تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

البيان : الروح الأمين جبرائيل (ع) نزل بهذا القرآن المجيد من عند الخالق العظيم. على قلب سيد المرسلين ص وآله وسلّم. وهو أمين على ما نزل به. حفيظ عليه نزل به على قلبه فتلقاه تلقيا مباشرا ووعاه وعيا مباشرا. نزل به على قلبه ليكون من المنذرين بلسان عربي مبين. هو لسان قومه. الذي يدعوهم اليه. ويتلو عليهم هذا القرآن الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد). وهم يعرفون جيدا. مدى ما يملك البشر ان يقولوا ويدركون ان هذا القرآن يستحيل ان يأتي به بشري. وانه بنظمه ومعانيه وبمنهجه وبتناسقه يشي بأنه آت من مصدر غير بشري بيقين. (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ. أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) فقد وردت صفة النبي ص وآله. الذي ينزل عليه القرآن كما وردت العقيدة التي جاء بها في كتب الأولين.

ومن ثم كان علماء بني أسرائيل يتوقعون هذه الرسالة. وينتظرون هذا الرسول ويحسون ان زمانه قد اظلهم ويحدث بعضهم بعضا بهذا كما وردت على لسان سلمان الفارسي. ولسان عبد الله بن سلام والاخبار في هذا ثابتة كذلك بيقين.

انما يكابر المشركون ويعاندون لمجرد المكابرة والعناد. لا لضعف الحجة ولا لقصور الدليل. فلو جاءهم به اعجمي لا ينطق العربية فتلاه عليهم قرآنا عربيا ما آمنوا به. ولا صدقوه. ولا اعترفوا انه موحى به اليه. حتى مع هذا الدليل الذي يجبه المكابرين.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) وفي هذا تسلية عن رسول الله ص وآله وتصوير لعنادهم ومكابرتهم في كل دليل (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) ولقد أخذ الله على البشر عهد الفطرة ان يوحدوه ويعبدوه. والفطرة بذاتها تحس بوجود الخالق الواحد ما لم تفسد وتنحرف.

٥٠١

وقد بث دلائل الايمان في الكون. كلها توحي بوجود الخالق الواحد. فاذا نسي الناس عهد الفطرة وأغفلوا دلائل الايمان. فانما هو جزاء النكسة عن خط الهدى ومنهج اليقين.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠) هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (٢٢١) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٢٢٢) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (٢٢٣) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (٢٢٤) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (٢٢٥) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (٢٢٦) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ (٢٢٧))

البيان : وحين يكون الرسول ص وآله. متوعدا بالعذاب مع المعذبين. لودّعا مع الله آلها آخر. والمراد من ذلك غير النبي المعصوم عن كل زلل. فيكون كانذار وتهديد لكل من يستعين بغير الله تعالى (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) عن الامام الصادق (ع) انه قال :

(لما نزلت هذه الآية. جمع رسول الله ص وآله. بني هاشم وهم أربعون رجلا. كل واحد منهم يأكل الجذع ويشرب القربة. فاتخذ لهم طعاما يسيرا بحسب ما امكن. فأكلوا حتى شبعوا.

فقال رسول الله ص وآله من يكون وصيي ووزيري وخليفتي ـ ويساعدني على هذا الامر ـ فقال أبو لهب جزما سحركم محمد. فتفرقوا. فلما كان اليوم الثاني امر رسول الله ص وآله ففعل بهم مثل ذلك. ثم سقاهم اللبن حتى رووا فقال رسول الله ص وآله : ايكم يكون وصي ووزيري وخليفتي ـ ويساعدني على هذا الامر ـ فقال ابو لهب سحركم محمد. فتفرقوا فلما كان اليوم الثالث امر رسول الله ص وآله ففعل بهم مثل ذلك ثم سقاهم اللبن فقال لهم رسول الله ص وآله.

٥٠٢

ايكم يكون وصي ووزيري وخليفتي وينجز عدتي ويقضي ديني ـ فلم يجبه أحد ـ فقام علي (ع) وكان أصغرهم سنا واخمشهم ساقا وأقلهم مالا. فقال انا يا رسول الله. وكان في كل مرة يقوم ويقول انا ـ فقال رسول الله ص وآله : ـ انت وصي ووزيري وخليفتي من بعدي ـ فقام القوم وهم يقولون لابي طالب (ع) اطع ابنك فقد امّره عليك) الحديث مشهور بسعة اكثر وأوسع

(وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ألن وتواضع وأرفق في صورة حسية مجسمة. وكذلك كان رسول الله ص وآله مع المؤمنين طوال حياته. فقد كان خلقه القرآن المجيد. وكان ص وآله الترجمة الكاملة للقرآن المجيد. وكذلك بعده خليفته أمير المؤمنين علي (ع) (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) وكان هذا في مكة قبل الهجرة. وقبل ان يؤمر بالقتال (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) اي دعهم وعصيانهم فان الله لهم بالمرصاد. وتوجه الى ربك معتمدا عليه. مستعينا في أمرك كله به (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) عن الامام الباقر (ع) : قال الذي يراك حين تقوم في النبوة وتقلبك في أصلاب النبيين نبي بعد نبي. حتى اخرجه من صلب أبيه. عن نكاح شرعي غير سفاح من لدن آدم (ع) وقال (ع) قال رسول الله ص وآله : لا ترفعوا قبلي. ولا تضعوا قبلي. فاني اراكم من خلفي كما اراكم من امامي. ثم تلا هذه الآية : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) يسمع ما تتلوا في صلاتك ويعلم ما تضمر فيها. (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ. تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ. يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ).

كان في العرب كهان يزعمون ان الجن تنقل اليهم الاخبار. وكان الناس يلجأون اليهم ويركنون الى نبوءاتهم. واكثرهم كاذبون.

٥٠٣

والتصديق بهم جري وراء الاوهام والاكاذيب فمن صدقهم وراجعهم شاركهم في وزرهم وآثامهم.

فجاء القرآن المجيد يبين لهم في هذه الآية ان منهج محمد ص وآله. ومنهج القرآن غير منهج الشعراء والكهان والمشعبين. فان هذا القرآن على منهج واضح مستقيم. ويسير في طريق صالح مستقيم والرسول ص وآله لا يقول قولا ينقضه غدا. ولا يتبع الأهواء. فمنهج رسول الله. ومنهج الشعراء مختلفان متباينان. ولا ادنى مشابهة بينهما (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ ..)

وهم يقولون ما لا يفعلون. لانهم يعيشون في عوالم من صنع خيالهم وأهوائهم .. وأوهامهم. ان طبيعة الاسلام ـ وهو منهج حياة كامل. معد للتنفيذ في واقع الحياة. وهو حركة ضخمة في الضمائر لمكنونة. أن طبيعة الاسلام تباين طبيعة الشعراء. والاسلام يدعو الناس الى حقائق ملموسة. ومع هذا فان الاسلام لا يحارب الشعر مطلقا بل يحارب الباطل منه ويحبذ الحق والصدق منه الذي يقوله المؤمنون في بيان الحقائق. ويمدحون اهل الخير. ويذمون اهل الشر والباطل.

ـ ٢٧ ـ سورة النمل وآياتها (٩٥) خمس وتسعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤)

٥٠٤

أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٧) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٨) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٩) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (١٠))

البيان : طا. سين. الاحرف المقطعة للتنبيه على المادة الاولية ، التي تتألف منها هذه السور. وهي متاحة لجميع الناطقين بالعربية. وهم عاجزون على أن يؤلفوا منها كتابا كهذا القرآن الخالد (تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) والقرآن هو نفسه. وذكره بهذه الصفة هنا يبدو لنا انه للموازنة الخفية بين استقبال المشركين للكتاب المنزل عليهم من عند الله. واستقبال ملكة سبأ وقومها للكتاب الذي أرسله اليهم سليمان بن داود (ع) وهو عبد من عباد الله.

(هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ). فالتعبير القرآني على هذا النحو يجعل مادة القرآن وماهيته هدى وبشر للمؤمنين. والقرآن يمنح المؤمنين هدى في كل فج. وكل طريق. لما يطلع عليهم بالبشرى في الحياتين الاولى والآخرة.

وفي تخصيص المؤمنين بالهدى والبشرى تكمن حقيقة عميقة. ان القرآن ليس كتاب علم نظري. أو تطبيقي ينتفع به كل من يقرؤه. ويستوعب ما فيه. انما القرآن كتاب يخاطب القلب أول ما يخاطب. ويسكب نوره. وعطره في القلب المفتوح. الذي يتلقاه بالايمان واليقين. وكلما كان القلب نديا بالايمان. زاد تذوقه لحلاوة القرآن ، وأدرك من معانيه وتوجيهاته. ما لا يدركه منه القلب الصلد الجاف.

٥٠٥

واهتدى بنوره الى ما يهتدى اليه الجاحد الصادف وانتفع بصحبته ما لا ينتفع القارىء المطموس.

ان بعض الناس ليقرأ الاية او السورة مرات كثيرة. وهو غافل او عجول. فلا تنض له بشيء.

ان في القرآن كنوزا ضخمة من الهدى والمعرفة والحركة والتوجيه. والايمان هو مفتاح هذه الكنوز. ولن تفتح كنوز القرآن الا بمفتاح الايمان. والذين آمنوا حق الايمان حققوا الخوارق بهذا القرآن المجيد. فاما حين أصبح القرآن كتابا يترنم بآياته. فتصل الى الآذان. ولا تتعداها الى القلوب. فانه لم يصنع شيئا. ولم ينتفع به أحد. لقد ظل كنزا بلا مفتاح.

والسورة تعرض صفة المؤمنين (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ. وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) يقيمون الصلاة فيؤدونها حق ادائها. يقظة قلوبهم لموقفهم بين يدي الله عزوجل شاعرة ارواحهم بأنهم في حضرة ذي الجلال والاكرام. مرتفعة مشاعرهم الى ذلك الافق الوضىء مشغولة خواطرهم بمناجاة الله عزوجل ودعائه والتوجه اليه في محضره العظيم.

ويؤتون الزكاة. فيطهرون نفوسهم من رذيلة الشح وبرهنة على اعتمادهم على الله الرازق الكريم. (وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فاذا حساب الآخرة يشغل بالهم. ويصدهم عن جموح الشهوات ويغمر أرواحهم بتقوى الله عزوجل وخشيته. والحياء من الوقوف بين يديه موقف العصاة.

هؤلاء المؤمنون الذاكرون لله. القائمون بتكاليفه. المشفقون من حسابه وعقابه. الطامعون بعفوه ورضوانه. هؤلاء هم الذين تفتح قلوبهم للقرآن. فاذا هو هدى وبشرى لهم. واذا هو نور من أرواحهم

٥٠٦

ودفعة في دمائهم وحركة في حياتهم. واذا هو زادهم الذي به يبلغون به رضا الله والجنة. (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ .. هُمُ الْأَخْسَرُونَ) الايمان بالاخرة هو الزمام الذي يكبح الشهوات والنزوات ويضمن القصد والاعتدال في الحياة .. والذي لا يعتقد بالآخرة لا يملك ان يحرم نفسه شهوة أو يكبح فيها نزوة. وهو يظن ان الفرصة الوحيدة المتاحة له للمتاع هي فرصة الحياة على هذا الكوكب. وهي قصيرة مهما طالت. وما تكاد تتسع لشيء من مطالب النفوس وأمانيها التي لا تنال.

ومن ثم يصبح كل تحقيق للشهوة واللذة مزينا للنفس التي لا تؤمن بالآخرة. تندفع اليه بلا معوق من تقوى او حياء. لأن الحياء من الايمان ـ والنفس الامارة مطبوعة على المحبة لما يلذ لها.

والله سبحانه هو الذي خلق النفس البشرية على هذا النحو وجعلها مستمدة للاهتداء ان تفتحت لدلائل الهدى. ومستعدة للعماء ان طمست منافذ الادراك فيها. والعاقبة معروفة لمن يزين له الشر والسوء. (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) فالخسارة المطلقة في الآخرة محققة جزاء وفاقا.

(إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً ..) قد ذكر هذا الموقف في سورة (طه) وهو في طريقه من ارض مدين الى مصر. ومعه زوجه بنت شعيب (ع) وقد ضل طريقه في ليلة ظلماء باردة (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) انه النداء الذي يتجاوب به الكون كله. وتتصل فيه السماء بالأرض. وتتلقى الذرة الصغيرة دعوة خالقها العظيم. ويرتفع فيه الانسان. الفاني الضعيف الى مقام الدوام والخلود والقوة والعزة التي هي لله ولرسوله وللمؤمنين) (فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها) فمن ذا كان في النار. ومن ذا كان حولها انها النور الذي اوجده الله تعالى في الشجرة والذي حولها هو موسى

٥٠٧

(ع) وسجل الوجود كله هذه المنحة العليا. ومضت هذه البقعة في سجل الوجود كله بقية النداء (وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ ..) نزه الله ذاته وأعلن ربوبيته للعالمين. وكشف لعبده الذي يناديه (وَأَلْقِ عَصاكَ) هذا اختصار عما سبق. (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً ..) (لا تَخافُ) فأنت مكلف بالرسالة. والرسل لا يخافون. بل هم من اولياء الله الآمنين. وانما يخاف الظالم والمجرم (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ ..) وكان هذا آية أخرى. وكشف له حينئذ عن وجهته التي كلف بها.

(إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤))

البيان : ولم يعدد هنا هذه الآيات. التي كشف عنها في سورة الاعراف وهي (١) القحط. (٢) نقص الثمرات. (٣) الطوفان. (٤) الجراد (٥) القمل (٦) الضفادع (٧) الدم (٨) اليد البيضاء (٩) صيرورة العصا حية تسعى.

هذه الآيات الباهرة. والمعجزات الظاهرة. التي تقود كل عاقل منصف الى الايمان والاذعان ومع هذا فقد قالوا عنها (انها سحر مبين) قالوا ذلك لا عن اقناع به. بل لأجل تضليل العوام وخدعهم وكذلك كان الأمر مع جبابرة قريش حين دعاهم خاتم الانبياء ص وآله الى الهدى والحق والعدل. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) من فرعون واتباعه ومن قريش وما لاقت من الهلاك والدمار.

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا

٥٠٨

مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (١٩))

ـ البيان : هذه الاشارة للبدء في القصة. واعلان الافتتاح. خبر تقريري عن ابرز النعم التي أنعم الله بها على داود وسليمان (ع). نعمة العلم. فأما داود. فقد ورد تفصيل ما أتاه الله من العلم في سورة أخرى. منها تعليمه الترتيل بمقاطع الزبور. ترتيلا يتجاوب به الكون من حوله. فتوؤب الجبال معه والطير لحلاوة صوته وحرارة نبراته. ومنها تعليمه صناعة الزرد وعدة الحرب وتطويع الحديد له ليصوغ منه من هذا ما يشاء. ومنها تعليمه القضاء بين الناس مما شاركه فيه سليمان. (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) وقبل ان تنتهي الآية يجيء شكر داود وسليمان على هذه النعمة.

ولا يذكر هنا نوع العلم وموضوعه لأن جنس العلم هو المقصود بالابراز والاظهار. وللايحاء بأن العلم كله هبة من الله. والعلم الذي يبعد القلب عن ربه علم فاسد. زائغ عن مصدره.

وورث سليمان داود وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ. وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) يبدو ذلك في قصة الهدهد الذي أدرك من أحوال ملكة سبأ. وقومها ما لا يدركه أعقل الناس.

وحقيقة ان الهدهد الموجود اليوم. هو نسخة من ذاك الهدهد الذي وجد منذ ألوف. (وحشر لسليمان جنوده من الجن والانس فهم يوزعون) فهذا هو الموكب لنبي الله سليمان (ع) يتألف من الجن والانس والطير في ترتيب ونظام. حتى اذا أتوا على واد النمل (قالَتْ

٥٠٩

نَمْلَةٌ) لها صفة الاشراف والتنظيم على النمل السارح في الوادي قالت : (ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ) فادرك سليمان ما قالت النملة وهش لها وانشرح صدره لادراكها. فهي نعمة الله عليه تصله بهذه العوالم.

(فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) وسرعان ما هزته هذه المشاهدة. وردت قلبه الى خالقه الذي أنعم عليه بنعمة المعرفة الخارقة. وفتح بينه وبين تلك العوالم المحجوبة المعزولة من خلقه. واتجه الى ربه عزوجل في انابة يتوسل اليه. (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ..)

بهذا النداء الغريب المباشر المتصل (أَوْزِعْنِي) اجمع جوارحي ومشاعري ولساني وجناني. وخواطري وخلجاتي. وكلماتي وعباراتي وأعمالي وتوجهاتي. اجمعني كلي. أجمع طاقاتي كلها أولها وآخرها وهو المدلول اللغوي لكلمة (أَوْزِعْنِي) لتكون كلها في شكر نعمتك علي وعلى والدي. (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) فالعمل الصالح هو كذلك فضل من الله. يستحيل ان يصل اليه المخلوق الا بتوفيق خالقه ومعونته. اذن فالشكر لله هو نعمة من الله عزوجل فلله المنّة على عبده بذلك فكل ما قال العبد (لله الحمد) وجب عليه ان يحمد ويشكر حيث وفقه لحمده وشكره بهدايته (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) فهو يعلم ان الدخول في عباد الله الصالحين نعمة ورحمة من الله عزوجل على عباده. وكذلك تكون الحساسية المرهقة بتقوى الله عزوجل.

والآن نأتي الى قصة سليمان (ع) مع الهدهد وملكة سبأ. وهي مقطعة الى ستة مشاهد. بينها فجوات فنية. تدرك من المشاهد

٥١٠

المعروضة. وتكمل جمال العرض الفني في القصة. وتتخللها تعقيبات على بعض المشاهد. تحمل التوجيه الوجداني المقصود بعرضها في السورة. وتحقق العبرة التي من أجلها ينساق القصص في القرآن المجيد.

ولما كان افتتاح الحديث عن سليمان قد تضمن الاشارة الى الجن والانس والطير.

(وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (٢٠) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٢١) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (٢٤) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦))

البيان : ويتضح انه غائب بغير اذن. وحينئذ يتعين ان يؤخذ الامر بالحزم. كي لا تكون فوضى فالأمر بعد سؤال المك هذا السؤال لم يعد سرا. واذا لم يؤخذ بالحزم كان سيئة لبقية الجند. (فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ : أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) انه يعرف حزم الملك وشدته. فهو يبدأ حديثه بمفاجأة تطغي على موضوع غيبته. وتضمن اصغاء الملك له (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ) فأي ملك لا يستمع لأحد رعاياه. فاذا ضمن اصغاء الملك بعد المفاجأة اخذ في تفصيل النبأ اليقين الذي جاء به من سبأ ـ ومملكة سبأ تقع في جنوب الجزيرة باليمن ـ فذكر انه وجدهم تحكمهم امرأة (أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) وهي كناية عن عظمة ملكها وثرائها وتوافر اسباب الحضارة عندهم. (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) اي سرير ملك ضخم فخم. يدل على الغنى والترف وارتقاء الصناعة وذكر انهم : (يَسْجُدُونَ

٥١١

لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ) وهنا يعلل ضلال القوم. فهم لا يهتدون الى عبادة الله عزوجل :

والهدهد الى هذه اللحظة يقف موقف المذنب. الذي لم يقض الملك في أمره بعد. ونجد انفسنا امام هدهد عجيب. صاحب ادراك وذكاء وأيمان وبراعة في عرض النبأ. ويقظة الى طبيعة موفقة. وتلميح وايماء أريب. فهو يدرك ان هذه ملكة وان هؤلاء رعية. ويدرك انهم يسجدون للشمس من دون الله. ويدرك ان السجود لا يكون الا لله الذي يخرج الخبء.

ولا يتسرع سليمان في تصديقه او تكذيبه. وانما يأخذ في تجربته للتأكد من صحته شأن الحكيم.

(قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (٢٨) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١))

البيان : لم يعلن في هذا الموقف فحوى الكتاب حتى يفتح ويعلن هناك وتعرض المفاجأة الفنية. فهي تخبرهم انه القى اليها كتاب. ومن هذا نرجح انها لم تعلم من القى اليها الكتاب. ولا كيف ألقاه. ولو كانت تعرف ان الهدهد هو الذي جاء به. لأعلنت هذه العجيبة التي نادر وقوعها. وها هي تصف الكتاب بانه (كريم) وهذا الوصف ربما خطر لها من خاتمه. او من محتوياته التي أعلنتها للملأ. وهي لا تعبد الله. ولكن صيت سليمان كان ذائعا في هذه الرقعة. وفحوى الكتاب في غاية البساطة.

(قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (٣٣) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها

٥١٢

أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (٣٦) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (٣٧))

البيان : وفي هذا تبدو سمة الملكة الأريبة. فواضح منذ اللحظة الاولى انها أخذت بهذا الكتاب الذي القى اليها من حيث لا تعلم. والذي يبدو فيه الحزم والاستعلاء. وقد نقلت هذا الاثر الى نفوس قومها. وهي تصف الكتاب بانه (كريم) وواضح انها لا تريد المقاومة والخصومة ولكنها لا تقول هذا صراحة. (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ ..) (وهنا تظهر شخصية (المرأة) التي تكره الحروب (قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها) فهي تعرف ان من طبيعة الملوك انهم اذا دخلوا قرية ـ وقرية تطلق على المدن الكبيرة والصغيرة) اشاعوا فيها الفساد. واباحوا دمارها وانتهكوا حرماتها (والهدية تلين القلب وتعلن الود. وهي تجربة (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ ..) وفي الرد استهزاء بالمال واستنكار للاتجاه اليه في مجال غير مجاله. مجال العقيدة والدعوة. ثم يتبع هذا الاستنكار بالتهديد (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ .. وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً ..)

(قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (٤٠) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (٤٣) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٤٤))

٥١٣

البيان : ترى ما الذي قصد اليه سليمان (ع) من استحضار عرشها قبل مجيئها مسلمة مع قومها. الظاهر ان هذا وسيلة لعرض مظاهر القوة الخارقة التي تؤيده. لتؤثر في قلب الملكة فتقودها الى الايمان بالله عزوجل. والاذعان لدعوته عن طريق الدليل والمعجزة.

وقد عرض عفريت من الجن ان يأتيه به قبل انقضاء مجلسه. فاستطول ذلك فاذا (الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ ..) يعرض ان يأتي به في غمضة عين قبل ان يرتد اليه طرفه (فاذا هو مستقر عنده).

عن النبي ص وآله انه سئل عن الذي عنده علم من الكتاب قال ذاك وصي أخي سليمان (ع) وعن الباقر (ع) : ان اسم الله الاعظم على ثلثة وسبعين حرفا. وانما كان عند آصف ـ وصي سليمان ـ منها حرف واحد فتكلم به فخسف الله تعالى بالارض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده. ثم عادت الارض كما كانت أسرع من طرفة عين. (قال) وعندنا نحن من الاسم الاعظم اثنان وسبعون حرفا. وحرف عند الله استأثر به في علم الغيب عنده. ولا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم. ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف. ولكنه أحب ان يعرف الجن والانس ان آصف وصية هو الحجة من بعده بأمر الله لئلا يختلف في أمامته) انتهى.

لقد لمست هذه المفاجأة الضخمة قلب سليمان (ع) وراعه ان يحقق الله له مطالبه على هذا النحو واستشعر ان النعمة ـ على هذا النحو ـ ابتلاء ضخم يحتاج الى يقظة منه ليجتازه. ويحتاج الى عون من الله زيادة الشكر عليه. ويحتاج الى معرفة النعمة والشعور بفضل المنعم ليعرف الله منه هذا الشعور. فيتولاه. والله غني عن شكر الشاكرين (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ). (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أي غيروا معالمه المميزة له. لنعرف ان

٥١٤

كانت صاحبة فراسة وفطنة. (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ : أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ : كَأَنَّهُ هُوَ).

انها مفاجأة ضخمة لا تخطر على بال. فأين عرشها في اليمن وأقفالها وحراسها. وأين بيت المقدس مقر سليمان. (قالَتْ : كَأَنَّهُ هُوَ) لم ننف ولم تثبت. وهذا يدل على فراستها وحكمتها في مواجهة الحادثة العجيبة. (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ..) لقد كانت المفاجأة قصرا من البلور أقيم فوق الماء. وظهر كأنه لجة. فكشفت عن ساقيها (قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ) وهنا وقفت مدهوشة امام هذه العجائب التي تعجز البشر عنها وتدل على ان سليمان (ع) مسخر له قوى كبرى غير قوة البشر. فرجعت الى الله عزوجل وناجته : لقد اهتدى قبلها وأستنار. فعرفت أن الاسلام والاستسلام لا يجوز لغير الخالق العظيم.

(قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي. وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فهنا العزة والغلبة والعظمة لله وحده.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))

البيان : يلخص رسالة صالح (ع) في حقيقة واحدة. (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) فهذه هي القاعدة التي ترتكز عليها رسالة السماء الى الارض فى كل عصر وجيل. ومع كل نبي ووصي. وكل يمكن أن يهتف بهم الى الايمان

٥١٥

بهذه الحقيقة البسيطة. وقفة الانكار والجحود. أو وقفة الاستهزاء والتكذيب. وما تزال حتى يومنا هذا (قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) والتطير التشاؤم. مأخوذ عن عادة اهل الجاهلية. التي تجري وراء خرافاتهم وأوهامهم. وحتى هذه اللحظة ترى الذين يهربون من الأيمان بالله عزوجل ويستنكفون الانضمام الى جماعة أهل الايمان بدعوى انهم وصلوا الى حد من العلم. لا يليق معه أن يركنوا الى خرافة الذين يؤمنون بالله عزوجل ويعتنقون الدين. ومع هذا تراهم يعلقون أهمية ضخمة على رقم (١٣) وعلى مرور قط أسود يقطع الطريق أمامهم. الى ما لا يحصى من الخرافات الساذجة. ومع هذا فهم يعاندون حقيقة الفطرة التي تلزم عقولهم بالأيمان بخالقهم العظيم ومولاهم الذي أنعم عليهم بالحياة وأعطاهم من النعم ما لا يحصى بدون سؤال (قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ) يعني حظكم ومستقبلكم ومصيركم بما يجري عليكم عند الله الذي بيده نواصيكم. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) أي تختبرون بما خلق لكم وبكم وبما اعطاكم من نعمة. وحسن عملكم وسؤه. وهو الكفيل بتحقيق الخير في النهاية أو الشر. في دنياكم وأخرتهم والعاقبة للمتقين.

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) هؤلاء الرهط التسعة الذين تمخضت قلوبهم واعمالهم للفساد والافساد فضاقت نفوسهم بدعوة صالح وحجته وبيتوا فيما بينهم أمرا. ولكن الله كان بالمرصاد يراهم ولا يرونه. ويعلم ما دبروا ويطلع على مكرهم وهم لا يشعرون. وأين تدبيرهم من تدبير الله تعالى. (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) ومن لمحة الى لمحة اذا التدمير والهلاك واذا الدور خاوية. والبيوت خاوية (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) والعلم هو الذي ترتكز عليه الحقائق.

٥١٦

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩))

البيان : عجب في عبادته الاولى من اتيانهم هذه الفاحشة ، وهم يبصرون الحياة في جميع أنواعها وأجناسها تجري على نسق الفطرة ، وهم وحدهم الشواذ في وسط الحياة والاحياء. وصرح في عبارته الثانية. بطبيعة تلك الفاحشة. ومجرد الكشف عنها يكفي لابراز شذوذها وغرابتها. لمألوف البشرية. ولمألوف الفطرة جميعا. والذي لا يعرف منطق الفطرة يجهل كل شيء. (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا : أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ).

وقولهم هذا قد يكون تهكما. وقد يكون انكارا عليه. فهم من انحراف الفطرة بحيث لا يستشعرون ما في ميلهم المنحرف من قذارة.(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ...) (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) ..

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥))

٥١٧

البيان : السموات والارض حقيقة قائمة. لا يملك أحد انكار وجودها. ولا يملك كذلك ان يدعى ان هذه الالهة المدعاة خلقتها. وهي أصنام وأحجار مفتقرة الى من أوجدها أو صنعها. والماء النازل من السماء حقيقة كذلك مشهودة يستحيل انكارها. ويتعذر تعليلها بغير الاقرار بخالقها ومدبرها. الذي فطر السموات والارض وأوجد الحياة والجماد.

والقرآن المجيد يوجه القلوب والابصار والبصائر الى الاثار التي هي أكبر دليل على مؤثرها العظيم وصانعها الحكيم القدير. (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ).

حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة. ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط. وعند ما يصل في هذه الوقفة امام الحياة النامية في الحدائق البهجة الى اثارة التطلع والانتباه وتحريك التأمل والتفكير يهجم عليهم بالاستفهام والانكار (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ)

ولا مجال لمثل هذا الادعاء. ولا مفر من الاقرار والاذعان. وعندئذ يبدو موقف القوم عجيبا. وهم يسوون الهتهم المدعاة ، بالله العلي العظيم. فيعبدونها عبادة الله (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً. وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً ..) لقد كانت الحقيقة الكونية الاولى هي حقيقة خلق السموات والارض. أما هذه فهي الهيئة التي خلق عليها الارض. لقد جعلها قرارا للحياة.

وربما أن المخاطبين اذ ذاك لم يكونوا يدركون من قوله تعالى :(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً). كل ما أدركه المتأخرون في عصرنا الحاضر من عجائب وغرائب. وكلما اتسع علم البشر أدركوا شيئا آخر. (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) وهي الجبال. وهي ثابتة مستقرة على

٥١٨

الارض (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) البحر المالح الاجاج. والنهر العذب الفرات. وسماها بحرين على سبيل التغليب. وهذا من سنن الله فمن فعل هذا كله غير الله (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) وما يملك أحد أن يدعى هذه الدعوى. ووحدة التصميم أمامه تجبره على الاعتراف بوحدة الخالق العظيم. (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ). (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ...) هنا يلمس وجدانهم وهو يذكّرهم بخوالج نفوسهم. وواقع أحوالهم. فالمضطر في لحظات الكربة والضيق. لا يجد له ملجأ الا الله يدعوه ليكشف عنه الضر والسوء. ذلك حين تضيق الحلقة. وتشتد الخنقة. وتتخاذل القوى. وتتهادى الاسناد. وتنقطع أسباب الخلاص والنجاة. حينئذ يضطر الانسان الى التوجه الى قوة خالقة لتنقضه. والناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء. فاما حين تلجئهم الشدة ويضطرهم الكرب. فحينئذ تزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة. ويرجعون الى خالقهم العظيم منيبين اليه بدون اختيار.

والقرآن يذكر المكابرين الجاحدين الى هذه الحقيقة الكامنة في فطرتهم. ويسوقها اليهم في مجال الحقائق الكونية. التي ساقها من قبل. حقائق خلق السموات والارض. وانزال الماء من السماء.(وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) فمن يجعل الناس خلفاء الارض. أليس هو الذي استخلف جنسهم قرنا بعد قرن. وجيلا بعد جيل. انها حقائق في الانفس فمن الذي حقق وجودها (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) انهم لينسون ويغفلون. وهذه الحقائق كامنة في أعماق النفوس. مشهودة (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) ولو لا تذكر الانسان وتدبر مثل هذه الحقائق لبقي موصولا بالله صلة الفطرة الاولى. ولما غفل الانسان عن ربه ، وجعل

٥١٩

له شركاء من مخلوقاته لا تملك لانفسها ضرا ولا نفعا. ولا موتا ولا حياة. (أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ...) .. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) (تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) كل ذلك تذكير لهم (أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ...) وبدء الخلق حقيقة واقعة لا يملك أحد انكارها. ولا يمكن لأحد تعليلها بغير وجود الله ووحدانيته. وقد باءت بالفشل كل محاولة للتعليل في وجود هذا الكون بغير الاقرار بوجود الله الموجود بذاته. لان آثار صنعته واتقانها ملجئة للاقرار بوحدانيته. فعليها آثار التقدير الواحد وفيها التناسق المطلق الدال على وحدانية خالقها ومنظمها ومديرها. (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ .. قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وأنّى لهم وجود أدنى دليل أو برهان فهم عاجزون. وهذا مسلك القرآن المجيد (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) والايمان بالغيب. البعث والحشر والجزاء. عنصر أصيل في العقيدة. فلا يستقيم منهجها في الحياة الا به. فلا بد من عالم مرتقب يكمل فيه الجزاء ويتناسق فيه العمل والاجر. ويتعلق به القلب ويدفع صاحبه الى فعل الخير والابتعاد عن الشر. وهو نص قاطع لا تبقى بعده دعوى لمدّع. ولا يبقى معه مجال للوهم والخيال (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) ينفي عنهم العلم بموعد البعث في أغمض صوره. وهو الشعور. فهم لا يعلمون بهذا الموعد يقينا. ولا يشعرون به حين يقترب شعورا. فذلك من الغيب الذي يقرر أن لا احد يعلمه الا الله العليم الخبير.

(بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي

٥٢٠