تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٤

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

الذي تشهد به فطرتهم ويحيدون عن مقتضاه المنطقي المحتوم.

(وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ) وهو تعبير خاص ذو دلالة وايماء بمدى عمق هذا القول. ومدى الاستماع له. والعناية به والرعاية من الله تعالى ويجيب عليه ـ في رعاية ـ بتوجيه الرسول ص وآله الى الصفح والاعراض وعدم المبالاة ومواجهة الامر بالسلام في القلب والسماحة. مع التحذير الملفوف للمعرضين. (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ. وَقُلْ سَلامٌ. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)

* * *

ـ ٤٤ ـ سورة الدخان آياتها (٥٩) تسع وخمسون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (٧) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (٨) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (٩) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

البيان : تبدأ السورة بالحرفين (حا. ميم) على سبيل القسم بهما وبالكتاب المبين. المؤلف منهما وبقية الحروف. وقد تكرر الحديث عن الاحرف المقطعة في أوائل السور. فاما عن القسم بهذه الاحرف كالقسم بالكتاب. فان كل حرف معجزة حقيقة أو آية من آيات الله. في تركيب الانسان. واقداره على النطق وترتيب مخارج حروفه. والرمز بين اسم وحرف وصوت. ومقدرة الانسان على تحصيل المعرفة

٣٠١

من ورائه. وكلها حقائق عظيمة تكبر في القلب كلما تدبرها مجردا من وقع الاهواء والعادات التي تذهب بكل تحقيق وبرهان.

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) الليلة المباركة هي ليلة القدر في شهر رمضان. وانها لمباركة حقا تلك الليلة التي يفتح فيها ذلك الفتح على البشرية. والتي يبدأ فيها استقرار هذا المنهج الالهي في حياة البشر. والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى. مترجمة في هذا القرآن المجيد. ترجمة يسيرة. تستجيب لها الفطرة السليمة وتلبيها في هوادة. وتقيم على أساسها عالما انسانيا مستقرا على قواعد الفطرة واستجاباتها. متناسقا مع الكون الذي يعيش فيه. طاهرا نظيفا كريما بلا تعسف ولا تكلف. يعيش فيه الانسان على الارض موصولا بالسماء ، موصولين مباشرة بخالقهم العظيم. يطلعهم أولا بأول على ما في نفوسهم. ويشعرهم أولا بأول بان عينه عليهم. فعليهم أن يحسبوا حساب هذه الرقابة الهائلة. وحساب هذه الرعاية لهم في كل حركة وسكون. وفي كل هاجسة تخطر في ضمائرهم. ويلجأون اليه اول ما يلجأون في كل نائبة ونازلة. واثقين انه منهم قريب ولا ينفعهم سواه.

وقد مضى ذلك الجيل الذي نزل عليه هذا القرآن. وبقي كتابا مفتوحا موصولا. بالقلب البشري ، يصنع به حين ينفتح له قلبه فيصنع به الاعاجيب. ويحول مشاعره بصورة تحسب أحيانا بالمعجزات التي كان يظهر أنها من المستحيلات. هذا هو الكتاب المبين.

وبقي هذا القرآن المجيد ، منهجا واضحا كاملا. صالحا لانشاء حياة انسانية سعيدة نموذجية في كل زمان ومكان. حياة انسانية. تعيش في بيئتها وزمانها في نطاق ذلك المنهج الالهي المتميز الطابع.

٣٠٢

بكل خصائصه دون تحريف. وهذه سمة المنهج الالهي وحده. وهي سمة كل ما يخرج من عند القدرة الالهية في كل عصر وجيل أتى وفني.

ان البشر يصنعون ما يغني مثلهم لعدم احاطتهم بقانون الله ونظامه الذي يستحيل للمخلوقات أجمع أن تأتي بمثله. ولكن الجهل أو الاهواء تعمي عن الحقائق. ان الله عزوجل أنزل هذا القرآن في هذه الليلة المباركة. أولا للانذار والتحذير :

(إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ) فالله يعلم غفلة هذا الانسان ونسيانه وحاجته الى الانذار والتنبيه.

(فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وقد فرق فيها بهذا القرآن المجيد في كل أمر. وفصل فيها كل شأن. وتميز الحق الخالد. والباطل الزاهق. ووضعت الحدود. وأقيمت المعالم لرحلة البشرية. كلها بعد تلك الليلة الى يوم الدين. فلم يبق هناك أصل من الاصول التي تقوم عليها الحياة غير واضح. ولا مرسوم في دنيا الناس نافع الا أوضحته.

(أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) وكان ذلك كله رحمة من الله بالبشر الى يوم القيامة.

(رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) لم تتجلى رحمة الله بالبشر كما تتجلى في هذا القرآن. بهذا اليسر. الذي يجعله سريع اللصوق بالقلب الحي. وتحول الكائن البشري الى انسان كريم. ان هذه العقيدة ـ التي جاء بها القرآن ـ في تكاملها وتناسقها جميلة في ذاتها جمالا تتعلق به القلوب الحية. الذي يتناول الجزئيات كلها بأدق تفصيلاتها ثم ينسقها ويربطها كلها بالأصل الكبير. وخالقها العظيم (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).

٣٠٣

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) التلويح باليقين في هذا اشارة الى عقيدتهم المضطربة المزعزعة اذ كانوا يعترفون بخلق الله للسموات والارض. ثم يتخذون من دونه أربابا. مما يفشي بغموض هذه الحقيقة في نفوسهم. وبعدها عن الثبات واليقين.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ) هو آله واحد. والاحياء والاماتة أمران مشهودان للجميع. وأمرهما خارج عن طاقة كل مخلوق. ويبدو هذا بأيسر التفات وتأمل. ومشهد الموت كمشهد الحياة في كل صوره وفي كل شكل يمس القلب البشري ويهزّه. ومن ثم يكثر ذكره في القرآن المجيد. وتوجيه المشاعر اليه ولمس القلوب به في كل آن.

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) انهم يلعبون ازاء ذلك الجد. ويشكون في تلك الايات الثابتة. فدعهم الى يوم هائل عصيب.

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) وقد اختلف في تفسير آية الدخان. فقال بعضهم انه دخان يوم القيامة. وان التهديد بارتقابه. وانه آت فليترقبوه.

(يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩))

البيان : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي ابتليناهم بالنعمة والسلطان لعلهم يشكرون فازدادوا طغيانا وكفرا. (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) يدعوهم الى الله. ويطلب منهم أن يشكروه على ما انعم عليهم.

٣٠٤

فانكروا ذلك عليه ونسبوا ما هم فيه الى تدبيرهم وحسن أعمالهم

(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) انها كلمات قصيرة تلك التي جاءهم بها (رَسُولٌ كَرِيمٌ) امين) انه يطلب منهم الاستجابة لله الذي خلقهم وأنعم عليهم. والاستسلام المطلق اليه. (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) فهي دعوة الله يحملها اليهم رسوله الامين. ومعه برهانه المبين. الذي تذعن له القلوب بدون اختيار. لشدة وضوحه ودلالته القاطعة.

ولكن الطغيان قلما يقبل النصفة فهو يخشى الحق لان أساس بنيانه باطل. ومن ثم فهو يكره الحق لان يكشف زيفه. ويحارب الحق لئلا يهدم بنيانه الباطل الضال.

(فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) وتلقى موسى (ع) الاجابة من ربه لما دمغ به القوم. حقا انهم مجرمون. وماذا يملك الرسول الا الاستناد الى مرسله القوي الغالب.

(فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) فالنص عليه يعيد تصوير المشهد السير بعباد الله.

(إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) هكذا ينفذ الله عزوجل ما أراد من خلال الاسباب الظاهرة. ويلحقهم فرعون بجنوده التي لا تحصى ـ نفر عام ـ وهو في زهوه الشامخ متحقق لنفسه الفوز والنصر. على هذه القلة الزهيدة الفارة من طغيانه وظلمه وعدوانه. ولم يدر ما ذا هيء له في علم الغيب وتدبير من هو فوقه قاهر لا يغلبه غالب وها هو أضأل وأزهد من أن يحس به الوجود. وهو يسلب النعمة وتنزل عليه النقمة.

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) ويبدأ المشهد بصور النعيم الذي كانوا فيه يرفلون. جنات. وعيون. وزروع. ومكان مرموق. ينالون فيه الاحترام والتكريم. ونعمة يتلذونها. ثم ينزع هذا كله

٣٠٥

بلحظات قليلة. ويرثه قوم آخرون كانوا لهم مستعبدين خادمين.

(كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) لقد ذهب الطغاة الذين كانوا ملء الأعين والنفوس في هذه الارض. لقد ذهبوا فلم ييأس على ذهابهم أحد. ولم تشعر بهم سماء ولا أرض. ولم ينظروا أو يؤجلوا عند ما أحاط بهم الانتقام. ومن يقدر على نصرهم وخالقهم المنتقم الجبار منهم.(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) فهؤلاء الطغاة المتعالون قد هلكوا وأصبحوا عبرة لأولي الالباب.

ولو كان لدى الجبارين في كل زمان احساس لأدركوا هوانهم وعرفوا أن تجبرهم على خالقهم يسبب تدميرهم. ولأدركوا انهم يعيشون في هذه اللحظات القليلة عيشة نكدة ثم يهلكون.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠))

البيان : يذكر هنا نجاة بني اسرائيل من العذاب المهين في مقابل الهوان الذي أذاقوه.

(وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) فقد تعرضوا للاختبار بهذه الآيات التي آتاهم الله اياها للابتلاء. حتى اذا تم امتحانهم وانقضت فترة استخلافهم أخذهم الله كما أخذ من قبلهم لانهم انحرفوا عن جادة الحق وطغوا كما طغى من كان يستعبدهم (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ).

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ. إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) ان هؤلاء المشركين

٣٠٦

من العرب ليقولون : ما هي الا الموتة التي نموتها. ثم لا حياة بعدها ولا نشور. ويستدلون على ذلك بعدم عودة آبائهم.

وهم يغفلون على أن رجوع الموتى له وقت معلوم. اذا جاء لا يؤخر لو كانوا يعلمون.

(أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) في هذه الذكرى وارتجاف القلوب. يقول لهم البيان ان يعيدوا النظر في تصميم السموات والارض. وما يبدو من آثارها من التنظيم والتنسيق البديع الرائع وما أصاب الامم قبلكم لما ظلموا.

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) اللفتة اللطيفة. والمناسبة بين خلق السموات والارض وبين قضية البعث تنسيق ملحوظ. فقد خلق كل شيء بمقدار لا يزيد ولا ينقص. عن تحقيق وتدبر في كل صغيرة وكبيرة. تصميم هائل دقيق.

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) يجيء هذا القول طبيعيا. ومرتبطا بما قبله كل الارتباط. فالحكمة تقتضي أن يكون هناك يوم يفصل فيه بين الخلائق. ويحكم فيه بين الهدى والضلال. ويكرم فيه أهل الصلاح. ويعاقب فيه أهل الفساد في هذه الحياة الفانية. هكذا تقتضي الحكمة الظاهرة في تصميم هذا الكون وما فيه. وفي تقدير الحق والعدالة الالهية.

(يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))

البيان : يبدأ المشهد بعرض شجرة الزقوم. بعد تقرير انها

٣٠٧

طعام الاثيم. عرض مفزع مرعب مخيف. ان هذا الطعام مثل دردى الزيت المغلي. (وهو المهل) يغلي في البطون كغلي الحميم. وهناك هذا الاثيم. هذا المتعالي على خالقه ومنعمه. على ربه ورسوله. وهذا هو الامر العالي يصدر من الخالق الباري. ليأخذوه في عنف يليق بمقامه (الكريم).

(خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) شدّوه جرّوه. فلا كرامة ولا هوادة. وهناك صبّوا فوق رأسه من ذلك الحميم المغلي الذي تغلي منه البطون.

(ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) هذا جزاء التعزز والتكبر. على الحق والعدل.

(إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) فقد كنتم تشكون في هذا اليوم وتمارون فيه وتكذبون.

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

البيان : (فِي مَقامٍ أَمِينٍ) لا خوف فيه ولا فزع ولا شدة ولا جزع (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) لباسهم الحرير. وزوجاتهم الحور العين. وخدامهم الولدان المخلدون وهم فيها خالدون

(فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) فياله من فوز وسعادة مالها مثيل يصل المتقون اليه بمجرد موت هذا الجسم.

٣٠٨

ـ ٤٥ ـ سورة الجاثية آياتها (٣٧) سبع وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))

البيان : يذكر الحرفين (حا. ميم) ويذكر بعدهما تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم. وفيهما دلالة في مصدر الكتاب. كما اسلفنا الحديث عن الاحرف المقطعة في أوائل السور من ناحية أن هكا الكتاب المعجز مصوغ من مثل هذه الاحرف. وهم لا يقدرون على شيء منه فهذه دلالة قائمة على ان تنزيل الكتاب من الله عزوجل وان سواه عاجز عن مثله وهو العزيز الحكيم. القادر على كل شيء اراده. وانه لا يوجد شيئا الا لحكمة ومصلحة لعباده. وانه لا ينهي عن شيء ولا يأمر بشيء الا لضرر فيه او مصلحة راجعة للفاعل وقد يشمل سواه.

(إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) والايات المبثوثة في السموات والارض لا تقتصر على شيء دون شيء. ولا حال دون حال. فحيثما مد الانسان بصره وجد ايات الله تعالى تطالعه في هذا الكون العجيب الذي يعجز المخلوق ان يدرك مداه ولكن لمن تعلن هذه الآيات عن اعجازها وما فيها من براهين على خالقها (لقوم يؤمنون) يعني يريد الدلالة بها على الايمان والاذعان لخالقها وصانعها ومنظمها في أحسن تقويم. انها تنادي ارباب العقول. وتخاطب القلوب المفتوحة المتهيئة لتلقي الحقائق واتباعها بدون توقف وبدون تردد. ولا تبالي بكل من اعرض عنها الى سواها. (وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) وخلق هذا الانسان وتكوينه اعجب مخلوقات الله. فاذا استعمل

٣٠٩

عقله ونبذ هواه. واطاع خالقه سما فوق الملائكة. وأصبح أشرف وأفضل من كل ما وجد في هذا الوجود ـ بعد خالقه ـ بدون استثناء.

وان هو نبذ عقله واتبع هواه تسافل حتى يصبح أخبث مخلوق وجد. وبهذه الخصائص الفريدة. وبهذه الوظائف الدقيقة المتنوعة. خارقة خالدة نسيناها. لكثرة تكرارها وقربها منا. ان الحياة في ابسط صورها معجزة. واصغرها كأكبرها. وفي هذا كله آيات ناطقة بالحكمة والعظمة. لمن يراها بقلب مفتوح. وعقل صاح انها (آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) واليقين والحالة المهيئة للقلوب كي تحسّ وتتأثر وتفكر في عالم الناس وباقي الاحياء. وتتلقى حقائق الكون في راحة وهدوء.

(وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) انهما ظاهرتان وهما يواجهان مشاعر القلوب الحية. لترى يد الخالق العظيم كيف تدير هذا الكون كله لخدمة هذا الانسان واستفادته منه (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) والرزق قد يكون المقصود منه الماء. النازل من السماء كما كان يفهم فيما مضى. ولكن رزق السماء اوسع. فأن الاشعة التي تنزل من السماء ليست أقل اثرا في احياء الارض من الماء. بل هي التي ينشأ منها الماء بأذن الله فبالماء والحرارة والضياء تحيا الارض بعد موتها باذن خالقها العظيم القدير.

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) وهي تمضي شمالا وجنوبا. وشرقا وغربا. وفق النظام المقدر من خالق الكون وما حواه. وفيها آيات معروضة (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) فللعقل هنا عمل كبير (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ) ان أي كلام لن يبلغ كلام الخالق العظيم. في قرآنه المجيد. وان أي ابداع لن يبلغ ابداع هذا الكون الهائل. وان اية حقيقة لن تبلغ حقيقة من اذا قال للشيء كن فيكون. في الثبوت والوضوح واليقين.

(فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) وهنا لا يليق بمن لا يؤمن الا التهديد والتنكيل.

٣١٠

(وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٩) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (١١))

البيان : الويل والهلاك للافّاك الكذاب المشهور بالكذب الكثير لأرتكاب الاثم والتهديد شامل لكل من له هذه الصفة. وهو تهديد صادر من رب العزة. المنتقم الجبار. القادر على التنكيل والدمار الصادق في وعده ووعيده. وانذاره وتهديده. فهو تهديد مرعب مفزع لهذا الأفاك الاثيم. علامته انه مصرّ على الباطل وارتكاب الجرائم والتكبر على الله. (يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً) وهذه الصورة البغيضة للخالق العظيم وهي تتكرر في كل زمان ومكان. لانها لا توافق الاهواء ولا تسير مع المألوفات. (فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) البشارة للخير تستعمل عادة. ولكن جاءت هنا للسخرية والاستهزاء. فاذا كان لا يسمع النذير. فليأته الويل المنظور. في صور البشر للسخرية والتحقير (وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً) بعد ان يعلمها ويعرف مصدرها. وهي صورة ايضا مكرورة في كل جاهلية يعمّ فيها الفساد والضلال. وكم من الناس من يقال عنهم انهم مسلمون. وهم يستهزئون بالشرائع الالهية. والاحكام الربانية. (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) فالمهانة هي الجزاء المناسب لمن يستهزىء بآيات الله وهو يعلمها (مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ) (وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً) فليس شيء مما عملوا أو ملكوا بنافعهم. فعلمهم باطل وملكهم زائل. وأولياؤهم من دون الله لا يملكون انفسهم نفعا ولا ضرا ولا شفاعة.

(هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) ان

٣١١

حقيقة هذا القرآن انه هدى مصفّى لا يشوبه ضلال ولا باطل. ولا نقص ولا عيب. فالذين كفروا بعد ذلك بالايات. وهذه حقيقتها يستحقون اشد العذاب. فالرجز هو العذاب الشديد. والعذاب الذي يهددون به هو عذاب من رجز اليم. يليق بمن يكفر بالهدى والحق المبين.

(اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٥))

البيان : ان هذا المخلوق الصغير .. الانسان .. يحظى من رعاية الله عزوجل. بالقسط الوافر الذي يتيح له ان يسخر الخلائق الكونية الهائللة. وينتفع بها على شتى الوجوه وذلك بالاهتداء الى طرف من سر الناموس الالهي الذي يحكمها. والذي تسير وفقه ولا تعصاه. ولو لا هذا الاهتداء الى طرف السر لما استطاع الانسان بقوته الهزيلة المحدودة ان ينتفع بشيء من قوى الكون الهائلة. بل لما استطاع ان يعيش معها كالطفل الصغير. وهي هذه الجبارة من القوى والطاقات والاجرام.

والبحر أحد هذه الجبابرة الضخام التي سخرها الله تعالى للانسان. فهداه لذلك سخر الله البحر للانسان والفلك ليبتغي من فضل الله. وليتجه الى شكره وتفضله.(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) وهو يوجه القلب بهذا القرآن الى الوفاء بهذا الحق اللازم. عقلا وشرعا. ومن تخصيص البحر بالذكر الى التعيم الدال على وحدة خالقه العظيم (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) فكل شيء في هذا الوجود منه صدر واليه يعود. وهو منشئه ومدبره. وهو مسخره ومذلله. وهذا المخلوق الصغير

٣١٢

ـ الانسان ـ مزود من الله تعالى بالاستعداد لمعرفة طرف من النواميس الكونية يسخر به قوى هذا الكون وطاقات تفوق هذا الانسان الضعيف كل ذلك. بفضل الله وكرمه. وفي كل ذلك آيات لمن يفكر ويتدبر. ويتبع قلبه وعقله.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) والفكر لا يكون صحيحا وعميقا وشاملا. الا حين يتجاوز القوى والطاقات التي يكشف سرها لمصدر هذه القوى والطاقات هذه الصلة التي تيسر للانسان الاتصال بها وادراكها. ولولاها لما اتصل ولا أدرك ولا عرف ولا تمكن ولا تمتع بشيء من هذه القوى والطاقات.

(قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) فهو توجيه كريم للذين آمنوا ليتسامحوا مع الذين لا يرجون أيام الله. والواقع أن الذين لا يرجون أيام الله مساكين يستحقون العطف أحيانا. والقصاص تارة أخرى.

(لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) ويعقب على هذا بفردية التبعة وعدالة الحاكمية. وتوكيد الرجوع الى الله وحده في نهاية المطاف.

(مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) بذلك يتسع صدر المؤمن ويرتفع شعوره ويحتمل المساءات الفردية من الحمقاء المحجوبين فهو أكبر وأفسح وأقوى. وهو حامل مشعال الهدى للمحرومين من النور. وحامل بلسم الشفاء للمصابين. والامر مرده كله الى الخالق العظيم في النهاية واليه المرجع والمآب.

(وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٦) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٧) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ

٣١٣

أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٢٠))

البيان : كانت القيادة ـ قبل الاسلام ـ لبني اسرائيل. وكانوا هم أصحاب عقيدة السماء التي اختارها الله تعالى لتلك الفترة من التاريخ. ولا بد للبشر من قيادة مستمدة من السماء. فالارض قيادتها أهواء وجهل وقصور ذاتي في أهلها. والله تعالى الذي خلق البشر هو وحده الذي يشرع لهم شريعة تصلح شأنهم وتحل مشاكلهم وتجمعهم على الهدى والصلاح. والحق والعدل. فالصانع للشيء هو أدرى بعلله واصلاحه عند العطب. فكان في بني اسرائيل التوراة فيها حكم الله. بما يناسب ظروفهم وطبائعهم حتى يأتي بسواها.

(فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بطبيعة الحال حينما يوجد ميزان الحق يعرف من يريد الحق فليتزم بميزانه ومن يريد الباطل (بَغْياً بَيْنَهُمْ) بذلك انتهت قيادتهم في الارض وبطل استخلافهم. وأمرهم بعد ذلك الى الله الخبير.

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) ثم كتب الله الخلافة في الارض لرسالة الدوام والاستمرار الى يوم الفناء بقيادة خاتم الانبياء. وسيد المرسلين محمد ص وآله.

(ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ) وهكذا يتمحص الامر. فاما شريعة الله والحق. واما الاهواء واتباع الباطل. وليس هناك من فرض ثالث. ولا طريق وسط بين الحق والباطل. وبين الهدى والضلال. وبين شريعة الخالق العظيم وتشريع الشيطان.

والله سبحانه وتعالى يحذر رسول الله ص وآله أن يتبع أهواء الذين لا يعلمون ان السعادة والراحة في الدنيا والاخرة. بطاعة الخالق

٣١٤

العظيم الذي بيده أزمة الامور واليه يرجع كله. واذا قال للشيء كن فيكون. وغيره لا يملك من الامر شيئا ولا لانفسهم ينصرون.

(إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً) فعلامة من عرف الله ان يستصغر كل من سواه.

انها شريعة واحدة التي تستحق هذا الوصف. وما عداها أهواء منبعها الجهل أو المصالح. وعلى صاحب الدعوة أن يتبع الشريعة وحدها. ويدع الاهواء كلها. وعليه ألا ينحرف عن شيء من الشريعة الى شيء من الاهواء. فأصحاب هذه الاهواء أعجز من أن يغنوا عنه من الله صاحب الشريعة. وهم الب عليه. فبعضهم ولي بعض (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ).

(هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ووصف القرآن بانه بصائر للناس يعمق معنى الهداية فيه والانارة. فهو بذاته بصائر كاشفة كما أن البصائر تكشف لأصحابها عن الامور المرئية. وهو بذاته رحمة. ولكن هذا كله يتوقف على اليقين.

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٢١) وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٢) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٢٣) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٢٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٥))

البيان : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وهنا يأتي ميزان الحق والعدل ليميز الخبيث

٣١٥

من الطيب. واستنكار التسوية بين مجترحي السيئات وفاعلي الحسنات. سواء في الحياة أو في الممات. ومخالفة هذا للقاعدة الثابتة الاصيلة في بناء الوجود كله. قاعدة الحق الذي يتمثل في بناء الكون. كما يتمثل في شريعة الخالق العظيم. كما يتحقق في التفرقة بين المسيئين والمصلحين. في جميع الاحوال (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) لانه أصل من أصول هذه العقيدة. ويرجع اليه في الانفس والافاق. وهو اساس (فكرة الاسلام على الكون والحياة والانسان).

(أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) والتعبير القرآني المبدع نموذجا عجيبا للنفس البشرية حين تترك الاصل الثابت وتنحرف عن خطها المستقيم. وتتبع الهوى المنقلب. وحين تتبعد هواها. فما تتعرف على سواها مهما كانت تسنده الادلة والبراهين الواضحة.

أفرأيته. انه كائن عجيب يستحق التأنيب والتوبيخ. ألا يكون هذا العمل له ضلالا. وان نسب الى الله تعالى مجازا ليعبر عن قدرته القاهرة التي لو أراد منعه لمنعه قهرا. ولكن شاءت حكمته أن يبين لهذا الانسان اسباب الخير والشر والهدى والضلال. ويترك له الخيار ـ بعد أن أمره بالخير والهدى ونهاه عن الشر والضلال ـ فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر. والحساب للتالي. فللمطيع (الكفالة والحماية في الدنيا والنعم والكرامة في الاخرة. وللمسيء العناء والبلاء في الدنيا وفي الاخرة. يخلد في جهنم وبئس المصير. (أَفَلا تَذَكَّرُونَ) ومن تذكر صحى قلبه وهداه عقله. ومن ترك الذكرى اتبع هواه وأخزاه وأرداه.

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) هكذا كانوا ينظرون تلك النظرة

٣١٦

القصيرة القاصرة. جيل يموت وجيل يحيا. والدهر ينطوي. فاذا هم أموات الى جهنم وحريقها.

وهي نظرة سطحية لا تتجاوز المظاهر. ولا تبحث عما وراءها من اسرار وآثار. ولم يفكروا من أين جاءت اليهم الحياة. واذا جاءت فمن ذا يذهب بها عنهم قهرا عن ارادتهم والمشاهد أن الموت يسطو على الكبير والصغير. والقوي والضعيف على حد سواء.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) وهذه كتلك تدل على نظرة سطحية لا تدرك نواميس الخلق. وحكمة الخالق العظيم فيها. وسر الحياة والموت الكامن وراءها. المتعلق بتلك الحكمة الالهية العميقة. فالناس يحيون في هذه الارض ليعطوا فرصة للعمل وليختبرهم خالقهم ويعطيهم فرصة للعمل ليرتفعوا من درجة الحيوانية الى درجة الملائكة المقربين وما يزيد ان هم أطاعوا خالقهم واستعملوا عقولهم ونبذوا هواهم وتعصبهم.

ومن ثم فهم لا يعودون اذا ماتوا لان الجزاء للمجرمين. والمكافأة للمطيعين المحسنين سيكون في دار الدوام والخلود. فاما نعيم لا مثيل له واما عذاب لا مثيل له.

(قُلِ اللهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢٦) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (٢٧) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٨) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٩) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (٣٠))

البيان : هذه هي المعجزة التي يريدون ان يشهدوها في آبائهم. ها هي ذي تقع امام أعينهم بعينها وبذاتها. والله هو الذي يحيي. ثم

٣١٧

هو الذي يميت. فلا عجب اذن في أن يحيي الناس ويجمعهم الى يوم القيامة. ولا سبب يدعو الى الريب في هذا الامر الذي يشهدون نظائره فيما بين أيديهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

(وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ) ان الله تعالى يكشف عن الخسران لمن اختار الضلال على الهدى. والدنيا على الآخرة. ويخبرهم أن من اختار الخسران على الارباح فقد أتلف رشده. وفقد سعادته. وعما قليل تنتهي هذه الحياة ويكشف الغطاء لمن يقدم هواه وينبذ عقله المنير. وتقوم قيامته عند انتهاء أيامه وفناء جسمه وهناك المشهد المرهوب ثم يأتي يوم الجمع لا ريب فيه ويوضع الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها. ثم يقال للمجرمين (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

ثم تنقسم الحشود والامم على مدى الاجيال. واختلاف الاجناس فريقين اثنين. الذين آمنوا واتقوا. والذين كفروا وطغوا. حزب الرحمان. وحزب الشيطان. فريق في الجنة يدخل بسلام وامان. وفريق في النار يلبس ثياب القطران ويقرن في الحال بسلاسل من نار. وتقرن الايدي الى الاعناق ويخلد في الجحيم ويوصد عليه الباب.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (٣١) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (٣٢) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٣) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٤) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٣٥) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٦) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣٧))

البيان : فالان كيف ترون الحال. وكيف تذوقون اليقين (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا).

٣١٨

(وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) ثم يعلن خلودهم في جهنم أبدا.

(فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها) وكأننا نسمع صرير أبواب جهنم توصد على أهلها المعذبين.

(فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

* * *

ـ ٤٦ ـ سورة الاحقاف آياتها (٣٥) خمس وثلاثون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (٣) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (٥))

البيان : هذا هو الايقاع الاول في مطلع السورة. وهو يلمس العلاقة بين الاحرف العربية التي يتداولها كلامهم. والكتاب المصوغ من جنس هذه الاحرف على غير مثال من كلام البشر. وشهادة هذه الظاهرة بانه تنزيل من الله العزيز الحكيم. كما يلمس العلاقة بين كتاب الله المنزل من عنده. وكتاب الله المنظور المصنوع في هذا الكون. الذي تراه العيون وتقرؤه القلوب. وتأنس برؤيته بصائر المتقين.

وكلا الكتابين قائم على الحق وعلى التدبير. فتنزيل الكتاب (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) وكلا الكتابين مفتوح معروض على الاسماع والافئدة والانظار. ينطقان بقدرة الله تعالى ويشهدان بحكمة خالقهما

٣١٩

القدير الخبير. وكتاب الكون يدل على صدق الكتاب المتلو. وما فيه من انذار وتبشير. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) وهذا هو العجب المستنكر الذي يشير اليه الكتاب المنزل. والكتاب الكوني المنظور.

فالكتاب المنزل المتلو يقرر أن الله واحد يستحيل تعدده. وكتاب الكون الحي ينطق بهذه الحقيقة ذاتها. فنظامه وتنسيقه وتناسقه كلها تشهد بوحدانية الصانع المقدر المدبر. الذي يصنع وما يصنع عن علم وحكمة ومعرفة والواقع شاهد.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وهذا تلقين من الله سبحانه لرسوله ص وآله ليواجه القوم بشهادة كتاب الكون المفتوح. للكتاب الذي لا يقبل الجدل والمغالطة. ـ الّا اذا قصد المراء والافتراء ـ والذي يخاطب الفطرة بمنطقها. بما بينه وبينها من صلة ذاتية خفية يصعب التغلب عليها ومغالطتها. (أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ).

ولن يملك انسان أن يزعم ان تلك المعبودات ـ سواء كانت حجرا أم بشرا ـ قد خلقت من الارض شيئا أو خلقت في الارض شيئا. ان منطق الفطرة بذلك شاهد.

(أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ) ولن يملك انسان كذلك ان يزعم أن لتلك المعبودات شركة في خلق السموات او في ملكيتها. ونظرة الى السموات عابرة توقع في القلب عبر واحساس بعظمة الخالق المتعال. والشعور بوحدانيته لا ينكره إلّا القلب المطموس. والله تعالى منزل هذا الكتاب وهو يعلم أثر النظر في هذا الكون على قلوب عباده. ومن ثم يوجههم الى كتاب الكون ليتدبروه. ويستشهدوه. المباشر لقلوبهم الحية.

٣٢٠