تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

لا يتغير ولا يقبل التغيير. وهكذا ينكشف للعلم البشري يوما بعد يوم شيء عجيب قدره العلم الخبير. القادر الحكيم.

(وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) ومع هذا فهناك أقوام لم يدركوا شيئا من هذا كله. (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) والذي لا يملك لنفسه النفع ولا يمكنه ان يدفع عنها الضر. فهو لغيره أعجز. الا انه الانحراف المطلق الذي لا يستغرب معه أن يدعوا على الرسول ص وآله بعد ذلك ما يدعون من الكذب والافتراء. ويجعلون لله اندادا. وهو خلقهم من العدم.

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ ..) واكذب شيء ان يقول الانسان شيئا وهو يوقن انه فرية. لا تقوم على اساس قابل للتصديق. ولكنه العناد والخوف على مراكزهم المزيفة. (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً) ظلما للحق وللعدل. ولانفسهم (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) حينما سمعوا القرآن المجيد يخبرهم عن أحوال الغابرين ليعتبروا بما أصابهم ويتجنبوا سيرهم. (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فأين علم البشر بأجمعهم عن احصاء ذلك والاحاطة بخفاياه واسراره وتعجيز المخلوقات عن معرفته والحكم عليهم بالجهل لجميع ذلك فقوله (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا). ومع هذا فانهم يرتكبون الخطيئة الكبرى. ويدعون ذلك على الرسول ص وآله ثم يفتح لهم باب التوبة ليرجعوا اليه فيقول لهم (إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً).

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) انه الاعتراض المكرور الذي رددته الامم السابقة في كل عصر عن كل رسول يأتيها ليخرجها من الظلمات الى النور. ومن الشقاء الى السعادة.

٤٦١

والمسألة من هذا الجانب قد تبدو غريبة مستبعدة. ولكن لما كان الله عزوجل قد خلق هذا الانسان من نوع خاص. وخلقه ليستخلفنه في أرضه. وكان في بدء خلقه عاري عن كل معرفة فدعت الحكمة العادلة. ان يرسل له رسولا يعرفه سبل السعادة والهداية بواسطة وحيه ثم يرسله لهذا النوع من البشر. وبذلك يفتح له باب الهداية والسعادة وباب الكمال الانساني وما كان الله ليدعه في هذه الخلافة دون عون منه. ودون هدى ينير له طريقه لكل خير وصلاح وقد استودعه الاستعداد للاتصال به عن طريق تلك النفخة الروحية التي ميزته عن سائر المخلوقات.

اذن فلا عجب ان يختار الله واحدا من نوعه وجنسه صاحب استعداد روحي للتلقي. فيوحي اليه ما به يهدي اخوانه وبني نوعه من البشر. الى ما فيه كمالهم وسعادتهم في الدنيا والاخرة. انه لتكريم الالهي للانسان. وانها الحكمة الالهية والكرامة التي اختص بها هذا المخلوق (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً).

ومن ثم يسير بهم هذا الرسول المختار من قبل الخالق الوهاب. خطوة خطوة. وهو يفهم ويقدر بواعثهم واستجاباتهم. لانه في النهاية واحد منهم يرتاد بهم الطريق الى خالقهم العظيم بوحي منه.

فهي حكمة الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا. هي حكمة الله البالغة ان جعل الرسول لهذا البشر من البشر ليؤدي دوره على قيادة هذا البشر. والاعتراض على بشريته جهل بهذه الحكمة.

وما المال وما الكنوز. وما رياض هذه الحياة الآنية. مقابل ما يريد خالق الانسان لهذا الانسان من كمال انساني. وارتفاع رباني.

٤٦٢

ونعيم خالد لا يزول ولا ينتهي فهو لا شيء ولكن القوم لهم مصالحهم وقيادتهم بيد اهوائهم. فلا يدركون الخير من الشر والسعادة من الشقاء.

(انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً) (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً).

وهي كلمة تضليل للعوام والاتباع. ولكنها في الوقت ذاته تشي بشعورهم الداخلي بان يقوله القائل منهم غير طبيعي. (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) (تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ).

(بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (١١) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (١٢) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (١٣) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (١٤) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (١٥) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (١٦) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (١٧) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (١٨) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (١٩)

وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (٢٠))

البيان : (قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) ... (وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً) ونحن هنا أمام مشهد السعير المتسعرة. وقد دبت فيها الحياة. فاذا هي تنظر فترى اولئك المكذبين بالساعة. تراهم من بعيد فاذا هي تتغيظ وتزفر فيسمعون زفيرها وتغيظها. وهي تتميز من النقمة. وهم اليها في الطريق (مشهد مرعب رهيب يزلزل الاقدام والقلوب).

وفي هذا الموقف المكروب يعرض ما أعد الله عزوجل لعباده المتقين الذين يخشونه ويرجون لقاءه.

٤٦٣

(قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ. أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) وقد حشروا مع الهتهم التي كانوا يزعمون.

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ) قد يكونون الاصنام. وقد يكونون الملائكة والجن. وعلى كل حال : (قالوا سبحانك ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء ...) والجواب هو الانابة والتبرئة من الهتهم. عندئذ يتوجه الى أولئك العباد بالخطاب المخزي : (فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً) (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) (وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً) بصيرا بالضمائر والقلوب. والمصائر والغايات. ولهذه الاضافة هنا ايحاؤها ونسمتها الرخية على قلب الرسول ص وآله. في مقام التأسية والتسلية. والله بصير بمداخل القلوب.

(وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (٢٢) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (٢٣) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (٢٤) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (٢٦)

وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (٢٧) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (٢٩) وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (٣٠))

البيان : ان المشركين لا يرجون لقاء الله. أي لا ينتظرون هذا اللقاء لعدم ايمانهم بالحشر والبعث. فقد كانوا يستبعدون ان يكون الرسول بشرا. وكانوا يطلبون : لكي يؤمنوا بالعقيدة التي يدعوهم اليها أن تنزل عليهم الملائكة تشهد لهم بها. أو أن يروا الله سبحانه جهرة. وهو تطاول جاهلي وقصر فهم.

٤٦٤

(لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) لقد عظم شأنهم في نظر أنفسهم حتى شغلهم عن الحقيقة ووزنها الرفيع. ثم يسخر السياق منهم (يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ) يوم يتحقق اقتراحهم الذي اقترحوه (فيرون الملائكة) يومئذ يأتيهم العذاب ولا يبقى هناك موضوع للبشرى الا بالعذاب. (وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) هكذا في كل لحظة. والخيال يتبع حركة القدوم.

فاذا كل ما عملوا في الدنيا من عمل صالح هباء. لانه لم يقم على ايمان صحيح وعقيدة صالحة ، التي بها تقبل الاعمال ويترشح النور من خالق الوجود الى قلب المخلوق.

ان وجود الانسان وحياته وعمله في نظر الاسلام موصولة كلها بأصل الكون ومن أوجده. برسم وتخطيط وضبط وقصد. فلا وجود للصدفة العمياء. ولا للخبط العشواء. والعقيدة الصالحة والعمل الصحيح هو الذي يوصل المخلوق بخالقه حتى يفيض عليه من نور هدايته والايمان الصحيح هو الذي يصل الانسان بربه فيجعل لعمله قيمة ووزنا (والا كان هباء منثورا) والايقاع الممدود يزيد الموقف هولا. ويزيد أثره عمقا. حتى ليكاد القارىء والسامع يشتركان في الندم (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) فلا يكفيه الاسى والتحسر والزفرات حتى يأخذه الهول فيعض على يديه معا. لشدة ما يعانيه من الالم والهول اللاذع. وهي حركة معهودة عند شدة الالام والزفرات.

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً) فسلكت سبيله واتبعت وصيته في خليفته الذي نصبه لنا يوم (غدير خم) على رؤوس الاشهاد وأخذ منا البيعة له من الخالق الذي ألزمه بهذه البيعة لخليفته وابن عمه علي بن ابي طالب (ع) فأنزل عليه الزاما لا يمكنه اهماله او تأخره طرفة

٤٦٥

عين فقال عزوجل في الزامه بدون أدنى هوادة. وهدده بالانتقام اذا هو تأخر لحظة واحدة :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ ...)

(يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً) ولذا كان يقول الاول عن الثاني كان يردد هذه المقالة. بعد جلوسه على منبر الخلافة (لي شيطان يعتريني. فاذا ملت فقوموني ...)

وهذه الآية وان كانت نزلت في الاول والثاني. الا انها لا تتقيد بهما فهي تشمل كل من اتبع غيره على الضلال والباطل وترك الهدى والحق بعد ما تبين له الامر جليا بدون خفاء. ولكن أطاع غيره واتبع هواه فكان عاقبتهما خسرا. وقد تحملا أوزار العباد الى يوم المعاد في كل ضلال وفساد. (لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي) لقد كان له شيطان يضله. أو كان هو عونا للشيطان في اضلال الناس. (وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) يقوده الى مواقف الخذلان ويخذلهما عند الجد وفي مواقف الخوف والهول. كما فعلا في أحد. وخيبر. وحنين. والاحزاب. فالخزي لهما اذ كانا في السلم يزاحمان رسول الله في مجلسه. وفي الحرب يزاحمان الهاربين من القتال حتى يسبقا جميع الناس وهذه هي علامة النفاق وفعل المنافقين في كل عصر ومصر والحساب أمامهما.

وهكذا راح القرآن يهز قلوب الغافلين حتى لا ينخدعوا في تضليل المنافقين والمجرمين. ويجسم لهم ما حصل مع الاولين حتى يكون عبرة للاخرين. ويريهم واقعا مشهودا لأولي الالباب : (وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً) لقد هجروا القرآن منذ توفى رسول الله ص وآله وصار على ذلك من أتى بعدهم. ولذا ترى جميع

٤٦٦

الدول العربية. تدعي الاسلام وتحكم بغير ما أنزل الله ولا يمكن لعلمائهم الاعتراض عليهم تبعا لما فعله الاولون من مخالفتهما لاحكام الله عند معارضتها لمصالحهم فيدور امر العلماء اما أن يسكتوا واما أن يكفروا قادتهم الاولى فلذا رأوا ان السكوت أهون من تكفير اسلافهم. لقد هجروا القرآن فلم يتدبروه. ليدركوا الحق من خلاله. ويجدوا الهدى على نوره. فتاهوا وضلوا.

(وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (٣١) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٣٤)

وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (٣٥) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (٣٦)

وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (٣٨) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (٣٩) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (٤٠))

البيان : ولله الحكمة البالغة. فان بروز المجرمين لحرب الانبياء ودعاة الخير. يقوي عودها ويطبعها بطابع الجد الذي يناسب طبيعتها لانها لا تريد الا الدعوة الخالصة لوجه الله عزوجل.

ولو كانت الدعوات سهلة ميسورة. تسلك طرقا ممهدة مفروشة بالازهار. ولا يبرز لها في الطريق خصوم ومعارضون ... لسهل على كل انسان ان يكون صاحب دعوة. ولما تميز دعاة الحق. من دعاة الباطل.

ومن البلايا المخزية ، أن أكثر الناس يقفون متفرجين على الصراع بين المجرمين والمصلحين. فأي فريق غلب أو رجح على رفيقه مالت هذه الكثرة معه ودخلت أفواجا مع الراجح.

٤٦٧

من أجل ذلك كله جعل الله لكل نبي عدوا من المجرمين. ووقف المجرمون في وجه دعاة الحق وحملة الدعوة الصادقة. يكافحون المجرمين فيصيبهم ما يصيبهم وهم ماضون في الطريق للنهاية. (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً).

وبروز المجرمين في طريق الانبياء. أمر طبيعي. فدعوة الحق انما تجيء في أوانها لكفاح الفساد الواقع في المجتمع. وعلى القلوب بالتضليل. ووراء هذا الفساد والتضليل يكمن المجرمون الذين ينشئون الفساد في البلاد. والظلم للعباد. ثم يمضي في استعراض مقولات المجرمين ...

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) ولقد جاء هذا القرآن ليربي الامة قاطبة. وينشىء مجتمعا. ويقيم نظاما. والتربية تحتاج الى زمن.

ولقد جاء القرآن بمنهاج كامل شامل للحياة كلها. وجاء في الوقت ذاته بمنهاج للتربية يوافق الفطرة البشرية. عن علم بها من خالقها. فلذا نزل تدريجيا. وفق حاجات الحية للجماعة المسلمة وهي في طريق نشأتها ونموها ووفق استعدادها الذي ينمو يوما بعد يوم.

من أجل هذا كله نزل القرآن المجيد مفصلا. يبين أول ما يبين عن منهجه لقلب الرسول ص وآله. (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) والترتيل هنا هو التتابع والتوالي وفق الحكمة الالهية. وعلم الله بحاجات تلك القلوب واستعدادها للتلقي.

ولقد حقق القرآن بمنهجه خوارق في تكييف تلك النفوس التي تلقته مرتلا متتابعا. وتأثرت به يوما بعد يوم وانطبعت به أثرا بعد أثر ، فلما غفل المسلمون او تغافلوا عن هذا المنهاج وطرحوه وراء ظهورهم

٤٦٨

سلبهم الله ما أعطاهم واستعبدهم لغيرهم. بعد أن كان ذلك الغير عبدا لهم. (ان الله لا يغير نعمة انعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) انهم ليجادلون بالباطل والله يرد عليهم باطلهم بالحق الذي يدمغه. والحق هو الغاية التي يريد القرآن المجيد تقريرها. ولا يرضى بمجرد الانتصار والغلبة ـ كما فعل أعداء الاسلام بعد موت النبي مباشرة بعنوان انهم مسلمون. انما الاسلام هو الحق. القوي بنفسه. الواضح بذاته. الذي لا يتلبس به الباطل.

(الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ ..) ومشهد الحشر على الوجوه فيه من الاهانة والتحقير ما يقابل التعالي. والاستكبار والاعراض عن الحق. وهو مشهد مجرد عرضه يذل كبرياءهم ويزلزل عنادهم. ويهز كيانهم. وقد كانت هذه الانذارات تهزهم هزا ولكنهم يتحاملون معاندين.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ. وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً) انها أمثلة مختصرة ترسم بسرعة مصارع القوم المكذبين لانبياء الله الصادقين. فهذا موسى يرسل الى فرعون المتكبر الجبار.

وهذا نوح (ع) يرسل الى قومه ويبقى في ارشادهم ألف سنة الا خمسين عاما وهم له مكذبون وكذلك فان كان شأن الرسل الذين ارسلوا الى عاد وثمود. وأصحاب الرس كلهم كانوا لانبيائهم من المكذبين والسياق يستعرض هذه الامثلة. لعرض المصارع المؤثرة. وينهيها بمصرع قوم لوط وهم يمرون عليه في سدوم في رحلة الشتاء والصيف الى الشام. وقد أهلكها الله (فجعل عاليها سافلها) فدمرها تدميرا. ويقرر في نهايته ان قلوبهم لا تعتبر ولا تتأثر لانهم لا ينتظرون

٤٦٩

البعث بعد الموت ولا يرجون لقاء الله. فلذا قست قلوبهم حتى أصبحت كالاحجار بل هي اقسى وأشد.

(وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً (٤١) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٢) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (٤٣)

أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤) أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (٤٥) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (٤٦) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (٤٨) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (٤٩) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٥٠))

البيان : ولقد كان محمد ص وآله ملء السمع والبصر بين قومه قبل بعثه. فقد كان عندهم ذا مكانة من بيته. وهو ذروة بني هاشم. وهم ذروة قريش. وكان عندهم ذا مكانة من خلقه وهو الملقب لدى الجميع (بالصادق الامين). ولقد ارتضوا حكومته بينهم في وضع الحجر الاسود. قبل البعثة بزمن طويل. ويوم دعاهم على الصفا فسألهم أيصدقونه لو أخبرهم ان خيلا وراء هذا الجبل. قالوا : نعم انت عندنا مصدق غير متهم.

ولكنهم بمجرد قال لهم : قولوا (لا اله الا الله. محمد رسول الله تفلحوا) صاحوا بأجمعهم (ساحر كذاب) (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وهي قولة ساخرة مستنكرة. وانما كان ذلك خطة تصافوا عليها في محاربة العدل والحق الذي يتصادم مع ظلمهم وفسادهم.

ولقد كانوا يعقدون المؤامرات في تكذيبه بكل وسيلة.

مما روى ان الوليد بن المغيرة. اجتمع اليه وجهاء قريش ـ وكان ذا سن فيهم ـ وقد حضر الموسم ـ موسم الحج ـ فقال لهم :

٤٧٠

يا معشر قريش : انه قد حضر هذا الموسم. وان وفود العرب ستقدم عليكم فيه. وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا. فأجمعوا فيه رأيا واحدا ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضا. ويرد قولكم قالوا : فانت يا ابا عبد شمس قل. واقم لنا رأيا نقول به. قال : بل انتم قولوا اسمع.

قالوا : نقول كاهن. قال : لا والله ما هو بكاهن. لقد رأينا الكهان فما هي بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا : فنقول : انه مجنون. قال : ما هو بمجنون. لقد رأينا الجنون وعرفناه. فما هو بخنقه ولا تخاله. ولا وسوسته. قالوا : فنقول شاعر. قال : ما هو بشاعر. لقد عرفنا الشعر كله. رجزه وهزجه وقريضه. ومقبوضه ومبسوطه. فما هو بالشعر. قالوا : فنقول ساحر. قال : ما هو بساحر. لقد رأينا السحار وسحرهم. فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس. قال والله ان لقوله طلاوة. وان أصله لعذق. وان فرعه لجناة ـ مثمر ـ وما أنتم بقائلين من هذا شيئا الا عرف بانه باطل. وان أقرب القول فيه. لان تقولوا : ساحر جاء بقول هو سحر يفرق بين المرء وأبيه وأخيه وزوجته وعشيرته فتفرقوا عنه بذلك. فجعلوا يجلسون بسبل الناس حين قدموا الموسم. لا يمر بهم أحد الا حذروه اياه. وذكروا لهم أمره.

هذا نموذج من القول والكيد والتدبير الذي كان يحاك في المؤامرة ضد رسول الله وآله. ومعرفتهم بحقيقته في الوقت ذاته. وبينما كانوا يظهرون الهزء. كانت أقوالهم تتأثر بسماع القرآن المجيد.(إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) فلقد تزلزلت قلوبهم بعظمة القرآن وبلاغته واعترافهم بالتأثر به لو لا عنادهم وثباتهم على الباطل. ولكنهم لا يملكون اخفاء الزلزلة التي كانت تهز كيانهم عند سماعهم

٤٧١

للقرآن المجيد. (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ). سيعلمون ان كل ما جاءهم به هو الهدى. ولكن لا ينفع علمهم شيئا. سواء كان عند الموت او عند النشور.

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ) وهو تعبير عجيب. حين تنفلت النفس من كل قيد وشرط. وتخضع لهواها فلا تخضع لحق ولا ميزان عدل. وتنبذ منهاج الله وتنقاد لهوى الشهوات.

(أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ. إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ. بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً).

وفي التعبير تحرز وانصاف اذ يذكر (أَنَّ أَكْثَرَهُمْ) ولا يعمم. لان قلة منهم كانت تجتمع الى الهدى. وتقف عند الحقيقة تتدبرها. واما الكثرة فتتخذ من الهوى الها بدلا من الخالق العظيم المنعم الكريم. وهؤلاء مع كثرتهم (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ. بَلْ هُمْ أَضَلُّ) لان الانسان حين يتجرد من خصائصه. يكون أحط من البهائم والحيوانات. لان البصير الذي يطبق عينيه أشد عمى من الفاقد للبصر نهائيا. (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ). ان مشهد الظل الوريف اللطيف. ليوحي الى النفس المجهودة بالراحة والامان. وهو يمسح على قلب المتعب الطمأنينة. ان هذا القرآن الذي كان يتنزل على قلب محمد ص وآله. كان هو البلسم المريح. والظل الظليل في حر الهجير. وهذا توجيه الى تلك الظاهرة. التي نراها كل يوم ونمر عليها غافلين. وذلك استحياء لضمائرنا وشعورنا بالكون وما حواه. (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً ... وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) وفي الليل تنقطع الحركة ويسكن الدبيب. وينام الناس ، وكثير من الحيوانات والطيور والهوام. فهو سبات. ثم يتنفس الصبح وتنبعث الحركة. وتدب الحياة في النهار. فهو نشور من ذلك الموت

٤٧٢

الصغير. الذي يداول الحياة على هذه الارض كلها تعيش على ماء المطر. أما مباشرة. واما بما ينشئه من جداول وانهار على سطح الارض. من ينابيع وعيون وآبار. وكلها نعم للعباد من الخالق العظيم.(وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً) فيلقى على الحياة ظل الطهارة النقية.

(وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (٥١) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (٥٢) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (٥٩) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (٦٠))

البيان : (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) ولكن اختار عبدا واحدا للجميع : هو خاتم المرسلين. وكلفه انذار القرى جميعا ، لتتوحد الرسالة الاخيرة. فلا تتفرق على ألسنة الرسل في القرى المتفرقة (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ) ان في الاسلام قوة لتنصر الحق وتقيم العدل. وما يهز القلوب الحية. ويزلزل ارواح الظالمين. ولذلك يغالبون هذا القرآن بكل وسيلة. ولكن الغلبة للحق ولأهله.

ولقد كان جبابرة قريش يقولون للجماهير : (لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) وكانت هذه المقالة تدل على الذعر الذي تضطرب به نفوسهم ونفوس اتباعهم من تأثير هذا القرآن. وهم يرون هؤلاء الاتباع كأنما يسحرون بين عشية وضحاها من تأثير الاية والايتين. يتلوها محمد ص وآله. فتنقاد اليه النفوس. وتهوي اليه الافئدة.

٤٧٣

وان في القرآن المجيد من الحق الفطري البسيط. لما يصل الى القلب مباشرة بالنبع الأصيل. فيصعب ان يقف لهذا النبع الفوار. او أن يصد عنه تدفق التيار. وان فيه من مشاهد الكون الناطقة. ومن مصارع الغابرين. ومن قوة التشخيص. لما يهز القلوب الحية هزا لا تملك معه قرارا. وان السورة الواحدة تهز الكيان الانساني. في بعض الاحيان. وتأخذ على الانفس اقطارها. فلا عجب مع ذلك أن يأمر الله نبيه ان لا يطيع الكافرين. ولا يتزحزح عن دعوته. وان يجاهدهم بهذا القرآن. فانما يجاهدهم بقوة لا يقف لها كيان البشر. ولا يثبت لها جدال الباطل المزيف. (وهو الذي مرج البحرين هذا عذاب فرات. وهذا ملح أجاج). وهو الذي ترك البحرين. الفرات العذب والمالح المر. يجريان ويلتقيان. فلا يختلطان. ولا يمتزجان. انما يكون بينهما برزخ وحاجز. من طبيعتهما التي فطرها الله. فمجاري الانهار غالبا أعلى من سطح البحر. ومن ثم فالنهر العذب هو الذي يصب في البحر المالح. ولا يقع العكس الا شذوذا. وبهذا التقدير الدقيق لا يطغى البحر على النهر الذي منه الحياة.

ويد الخالق العظيم. هي التي تدبر هذا الكون. وتنسق مقاديره ، وتجعل بين البحر حاجزا. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً. فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً). فمن هذا المال يتخلق الجنين. ذكرا فهو نسب. وانثى فهو صهر. بما انها موضع للصهر. وهذه الحياة البشرية الناشئة من هذا الماء أعجب وأضخم من تلك الحياة الناشئة. من ماء السماء. فمن خلية واحدة (من عشرات الالوف الكامنة في نقطة واحدة من ماء الرجل) تتحد بويضة المرأة في الرحم. ينشأ ذلك الخلق المعقد المركب .. الانسان .. أعجب الكائنات الحية على الاطلاق. فما من خلية من الاف

٤٧٤

الخلايا يمكن ان تلحظ فيها مميزات معروفة هي التي تؤهلها لان تنجح ذكرا او انثى. ومع ذلك تصير هذه الى أن تكون رجلا. وهذه الى أن تكون امرأة في نهاية المطاف. (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) وهذه هي قدرة الخالق العظيم التي يعجز عنها كل مخلوق (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ) ... (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) ..

وبهذا يحدد واجب الرسول ص وآله. وهو التبشير والانذار. ولم يكن بعد مأمورا بقتال المشركين. وذلك لحكمة يعلمها الله عزوجل.(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) فليس للرسول ص وآله من مطمع في أجر ولا عرض من أعراض الحياة الدنيا. ليس هناك الا أجر واحد للرسول ص وآله هو اهتداء المهتدي الى الله وتقربه الى ربه بما يراه. (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) هذا وحده هو أجره يرضي قلبه الطاهر ويستريح وجدانه النبيل أن يرى عبدا من عباد الله تعالى قد اهتدى الى ربه. فهو يبتغي رضاه. ويتحرى طريقه. ويتجه الى مولاه.

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) وكل ما عدا الله ميت. لانه صائر الى الموت وليس بذاته حي ويحرك أعضاءه. بل بفيض الحياة من الله تعالى يكون حيا. وبفيض الحركة عليه يصبح تمكنه التحرك. فهو حي بالغير. ومتحرك بالغير. لا بذاته فلذا يصدق عليه انه ميت بذاته حي بغيره وهو الله الحي بذاته القيوم الذي يستحيل اضافة العدم اليه. (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) وفي معرض الخبرة المطاقة. والقدرة على الجزاء.

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣)

٤٧٥

وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠))

البيان : (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) البروج ـ على الارجح ـ منازل الكواكب السيارة ومداراتها الفلكية الهائله. وفي هذه البروج تنزل الشمس ويسميها (سِراجاً) لما تبعث به من ضوء الى الارض وغيرها. وفيها القمر المنير الذي يبعث بنوره الهادىء اللطيف.

ويعرض أيضا مشهد الليل والنهار وتعاقبهما. وهما آيتان مكرورتان ينساهما الناس وفيهما كفاية (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) ولو لا جعلهما كذلك يتعاقبان. ما أمكنت الحياة على ظهر هذه الارض (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) هذه هي السمة الاولى من سمات عباد الرحمن : انهم يمشون على الارض هونا مشية التواضع والرزانة مشية العبيد الخاشعين بين يدي مولاهم العظيم ذي الجلال. مشية ليس فيها خيلاء ولا تكبر وتجبر. بل الوقار والسكينة. يمشون متعاونين متكافلين. لا يلتفتون الى حماقة الحمقى وسفه السفهاء (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا : سَلاماً) لا عن ضعف ولكن عن ترفع. ولا عن عجز بل عن استعلاء. هذا نهارهم مع الناس فاما ليلهم فهو التقوى ومراقبة خالقهم ومولاهم. (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً).

والتعبير يبرز من الصلاة والسجود والقيام. لتصوير حركة عباد الرحمن. في جنح الليل والناس نيام. فأهل الدنيا مشغولون في لهوهم وملذاتهم. واهل الاخرة مشغولون بالتوجه الى ربهم وخالقهم.

٤٧٦

وهم في قيامهم وسجودهم تمتلىء قلوبهم بتقوى الله عزوجل (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ ..) فهم لم يروا جهنم باعينهم لكنهم من شدة ايمانهم بصحة المخبر عنها من القرآن والرسول ص وآله فكأنهم رأوها

والتعبير يوحي كأنما جهنم متعرضة لكل أحد. فاتحة فاها تهم ان تقبض على القريب والبعيد.

(وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) وهذه سمة الاسلام بالملكية الفردية المقيدة بهذه الشروط ـ لا افراط ولا تفريط ـ فالمال أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. والاسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي. والاسلام هو الذي ينظم هذا الجانب للاعتدال والاستقامة. (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) وتوحيد الله أساس هذه العقيدة. وهو مفرق الطريق. بين الاستقامة والالتواء. (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) والتحرج من قتل النفس ـ الا بالحق ـ هي أيضا مفرق الطريق بين الحياة الآمنة. وحياة الغابات الموحشة (وَلا يَزْنُونَ).

والتحرج من الزنا هو أيضا مفرق الطريق بين الحياة النظيفة. والحياة الهابطة في التوحش الحيواني. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً) أي عذابا (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) بل هو الخلود في العذاب الذي لا ينقطع.(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) والله عزيز قهار يحب التوابين من عباده ويعدهم انه يقبل توبتهم وقد يبدل سيئاتهم حسنات من جوده وكرمه (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ).

وهذا هو الفيض الالهي والجود والكرم الرباني. عطاء من الله الكريم بدون مقابل من عبده يرجع اليه وانما يحب لعباده السعادة والنعيم الخالد في جنات فيها ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين.

٤٧٧

وباب التوبة مفتوح دائما لا يغلق في وجه العاصين والمنحرفين والمجرمين مهما كانت جرائمهم فانها تقبل توبتهم اذا هم رجعوا الى خالقهم وأطاعوه وطلبوا منه العفو والغفران فانه رؤوف رحيم. فمهما عظمت جرائم العباد. فعفو الله العظيم ورحمته أعظم وأوسع فان الله يحب التوابين.

(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (٧٢) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (٧٤) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (٧٥) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (٧٦) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (٧٧))

البيان : ويضع قاعدة التوبة وشرطها. (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً). فالتوبة تبدأ بالندم على ما مضى والاقلاع عن جميع المعاصي. هذا هو الشرط الاول للتوبة. الشرط الثاني العزم والجزم على عدم العودة الى معصية الله ابدا. الشرط الثالث ان تعمد الى كل فريضة ضيعتها فتقضيها. الرابع أن تؤدي الى المخلوقين حقوقهم التى اغتلستها حتى تلقى الله أحلس أملس ليس عليك ادنى تبعة. واذا كنت عاجزا عن الاداء فاعزم انه متى امكنك الله تعالى أديت ما عليك.

وهذه الشروط الاربعة أساسية لصحة التوبة. وهناك شرطان كماليان هنيئا لمن حصلهما. الشرط الخامس ان تذيق جسمك ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية.

الشرط السادس : أن تعمد الى لحمك الذي نبت على المعاصي فتذيبه بالطاعة حتى ينبت لحم جديد على الطاعة وهذه هي توبة الصديقين الذين لا يرضون بالمقام البسيط في دار الخلود والدوام.

٤٧٨

وهذه لمحة في منهج التربية القرآنية التي تقوم على خبرة بالنفس الانسانية خبرة عميقة من الله تعالى. (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) وشهادة الزور قد تكون على ثبات غير الحق. وقد تكون على انكار الحق. (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) لا يشغلون أنفسهم باللغو. ولا يلوثون أسماعهم بالباطل والفساد. (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) وفي التعبير تعريض بالمشركين الذين يعرضون عن سماع الحق والذكر الحكيم. لئلا يؤثر ذلك في نفوسهم فلذا تراهم يبتعدون عن ذلك.

(وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) وهذا هو الشعور الفطري الذي يوجد في نفس الانسان ابتداء. (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا) والغرفة ربما كان المقصود بها الجنة. وقد تكون غرفة الاستقبال كما هو معتاد في هذه الحياة. جزاء بما صبروا على ترك الحرام وضبطوا أنفسهم عن الانحراف عن الافراط او التفريط. ومغريات الحياة. ودوافع السقوط والصبر الذي يستحق أن يذكره الله في هذا القرآن المجيد. (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) وهو ختام يناسب موضوع السورة كلها. ان الانسان قد ينفتح ويحسب نفسه شيئا حتى ليتطاول على خالقه سبحانه. وهو مهين ضعيف لو سلط الله عليه بعوضة لعجز عن كفاحها وردها عنه (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) وفي التعبير سند للرسول ص وآله واعزاز. فما انتم بدون ايمان سواء هباء. والانضمام الى العبادة من لوازم الايمان بالله عزوجل.

٤٧٩

ـ ٢٦ ـ سورة الشعراء آياتها (٢٢٧) مائتان وسبع وعشرون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. طسم (١) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٣) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (٤) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (٥) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٦) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (٧) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٩))

البيان : (طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) طا. سين. ميم. الاحرف المتقطعة للتنبيه الى أن آيات الكتاب المبين ـ ومنها هذه السورة ـ مؤلفة من مثل هذه الاحرف. وهي في متناول المكذبين بالوحي. وهم لا يستطيعون أن يصوغوا منها مثل هذا الكتاب المبين. والحديث عن هذا الكتاب متداول في السورة في مقدمتها ونهايتها. كما هو الشأن في كل سورة مبدوءة بالاحرف المقطعة في القرآن.

وبعد هذا التنبيه يبدأ في مخاطبة رسول الله ص وآله ـ الذي يهمه أمر المشركين ويؤذيه تكذيبهم له وللقرآن المجيد. فيسليه ويهون عليه الامر. ويستكثر ما يعانيه من أجلهم.

وقد كان الله قادرا على أن يلوي اعناقهم كرها الى الايمان به. ويقسرهم عليه قسرا. ولكن أرادت الحكمة الالهية ان يترك لهم الاختيار. وأمامهم الحساب. والمنتهي اما الى الجنة أو الى النار.(لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ ...) وفي التعبير ما يشبه العتب على شدة تحسره عليهم.

وهذا يصور مدى ما كان رسول الله ص وآله يعاني من تكذيبهم. ويتمنى لهم الخير والصلاح. وتذوب نفسه عليهم ـ وهم أهله وعشيرته ـ فربه يرأف به ـ ويقول له : ولو شئنا ان نكرههم على الايمان لأنزلنا آية فتظل أعناقهم لها خاضعين. ولكنه عزوجل لم يشأ. وانما

٤٨٠