تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

البيان : لقد كانت معركة بدر هي المعركة الاولى بين المسلمين والمشركين. وكان المسلمون ما يزالون قلة. والمشركون كثرة. وكان نقص عدد المحاربين من المشركين مما يكسر شوكتهم ويذل كبريائهم ويعجزهم عن معاودة الكرة على المسلمين. وكان هدفا كبيرا لا يعدله المال الذي يأخذونه مهما يكونوا فقراء .. لذا عرض القرآن بالمسلمين الذين قبلوا الفداء في الاسرى (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا) والمسلمون عليهم ان يريدوا ما يريد الله فهو خير وابقى.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى ..) (هذا الخير كله معلق بأن تصلح قلوبهم فتتفتح لنور الايمان فيعلم الله ان فيها خيرا والخير هو الايمان حتى ما يحتاج الى ذكر وتنصيص. ان الاسلام انما يستبقى الاسرى لديه ليلمس في قلوبهم مكامن الخير والرجاء والصلاح وفي الوقت الذي يفتح الله للأسرى نافذة الرجاء المشرق الرحيم يحذرهم خيانة الرسول ص وآله (الذين آمنوا ولم يهاجروا) ليس بينهم وبين المجتمع المسلم ولاية. وهكذا وجد الاسلام في نفس اللحظة تجمع عضوي حركي مستقل منفصل عن المجتمع الجاهلي ومواجهة لهذا المجتمع (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ..)

لقد انخلع كل من قال : لا اله الا الله. وان محمدا رسول الله ص وآله في مكة من الولاء. لأسرته والولاء لعشيرته والولاء لقبيلته. واعطى ولاءه وزمامه لمحمد رسول الله ص وآله.

عندئذ آخى رسول الله بين اعضاء هذا المجتمع الوليد .. اي انه حول هؤلاء الافراد الآتين من المجتمع الجاهلي افرادا الى مجتمع متكافل تقوم رابطة العقيدة فيه مقام رابطة الدم والنسب ويقوم الولاء لقيادته الجديدة مقام الولاء للقيادة الجاهلية ..

٨١

ثم فتح الله للمسلمين دار الهجرة الى المدينة اولياء النصر واؤلياء الارث واؤلياء في الديات(الَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .. وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ).

ان الامور بطبيعتها كذلك. ان المجتمع الجاهلي لا يتحرك كافراد انما يتحرك ككائن عضوي ومن ثم لا يملك الاسلام ان يواجههم الا في صورة مجتمع ولاؤه بعضه لبعض.

(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) فهذه هي الصورة الحقيقية التي يتمثل فيها الايمان هذه هي صورة النشأة الحقيقية والوجود الحقيقي لهذا الدين. انه لا يوجد حقيقة عبر اعلان القاعدة النظرية. ولا بمجرد اعتناقها. ولا حتى بمجرد القيام بالشعائر التعبدية فيها.

ان هذا الدين منهج حياة لا يتمثل في وجود فعلي الا اذا تمثل في تجمع حري؟؟؟. اما وجوده في صورة عقيدة فهو وجود حكمي. ولا يصبح حقا الا حين يتمثل في تلك الصورة الحركية الواقعية.

وهؤلاء المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم. والرزق يذكر هنا بمناسبة الجهاد والانفاق والاواء والنصرة وتكاليف هذا كله. وفوقه المغفرة وهي من الرزق الكريم بل هي اكرم الرزق (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) فلا بأس بعد استقرار الوجود الفعلي للاسلام. من أولوية ذوي القربى في داخل الاطار العام. ان هذا يلي جانبا فطريا في النفس الانسانية.

ان الاسلام لا يحطم المشاعر الفطرية بل يحميها ويضبطها لتستقيم مع الحاجات العليا (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وهو التعقيب المناسب على هذه الاحكام والتنظيمات والمشاعر وتنسيقها. فهي من العلم المحيط بكل شيء في علم الله تعالى.

٨٢

ـ ٩ ـ سورة التوبة ـ عدد آياتها ـ مائة وتسع وعشرون آية

(بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢)

وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤))

البيان : هذه الآيات ـ وما بعدها ـ نزلت تحدد العلاقات النهائية بين المجتمع الاسلامي الذي استقر وجوده في المدينة وفي الجزيرة العربية .. وبين بقية المشركين في الجزيرة الذين لم يدخلوا في هذا الدين سواء منهم من كان له عهد مع رسول الله ص وآله. فنقضه حينما لاح له ان مواجهة المسلمين للروم ـ حين توجهوا لمقابلتهم في تبوك ستكون فيها القاضية على المسلمين والاسلام. او لم يكن له عهد ولكنه لم يتعرص للمسلمين من قبل بسوء.

واسلوب هذه الآيات وايقاع التعبير فيها يأخذ شكل الاعلان العام ورنينه العالي فيتناسق اسلوب التعبير وايقاعه مع موضوعه والجو الذي يحيط بهذا الموضوع.

ثم تأتي بعد الاعلان العام البيانات والمخصصات والشروح لهذا الاعلان (فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ) فهذا بيان للمهلة التي اجل الله المشركين اليها : اربعة اشهر يسيرون في الارض وينتقلون آمنين حتى اؤلئك الذين نقضوا عهدهم عند اول بادرة لاحت لهم.

والمؤمنون لن ينقلبوا الى اهليهم من تبوك. وان الروم سيأخذونهم اسرى كما توقع المرجفون في المدينة والمنافقون. ومتى كان ذلك. كان بعد فترة طويلة من العهود التي ما تكاد تبرم حتى تنقض. وفي العصر

٨٣

الذي لم تكن البشرية كلها تعرف لها قانونا الا قانون الغاية والغلبة ولم يكن بين الممتعات المختلفة الا القدرة على الغزو او العجز عنه بلا انذار. ولا رعاية لعهد متى سنحت الفرصة.

ولكن الاسلام هو الاسلام منذ ذلك الزمان. ذلك انه منهج الله الذي يرقي البشرية. ويطورها حول محوره وداخل اطاره. ولا علاقة له بالزمان في اصوله ومبدئه. فليس الزمان هو الذي يرقيه ويطوره.

ومع المهلة التي يعطيها رسول الله ص وآله للمشركين فهو يزلزل قلوبهم بالحقيقة الواقعة ويوقظهم الى هذه الحقيقة. ليفتحوا عليها عيونهم. انهم بسياحتهم في الارض لن يعجزوا الله في الطلب. ولن يفلتوا منه بالهرب. ولن يفلتوا من مصير محتوم قدره وقرره الخالق القهار (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ .. وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) فيا لها من قوة قاهرة. تهدد ونجزم بان الغلبة لها بأمر محتوم وجزم قاطع وهل يقدر على هذا الا الخالق العظيم. (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ. وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) وهذا الترهيب وذلك الترغيب في آية البراءة يشيران الى طبيعة المنهج الاسلامي. انه منهج هداية قبل كل شيء. فهو يتيح للمشركين هذه المهلة لعلهم يتفكرون في اتباع الحق والهدى وترك الضلال والعناد لعلهم يهتدون. ويختارون الطريق الاقوم.

ثم هو يطمأن الصف المسلم ويذهب عنه بعض مخاوفه من عدوه القوي الكثير فيخبرهم بان قوة الله عزوجل اقوى واقدر. وجنوده اعز واكثر فكونوا في امان (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) فيجعل هذا الوفاء عبادة له وتقوى يحبها من أهلها. وهذه هي قاعدة الاخلاق في الاسلام دين السلام والامان. فالمسلم يتخلق بما يحبه

٨٤

الله عزوجل منه ويرضاه له وهذا هو سلطان الاخلاق في دين الاسلام. ثم هو في الطريق يحقق منافع العباد.

(فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (٦))

البيان : وقد أمر الله المسلمين ـ اذا انقضت الاشهر الاربعة ـ ان يقتلوا كل مشرك انّى وجدوه. أو يأسروه او يحاصروه. اذا تحصن منهم او يقعدوا له مترصدين. لا يدعونه يفلت او يذهب ـ باستثاء من امروا بالوفاء لهم الى مدتهم. ـ بدون اي اجراء اخر معهم ذلك ان المشركين أنذروا وأمهلوا وقتا كافيا. فهم اذن لا يقتلون غدرا. ولا يؤخذون بغتة. وقد نبذت لهم عهود وعلموا سلفا ما ينتظرهم.

غير أنها لم تكن حملة ابادة ولا انتقام. انما كانت حملة انذار لانتشالهم من ضلال الشرك وظلمة الجور الى هدى الاسلام وعدله. وفي الحقيقة ما هو الا كتأديب اليتيم لاصلاح حاله (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لقد كانت هناك وراءهم اثنتان وعشرون سنة من الدعوة والبيان للهداية والارشاد وتأليب على دولتهم. ثم سماحة من هذا الدين. وانه لتاريخ طويل. ومع هذا كله.

فلقد كان الاسلام يفنح لهم ذراعيه ليتلقاهم بكل ترحاب وكرامة ان هم تركوا الباطل والفساد واتبعوا الحق والاصلاح. والله عزوجل يأمر نبيه ص وآله والمسلمين الذين أوذوا وفتنوا وشردوا وقتلوا كان يأمرهم ان يكفوا عن المشركين ان هم اختاروا التوبة والانابة الى خالقهم العظيم وعدلوا عن العصيان والتكبر عليه. (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وأخيرا فانه مع هذه الحرب المعلنة على عبادة الاصنام كافة بعد انسلاخ الاشهر الاربعة يظل الاسلام على سماحته وجديته وواقعيته كذلك. فهو يدعوهم الى

٨٥

دار الامن والسّلام (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ. ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) ان هذا يعني ان الاسلام حريص على كل قلب بشري ان يهتدي ويرجع عن غيه وبغيه. الى ما ينفعه ويسعده في الدنيا والآخرة.

ولقد كانت قمة عالية تلك الاستجارة والامان لهم في دار الاسلام وهي القمم العالية. انه منهج الهداية لا منهج الابادة والظلم منهج الحق والعدل. وغايته الوحيدة سعادة البشر واخراجهم من الظلام الى النور. ومن الظلم والجور الى العدل والاحسان الى دين الخالق العظيم.

(كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (٨)

اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (١٠) فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (١١) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢) أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (١٤) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٥))

البيان : لما انتهى من مجموعة الآيات السابقة الى تقرير الاحكام النهائية الاخيرة بين المجتمع المسلم والباقين من المشركين في الجزيرة. وهي تعني انهاء حالة التعاهد والمهادنة معهم جميعا قال عزوجل : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ).

ان المشركين لا يدينون لله بالعبودية. ولا يعترفون برسالة محمد ص وآله. فكيف يجوز أن يكون لهؤلاء عهد عند الله وعند رسوله.

٨٦

ومع استنكار الأصل فقد اذن عزوجل باتمام عهدهم السابق ولم ينقصهم شيئا (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ..) ثم يعود فيستنكر مبدأ التعاهد باسبابه التاريخية والواقعية. ويجمع بين هذه وتلك فيقول :

(كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً (..) وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ)

وهذا هو السبب الاصيل لهذا الحقد الدفين عليكم. واضمار عدم الوفاء بعهودكم (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) : لا يقعد هؤلاء الاعداء عن الفتك بالمسلمين بلا شفقة ولا رحمة. هذا تاريخهم الطويل من الواقع العملي .. بينما منهج الله غايته اخراج الناس من الظلمات الى النور.

وهذا موقف المشركين من كل رسول ومن كل رسالة. ومن كل دين الله على الاطلاق. فان ابعاد المعركة تترامى. ويتجلّى الموقف على حقيقته لما تصوره تلك النصوص القرآنية الخالدة. على مدار التاريخ البشري كله بلا استثناء. ثم ماذا صنع المشركون مع محمد ص وؤله.

وماذا صنع المشركون بالمسلمين ايام الغزو الثاني للشرك على ايد التنار. ثم ما صنع المشركون والملحدون اليوم بعد اربعة عشر قرنا بالمسلمين في كل مكان. انهم لا يرقبون فيهم الا ولا ذمة كما يقرر النصّ القرآن الصادق الخالد.

ـ عند ما ظهر الوثنيون التتار على المسلمين في بغداد وقعت المأساة الدامية التي سجلتها الروايات التاريخية. والتي نكتفي بمقتطفات سريعة من تاريخ ابي الفداء (ابن كثير).

عام ٦٥ ، ه قال : ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والوالدان والمشايخ والكهول والشبان فيقتلونهم بالاسطحة حتى تجري الميازيب. وقتلوهم في المساجد والروابط. ولم ينج منهم احد سوى اليهود والنصارى الذين كانوا ممن كاتب التتار على المسلمين

٨٧

في هذه الوقعة. وممن دلوا على عورات المدينة. وشاركوا معهم مشاركة فعلية في هذه الكارثة. واستقبلوا التتار بالترحاب. ليقضوا على المسلمين الذين اعطوهم ذمتهم ووفروا لهم الامن والحماية.

وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة. فقيل ثمانمائة الف. وقيل الف الف وقيل بلغت القتلى الفي الف نفس فانا لله وانا اليه راجعون.

وكان دخولهم الى بغداد في أواخر المحرم وما زال السيف يقتل اهلها اربعين يوما. هذه صورة من الواقع التاريخي حينما ظهر المشركون على المسلمين فلم يراقبوا فيهم الا ولا ذمة.

وهناك صورة اخرى لا تختلف عن هذه الصورة. وهو ما وقع من الوثنين الهنود عند انفصال باكستان. لا يقل شناعة عما وقع من التتار في ذلك الزمان البعيد. ان ثمانية ملايين من المهاجرين المسلمين من الهند ـ ممن أفزعتهم الهجمات البربرية المتوحشة على المسلمين الباقين في الهند فآثروا الهجرة على البقاء ـ

قد وصل منهم الى اطراف باكستان ثلاثة ملايين فقط اما الملايين الخمسة الباقية. فقد قضوا حتفهم على الطريق. من العصابات التي تربصت لهم من الوثنيين وابادتهم عن آخرهم. فذبحتهم كالخراف على طول الطريق. وتركت جثثهم للوحوش الضارية وهذه المجزرة لا تقل عن مجزرة التتار في العراق.

ثم ماذا فعل خلفاء التتار في الصين الشيوعية وروسيا الشيوعية بالمسلمين هناك لقد ابادوا من المسلمين في خلال ربع قرن ستة وعشرين ملبونا. بمعدل مليون كل عام وما تزال عمليات الابادة ماضية في الطريق وفي العام وقع في القطاع الصيني من التركستان المسلمة ما يعطي على بشاعات التتار لقد جيء بأحد زعماء المسلمين فحفرت له حفرة في

٨٨

الطريق العام وكلف المسلمين تحت وطأة التعذيب والارهاب ان يأتوا بفضلاتهم الآدمية التي تتسلمها الدولة من الاهالي جميعا لتستخدمها في السماد مقابل ما نصرفه لهم من الطعام. فيلقوها على الزعيم المسلم في حفرته. وظلت العملية ثلاثة ايام والرجل يختنق في الحفرة على هذا النحو حتى مات.

كذلك فعلت يوغو سلافيا الشيوعية بالمسلمين فيها حتى أبادت منهم مليونا منذ الفترة التي صارت فيها شيوعية. بعد الحرب العالمية الثانية الى اليوم. ولم تزل عمليات الابادة والتعذيب الوحشي التي من أمثلتها البشعة القاء المسلمين رجالا ونساء في مفارم اللحوم التي تصنع لحم البولونيف ليخرجوا من الناحية الاخرى. عجينة من اللحم والعظام والدماء. وكذلك جرى في جميع الدول الشيوعية والوثنية حتى الآن. في هذا الزمان اواخر القرن العشرين.

وأين هذا من دولة الاسلام الحقة العادلة التي غايتها الاولى اخراج الناس من الظلم الى العدل. ومن الضلال الى الهدى. ومن الشقاء الى السعادة الدائمة. ومن أستعباد المخلوق الى عبادة الخالق العظيم والمولى الرؤوف الرحيم. وهي ارأف بالبشر من انفسهم ولكن اكثر الناس لا يعلمون.

(أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) : تجيء هذه الفقرة بعد الفقرة السابقة التي تقرر فيها الاستنكار من ناحية المبدأ لان يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله.

اذ تاريخ المشركين مع المسلمين كله نكث للايمان. ونقض للعهود. وأقرب ما كان من هذا نقضهم لعهدهم مع رسول الله ص وآله.

فانتصار المسلمين قد يرد بعض المشركين الى الايمان. ويفتح بصيرتهم على الهدى حين يرون المسلمين ينتصرون. ويحسون ان قوة غير قوة البشر

٨٩

تؤيدهم ويرون اثار الايمان في مواقفهم ـ وهذا ما كان فعلا ـ وعندئذ ينال المسلمين المجاهدين أجر جهادهم. واجر هداية الضالين بأيديهم. وينال الاسلام قوة جديدة تضاف الى قوته بهؤلاء المهتدين التائبين.

(أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٦))

البيان : لقد كان في المجتمع المسلم. ـ كما هو الحال عادة ـ فئة تجيد المداورة. وتنفذ من الاسوار وتتقن استخدام الاعذار. وتدور من خلف الجماعة. وتتصل بخصومها استجلابا للمصلحة ولو على حساب الجماعة. مرتكنة الى ميوعة العلاقات ووجود ثغرات في المفاصلة بين المعسكرات. فاذا وضحت المفاصلة وأعلنت قطعت الطريق على تلك الفئة. وكشفت المداخل والمسارب للانظار (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يحاسب سبحانه الناس على ما يتكشف من حقيقتهم بفعلهم وسلوكهم وكذلك جرت سنته بالابتلاء. ليتكشف الخبيء وتتميز الصفوف وتتمحص القلوب ولا يكون ذلك كما يكون الا بالشدائد والمحن والابتلاءات.

(ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (١٨))

البيان : فهو امر مستنكر منذ الابتلاء ليس له مبرر لانه مخالف لطبائع الاشياء ان بيوت الله خاصة باؤليائه. فكيف يعمرها اعداء الله. ومن قلبه خالي من توحيد الله عزوجل.

ان العبادة تعبير عن العقيدة. فاذا لم تصح العقيدة لم تصح العبادة واداء الشعائر وعمارة المساجد ليست بشيء ما لم تعمر القلوب بالاعتقاد والايمان الصحيح. وبالعمل الواقعي الصريح. وبالتجرد لله في العمل والعبادة على السواء (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ ...)

٩٠

والنص على خشية الله وحده دون سواه بعد شرطي الايمان الثابت والعمل الخالص. وليس هو نافلة. فلا بد من التجرد لله. ولا بد من التخلص من كل ظل للشرك في الشعور (عسى اولئك ان يكونوا من المهتدين)

فانما يتوجه القلب وتعمل الجوارج. ثم يكافىء الله على التوجه والاخلاص والعمل بالهداية. هذه هي القاعدة في استحقاق عمارة بيوت الله. وفي تقويم العبادات والشعائر على السواء يبينها الله خالصة لوجهه الكريم وطلب مرضاته دون سواه.

(أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (١٩)

الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٢))

البيان : ميزان الله هو الميزان. وتقديره هو التقدير (والله لا يهدي القوم الظالمين) هذه الآيات نزلت في علي بن ابي طالب (ع) حينما افتخر العباس وشيبة بسقاية الحجاج وادارة المسجد الحرام. وجعل كل منهم يفتخر على رفيقه بما يصنعه في المقام.

قال علي (ع) : أنا أفضل منكما فاني آمنت قبلكما وانتما مشركان وهاجرت وجاهدت فعظم عليهما ذلك. ثم رضوا بان يكون رسول الله ص وآله هو الفاصل بينهم.

فأنزل الله عزوجل هذه الآيات وحكم لعلي (ع) بالافضلية عليهما. وقد زاد علي (ع) في افتخاره على العباس وشيبة فقال لهما : وقد ضربت خراطيمكما بسيفي حتى قلتما لا آله الا الله محمد رسول الله) وكان الفخر له عليهما من الله ورسوله.

٩١

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٣) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٢٤))

البيان : هكذا تنقطع أواصر اللحم والدم اذا انقطعت آصرة القلب والعقيدة ، وتبطل ولاية القرابة في الاسرة اذا بطلت ولاية القرابة في الله ، فلله الولاية الاولى ، وفيها ترتبط بقية الروابط ، فاذا لم تكن ولاية الله عزوجل فلا ولاية بعد ذلك ، فالحبل مقطوع والعروة منقوضة بين المطيعين والعاصين والمؤمنين والمعاندين.

ان ولاية الله تعالى لا تحتمل لها في القلب شريكا ، فاما اتصال حقيقي واما انقطاع تام ، (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، فولاية الاهل والقوم ـ ان استحبوا الكفر على الايمان ـ شرك لا يتفق مع الايمان : (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ).

وهذا التجرد لا يطالب به الفرد وحده ، انما تطالب به الجماعة المسلمة والدولة المسلمة ، فلا يجوز أن يكون هناك اعتبار لعلاقة أو مصلحة يرتفع على مقتضيات العقيدة في الله.

ولا يكلف الله تعالى الفئة المؤمنة هذا التكليف الا وهو يعلم ان فطرتها لا تصلح الا بذلك وانه لمن رحمة الله بعباده ان أودع فطرتهم هذه الطاقة العالية من التجرد والاحتمال وأودع فيها الشعور بلذة علوية لذلك التجرد لا تعدلها لذائذ الارض كلها ، لذة الشعور بالاتصال بالخالق العظيم ، ولذة الالتجاء اليه ولذة حلاوة مرضاته ، ولذة الاستعلاء بطاعته على من يطيع المخلوقين الهابطين ، الضعفاء الفقراء الذين لا يملكون ضرا ولا نفعا.

٩٢

(لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (٢٥) ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦) ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧))

البيان : هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين ـ للمرة الاولى ـ جيش عدته اثنا عشر ألفا ، فاعجبتهم كثرتهم وغفلوا بها عن سبب النصر المنحصر بعون الله عزوجل وحده فردهم بالهزيمة ، في أول المعركة اليه ثم دارك نصرهم بالقلة المؤمنة وعلى رأسهم علي (ع). فقد ثبتت هذه القلة مع رسول الله ص وآله والتصقت به (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) ، فمن اغترار الجاهلين بالكثر حدثت زلزلة الهزيمة الناشئة عن ضعف الايمان. وكأنما السكينة رداء ينزل فيثبت القلوب الطائرة ويهدىء الثائرة (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها). ان معركة حنين التي يذكرها السياق هنا ليعرض نتائج الانشغال عن الله. والاعتماد على قوة غير مرئية ، لتكشف لنا عن حقيقة أخرى ضمنية ، حقيقة القوى التي تعتمد عليها كل عقيدة. ان الكثرة بالعدد ليست بشيء ، وانما هي القلة العارفة المتصلة بمصدر القوة للعقيدة الثابتة. وقد تكون الكثرة أحيانا سببا في الهزيمة ، لان اكثر أفرادها لم يدركوا حقيقة العقيدة. لقد قامت كل عقيدة صحيحة ، بالصفوة المختارة ، لا بالزبد الذي يذهب جفاء وهشيما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٢٨)

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (٢٩))

٩٣

البيان : انما المشركون نجس يجسم التعبير ليدل على خبائث أرواحهم ، فهم بكليتهم وحقيقتهم نجس ، يستقذره الحس ، بمعنى انهم غير قابلين للتطهير ما زالوا على شركهم :

(فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) لنجاستهم وخبائث نفوسهم وشدة قذارتها ، النتنة : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) : هذه الآية لها في السياق تمهيد لغزوة تبوك ومواجهة الروم ، وعمالهم من الغساسنة المسيحيين العرب ، وذلك يدلهم ان الاوصاف الواردة فيها هي صفات قائمة بالقوم الموجهة اليهم الغزوة ، وانها اثبات حالة واقعة بصفاتهم أولا انهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ثانيا انهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.

ثالثا : انهم لا يدينون دين الحق. ثم بين في الآيات التالية كيف انهم لا يؤمنون بالله).

اولا : قالت اليهود عزير ابن الله ، وقالت النصارى المسيح ابن الله ، وان هذا القول يضاهي قول الذين كفروا من قبلهم من الوثنيين ، فهم مثلهم في هذا الاعتقاد الذي لا يعد صاحبه مؤمنا بالله ولا باليوم الآخر. (وسنبين بالضبط كيف انه لا يؤمن باليوم الآخر).

ثانيا : اتخذوا احبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله ، والمسيح ابن مريم ، وان هذا مخالف لدين الحق ، وهو الدينونة لله وحده بلا شركاء ، فهم بهذا مشركون لا يدينون دين الحق.

ثالثا : يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ، فهم محاربون لدين الله عزوجل ولا يحارب دين الله مؤمن بالله واليوم الآخر ، ولا يدين دين الحق أبدا.

رابعا : يأكل كثير من احبارهم ورهبانهم أموال الناس بالباطل ،

٩٤

فهم اذن لا يحرمون ما حرم الله ورسوله ص وآله (سواء كان المقصود برسوله ، رسولهم أو رسولنا محمد ص وآله).

وهذه الصفات كلها كانت واقعة بالقياس الى نصارى الشام والروم ، كما أنها واقعة بالقياس الى غيرهم منذ أن حرفت المجامع المقدسة ، دين المسيح (ع). وقالت ببنوة عيسى (ع) وبتثليث الاقانيم ـ على كل ما بين المذاهب والفرق من خلاف يلتقي كله على التثليث على مدار التاريخ حتى الان.

اذن فهو أمر عام ، يقرر قاعدة مطلقة في التعامل مع أهل الكتاب الذين تنطبق عليهم هذه الصفات التي كانت قائمة في نصارى العرب ونصارى الروم ، ولا يمنع من هذا العموم ان الاوامر النبوية استثنت أفرادا ، وطوائف باعيانها لتترك بلا قتال كالاطفال والنساء والشيوخ والعجزة ، والرهبان الذين حبسوا أنفسهم في الاديرة ، بوصفهم غير محاربين.

فقد منع الاسلام ان يقاتل غير المقاتلين من أية ملة ـ وهؤلاء لم تستثنهم الاوامر النبوية ، لانهم لم يقع منهم اعتداء بالفعل على المسلمين. ولكن لانه ليس من شأنهم أصلا ان يقع منهم الاعتداء ، فلا محل لتقييد هذا الامر العام بان المقصود به هم الذين وقع منهم الاعتداء فعلا ـ كما يقول المهزومون الذين يحاولون ان يدفعوا عن الاسلام الاتهام ـ فالاعتداء قائم ابتداء من الاعتداء على الالوهية الخالقة ، والاعتداء على العباد بتعبيدهم لغير الله ، والاسلام حين ينطلق للدفاع عن ألوهية الله سبحانه ، والدفاع عن كرامة الانسان في الارض ، لا بد أن تواجهه الجاهلية بالمقاومة ، والحرب والعداء ، ولا مفر من مواجهة طبائع الاشياء.

٩٥

ان هذه الآية تأمر المسلمين بقتال أهل الكتاب (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) والذين يقولون ببنوة عزير لله او بنوة المسيح لله ولا يمكن أن يقال عنه : انه يؤمن بالله وكذلك الذين يقولون : ان الله هو المسيح بن مريم. او أن الله ثالث ثلاثة. أو أن الله تجسد في المسيح ، الى آخر التصورات الكنيسة ، التي صاغتها المجامع المقدسة على كل ما بينهما من خلاف والذين يقولون : انهم لن يدخلوا النار الا اياما معدودات ، مهما ارتكبوا من آثام بسبب انهم ابناء الله واحباؤه ، وشعب الله المختار ، والذين يقولون ان كل معصية تغفر بالمسيح (ع) وبواسطة الصكوك من ارباب الكنيسة ، كل هؤلاء لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر.

وهذه الاية تصف اهل الكتاب هؤلاء بانهم لا يحرمون ما يحرم الله ورسوله ، والاسلام ـ بوصفه دين الحق الوحيد القائم في الارض ـ لا بد ان ينطلق لازالة العوائق المادية من وجهه. ولتحرير الانسان من الدينونة بغير دين الحق ، على أن يدع لكل فرد حرية في الوقت نفسه في الاختيار ، بلا اكراه منه ولا من تلك العوائق المادية كذلك.

عندئذ تتم عملية التحرير فعلا بضمان الحرية لكل فرد ان يختار دين الحق عن اقتناع فان لم يقتنع بقي على عقيدته واعطى الجزية لتحقيق عدة أهداف.

أولها : ان يعلن باعطائها استسلامه وعدم مقامته بالقوة المادية للدعوة الى دين الله الحق.

وثانيها : ان يساهم في نفقات الدفاع عن نفسه وماله وعرضه وحرماته التي يكفلها الاسلام لاهل الذمة ، (الذين يؤدون الجزية ، فيصبحون في ذمة الاسلام والمسلمين وضمانتهم).

٩٦

ثالثها : المساهمة في بيت المال الذي يضمن الكفالة والاعاشة لكل عاجز عن العمل. واذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الاية بايجاز ، فانما فعلنا هذا لانها تتعلق بمسألة اعتقادية وترتبط بطبيعة المنهج الاسلامي ، وعند هذا الحد نقف مختصرين البيان بدون اخلال ..

(وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٣٠) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٣١) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٣٢) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٣٣))

البيان : لما أمر الله المسلمين بقتال أهل الكتاب (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) كانت هناك ملابسات في واقع المجتمع المسلم في المدينة ـ تحدثنا عنها فيما تقدم.

وفي هذه الاية يبين السياق القرآني خلال عقيدة أهل الكتاب هؤلاء ، وانها تضاهي عقيدة المشركين من العرب والوثنيين من قدامى الرومان وغيرهم ، وانهم لم يستقيموا على عقيدة صحيحة ، فلا عبرة اذن بانهم اهل كتاب ، وهم يخالفون في الاعتقاد الاصل الذي تقوم عليه العقيدة الصحيحة في كتبهم. والذي يلفت النظر هو ذكر اليهود هنا وقولهم عزير ابن الله. في حين ان الايات كانت بصدد التوجيه والتحضير لمواجهة الروم وحلفائهم من نصارى العرب.

وقول النصارى : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) معلوم مشهور ، وما زال عليه عقائدهم حتى اللحظة ، منذ حرّفها بولس ، ثم تم تحريفها على أيدي المجامع المقدسة.

فاما قول اليهود (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) فليس شائعا ولا معروفا اليوم

٩٧

والذي في كتب اليهود المدونة الباقية سفر باسم (عزرا) ـ وهو عزير ـ نعت فيه بانه كاتب ماهر في توراة موسى (ع).

وقد كان القرآن يواجه اليهود والنصارى مواجهة واقعية ، ولو كان فيما يحكيه من أقوالهم ما لا وجود له بينهم لكان هذا حجة لهم على تكذيب ما يرويه رسول الله ص وآله ولما سكتوا عن استخدام هذا على أوسع نطاق.

وقد ورد عن الشيخ رضا قال : جاء في دائرة المعارف اليهودية (طبعة ١٩٠٣) ان عصر عزرا هو ربيع التاريخ الملي لليهودية الذي تفتحت فيه أزهاره وعبق شذى ورده ...)

والمشهور ان مؤرخي الامم ، حتى أهل الكتاب منهم ، ان التوراة التي كتبها موسى (ع) ووضعها في تابوت العهد. قد فقدت قبل عهد سليمان (ع) فانه لما فتح التابوت في عهده لم يوجد فيه غير اللوحين اللذين كتبت فيهما الوصايا العشر كما تراه في سفر الملوك الاول وان عزرا هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي بالحروف الكلدانية

جاء في سفر عزرا (ف اعدد ٢١) أن جميع الاسفار المقدسة حرقت بالنار ، في عهد بختنصر ، ويزاد على ذلك أن عزرا أعاد بوحي الروح القدس تأليف الاسفار المقدسة التي أبادتها النار وعضده فيها كتبة خمسة معاصرون لذلك ترى (ثرثوليانوس) القديس وغيرهم يدعون عزرا : مريم؟؟؟ الاسفار المقدسة المعروفة عند اليهود. فجميع اهل الكتاب مدينون لعزير هذا في مستند دينهم وأصل كتبهم المقدسة عندهم.

وجملة القول أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى أن بعضهم اطلق عليه لقب (ابْنُ اللهِ) وهو قريب من فلسفة وثني الهند التي هي أصل عقيدة النصارى.

٩٨

اما قول النصارى (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) وانه ثالث ثلاثة فهو ـ كما قلنا ـ شائع مشهور وعليه جميع مذاهبهم منذ أن حرف بولس رسالة المسيح القائمة على التوحيد كبقية الرسالات السماوية ، ثم أتمت تحريفها المجامع المقدسة ، وقضت على أصل فكرة التوحيد قضاء نهائيا.

ومن هذا العرض المجمل يتبين ان جميع الطوائف اليهودية والمسيحية لا تدين دين الحق الذي قوامه التوحيد لله سبحانه. وعلى انه واحد أحد فرد صمد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ).

والتعقيب القرآني على قول اليهود (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) وقول النصارى (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) يثبت أولا ان هذا يماثلون به قول الذين كفروا من قبل ، وانه صادر من أفواههم :

(قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) نعم قاتلهم الله كيف يصرفون عن الحق الواضح البسيط الى هذه الوثنية المعقدة الغامضة التي لا تستقيم لدى عقل أو ضمير حي.

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) ، فهذا تقرير أن اليهود والنصارى لم يعودوا على دين بشهادة واقعهم : وانهم أمروا بان يعبدوا الله وحده) فاتخذوا أحبارهم ورهبانهم اربابا من دون الله ، وذلك لانهم هم شرعوا لهم ما يريدون ونسبوه الى الله كذبا وزورا ، وهذا معنى العبادة بمعناها العام.

ان الشرك بالله يتحقق بمجرد اعطاء حق التشريع لغير الله من عباده ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بالالوهية ، كما هو واضح من الفقرة السابقة ولكنا انما نزيدها هنا بيانا :

ان دين الحق الذي لا يقبل الله من الناس كلهم دينا غيره هو (الاسلام) والاسلام لا يقوم الا باتباع الله وحده في الشريعة ـ بعد

٩٩

الاعتقاد بالوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده ـ فاذا أتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيها ما صح في اليهود والنصارى من أنهم اتباع لشرائع العباد من دون الله بغير انكار منهم يثبت انهم لا يتبعون الا المخلوق :

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ) فهم محاربون لنور الله سواء بما يطلقونه من أكاذيب وفتن ، أو بما يحرضون به اتباعهم وأشياعهم على حرب هذا الدين وأهله كما هو التاريخ :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)

وهذا توكيد لوعد الله الاول : (وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ)

ولكن في صورة اكثر تحديدا فنور الله الذي قرر سبحانه ان يتمه ، هو دين الحق الذي ارسل به رسوله ليظهره على الدين كله) ، والله سبحانه يعلن قضاءه بظهور دين الحق الذي أرسل به رسوله ص وآله : ان وعد الله قائم ينتظر العصبة المسلمة ، التي تحمل الراية وتمضي مبتدئة من نقطة البدء التي بدأت بها خطوات رسول الله ص وآله وهو يحمل دين الحق ويتحرك بنور الله ، وذلك بظهور القائم المنتظر (ع) وعجل الله فرجه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٤) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (٣٥))

البيان : فهؤلاء الاحبار والرهبان يجعلون من أنفسهم ويجعلون

١٠٠