعبير وياله من تصوير وياله من تقدير.

انها مرتبة لم يبلغها الا الاوحديون الابرار. انها مرتبة الصبر عند الشدائد والهزاهز.

(وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ. وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ) فعلى مدار اليوم. عند اليقظة من النوم وفي ثنايا الليل. وعند

٣٨٥

أدبار النجوم. في السحر وعند الفجر. هنالك مجال الاستمتاع والمناجاة واللذة بلقاء الحبيب. والتسبيح زاد الابرار لدار القرار. وأنس المتقين بمناجاة الحبيب. وغذاء القلوب الطاهرة بغذائها الروحي المنحصر عند خالقها العظيم. انه قريب مجيب.

* * *

ـ ٥٣ ـ سورة النجم آياتها (٦٢) اثنتان وستون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨) أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (١٩) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (٢٠))

البيان : فى هذا المطلع نعيش في ذلك الافق الوضيء الذي عاش فيه سيد الكائنات محمد ص وآله. ونرف بأجنحة النور المنطلقة الى ذلك الملأ الاعلى. ونستمع الى الايقاع الرخيّ. نعيش لحظات مع قلب محمد ص وآله. مكشوفة عنه الحجب. منزاحة عنه الاستار. يتلقى من الملأ الاعلى. يرى النور ويسمع الكلام. ويعي ما يسمع. يصف لنا رحلة القلب المصفى :

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) (ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ...)

عن ابن عباس. قال : صلينا العشاء الاخرة ذات ليلة مع رسول

٣٨٦

الله ص وآله. فلما سلم أقبل علينا بوجهه ثم قال : سينقض كوكب من السماء مع طلوع الفجر فيسقط في دار أحدكم. فمن سقط ذلك الكوكب في داره. فهو وصيّ وخليفتي والامام من بعدي. فلما كان قرب الفجر جلس كل واحد منا في داره. ننتظر سقوط الكوكب في داره. وكان أطمع القوم في ذلك العباس بن عبد المطلب.

فلما طلع الفجر انقض الكوكب من الهواء. فسقط في دار علي بن ابي طالب (ع) فقال رسول الله ص وآله لعلي (ع) يا علي والذي بعثني بالنبوة لقد وجبت لك الوصية والخلافة والامامة بعدي.

فقال المنافقون : ضلّ محمد في محبة بن عمه. وغوى. وما ينطق في شأنه الا بالهوى.

فنزل قوله عزوجل : (وَالنَّجْمِ إِذا هَوى) الخ) فصاحبكم راشد غير ضال. مهتد غير غوى مخلص غير مغرض في ابن عمه علي (ع). مبلغ الحق غير واهم ولا مفتر. ولا مبتدع. ولا ناطق عن الهوى. فيما أخبركم عن ابن عمه علي (ع) : فانه وصيّه وخليفته من بعده وقال ص وآله : فمن ردّ عليه فقد خرج من الايمان ولم يصدقني في نبوتي ، لانه يبلغ ما أمره به خالقه العظيم. فهو لا ينطق عن الهوى. مستيقن طريقه. مشهودة رحلته (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) هو جبرائيل (ع) وهو الذي علّم صاحبكم ما بلغه طريقه. مشهودة رحلته. (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) هو جبرائيل (ع) وهو الذي علم صاحبكم ما بلغه لكم عن رب العزة عزوجل. وهذا هو الطريق. وهذه هي الرحلة المشهورة بدقائقها.

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) وكان ذلك في ليلة الاسراء والمعراج. وكان كل ما قاله حقا يقينا.

(ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) يعني قد رأى خليفته امير المؤمنين عند

٣٨٧

سدرة المنتهى في معراجه وما زاغ بصره عنه (وما طغى في جعله خليفة له بعد موته. انما هي المشاهدة الواضحة التي لا تقبل التشكيك. وقد عاين فيه من آيات ربه الكبرى. واتصل قلبه بالحقيقة مباشرة. وهو صاحبكم الذي عرفتموه من قبل بالصادق الامين.

(أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) كانت اللات صخرة بيضاء. وعليها بيت بالطائف له أستار وسدنة وحوله فناء. (واللات) مؤنث لفظ الجلالة (الله).

وكانت (العزى) شجرة عليها بناء واستار ـ وهي بين مكة والطائف ـ وكانت قريش تعظمها. كما افتخر الشاعر : (لنا العزى ولا عزى لكم) وهي مؤنث.

وكانت (مناة) بالشلل عند قديد بين مكة والمدينة. وكانت خزاعة والاوس والخزرج في جاهليتهم يعظمونها ويهلون منها للحج الى الكعبة والتعجب من الله واضح في قوله (أفرأيتم) وهو استغراب هائل من أناس يدعون الفهم ثم يعبدون الاحجار.

(أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (٢١) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (٢٢) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (٢٣) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (٢٤) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (٢٥) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (٢٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (٢٧) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (٢٨) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (٣٠))

البيان : مما يوحى بان لهذه المعبودات صلة باسطورة انوثة الملائكة. ونسبتها الى الله تعالى. بما يرجح ما ذكرناه عنها. وقد

٣٨٨

كانوا يكرهون ولادة البنات لهم ومع هذا لم يستحيوا ان يجعلوا الملائكة اناثا. وهم لا يعلمون عنها شيئا .. وان ينسبوا هؤلاء الاناث الى الله تعالى.

(إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) هذه الاسماء التي هي : (اللَّاتَ. وَالْعُزَّى. وَمَناةَ) وغيرها وتسميتها آلهة كلها أسماء لا مدلول حقيقي لها. ولم يجعل الله لكم حجة فيها. (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ) فلا حجة ولا دليل ولا برهان على صحتها.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) فلا عذر لهم عن اتباعه والسير على ضيائه وصراطه.

(فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى) فلا ننس ان نلحظ هنا تقديم الاخرة على الاولى لمراعاة القافية فالجمال في الكون كله يتناسق مع الوظيفة ويؤاخيها. فاذا خلص الامر كله لله في الاخرة والاولى فان أوهام المشركين عن شفاعة الهتهم باطلة. لا تنفعهم شيئا. وان كانوا يعلمون ذلك.

(فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا) هذا الامر بالاعراض عمن تولى عن ذكر الله. موجه ابتداء الى الرسول ص وآله. وهو موجه بعد ذلك الى كل مسلم. يواجهه ماواجه النبي ص وآله.

والمؤمن بالله وبالاخرة لا يستطيع أن يشغل باله بما هو لا ينفعه تذكيره الا على سبيل اقامة الحجة عليه. لان بيان الحقائق واجبة لمن ينقبلها لينتفع بها ولغيره للحجة عليه.

(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) وقد علم أن هؤلاء ضالون فلم يرد لنبيه ص وآله ان يشغل نفسه معهم. ولا أن يصاحبوه.

٣٨٩

فحقيقة الارتباط بين هذا الوجود وخالقه. وحقيقة الارتباط بين عمل الانسان وجزائه حقيقيتان ضروريتان. لكل علم صحيح حق. وبدونهما يكون العلم قشورا لا فائدة فيه أبدا.

وشعور الانسان بخالقه وخالق هذا الكون كله. ضروري اذا نبذ الانسان هواه.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (٣١) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (٣٢) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (٣٣) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (٣٤) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (٣٥) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (٣٩) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (٤٠) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (٤١))

البيان : هذا تقرير لملكية الخالق العظيم وحده. يمنح قضية الاخرة قوة وتأثيرا. فالذي جعل الاخرة وقدرها. هو الذي يملك الكون وما فيه. فهو القادر على العطاء والمنع. والنصر والخذلان (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا. وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى).

(هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) فهو العلم السابق بما سيختارون لانفسهم من هدى أو ضلال. من طاعة أو عصيان. من اتباع العقل. أو اتباع الهوى والشيطان.

(فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) فلا حاجة الى أن تدعوا لانفسكم هو أعلم بكم من أنفسكم.

(أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) الذي يعجب الله تعالى من أمره. لنبذ عقله واتباع هواه.

٣٩٠

(أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى) فالغيب مختص بالله تعالى لا يراه احد سواه. فلا يعلم الانسان ما يكسب غدا وما سيكون غدا. فهو يعيش بليله ونهاره حذرا وجلا.

(أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) وهذا الدين من القديم الى الحديث هو دين الله تعالى لم يتغير ولم يتبدل. فدينه واحد ورسله يدعون كلهم لدين واحد واله واحد.

(أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) فلا تحمل نفس الا ما جنت وفعلت وحملته على ظهرها. من صالح او طالح. من خير أو شر. من صلاح أو فساد. (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى). (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). فلا يضيع شيء من العمل والسعي.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) فلا طريق الا الطريق التي توصل كل مخلوق الى خالقه. فلا ملجأ الا اليه.

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (٤٢) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (٤٣) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (٤٤) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٤٥) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (٤٦) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (٤٧) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (٤٨) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (٤٩) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (٥٠) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (٥١) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (٥٢) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (٥٣) فَغَشَّاها ما غَشَّى (٥٤) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (٥٥) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (٥٧) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ (٥٨) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (٥٩) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (٦٠) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (٦١) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (٦٢))

البيان : تحت هذا النص تكمن حقائق كثيرة. ومن خلاله تنبعث صور مثيرة فقد أودع الخالق العظيم. هذا المخلوق العظيم أسرارا وآثارا عجيبة. يضحك لهذا. ويبكي لهذا. وقد يضحك غدا لما

٣٩١

أبكاه اليوم. ويبكي مما أضحكه. هذه الصور وغيرها تنبثق من خلال النص وكلما تجددت عوامل الضحك والبكاء في النفوس. كلما زاد رصيد النفس من التجارب.

(وانه أمات وأحيا) كذلك تنبثق من هذا النص صور لاعداد لها في الحس الحي. لقد أنشأ الموت والحياة. (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) الملك وهما أمران معروفان كل المعرفة. يتكرران دائما وأبدا بدون انقطاع. ولكنهما خفيان. كل الخفاء. حين يحاول البشر أن يعرفوا طبيعتهما وسرهما الخافي على الاحياء.

فما الموت. وما الحياة. ما هي. ومن اين جاءت. وكيف تذهب وأين تنتقل. وكيف تلبست. وكيف دبت الحياة في الكائن الحي. وكيف انه السر الخافي وراء الستر.

(أمات وأحيا. وتنبثق ملايين الصور من الموت والحياة. في عوالم الاحياء كلها في اللحظة الواحدة. في هذه اللحظة. كم من ملايين الملايين من الاحياء يميت. وكم من ملايين الملايين ينشأ ويوجد. وكم من الموات تقع فاذا هي بواعث حياة. وكم من هذه الصور يتراءى مدار القرون. انها حشود من الصور وحشود تطلقها كلمات قلائل. فتهز القلوب الحية. وتنيرها كالبدر في الظلام.

(وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى) وهي حقيقة هائلة متكررة في كل لحظة. فينساها الانسان لتكرارها امام عينيه. وهي أعجب من كل عجيبة.

نطفة تراق من افراز هذا الجسد كالعرق والدمع والمخاط. فاذا هي بعد فترة تكفر في تدبير خالقها وتصبح انسانا جبارا يسيطر على هذا الكون الهائل بقوة عقله ومداركه ويستخدمه في أغراضه ومصالحه.

٣٩٢

انها لعجيبة غريبة. واذا هذا الانسان ذكر أو انثى. كيف تمت هذه العجيبة التي لم تكن ـ لو لا وقوعها ـ تخطر على الخيال. وأين كان هذا الانسان المركب المعقد أين كان كامنا في نطفة سخيفة. بل في واحدة من ملايين أمثالها (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ).

وأي قلب بشري فيه أدنى ادراك يقف أمام هذه الحقيقة الهائلة العجيبة. ثم يتمالك أو يتماسك. دون أن يمجد هذا الخالق العظيم الذي خلق من النطفة الصغيرة.

(الزَّوْجَيْنِ : الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) النشأة الاخرى غيب خفي. ولكن أولي الالباب تراها وتعتقد بها أكثر من اعتقادها بما تراه العيون المبصرة.

فالذي خلق الزوجين الذكر والانثى. قادر على أن يحيي الموتى ويعيد الرفات عظاما وهو أهون عليه. وله المثل الاعلى. وانما أمره اذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون.

(وانه (رَبُّ الشِّعْرى) الشعرى نجم أثقل من الشمس بعشرين مرة. ونوره خمسون ضعفا من نور الشمس. وهي أبعد من الشمس بمليون ضعف عن الشمس فمن كان يعرف ذلك في وقت أخبر عنه هذا القرآن المجيد قبل (١٤) قرنا قبل أن يتوصل الى معرفته هذا البشر.

(وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى وَثَمُودَ فَما أَبْقى) انها جولة سريعة تتألف من وقفة قصيرة على مصرع كل أمة. فعاد وثمود وقوم نوح يعرفهم قارىء القرآن في مواضع شتى. والمؤتفكة هي أمة لوط. ودمرها في الهاوية. (فَغَشَّاها ما غَشَّى) بهذا التجهيل تتراءى من خلاله صور التدمير (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) فلقد كانت اذن تلك المصارع آلاء لله وأفضالا.

٣٩٣

(هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) هذا الرسول هو آخر النذر الذين سلفوا وأنذروا وحذروا لمن انتفع بانذارهم وتحذيرهم. واقتربت كاسحة الالغام (وقد (أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللهِ كاشِفَةٌ)

* * *

ـ ٥٤ ـ سورة القمر آياتها (٥٥) خمس وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (١) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (٢) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (٣) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (٤) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (٥) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (٦) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (٧) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (٨) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (٩) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (١٠) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (١١) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (١٢) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (١٣) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (١٤) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٥) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٦))

البيان : مطلع باهر مثير. على حادث كوني كبير. فيا له من ارهاص. ويا له من خبر. فانشقاق القمر آية كونية يوجه القرآن القلوب والانظار اليها. كما يوجهها دائما الى الآيات الكونية الاخرى. ويعجب من أمرهم وموقفهم ازاءها. كما يعجب البشر ليستيقظ ويستجيب.

ان الخوارق التي ظهرت على ايدي الرسل (ع) قبل ان تبلغ البشرية مستواها الرفيع قد تتعجب مما ترى من غريب ما تراه. ولنفرض ان انشقاق القمر جاء خارقة على يد خاتم المرسلين ص وآله. فان القمر في ذاته اكبر مما اعتاد ان تأتي به الرسل السابقة.

٣٩٤

وقد جاء القرآن ليقف بالقلب البشري في مواجهة الكون كله. وما فيه من الآيات الالهية. ويصل بهذا الكون. وآيات الله عزوجل فيه كل لحظة. لا مرة عارضة. لا في زمان محدود. او مكان محدود وجيل دون جيل. بل هو للجيال وجميع الاماكن والازمان. وفي مطلع هذه السورة تجيء تلك الاشارة الى اقتراب الساعة وانشقاق القمر ايقاعا يهز القلب البشري الحي. وهو يتوقع اقتراب الساعة باقتراب اجله في كل لحظة.

(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) ولقد اعرضوا وقالوا كلما أرادوا أن يكذبوا ويفتروا. وهم يرون آية الله في انشقاق القمر. وكان هذا رأيهم مع آية القرآن. فقالوا : سحرنا وهم يرون باعينهم اجابة ما طلبوه من رسولهم محمد ص وآله.

(وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ) فكل شيء في موضعه في هذا الوجود الكبير. وكل أمر في مكانه الثابت لا يتزعزع ولا يضطرب. فأمر هذا الكون يقوم على الثبات والاستقرار التام.

(وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ) وهو مشهد من مشاهد ذلك اليوم يناسب هوله وشدته عقولهم وعنادهم للحق. فهذا يوم اقترب من اجل القوم وتبديل نظرهم في الحياة. ومع هذا فهم معرضون عنه ومكذبون به (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ)

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) فليس هذا اول عناد وتكذيب للحق وأهله بل هو مكرور (فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) انتهت المهلة والاناة التي قضاها معهم وصبر على اذاهم وتعنتهم. فدعا ربه ان يهلك المعاندين وينصر المؤمنين المتقين.

(فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ) وما هي الا لحظة قصيرة حتى

٣٩٥

تفجرت العيون وهطلت السماء كالابواب بدون معيار او مقدار. وكل ما عند الله يمكن حصوله كذلك. فليس على الله شيء بعزيز او عسير. وما أمره الا كلمح البصر او هو اقرب حتى ينصر من اراد ان ينصره.

ويجيب دعوة من يريد ان يجيب دعاءه بدون تأخير. وما هي الا حركة كونية فيحصل ما يريد (وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ) والتقى الماء المنهمر بالماء المتفجر. حتى صار طوفانا فوق الجبال الشاهقة (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ) (جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ) ان قوى الكون الهائلة كلها رهن ارادة خالقها العظيم. يستحيل ان تتوقف لحظة الى بارادته ومشيئته (وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) هذه الواقعة تركناها آية للاجيال الحية (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) ولقد كان كما صوره القرآن عذابا مدمرا جبارا وكان نذيرا صادقا بهذا العذاب. الفظيع (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ).

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (١٨) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (١٩) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٢١) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٢٢) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (٢٣) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٢٤) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (٢٥) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (٢٦) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (٢٧) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (٢٨) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (٢٩) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (٣٠) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (٣١))

البيان : وهذه هي الحلقة الثانية. أو المشهد الثاني من مشاهد التعذيب العنيف الذي يقف الانسان عليه بعد مصرع قوم نوح (ع).

(إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً) الصرصر : الباردة العنيفة. فالريح تنزعهم وتجذبهم وتحطمهم. فتدعهم كأنهم اعجاز نخل ـ مقلوعة ـ

٣٩٦

والمشهد مفزع مخيف. والريح التي ارسلت على قوم عاد. هي قسم من جنود الله التي يحطم بها المتنمردين اذا اراد تحطيمهم ..

(فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) يكررها بعد عرض كل مشهد لعل بعض المنحرفين يعتدلون ويرجعون الى حظيرة الطاعة لخالقهم العظيم الكريم. فينالوا السعادة في الدارين. (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ) وثمود كانت قبيلة بعد عاد. ولها قوة وتمكين في جزيرة العرب. فكانت عاد في جنوب الجزيرة. وثمود في شمالها (فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ).

وهي الخدعة التي يستعملها زعماء الضلال لتضليل العوام والبسطاء حتى لا يتبعون الحق وما هو العيب والنقص في ان يختار الله تعالى لتبليغ رسالته أتقى مخلوق وان كان من أبسط الناس فالمدار يدور على التقوى والاخلاص من العبد في خدمة مولاه. مهما كان شكله. (بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ) وهو الاتهام الذي يلفقه ارباب الزعامة خوفا على انهيار زعامتهم وتحطيمها بسيف الحق والعدل. وقد تنفعهم تلك الخدعة. ويساعدهم البسطاء على كفاح الحق.

(سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ) وسينكشف لهم الغد ويظهر الخداع من الناصح الشفيق. وهذا العرض القرآني ينبغي أن ينفح روح اليقظة في قلوب ذوي الالباب.

(إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ) ويقف القارىء يترقب ما سيقع عند ما يرسل الله تعالى الناقة لاختبارهم. والقاء الحجة عليهم (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) اي شرب الخمر وعقر الناقة. وهو واحد من قوم ثمود فاستحقوا باجمعهم العذاب لانهم عمّوه بالرضى بعقر الناقة. (إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ) .. (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) انه لمشهد مفجع مرعب. وقد صار القوم لهذا الهشيم بعد الصيحة الواحدة (كالاعواد) وامام هذا المشهد العنيف يرد قلوب السامعين

٣٩٧

ليأخذوا العبرة مما ذكره لهم القرآن وممن سبقهم عند تكذيبهم رسل الله. وتعديهم لحدوده. ولا بد ان يؤثر في قلوب المؤمنين. (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) فهل من معتبر وهل من يذكر ويتفكر وينتفع.

(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٣٢) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (٣٣) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (٣٥) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (٣٦) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٧) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (٣٨) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (٣٩) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٤٠))

البيان : وقصة لوط وردت مفصلة في مواضع اخرى. والمقصود من عرضها هنا ليس هو تفصيلها. انما هي لأجل الاعتبار والعظة لمن له قلب حي. لعله ينتفع بما يسمع. وتكرر العظات في القرآن المجيد فاذا لم ينتفع بها البشر. تزداد بها الحجة عليهم وقمع المعذرة.

(وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (٤١) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (٤٢) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (٤٣) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (٤٤) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (٤٥) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (٤٦) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (٤٧) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (٤٨))

البيان : وهكذا تختصر قصة فرعون وملئه في طرفيها. من تكذيبهم لرسلهم. وأخذهم بعد ذلك اخذ عزيز مقتدر. والاشارة الى العزة والاقتدار فيها تعريض لما كان عليه فرعون من التجبر والطغيان. ولكن قدرة الخالق العظيم وانتقامه منه كان أقوى واقدر.

(أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ) انه الانذار المرعب من الله تعالى لعداء النبي ص وآله بالخصوص ولكل من طغى وانحرف عن قانون الله عزوجل بالتعميم والشمول.

٣٩٨

(أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) هذا الغرور بكثرة الرجال والسلاح والمال يذوب ذوبان عند ما تأتي قدرة الخالق الجبار لكفاحه وتدميره وازالته من هذا الوجود. (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) فلا يعصمهم شيء ابدا. ولا أحد يقدر على نصرهم من بأس الخالق العظيم. عندما يأتيهم العذاب الشديد في الدنيا والآخرة على حد سواء. (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ. وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ) واي نسبة لكل مصائب الدنيا بأجمعها الى ذرة من نار جهنم التي لو ظهرت لأهل الدنيا لاحترقوا بأجمعهم من تلك الذرة بدون تأخير.

(إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ) في ضلال يعذب العقول والنفوس. فياله من تعذيب وتأنيب. ومطارق تنصب على قلوب المجرمين في ضمائر قبل موتها وازالتها نهائيا. (يَوْمَ يُسْحَبُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) فيا له من تحقير في مقابل تجبرهم. ويا له من عذاب في مقابل تنعمهم اليسير في هذه الحياة. ويا له من عقاب مقابل اجرامهم الشديد.

(إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (٤٩) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (٥٠) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (٥١) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (٥٢) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (٥٣) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (٥٤) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (٥٥))

البيان : كل شيء .. كل صغير وكبير. كل ناطق وصامت. كل متحرك أو ساكن. كل حي وجماد كل حاضر وهالك. كل ظاهر وخفي كل معلوم ومجهول (خلقناه بقدر) مقدار معلوم. وزمان معلوم ومكان خاص. وتنظيم خاص. وتدبير خاص (كل شيء بقدر) وان هذا النص القرآني اليسير. انه ليشير الى حقيقة ضخمة هائلة شاملة.

القرآني اليسير. انه ليشير الى حقيقة ضخمة هائلة شاملة. ومصداقها هذا الوجود كله. حقيقة يدركها كل قلب حي بمقدار استعداده وتأهله لهذا التلقي ويتلقاها كل قلب حي مفتوح. ويحس انه خليفة متناسقة

٣٩٩

تناسقا دقيقا عجيبا. فيرى ويبصر ان كل شيء موجود في هذا الوجود (مقدر بقدر) متناسق منظم. كامل غير منقوص محكم غير عشوائي مدبر غير مهمل. قد وجد لغاية بدون عبث. لنفع لا لضرر لصلاح لا لفساد لسعادة لا لشقاء. كل ذلك يحققه القلب المفتوح. ويتدبره الفكر السليم

لقد وصلوا الى كثير من ذلك في القرن العشرين. وعرفوا حقيقته بعد ان كانوا يجهلون ولكن يا للاسف وصلوا اليه بابدانهم دون نفوسهم وادركوه بابصارهم دون بصائرهم. واستفادوا منه القشور دون الالباب واستعملوه للتدمير والتخريب. لا لنفع العباد وطاعة الخلّاق

وأفنوا اعمارهم في معرفة مواده ووجوده دون ان يفكّروا بمن أوجده وخلقه لهم. فشقوا بما وصلوا اليه وتردّوا عما كانوا عليه يوم خلقهم خالقهم اطفالا صغارا. نظيفين اطهارا. فتسافلوا وتلوثوا. وانحدروا الى اسفل سافلين كما وصفهم خالقهم العظيم :

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (٤٣) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (٤٤)) الفرقان (٤٣)

لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)

على ان الامر اعظم واشمل في التقدير والتدبير. ان حركة هذا الكون كله باحداثها ووقائعها. وتياراتها مقدرة مدبرة. صغيرها وكبيرها وكل حركة في التاريخ ككل انفعال في نفس كل فرد. وككل نفس يخرج من الصدر. ان هذه النفس مقدرة في وقتها مقدرة في مكانها. مقدرة في اطرافها كلها. مرتبطة بنظام خالقها. تسبح خالقها بكمالها وتمامها وجمالها. والله عزوجل يعلمهم في هذا القرآن ان كل شيء بقدر. ليرجعوا في أمورهم اليه. ويسلموا امورهم له. وينقادوا الى طاعته

٤٠٠