تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

وهذه القلة من أهل الحق يهدون غيرهم. ولهم قيادة على من حولهم من الضالين عن هذا الحق الذي يعرفونه وهم حجة على هؤلاء الضالين عن هذا الحق المتنكرين لذلك العهد والميثاق الذي أخذه الله على مخلوقاته في عالم الذر قبل أن تخلق أبدانهم وغرائزهم.

ان طبيعة هذا الدين واضحة لا تحتمل التلبيس ، صلبة لا تقبل التمييع ، والذين يلحدون في هذا الدين يجدون مشقة في تحويله عن طبيعته هذه الواضحة الصلبة. وهم من أجل ذلك يوجهون اليه جهودا لا تكل ، وحملات لا تنقطع ، ويستخدمون في تحريفه عن وجهته وفي تمييع طبيعته ، كل الوسائل وكل الاجهزة

وهم يستخدمون بعضا ممن يتزي برجال الدين لاجل تحريف الحقائق باسم الدين والمتدينين يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويحلون ما حرم الله ويميعون ما أوجب الله. ويباركون الفجور باسم الثقافة والتقدم ويرفعون على ارتكاب الفواحش رايات التدين ، ويخدعون البسطاء في الحضارات المادية ، وهم يصورون الاسلام الذي يحكم الحياة حادثا تاريخيا مضى زمانه ويشيدون بعظمة هذا الماضي ليخدروا مشاعر المسلمين ، ثم ليقولوا لهم ـ في ظل هذا التخدير ـ ان الاسلام اليوم يجب أن يعيش في نفوس أهله عقيدة وعبادة ، لا شريعة ولا نظاما ، وحسبه وحسبهم ذلك المجد التاريخي ، وهم يحاولون تغيير طبيعته.

(وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣))

البيان : هذه هي القوة التي لا يحسبون حسابها وهم يشنون هذه المعركة الضارية ضد هذا الدين القيم المستقيم. هذه هي القوة التي يغفل عنها المكذبون بآيات الله تعالى.

٤١

انهم غافلون عن أن الله يستدرجهم فيما يملي لهم من لذائذ هذه الدنيا الدنية ، فهم لا يؤمنون بان كيد الله لا يغلب ولا يقهر.

انهم يتولون بعضهم ويرون قوة أوليائهم ظاهرة في الارض ، وينسون القوة الكبرى انها سنة الله مع المكذبين .. يرخي لهم العنان ليتمادوا بالطغيان ، ويملي لهم ليزدادوا اثما وطغيانا ، استدراجا لهم في طريق الهلكة وامعانا في الكيد لهم والتدبير.

ومن الذي يكيد انه السلطان الجبار والملك القهار ذو القوة المتين ، ولكنهم عنه غافلون. قد خدعتهم زخارف الحياة وأعمت الجرائم قلوبهم وأصمت آذانهم.

(فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦))

البيان : لقد كانوا يقولون عن الرسول ص وآله ، في حرب الدعاية التي يشنها أعداء الحق يخدعون بها الجماهير : ان محمدا به جنة ، وهو من ثم ينطق بهذا الكلام الغريب ، غير المعهود في أساليب البشر العاديين.

ولقد كان الملأ من قريش يعلمون انهم كاذبون ، وقد تظافرت الروايات على أنهم كانوا يعرفون الحق في أمر رسول الله ص وآله ، وانهم ما كانوا يملكون ان يمنعوا أنفسهم عن الاستماع لهذا القرآن والتأثر به أعمق التأثر. وقصة الوليد بن المغيرة مشهورة.

والقرآن يدعوهم الى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم الذي عرفوه من قبل وخبروه ، فلم يعرفوا عنه الا أصدق القول وأشد الامانة حتى لقبوه : (الصادق الامين)

٤٢

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ... وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ). وهي هزّة أخرى امام هذا الكون العجيب والنظر بالقلب المفتوح ، والعين المبصرة في هذا الملكوت الواسع الهائل العظيم. يكفي وحده لانتفاضة الفطرة من تحت الركام ، وتفتح الكنيونة البشرية لادراك الحق الكامن فيه والابداع الذي يشهد به ، والاعجاز الذي يدل على الخالق العظيم الواحد القدير. والنظر الى ما خلق الله من شيء يدهش القلب الحي ، ويحير الفكر السليم ، ويلجىء العقل الصحيح الى البحث عن مصدر هذا كله وعن الارادة التي أوجدت هذا الخلق العجيب.

القرآن يدعوهم الى التفكر والتدبر في أمر صاحبهم هذا المعروف لهم ماضيه كله المكشوف لهم أمره كله ، أفهذا به جنة .. أفهذا قول مجنون وفعل مجنون ، أم قول حكيم ورسول كريم ، انما هو منذر فصيح ناصح شفيق ، لا يلتبس قوله بقول المجانين ، ان هو الا نذير لقوم يعقلون (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا ... وَما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ) ، ان امتداد الحياة عن طريق الزوجية والنسل ليقوم شاهدا يهتف لكل قلب حي وعقل سليم بتدبير الخالق الخبير الواحد الحكيم ، ثم يناجي نفسه المطمئنة : والا فمن ذا الذي يضمن للحياة وجود الذكر والانثى دائما في نسلها بالمقادير التي تم بها هذا التزاوج. لماذا لا يأتي زمن على الحياة. تنسل ذكورا فقط. أو اناثا فقط ولو حدث هذا لانقطع النسل عند هذا الجيل. فمن ذا الذي يمسك بعجلة التوازن دائما وابدا في كافة الاجيال بدون انقطاع او انفصال (ذلك تدبير الحكيم الخبير عزوجل).

ان التوازن ملحوظ في ملكوت السموات والارض جميعا ـ لا في هذه الظاهرة الحيوية وحدها ـ انه ملحوظ في بناء الذرة ، كما هو ملحوظ في بناء المجرة ، وملحوظ في التوازن بين الاحياء وبين

٤٣

جميع الاشياء على حد سواء ، ولو اختل هذا التوازن شعرة ما ظل هذا الكون قائما لحظة فمن الذي يمسك بعجلة هذا التوازن المتقن العجيب في ملكوت السموات والارض جميعا .. ويكفي أن ينظر الانسان بالقلب المفتوح والعين المبصرة الى هذا الكون حتى يتلقى ايقاعاته وايحاءاته تلقيا موحيا هاديا محسوسا متيقنا أوثق لدى اللبيب من نور النهار.

ولذا كان الانسان بفطرته المكونة في أعماق فؤاده ان لها وللكون وما حواه خالقا عظيما ولكن يخطىء كثيرا في تطبيق هذا الخالق على مصاديق مخطئة من حيث يدري أو لا يدري.

وكانت الرسل والرسالات السماوية توضح له في كثير من الاوقات خطأه وغلطه. فكان تارة يؤب ويرجع الى صوابه ويهتدي حقيقة على خالقه ومولاه ، كما انه كان تارة يعاند ويكذب ويتعصب لهواه أو لمصالح وأغراض تدعوه لذلك وان كان في قرارة نفسه مصدقا

قانعا بصحة ما يدعي اله وان خالفه ظاهرا لغايات خاصة.

ان الله عزوجل الذي يخاطب الانسان بهذا القرآن لهو الذي خلق هذا الانسان. والذي يعلم فطرة هذا الانسان ، وأخيرا يلمس قلوبهم بطائف الموت الذي قد يكون متربصا بهم في كل لحظة وحركة وسكون ونفس من أنفاسهم :

(وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ)

فما يدريهم ان أجلهم قد اقترب وما يبقيهم في غفلتهم سادرين ، وهم عن غيب الله محجوبون. وهم من قبضته لا يفلتون ، ان هذه اللمسة بالاجل المغيب ـ الذي قد يكون قد اقترب ـ لتهز القلوب الحية ، هزة عميقة ، لعله أن يستيقظ. وينفتح ويحسّ بكل ما يحيط به من الاخطار ان جاءه الاجل وهو تائه حيران لا يهدأ ولا يقر له قرار.

٤٤

والله عزوجل منزل هذا القرآن وخالق هذا الانسان فهو يعلم ان هذه اللمسة لا تبقي له جارحة غافلة ، ولكن قتل الانسان ما اكفره. (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها). (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ).

ان هذه اللمسان التي تعددت في الآية الواحدة ، لتكشف لنا عن شدة اعتناء هذا الخالق الرحيم في هداية هذا الانسان لما فيه نفعه وصلاحه ، فهو يخاطب الكينونة البشرية وانه لا يدع جانبا واحدا منها الا ويخاطبه بما يثيره ويوقظه من غفلته ويلفت نظره الى خطئه لعله يؤب.

انه لخطاب للعقل والضمير ولجميع الجوارح الحساسة ، وهو يهز الكيان البشري بانذاره يلمسه ويوقظه ، انه لا يسلك به الطريق الجدل البارد ، ولكنه يستحييه لينظر ويتفكر. وترى حرارة الحياة تسري في دواخله وظواهره. وهكذا ينبغي أن يتجه منهج الدعوة الى الله عزوجل فالانسان هو الانسان ـ الموصوف بالنسيان ـ دائما وابدا يحتاج الى الوعظ والتذكير والتنبيه. والقرآن هو القرآن كلام الله العظيم الخبير الحكيم. وخطاب الله لهذا الانسان لا يتغير ولا يتوقف :

(مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ ، وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

ان الذين يضلون ويختارون الضلال على الهدى والعذاب على المغفرة ، سوف يندمون حينما ينتهي الاجل وتزول خدائع الحياة البراقة وينظر المرء ما قدمت يداه ويتمنى ليته كان ترابا.

انهم يضلون لانهم يتغافلون عن النظر والتدبر بعد قيام الحجة البالغة عليهم من الله عزوجل (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) وما في تركهم من ظلم لانهم هم اختاروا لانفسهم أهواءهم. فهم الذين أغلقوا

٤٥

الباب في وجوههم وقطعوا علاقتهم بخالقهم حتى استحوذ عليهم الشيطان فأنساه ذكر الله فتاهوا في طغيانهم يعمهون) بدون وعي ولا احساس. وهي لمسة الاعجاز في تكون الانسان وفيما يحيط به من دلائل وبراهين أنور من ضوء النهار لو ارادوها لانفسهم ولكنهم كذبوا فتاهوا.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨))

البيان : لقد كانت عقيدة الآخرة ، وما فيها من حساب وجزاء ، تفاجىء المشركين في الجزيرة مفاجأة كاملة ، ومع أن هذه العقيدة أصيلة في دين ابراهيم (ع) وهو جد هؤلاء المشركين ، وفي دين اسماعيل أبيهم الكريم ، الا انه كان قد طال عليهم الامد ، وبعد ما بينهم وبين أصول الاسلام الذي كان عليه ابراهيم واسماعيل (ع) ، حتى لقد اندثرت عقيدة الآخرة تماما من تصوراتهم ، فكانت أغرب شيء عليهم وأبعده عن تصورهم ، حتى لقد كانوا يعجبون من رسول الله ص وآله ، لانه يحدثهم عن الحياة بعد الموت ، وعن البعث والنشور والحساب والجزاء كما حكى عنهم القرآن المجيد :

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) ...

ولقد علم الله عزوجل ان أمة من الامم لا تملك ان تقود البشرية ، وتشهد عليها كما هي وظيفة الامة المسلمة ، الا أن تكون عقيدتها بالآخرة واضحة لها راسخة في تصورها وضميرها. فتصور الحياة على

٤٦

أنها هذه الفترة المحدودة بحدود هذه الحياة الدنيا الصغيرة ، لا يمكن ان ينشىء امة هذه صفتها.

ان العقيدة في الاخرة فسحة في التصور وسعة في النفس وامتداد في الحياة ضروري في تكوين النفس البشرية ذاتها ، لتصلح أن تناط بها تلك الوظيفة الكبيرة. كذلك هي ضرورية لضبط النفس عن شهواتها ومطامعها التي دائما وأبدا تدعو الى الافراط أو التفريط.

والاعتقاد في الاخرة مفرق طريق بين فسحة الرؤية والتصور في نفس الانسان ، وضيق الرؤية ، كذلك كله كان التوكيد شديدا ، في عقيدة الاخرة في دين الله كله (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ)

ان الساعة غيب من الغيب الذي استأثر الله بعلمه فلم يطلع عليه أحد من خلقه. ولكن المشركين يسألون الرسول ص وآله عنها (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي).

ثم يعجب من هؤلاء الذين يسألون الرسول ص وآله ، عن الساعة انهم لا يدركون طبيعة الرسالة وحقيقة الرسول ولا يعرفون حقيقة الالوهية ، (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها). (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا). وبهذا الاعلان تتم لعقيدة التوحيد الاسلامية كل خصائص التجريد المطلق. من الشرك في أية صورة من صوره ، وتنفرد الذات الالهية بخصائص لا يشركها البشر في شيء منها ، ولو كان هذا البشر أشرف خلق الله كمحمد ص وآله :

(إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) والذين يؤمنون ـ يعني يريدون الايمان والحق ـ هم الذين يحققون وينظرون وتفيدهم الادلة والبراهين فتتجلى لديهم الحقائق فيأخذون بها ولا يبالون بكثرة أو قلة انما همهم الحق واتباعه أينما تحقق لديهم لا غير.

٤٧

ان الكلمة الصادقة لا تعطي مدلولها الحقيقي الا للقلب المفتوح لها والمتهيىء لتلقي الحقائق والعقل الذي يستشرفها ويتقبلها. وان هذا القرآن لا يفتح كنوزه ، ولا يكشف اسراره ولا يعطي ثماره الا لقوم يؤمنون. ولقد ورد عن بعض اصحاب الرسول ص وآله انه قال :

(كنا نؤتى الايمان قبل أن نؤتى القرآن) وهذا الايمان الفطري التكويني الذي فطر الانسان عليه وانما آباؤهم يصرفونهم عنه لقوله ص وآله (كل مولود يملك الفطرت وانما أبواه يهوداه او ينصّراه).

وهذا الايمان هو الذي يجعلهم يتذوقون القرآن ذلك التذوق اللذيذ المنعش المحيي للقلوب.

لقد كان ذلك الجيل المتفرد يجد من حلاوة القرآن ومن نوره ، ما لا يجده الا الذين يؤمنون.

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥))

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨))

البيان : فهي نفس واحدة في طبيعة تكوينها وان اختلفت وظيفتها بين الذكر والانثى. وانما هذا الاختلاف ليسكن الزوج الى زوجه ويستريح اليها.

٤٨

وهذه هي نظرة الاسلام لحقيقة الانسان ، ووظيفة الزوجية في تكوينه ، وهي نظرة كاملة وصادقة جاء بها هذا الّذين ، منذ اربعة عشر قرنا ، يوم ان كانت الديانات المحرفة تعد المرأة ، أصل البلاء الانساني ، وتعتبرها لعنة ونجسا وفخا للغواية ، تحذر منه تحذيرا شديدا ،

ويوم ان كانت الوثنيات ـ ولا تزال ـ تعدها من سقط المتاع الا على الاكثر خادما أدنى مرتبة من الرجل ولا حساب له في ذاته على الاطلاق)

والاصل في التقاء الزوجين هو السكن والاطمئنان والانس والاستقرار ، ليظلل السكون والامن جو المحضن الذي تنمو فيه الفراخ وينتج فيه المحصول البشري الثمين ، ويؤهل فيه الجيل الناشىء لحمل تراث التمدن البشري والاضافة اليه ، ولم يجعل هذا الالتقاء لمجرد اللذة العابرة والنزوة العارضة ، وبعد ذلك تبدأ القصة من المرحلة الاولى :

(فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ) ، والتعبير القرآني يلطف ويدق ويشفّ عنه تصوير العلاقة الاولية بين الزوجين ، ثم تأتي المرحلة الثانية :

(فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ)

لقد تبين الحمل وتعلقت به قلوب الزوجين ، وجاء دور الطمع في أن يكون المولود سليما صحيحا صبوحا : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما. فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ).

روي عن الامام الرضا (ع) ان المأمون العباسي سأله فقال يا ابن رسول الله أليس الانبياء معصومين.

فقال (ع) : بلى. قال فما معنى قوله عزوجل (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ).

٤٩

فقال (ع) : انما كانت حواء تلد ذكرا وانثى. وان آدم وحواء عاهدا الله تعالى ودعواه وقالا : لئن آتينا صالحا لنكونن من الشاكرين ، فلما آتاهما صالحا من النسل خلفا سويا بريئا من النقص والزمانة ، كان ما آتاهما صنفين : صنفا ذكرانا وصنفا اناثا. فجعل الصنفان لله عزوجل شركاء فيما آتاهما ، ولم يشكراه كما شكره أبواهما. فقال عزوجل : (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فقال المأمون : اشهد انك ابن رسول الله ص وآله حقا.

على أننا نرى في زماننا هذا صنوفا من الشرك ، ممن يزعمون انهم يوحدون الله عزوجل. ثم يقيمون لهم الهة شتى ، يسمونها (القومية) و(الوطنية) و(الشعب) وغير ذلك. وهي لا تعدو ان تكون آلهة تشارك الله سبحانه في خلقه. كالاصنام التي كان يقيمها الوثنيون ، وينذر لها الأبناء كما كانوا ينذرون للالهة القديمة.

ان الناس يعترفون اليوم بالله ربا ، ولكنهم يجردونه من الملكية والحاكمية ، وقد كانت الجاهلية القديمة أكثر أدبا مع الله تعالى من جاهلية القرن العشرين. ولكن كان اهل الجاهلية الاولى لديهم شيئا من الصفات التي يحبها الله تعالى ويأمر بها من العفة والكرم وحفظ الجوار والالتزام بحفظ العهد والميثاق والغيرة والمروءة وكل هذه الصفات الجميلة التي ألزم بها الاسلام المسلمين كانت في السابق موجودة. أما اليوم وفي جاهلية القرن العشرين فقد نبذت واندثرت وأصبح من يتصف بها ، يعد بنظرهم رجعيا متأخرا لا وزن له ولا قيمة ، ولا كرامة وهنا البلية العظمى.

ان الله تعالى يأمر بالعفة والحشمة والفضيلة. ولكن (الوطن) أو (الانتاج) يأمر بان تخرج المرأة عارية أو شبه عارية ، خليعة متبرجة

٥٠

وتغري وتعمل مضيفة في الفنادق باذلة نفسها وعرضها لكل من رغب بها وهي قد تدعي الاسلام والايمان .. فهل هذا صحيح وهي صادقة في دعواها. فمن هو الا له الذي تعبده وتعترف بألوهيته.

انها أمثلة لما يجري في الارض كلها اليوم ، وأصبح من العوائد المتفق عليها .. وهل هذا الا كاشف عن الوثنية السائدة ، وحقيقة الأصنام المعبودة عند ارباب الثقافة والحضارة الحديثة.

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)

(قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ) لقد قذف الاسلام في وجوههم ووجوه الدعاة بهذا التحدي اللاذع كيدون جميعا) (إِنَّ وَلِيِّيَ اللهُ). فأعلن بها عمن يركن. فدل بتنزيله على ارادته سبحانه. في أن يواجه رسوله ص وآله الناس بالحق الذي فيه. كما قدر أن يعلي هذا الحق على باطل المبطلين. وان يحمي عباده الصالحين الذين يبلغونه وانها لكلمة صاحب الدعوة الى الله تعالى. بعد رسول الله ص وآله في كل مكان وزمان.

وصاحب الدعوة الى الله يرتكن الى الله ، فما هذه الاولياء ، وماذا تساوي في حسّه. كان ما يعرفه التاريخ : ان كانت الغلبة والعزة والتمكين لأولياء الله وكانت الهزيمة والهوان والدثور للطواغيت الذين قتلهم الصالحون. ان صاحب الدعوة الى الله تعالى في كل زمان وفي كل مكان يحمل في عقيدته مثل هذه الثقة والعزيمة ، واليقين.

لقد أمر الله رسوله أن يتحد المشركين فتحداهم ، وأمره أن يبين لهم عجز الهتهم وسخف الشرك بها فبين لهم :

(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ).

٥١

واذا كان هذا التقرير ينطبق على الهة الوثنية الساذجة في جاهلية العرب القديمة ، فانه ينطبق كذلك على كل الالهة المدعاة في الجاهلية الحديثة.

ان هؤلاء المشركين الجدد يدعون من دون الله أولياء من أصحاب السلطان الظاهر في الارض. وهم أيضا لا يستطيعون نصرهم ولا انفسهم ينصرون. واذا كانت الهة الجاهلية الاولى لا تسمع ولا تبصر ، كذلك الحال في الهة الجاهلية الحديثة لا تسمع ولا تعقل شيئا :

(أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) عن آيات ربهم وبراهينه الساطعة.

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢) وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣))

(وَإِذا قُرِئ الْقُرْانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِى نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْءَاصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَفِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦))

البيان : العفو هو الميسر الممكن من اخلاق الناس في المعاشرة والصحبة وما أجدر صاحب الدعوة ان يتبع هذا التوجيه الرباني العليم بدخائل النفوس.

(إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ).

وتكشف هذه الآية القصيرة عن ايحاءات عجيبة ، وحقائق عميقة ، يتضمنها التعبير القرآني المعجز الجميل ، ان اختتام الآية بقوله (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) ليضيف معاني كثيرة الى صدر الاية.

٥٢

انه يفيد ان مس الشيطان يعسي ويطمس ويغلق البصيرة ، ولكن تقوى الله ومراقبته وخشية غضبه وعقابه ، اذا اتصلت بالقلوب أيقظتها من الغفلة الى هداه وتذكر المتقين. فاذا تذكروا تفتحت بصائرهم وتكشفت الغشاوة عن عيونهم (فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ)

ان مس الشيطان عمى ، وان تذكر الله ابصار ، ان مس الشيطان ظلمة وان الاتجاه الى الله نور. ان مس الشيطان تجلوه التقوى. فما للشيطان على المتقين سبيل :

(هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ). ان هذا القرآن بصائر تهدى ورحمة تفيض. ان هذا القرآن هو معجزة الله الخالدة الخارقة التي تقابلك من كل جهة أتيته. فهو اعجاز من جهة التعبير. وهو اعجاز من جهة التاريخ ، وهو اعجاز من جهة الاخبار عما يأتي ، وهو اعجاز من جهة التقنين والتشريع ومن كل جهة هو اعجاز ومعجزة.

وسيبقى هذا الاعجاز ما بقي الدهر مادة وموضوعا ، لانه يخاطب كينونية البشرية بالفطرة. ان هذا القرآن الذي يجهله اهله اليوم لانهم لا يعرفونه ولن يريدوا التعرف عليه كما يريد خالقه :

(وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

ان الناس يخسرون الخسارة التي لا يعوضها شيء بالانصراف عن هذا القرآن ، وان الآية الواحدة لتصنع انفعالا في النفس حين تسمع لها وتنصت أعاجيب من الانفعالات والتأثيرات.

ان رؤية القرآن بتمعن وتدبر تريك حقائق الوجود ، وحقائق الحياة البشرية (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً). فاذا تحرك اللسان مع القلب ، واذا انبست الشفاه مع الروح ، فليكن ذلك في صورة لا تخدش الخشوع (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) بكرة وأصيلا.

٥٣

(وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ) ، ولا يغفل القلب عن مراقبة الله الا اذا طمس الهوى على نورانيته. ان العبادة والذكر عنصر أساسي في منهج هذا الدين ، انه ليس منهج معرفة نظرية ، وجدل لاهوتي ، انه حركة واقعية لتغيير واقع البشرية من جذورها وركائزها ، وتمكينها في نفوس الناس وفي أوضاعهم كافة.

وتغيير هذا الواقع الجاهلي ، الى الواقع الرباني أمر ليس بالهيّن والسهل البسيط انه ليس وحده ، وليست المعرفة وحدها ، انما هي العبادة لله والاسمداد منه تعالى هذا الزاد ، وهذا السند وهذا العون. انه زاد الطريق وعدة المركب في هذا الطريق.

٥٤

ـ ٨ ـ سورة الانفال ـ عدد آياتها ـ سبع وسبعون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤))

البيان : لقد أخذ الله تعالى المسلمين بالتربية قولا وعملا ، ونزع أمر الانفال كله منهم وردّه الى رسول الله ص وآله ، حتى أنزل حكمه في قسمة الغنائم بجملتها ، فلم يعد الامر حقا لهم يتنازعون عليه. انما أصبح فضلا من الله عليهم يقسمه رسول الله ص وآله بينهم كما علمه ربه ، والى جانب الاجراء العملي التربوي كان التوجيه المستطرد الطويل الذي بدأ بهذه الآيات واستطرد فيما تلاها كذلك :

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ.)

عن الصادق (ع) قال : الفيء والانفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم ، أو قوم صولحوا او أعطوا بأيديهم. وما كان من أرض خربة أو بطون أودية ، فهو كله من الفيء والانفال فهذا كله لله ولرسوله ، يضعه حيث شاء. وهو للامام ، بعد الرسول).

وقال (ع) : نحن قوم فرض الله طاعتنا ، لنا الانفال ولنا الصفو المال والمعادن والآجام وكل أرض لا مالك لها ، وكل أرض باد أهلها ، فهو لنا وما كان للملوك فهو لنا من الانفال. وكل ما أخذ من دار الحرب بغير قتال وكل أرض انجلى عنها أهلها بغير قتال وكل أرض موات).

لقد كان الهتاف لهذه القلوب التي تنازعت على الانفال ، هو الهتاف بتقوى الله عزوجل خالق القلوب ، العليم باسرار القلوب ، انه لا يرد

٥٥

القلب البشري عن الشعور بأعراض الحياة الدنيا ، والنزاع عليها ـ وان كان هذا النزاع متلبسا هنا بمعنى الشهادة بحسن البلاء ـ الا استجاشة الشعور بتقوى الله وخوفه وتلمس رضاه في الدنيا والآخرة.

ان قلبا لا يتعلق بالله يخشى غضبه ويتلمس رضاه ، لا يملك أن يتخلص من ثقلة الاعراض ولا يملك أن يرف شاعرا بالانطلاق ، ان التقوى زمام هذه القلوب التي يمكن أن تقاد منه طائعة ذلولة ، في يسر وفي هوادة ، وبهذا الزمام يقود القرآن المجيد هذه القلوب الى صلاح ذات بينها (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ). وبهذا الزمام يقودها الى طاعة الله ورسوله.

وأول الطاعة هنا طاعته في حكمه الذي قضاه في الانفال. فقد خرجت من أن تكون لأحد من المسلمين كافة ، وانحصرت ملكيتها ابتداء لله ولرسوله .. فانتهى حق التصرف فيها الى الله ورسوله ص وآله ، فما على الذين آمنوا الا أن يستسلموا فيها لحكم الله وقسم رسول الله طيبة قلوبهم راضية نفوسهم والا أن يصلحوا علائقهم ومشاعرهم ويصفو قلوب بعضهم لبعض (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، فلا بد للايمان من صورة عملية واقعية. يتجلى فيها ، ليثبت وجوده ويترجم عن حقيقته ، كما قال رسول الله ص وآله : (ليس الايمان بالتمني ، ولا بالتحلي ، ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل).

ومن ثم يرد مثل هذا التعقيب كثيرا في القرآن لتقرير هذا المعنى الذي يقرره قوله ص وآله ولتعريف الايمان وتحديده واخراجه من أن بكون كلمة تقال باللسان وتمنيا لا واقعية له في عالم لعمل والتطبيق ، فقد حدده رب العالمين (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً ...)

٥٦

ان التعبير القرآني دقيق في بنائه اللفظي ليدل دلالة دقيقة على مدلوله المعنوي ، وفي العبارة هنا قصر بلفظ (انما) وليس هناك مبرر لتأويله ـ وفيه هذا الجزم الدقيق ـ ليقال أن المقصود هو (الايمان الكامل) فلو شاء الله سبحانه ان يقول هذا لقاله.

انما هو تعبير محدد دقيق الدلالة ، ان هؤلاء الذين هذه صفاتهم وأعمالهم ومشاعرهم هم المؤمنون ، فغيرهم ممن ليس له هذه الصفات بجملتها ليسوا بالمؤمنين ، والتوكيد شاهد (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) يقرر هذه الحقيقة ، فاما هكذا ايمان واما فلا ايمان أصلا. (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) (أي لا يرجون سواه ولا يقصدون الا اياه ولا يلوذون الا به) (ولا يطلبون الحوائج الا منه. ولا رادته واختياره هم مستسلمون).

(والتوكل على الله والاستسلام الى ارادته هو جماع الايمان الصحيح ، والمعرفة الحقة).

وهذا هو اخلاص الاعتقاد بوحدانية الله ، واخلاص العبادة له دون سواه ، فما يمكن ان يجتمع في قلب واحد : توحيد الله ، والتوكل على سواه. لانه اليه يرجع الامر كله.

ولقد ظلت الجاهلية (العلمية) الحديثة تلج فيما تسميه (حتمية القوانين الطبيعية) ذلك لتنفي (قدر الله) وتنفي (غيب الله) حتى وقفت في النهاية عن طريق وسائلها وتجاربها ذاتها ، امام غيب الله وقدر الله. وقفة العاجز عن التنبؤ الحتمي وبقي (الغيب) سرا مختوما وبقي قدر الله هو الحقيقة الوحيدة المستيقنة. ولجأت الى نظرية (الاحتمالات) في عالم المادة فكل ما كان لديها حتميا صار احتماليا ، وبقي قول الله عزوجل (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) وهو القانون الحتمي الوحيد الذي يتحدث بصدق عن طلاقة المشيئة الالهية ، من وراء القوانين

٥٧

الكونية التي يدبر الله بها هذا الكون وما حواه ، بقدره النافذ الطليق. ومتى تخلص القلب من ضغط الاسباب الظاهرة ، لم يعد هناك محل فيه للتوكل على غير الله ابتداء. وقدر الله هو الذي يحدث كل ما يحدث. وهو وحده الحقيقة المستيقنة ، والاسباب الظاهرة لا تنشىء الا احتمالات ظنية ، وهذه هي النقلة الضخمة. التي ينقلها الاعتقاد الاسلامي ، للقلب البشري ـ للعقل البشري ايضا ـ النقلة التي تخبطت الجاهلية الحديثة ثلاثة قرون لتصل الى اولى مراحلها من الناحية العقلية ، ولم تصل الى شيء منها في الناحية الشعورية وما يترتب عليها من نتائج عملية خطيرة في التعامل مع قدر الله عزوجل. انها نقلة التحرر العقلي ، والتحرر الشعوري ، والتحرر السياسي ، والتحرر الاجتماعي وما يمكن ان يتحرر (الانسان) أصلا اذا بقي عبدا للاسباب (الحتمية) وما وراءها من عبودية لارادة الناس ، أو عبوديته لارادة (الطبيعة) ، فكل حتمية غير ارادة الله وقدره هي قاعدة لعبودية لغير الله وقدره. ومن ثم فان هذا التوكيد على التوكل على الله وحده. واعتباره شرطا لوجود الايمان أو عدمه ، والتصور الاعتقادي في الاسلام (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ).

وهنا نرى للايمان صورة وحركة ظاهرة ـ بعد ما رأيناه في الصفات السابقة مشاعر قلبية. وهذا معنى (ان الايمان هو ما وقر في القلب ، وصدقه العمل) فالعمل هو الدلالة الظاهرة للايمان. التي لا بد من ظهورها للعيان ، لتشهد بالوجود الفعلي لحقيقة هذا الايمان.

وأقامت الصلاة ليست هي مجرد أدائها ، انما هي الاداء الذي يحقق حقيقتها ، الاداء الكامل اللائق بوقفة العابد في حضرة المعبود سبحانه ، لا مجرد القراءة والقيام والسجود وما ينفع ذلك اذا كان القلب غافلا عن مراقبة المعبود والخشوع بين يديه.

٥٨

(وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) وهم ينفقون بعض ما رزقناهم ، فهم يخلقوا هذا المال وانما هو مما رزقهم الله ـ من بين ما رزقهم وهو كثير لا يحصى ـ فاذا أنفقوا فانما ينفقون بعضه ويحتفظون منه ببقية والاصل هو رزق الله وحده عزوجل الرزاق الجواد.

تلك هي الصفات التي حدد الله بها ـ في هذا المقام ـ الايمان ، وهي تشمل الاعتقاد في وحدانية الله عزوجل والاستجابة الوجدانية لذكره ، والتأثر القلبي بآياته ، والتوكل عليه وحده وعلى نفس هذه القاعدة يجيء التعقيب الاخير : (أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ)

روي عن الحارث بن مالك الانصاري انه مر برسول الله ص وآله ، فقال له : كيف أصبحت يا حارث قال : أصبحت مؤمنا حقا. قال : (انظر ما تقول .. فان لكل شيء حقيقة ، فما حقيقة ايمانك) فقال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي وأطمأت نهاري ، وكأني انظر الى الجنة واهلها كيف يتزاورون فيها ، وكأني انظر الى اهل النار كيف يتضاعفون فيها. فقال ص وآله : يا حارث عرفت فالزم).

ان حقيقة الايمان يجب أن ينظر اليها بالجد الواجب ، فلا تتميع حتى تصبح كلمة يقولها لسان ومن ورائها واقع يشهد ظاهره بعكس ما يقوله اللسان ، كلا ليس ذلك بايمان صحيح.

(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)

إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً

٥٩

لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤))

البيان : لقد رد الله الانفال كلها الى الله والرسول ، ليعيد الرسول الله ص وآله ، قسمتها بينهم على السواء ـ بعد استبقاء الخمس الذي ستأتي فيما بعد مصادقة ـ ذلك لتخلص نفوس العصبة المؤمنة من كلا ملابسات الغنيمة ، فيمنع التنازع عليها ، ويصير حق التصرف فيها الى الرسول ص وآله كما يعلمه الله ، فلا يبقى في النفوس من أجلها شيء ، وليذهب ما حاك في نفوس الفئة التي حازت الغنائم ، ثم سويت مع الآخرين في القسمة على ما تقدم.

لقد اراد الله ـ وله الفضل والمنة ـ ان تكون ملحمة لا غنيمة ، وان تكون موقعة بين الحق والباطل ، ليحق الحق ويثبته ، ويبطل الباطل ويزهقه ، وأراد ان يقطع دابر الكافرين فيقتل منهم من قتل ، ويؤسر منهم من يؤسر ، وتذل كبرياؤهم وتخمد شوكتهم وتعلو راية الاسلام وتعلو معها كلمة الله ، ويمكن الله للعصبة المسلمة التي تعيش بمنهج الله ، وتنطلق به استحقاق لا عن جزاف.

لقد أراد الله للعصبة المسلمة ان تصبح أمة ، وان تصبح دولة ، وأن تصبح لها قوة وسلطان.

وان غزوة بدر لتمضي مثلا في التاريخ البشري ، وانها لتقرر دستور النصر ، والهزيمة ، وهي آية من آيات الله عزوجل ، وسنته الجارية في خلقه ما دامت السموات والارض :

٦٠