تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

يتظاهرون تظاهرا بأنهم يلقون سمعهم وبالهم للرسول ص وآله. وقلوبهم لاهية غافلة او مطموسة مغلقة. كما انه قد يدل من جانب آخر على الغمز الخفي اللئيم. اذ يريدون ان يقولوا بسؤالهم هذا لأهل العلم : أن ما يقول محمد ص وآله لا يفهم. او يعنون السخرية بكل ما يقوله ص واله (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ) ذلك حال المنافقين في كل آن. (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) وترتيب الوقائع في الاية يستوقف النظر. فالذين اهتدوا كافأهم الله بزيادة الهدى. وكافأهم بما هو أعمق واكمل.

(وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) والتقوى حالة في القلب تجعله ابدا واجفا من هيبة الله شاعرا برقابته. خائفا من غضبه. متتبعا الى رضاه. متحرجا من أن يراه الله على هيئة أو في حالة لا يرضاها. هذه الحساسية المرهفة هي التقوى. التي يتوقف قبول الاعمال عليها.

(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) ماذا ينتظر هؤلاء الغافلون عن الله. الذين يدخلون مجالس رسول الله ص وآله. ويخرجون منها غير واعين ما يقول ولا ملتفتين الى ما يقول. بل يسخرون بما يقول. لانهم لهذا دخلوا اليه وتظاهروا بالاسلام (فانى لهم ـ اذا جاءتهم ـ ذكراهم ـ انها الهزة القوية العنيفة التي تخرج ممن أخزاه الله).

(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) وعلى اساس العلم بهذه الحقيقة واستحضارها في الضمير تبدأ التوجيهات الاخرى (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ).

وهذا الخطاب وان كان بظاهره موجه للنبي ص وآله. ولكن المقصود به غيره. وانما هو تلقين للعباد. وحثهم على استغفار الله من ذنوبهم لعلهم يتقون.

(وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ) هنا يشعر القلب المؤمن بالطمأنينة

٣٤١

لانه في رعاية الله حيثما كان. انها التربية باليقظة الدائمة والحساسية المرهقة والحذر والانتظار.

(وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ) يتطلع الذين آمنوا الى تنزيل سورة جديدة. (فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ) المحكمة هي التي يكون معناها على ظاهرها. بدون خلاف. (رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) وهو تعبير لا يمكن محاكاته. ولا ترجمته الى أي عبارة اخرى. وهو يرسم الخوف الى حد الهلع. والضعف الى حد الرعشة والتخاذل الى حد الغشية. وبينما هم في هذا التخاذل والتهافت والانهيار تمتد اليهم يد الايمان بالزاد الذي يقوي العزائم. ويشد القوائم.

(طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (٢١) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (٢٢) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (٢٣) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (٢٥))

البيان : نعم أولى لهم من هذه الفضيحة. ومن هذا النفاق (طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ) طاعة تستسلم لأمر الله عن طمأنينة. وقول معروف يستقيم له القلب ويطهر الضمير وهذا هو الزاد الذي يقدمه الايمان. فيقوي العزائم ويشد القوائم ويذهب الفزع (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) هذا التعبير يفيد ما هو متوقع من حال المخاطبين ويلوح لهم بالنذر والتحذير. احذروا فانكم منتهون الى ان تعودوا الى الجاهلية التي كنتم فيها (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) اولئك الذين يظلون في مرضهم ونفاقهم حتى يتولوا عن هذا الامر الذي دخلوا فيه بظاهرهم ولم يصدقوا الله فيه ولم يستيقنوا (أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) (فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ) وهم

٣٤٢

لم يفقدوا السمع والبصر. ولكنهم عطلوا ذلك فلم يعد لهذه الحواس وظيفة لانها لم تعد تؤدي هذه الوظيفة ويتساءل في استنكار : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وتدبر القرآن يزيل الغشاوة. ويفتح البصائر. ويحرك المشاعر. ويستجيش القلوب. ويخلص الضمير من الاوهام والشكوك (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ. مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى. الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ) التعبير يرسم معنى رجوعهم عن الهدى بعد ما تبين لهم. ويكشف ما وراءها من وسوسة الشيطان واغرائه. فان ظاهرة هذه الحركة وباطنها مكشوفان مفهومان. وهم المنافقون.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (٢٦) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (٢٧) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٢٨) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ (٢٩) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (٣٠))

البيان : اليهود بالمدينة هم اول من كرهوا ما نزل الله. لأنهم كانوا يتوقعون ان تكون الرسالة الاخيرة فيهم. وان يكون خاتم الانبياء منهم. وكانوا يستفتحون على الذين كفروا ويوعدونهم بظهور النبي الذي يقودهم ويمكن لهم في الارض.

فلما أختار الله تعالى أخر رسله من نسل اسماعيل (ع) من غير اليهود كرهوا رسالته حتى اذا هاجر الى المدينة كرهوا هجرته. ومن ثم كانوا ألبا عليه منذ اول يومه. وشنوا عليه حرب الدس والكيد. وانضم اليهم كل حانق ومنافق.

(وَاللهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ) فأين يذهب تآمرهم واسرارهم وماذا يؤثر (فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ) وهو مشهد مفزع مهين وهم يحتضرون. ولا حول لهم ولا طول. وهم في نهاية حياتهم من هذه

٣٤٣

الدنيا النتنة. (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ) فهم الذين ارادوا لأنفسهم هذا المصير واختاروه. (فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ) التي كانوا يعجبون بها. ويحسبونها براعة. وهم يتآمرون على المؤمنين فاذا بهذه الاعمال تنهار وتضيع.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللهُ أَضْغانَهُمْ) ولقد كان المنافقون يعملون على اتقانهم في النفاق. وعلى خفاء امرهم على المسلمين. فالقرآن المجيد يسفه ظنهم. ويقول لهم ان هذا الامر سيبطله الله الذي يعلم السر واخفى. ويهددهم بكشف حالهم واظهار اضغانهم. ويقول لرسوله ص وآله : (وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ) اي لو نشاء لكشفنا لك عنهم بذواتهم واشخاصهم. حتى تعرف كل واحد منهم. (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) وانحراف منطقهم في خطابك (وَاللهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ)

(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (٣١) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (٣٢)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (٣٣) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ (٣٤) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥))

البيان : الله يعلم حقائق النفوس ومعادنها. ويطلع على خفاياها ويعلم ما يكون من امرها. علمه بما هو كائن فعلا. فما هذا الابتلاء. ولمن يكون العلم من ورائه. بما ينكشف عنه. ان الله ـ جلت حكمته ـ يأخذ البشر بما هو في طوقهم. وما هو من طبيعتهم واستعدادهم. وهم لا يعلمون عن الحقائق المستكنة ما يعلمه. فلا بد لهم من تكشف الحقائق ليدركوها ويعرفوها ويستيقونها ثم ينتفعوا بها.

والابتلاء بالسراء والضراء. وبالنعماء والبأساء. وبالسعة والضيق

٣٤٤

وبالفرج والكرب كلها تكشف عما هو مخبوء من معادن النفوس بعد الابتلاء. فهو تعلق علمه بها في حالته لأصحابها. اما المراد بعلم الله لما تنكشف عنه النفوس بعد الابتلاء فهو تعلق علمه بها الظاهرة التي يراها الناس عليها.

ومع هذا فان العبد المؤمن يرجو الا يتعرض لبلاء الله وامتحانه. ويتطلع الى عافيته ورحمته. فاذا أصابه بلاء الله بعد هذا وجب الصبر له. ويعتقد ان وراءه الحكمة الالهية ووجب الاستسلام لمشيئة الله عزوجل. واثقا من عدله. متطلعا الى رحمته وعافيته بعد الابتلاء. (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ. لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ) انه قرار من الله العظيم مؤكد. ووعد منه واقع. ان هؤلاء (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) وهم أضعف واعجز من ان يلحقوا ضررا بخالقهم العظيم. وانما المقصود انهم لن يضروا دين الله سبحانه. ولا منهجه ولا القائمين في دعوته. ولن يحدثوا حدثا في نواميسه وسننه. مهما بلغ كيدهم.

فأن هذا أبتلاء وقتي يقع من قوتهم باذن الله لحكمة يريدها. وليست ضررا حقيقيا لناموس الله وسنته ونظامه وعباده القائمين على نظامه ونهجه. والعاقبة مقررة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وهذا التوجيه يوحي بانه كان في الجماعة المسلمة يومئذ من لا يتحرى الطاعة الكاملة. وتشق عليه بعض التضحيات. التي يقتضيها جهاد هذه الطوائف القوية المختلفة التي تقف للاسلام وتناوشه من كل جانب. والتي يقتضيها الجهاد ويربطها بالمسلمين فربما يصعب قصمها والتخلي عنها.

ثم بين الله تعالى لهم في الآية التالية مصير الذين يشاقون الله

٣٤٥

ورسوله ص وآله. ويخرجون عن طاعته ثم يصرون على هذا. ويذهبون من هذه الارض كافرين :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم) فالفرصة متاحة فقط للمغفرة في هذه الدنيا. وباب التوبة مفتوح لكل مخلوق. ما لم تظهر علامات الموت فيسد الباب. (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ) فهذا هو الذي يحذر المؤمنين اياه. ويضع امامهم مصير الكفار المشاقة للرسول ص وآله. ليحذروا من الوقوع فيه كما وقع غيرهم من قبل. (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أنتم الاعلون اعتقادا وتصورا للحياة. وأنتم الاعلون ارتباطا وصلة بالعلي الأعلى. وأنتم الاعلون منهجا وغاية. فمعكم القوة التي لا تغلب ولا تقهر.

(إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (٣٦) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (٣٧) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (٣٨))

البيان : الحياة الدنيا لعب ولهو. حين لا يكون وراءها غاية أشرف وأبقى. حين تتطلب لذاتها مقطوعة عن منهج الله فيها. والسعيد في الدنيا الذي يجعلها مزرعة الاخرة. والدار الباقية. (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ) فالايمان والتقوى في الحياة الدنيا هو الذي يخرجها عن أن تكون لعبا ولهوا. ويرفعها عن مستوى المتاع الحيواني. الى مستوى الخلافة الالهية. المتصلة بالملأ الأعلى. والله تعالى لا يكلف نفسا الا وسعها ويخلف عليها ما تنفقه في سبيله (إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا) وهذا النص يوحي بحكمة اللطيف الخبير كما يوحي برحمته ولطفه. ويكشف عن نظام رباني من ناحية ان الله هو الذي يقيم منهجه وقواعده.

٣٤٦

وفي النهاية يواجههم بواقع حالهم تجاه دعوتهم الى البذل في سبيل الله. ويعالج شح النفوس بالمال بالوسائل القرآنية. كما يعالج شحها في الذات عند الجهاد.

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) الآية ترسم صورة وصفية لواقع الجماعة ولواقع الناس اتجاه الدعوة الى الاسلام. وقد حقق الاسلام مثلا يحسب من خوارق الامثال. (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ) وانها لنذارة رهيبة لمن ذاق حلاوة الايمان. واحس بكرامته عند الله. وأضاء بقلبه نور الهداية والايمان. واصبح آمنا من كل خوف في الدنيا والآخرة.

* * *

ـ ٤٨ ـ سورة الفتح آياتها (٢٩) تسع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥))

البيان : جاء في الافتتاح الامتنان على المؤمنين بالسكينة والاعتراف لهم بالأيمان. والسورة تفتتح بهذا الفيض الآلهي على رسوله ص وآله. فتح مبين. ومغفرة شاملة ونعمة تامة. وهداية ثابتة ونصر عزيز .. انها جزاء الطمأنينة التامة لالهام الله تعالى وتوجيهه والاستسلام الراضي لايحائه. واشارته. والتجرد المطلق من كل ارادة ذاتية. والثقة العميقة

٣٤٧

بالرعاية الراضي لايحائه واشارته. والتجرد المطلق من كل ارادة ذاتية والثقة العميقة بالرعاية الحانية. يرى الرؤيا فيتحرك بوحيها. ولقد فرح رسول الله ص وآله بهذه السورة.

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) والسكينة لفظ معبر مصور. والسكينة حين ينزلها الله في قلب. تكون طمأنينة وراحة وثقة ويقينا ورضى واستسلاما. ولقد كانت قلوب المؤمنين في هذه الواقعة تجيش بمشاعر شتى وتفور بانفعالات متنوعة كان فيها الانتظار والتطلع الى التصديق لرؤيا الرسول ص وآله. بدخول المسجد الحرام. ثم مواجهة موقف قريش ورجوع رسول الله ص وآله الى بيت الله الحرام.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) واذا كان هذا في حساب الله فوزا عظيما. فهو فوز عظيم. ثم أنبأهم بجانب اخر من جوانب حكمته فيما قدر في هذا الحادث.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧) إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠))

البيان : لقد بين النص حالة المنافقين والمنافقات. والمشركين والمشركات في صفة ظن السوء بالله وعدم الثقة بنصرته للمؤمنين. وفي انهم جميعا (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) وغضب الله عليهم ولعنهم واعد لهم جهنم وساءت مصيرا.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يعيبه من امرهم شيء ولا يخفى عليه من أمرهم شيء وله جنود لا تحصى ولا تقدر بمقدار قوة وعددا.

٣٤٨

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) فالرسول ص وآله شاهد على هذه البشرية التي ارسل اليها. يشهد انه بلغها ما أمر به وانها استقبلته بما استقبلته وهو المبشر لها بالخير والمغفرة. ومحذرها من سوء العاقبة والعذاب. (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) فهو الخاسر في كل جانب من جوانب الحياة. وما من بيعة بين الله وعبده الا والعبد فيها هو الرابح من فضل الله تعالى. (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) هكذا على اطلاقه (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) لا يفصله فاصل.

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥))

البيان : القرآن لا يكتفي بحكاية أقوال المخلّفين والردّ عليها. ولكنه يجعل من هذه المناسبة فرصة لعلاج امراض النفوس. وهواجس القلوب. وتمهيدا لعلاجها. فالمخلفون من الاعراب يعتذرون عن تخلفهم وليس هذا بعذر والوفاء بالواجب ولو كان مثل هذا يجوز ان يشغلهم ما نهض احد قط بواجب (واستغفر لنا) وهم ليسوا صادقين (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) هنا يرد عليهم بحقيقة العلم الكامل الذي يصرف الله قدره على وفقه.

(قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) وهو سؤال يوحي بالاستسلام

٣٤٩

لقدر الله تعالى والطاعة لأمره بلا توقف. فالتوقف لن يدفع ضررا. وانتحال المعاذير لا يخفى على الله العليم الخبير. ولا يؤثر في جزائه وفق علمه المحيط.

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) هكذا يقفهم عرايا مكشوفين وجها لوجه امام ما اضمروا. وما ظنوا ان الله يعلم بمكرهم.

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ ..) لقد كانوا يعتذرون باموالهم واهليهم .. فما ذا تنفعهم اموالهم واهلوهم في هذه السعير المعدة لهم اذا لم يؤمنوا بالله ورسوله.

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) لقد امر الله تعالى نبيه ان يرد على المخلفين وقرر ان خروجهم مخالف لأمر الله. وأمره بمنعهم من الخروج (بل تحسدوننا) ثم قرر ان قولهم هذا ناشيء عن قلة فهمهم وكذبهم بما قالوا. فتمنعوننا من الخروج لتحرمونا من الغنيمة. فجزاء المتخلفين الطامعين ان يحرموا. وجزاء المطيعين ان يعطوا من فضل الله. وان يختصوا بالمغنم حين يقدره الله سبحانه. جزاء اختصاصهم بالطاعة والاقدام باخلاص الجهاد في سبيل الله لأجل الغنيمة كالمخالفين.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧) لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠))

٣٥٠

البيان : المهم أن نلحظ طريقة التربية القرآنية. وطريقة علاج النفوس والقلوب. بالتوجيهات القرآنية. والابتلاءات الواقعية. وفي توجيههم الى الحقائق والقيم السامية.

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ...) فالاعمى والاعرج معهما عذر دائم هو العجز المستمر عن تكاليف الخروج والجهاد. والمريض معه عذر موقوت بمرضه حتى يبرأ.

والامر في حقيقته هو أمر الطاعة والعصيان. هو حالة نفيسة لا أوضاع شكلية. فمن يطع الله ورسوله ص وآله. فالجنة جزاؤه. ومن يتول فالعذاب الاليم ينتظره.

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً. وَمَغانِمَ كَثِيرَةً) وانني لأحاول اليوم من وراء ألف واربعمائة عام أن استشرف تلك اللحظة القدسية التي شهد فيها الوجود كله ذلك التبليغ العلوي الكريم. من الخالق العظيم. الى رسوله الصادق الامين. عن جماعة المؤمنين. أحاول ان استشرف صفحة الوجود في تلك اللحظة وضميره المكنون. وهو يتجاوب جميعه بالقول الالهي الكريم. عن أولئك الرجال القائمين اذ ذاك في بقعة معينة من هذا الوجود. وأحاول أن أستشعر بالذات شيئا من أولئك السعداء الذين قائدهم سيد الاوصياء علي (ع) وهم يسمعون بآذانهم انهم هم باشخاصهم وأعيانهم. يقول الله عنهم لقد رضي عنهم ويحدد المكان لهم الذي كانوا فيه. والهيئة التي كانوا عليها حين استحقوا هذا الرضى (إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ).

يالله كيف تلقوا ـ اولئك السعداء ـ تلك اللحظة القدسية. وذلك التبليغ الالهي. (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) بهذا التعبير الذي يرسم

٣٥١

السكينة نازلة في كل هدوء ووقار.

(وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً). هو هذا الصلح بظروفه التي جعلت منه فتحا. وجعلته بدء فتوح كثيرة. قد يكون فتح خيبر واحدا منها.(وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً).

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) فجعل لكم هذه) وهذه بشرى من الله للمؤمنين سمعوها وعلموا أن الله أعد لهم مغانم كثيرة. وقد أراهم تصديق ذلك بعد برهة قليلة.

(وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) هذه الوقعة التي كرهوها في أول الامر ولكن أراهم صحتها عيانا.

(وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) جزاء طاعتكم وامتثالكم وصدق سريرتكم. وهكذا يجمع لهم بين المغنم الذي ينالونه. والهداية التي يرزقونها. فيتم لهم الخير من كل جهاته. في الامر الذي كرهوه ـ في صلح الحديبية ـ وأولهم ابن الخطاب الذي شك في صدق النبي ص وآله. وهكذا يعلم أن اختيار الله لهم خير من اختيارهم لانفسهم (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

(وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥))

البيان : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) هكذا يربط نصرهم وهزيمة الكفار بثباتهم على الحق.

٣٥٢

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) هذا حادث يعرفه المسلمون. والله يذكره لهم في هذا الاسلوب. ليرد كل حركة وكل حادث وقع لهم الى تدبيره المباشر. وليوقع في قلوبهم هذا الاحساس المعين بيد الله سبحانه. وهي التي تدبر لهم كل شيء وتقود خطاهم اليه.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) هم في ميزان الله واعتباره. الكافرون حقا. الذين يستحقون هذا الوصف الكريه (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يسجله عليهم كأنهم متفردون به.

وهو صدهم للمؤمنين عن المسجد الحرام. (وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) وهي كبيرة في الجاهلية وفي الاسلام. كبيرة في جميع الاديان. التي يعرفونها في الجزيرة من لدن أبيهم ابراهيم (ع).

(وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) فقد كان هنالك بعض المستضعفين من المسلمين من مكة لم يهاجروا. ولم يعلنوا اسلامهم تقية من المشركين.

(لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) هكذا يكشف الله تعالى للجماعة المختارة عن جانب من حكمته. المغيبة وراء تقديره وتدبيره.

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦) لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

٣٥٣

البيان : (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) حميدة لا لعقيدة ولا منهج. انما هي حمية الكبر والطغيان. التي جعلتهم يقفون في وجه رسول الحق والعدل ص وآله.

فالشيطان جعل الحمية في نفوس أهل الطغيان والالحاد. وعنادهم للحق والعدل. والله تعالى أنزل السكينة والوقار والتقوى في نفوس المؤمنين ليزدادوا ايمانا مع ايمانهم.

ومن ثم كان المؤمنون أحق بكلمة التقوى. وكانوا أهلها. وهذا ثناء آخر من ربهم. الى جانب ما أنزل عليهم من سكينة. وما أودع فيهم من تقوى فهم قد استحقوا في ميزان الله.

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ) فأما البشرى الاولى. بشرى تصديق الرؤيا. فقد تحققت بعد عام واحد. ثم تحققت بصورة أكبر بعد عامين بالفتح المبين والفوز العظيم. وتكسير الاصنام وتحطيمها من بيت الله الحرام. واظهار كلمة (لا اله الا الله محمد رسول الله) مكانها. وتطهير البيت الحرام من الاوثان. وعبدة الشيطان والدخول في دين الله أفواجا.

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ) فقد ظهر دين الحق لا في الجزيرة فقط بل ظهر في أنحاء الارض في الطول والعرض.(وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً).

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ) انها صورة عجيبة يرسمها القرآن المجيد. باسلوبه البديع. صورة مؤلفة من عدة لفتات لابراز حالات هذه الجماعة المختارة لاظهار الحق.

(أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ. رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) لفظة تصور قلوبهم الزكية. وما شغلها وقائدهم علي (ع)

٣٥٤

(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) فيالها من تجارة رابحة وفوز عظيم ونعيم خالد. (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ) فهو زرع نام قوي. يخرج فرخه بقوة ونشاط ونتاج جميل.

(يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) وهو رسول الله ص وآله. صاحب هذا الزرع وخليفته علي (ع).

(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) وهذا المثل ليس مستحدثا. فهو ثابت في صفحة التاريخ.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) انه وعد غير مكذوب. وعد داخل في نوع اليقين الثابت.

(وَأَجْراً عَظِيماً) هذا هو التكريم العظيم. انه الفيض الالهي بلا حدود ولا قيود. وفي ميزان الله تعالى وفي كتابه المجيد يعد ويوفى. وينصر ويظهر الحق ولو كره المشركون والعاقبة للمتقين مع الخلود في نعيم لا يزول. والخسران للطغاة المتكبرين وفي نهاية امرهم الى نار جهنم وبئس المصير.

* * *

ـ ٤٩ ـ سورة الحجرات آياتها (١٨) ثمان عشرة آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

٣٥٥

البيان : تبدأ السورة بأول نداء حبيب. وأول استجاشة للقلوب (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) نداء من الخالق العظيم للذين آمنوا به. وتشعرهم بانهم له. وانهم في هذا الكوكب عبيده وجنوده. وانه قد أوجدهم لأمر قدره ويريده. فأولى لهم ان يقفوا حيث أراد لهم ان يكونوا. وان يقفوا بين يديه موقف المنتظر لقضائه. يفعلوا ما يؤمر. ويرضوا بما يقسم ويسلموا تسليما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) لقد ارتعشت قلوب المؤمنين لهذا النداء المرعب. وذلك التحذير المرهب. والتزم به المؤمنون بدون ادنى تفريط بعد هذا التحذير.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) فالتقوى هبة عظيمة ينالها أهلها بانقيادهم لنظام الخالق وقيادة العقل ونبذهم للهوى عن كل ما يخالف الحق والعدل. والتقوى هو نور الهي لا يدخل الا للقلوب المطهرة من كل شك وريب. وانحراف وعصيان. وصاحب التقوى محقق له غفران ما سبق منه.

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لقد وصفهم الله تعالى بعدم العقل لان أفعالهم تتنافى مع الموازين العقلية. وقد وعى المسلمون هذا الادب بعد ذلك فلا يدخلون عليه حتى يدعوهم. أو يأذن لهم في الدخول وبعد ذلك يستأذنونه في الكلام.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨) وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي

٣٥٦

حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠))

البيان : يخصص الفاسق لانه مظنة الكذب. وحتى لا يشيع الشك بين الجماعة المسلمة في كل ما يقول من أنباء. فالاصل بالجماعة المؤمنة ان تكون افرادها صادقة فيما تقول.

فأما الفاسق فهو موضع الشك حتى تثبت صحة ما قاله. وبذلك يؤمن الوقوع في الباطل على تقدير كذب الفاسق. وقد نزلت الاية في الوليد أخا عثمان بن عفان وهي تشمل كل فاسق اذا أخبر عن شيء فلا يجوز ترتيب الاثر حتى يتحقق صدقه.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) وهذا يزيد على ما تقدم أيضاحا وقوة. وهو يخبرهم أن تدبير رسول الله ص وآله فيه الصواب المحقق. وغير معرض للخطأ.

(لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) وفي هذا ايحاء في لزوم الرجوع الى ما يراه رسول الله ص وآله. ولا يقترحوا عليه خلاف ما يراه من الصواب.

(وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ) واختيار الله لعباده خير من اختيار العباد لانفسهم وهو تذكيرهم بان الله هو الذي اراد بهم الخير وأراد لهم النفع والصلاح.

ان الانسان قد يستعجل ويقع في الخطأ والخسران وهو لا يدري أو يتبع هواه.

(وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) وهذه قاعدة تشريعية عملية لصيانة المجتمع المؤمن من الخصام والتفكيك تحت التعصب واتباع الهوى والشهوات.

٣٥٧

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) ومما يجب ان يترتب على هذه الاخوة ان يكون الحب والمودة والنصيحة هم السائدون في الجماعة المؤمنة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤))

البيان : ان المجتمع الفاضل الذي يقيمه الاسلام بهدى القرآن فهو مجتمع له ادب رفيع. ولكل فرد فيه له كرامة. وهي كرامة المجموع وايذاء فرد ايذاء للمجتمع. لأن كل فرد هو طرف من المجتمع كأطراف الجسم اذا انصدع واحد تأذى له كافة الجسم واطرافه.

ولكن القرآن المجيد لا يكتفي بهذا الايحاء. بل يستجيش عاطفة الاخوة. ويذكر الذين آمنوا بانهم نفس واحدة من لمزها فقد لمز الكل. ومن سخر منها فقد سخر من الكل. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ) ان للناس حريات وحرمات وكرامات فلا يجوز ان تهتك ولا ان تمس بسوء. بحال من الاحوال ما زالت تابعة للحق. (وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) .. (وَاتَّقُوا اللهَ) ويسري هذا النص في حياة الجماعة المسلمة فيتحول الى سياج حول كرامة الناس. والى ادب عميق في النفوس والقلوب. (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى .. إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ ..)

٣٥٨

ان الله تعالى يناديهم هذا النداء وهو الذي خلقهم وهو يطلعهم على الغاية والتمايز الذي يميز بعضهم عن بعض دون سواه وهو التقوى لا غير. فالكريم حقا هو الذي كرمه الله دون سواه والميزان الذي يجب ان يوزن فيه بني آدم (ع) هو ميزان التقوى دون سواه. وحينئذ تسقط جميع الاعتبارات والاسباب والاحساب الا ميزان التقوى (أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) فيا له من ميزان لا يقبل التغاير ابدا ميزان حق وصدق وعدل. وكل ميزان لأبناء البشر سواه فهو ساقط لا يصلح. فيستحيل ان يرفع انسان عن آخر او يمتاز عنه الا بمقدار تقواه وفاقد التقوى ساقط. تافه لا يساوي في ميزان التقوى جناح بعوضة مهما كان شكله ولونه. هذا هو اللواء الذي رفعه الاسلام ليدخلوا في حصنه ويصبحوا من الامنين فلا عصبية في كيان الاسلام ولا قبلية. لانها كلها من الجاهلية الساقطة في ظل الحق والعدل وقد حارب الاسلام هذه العصبية الجاهلية في كل صورها واشكالها. فكلها زائفة ساقطة.

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨))

قال رسول الله ص وآله : (كلكم بنو آدم .. وأدم خلق من تراب) فلا فضل لأبيض على اسود ولا لعربي على أعجمي الا بالتقوى. فالتقوى هو الفارق والميزان وما سواه زائف (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) (وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) فمن هنا يظهر الفرق الهائل بين من يظهر الاسلام بلسانه فقط. وبين من يطبقه عقيدة وعملا بدون تفريط.

٣٥٩

البيان : فالايمان تصديق بالقلب. واقرار باللسان. وعمل بالاركان. عن صدق واخلاص. فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الايمان واطمأن اليه وثبت عليه. لا بد ان يندفع لتحقيق حقيقته في الخارج. وفي واقع الحياة. ولا يطيق الصبر على فراقه او التخلي عنه طرفة عين.

ومن هنا ينطلق المسلم الحقيقي الى الجهاد في سبيل الله بالنفس والمال. وكل عزيز لديه. فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن. يريد به ان يحقق به الصورة الوضيئة التي في قلبه. (أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) الصادقون في عقيدتهم. الصادقون حين ينطقون بألسنتهم فاذا لم تتحقق تلك المشاعر في القلب. ولم تتحقق أثارها في واقع الحياة فالايمان لا يتحقق (قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللهَ بِدِينِكُمْ) الانسان قد يدعي العلم والمعرفة. وهو لا يعرف نفسه والانسان حينما يراقب نفسه يكف عن عمله الذي يتنافى مع عقيدته وايمانه ..

(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بعد بيان حقيقة الايمان التي لم يدركوها ولم يبلغوها (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا) لقد منّوا بالاسلام. وزعموا الايمان فجاءهم الرد ان لا تمنوا بالاسلام. وان المنة لله تعالى عليكم ان كنتم صادقين في ادعائكم للايمان. ان الايمان هو كبرى المنن التي ينعمها الله على عبده. في هذه الحياة. انها المنة التي تجعل للوجود الانساني حقيقة مميزة. وتجعل له في نظام الكون دورا اصيلا عظيما. واول ما يصنعه الايمان في الكائن البشري. حين تستقر حقيقته في قلبه. هو سعة تصوره لهذا الوجود. ولارتباطاته به ولدوره هو فيه. وصحة تصوره للقيم والاشياء. فالمؤمن يعرف ـ بقلب مطمئن. وضمير مستريح وروح مستبشرة ـ انه يلبس ثوب العمر بقدر الله العظيم الذي يصرف الوجود كله تصريف الحكيم الخبير. وان اليد التي ألبسته اياه أحكم منه وارحم

٣٦٠