تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

البيان : ان هؤلاء الكفار يكفرون بالخالق العظيم. فليس عليهم بكثير اذا استهزأوا برسوله الذي سفه آلهتهم. وسخف عقولهم وقبح أعمالهم. (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ).

(خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) : فالعجلة من طبيعة الانسان وتكوينه. وهو يمد بصره دائما الى ماوراء اللحظة الحاضرة. وهؤلاء المشركون كانوا يستعجلون العذاب من الله عزوجل وهو يتأناهم رفقا بهم لعلهم يرجعون عن غيهم وطغيانهم. ويحذرهم ما أصاب من قبلهم : (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) ذلك عند الموت فورا.

(وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٤١) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (٤٣)

بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (٤٤) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (٤٥))

البيان : (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ) فهو المتاع الطويل الموروث الذي أفسد فطرتهم. والمتاع ترف. والترف يفسد القلب. وينتهي الى ضعف الحساسية الروحية. وانطماس البصيرة دون تأمل آياته الباهرة. وهذا هو الابتلاء بالنعمة حين لا يستيقظ الانسان لنفسه ويراقبها ويصلها دائما بخالقها العظيم الغني الكريم. حين لا تنساه فينساها. فاليقظة ضرورية (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) فليحذروا أن يكونوا هم الصم الذين لا يسمعون ما انزل رب العالمين.

(وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٤٦) وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ

٣٨١

مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (٤٧) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (٤٨) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (٤٩) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٠))

البيان : النفحة تطلق غالبا في الرحمة. ولكنها هنا تطلق في العذاب. كأنما يراد منها السخرية والاستهزاء بهم مثل قوله عزوجل (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ .. حَصِيداً) اذن فهو الاعتراف حيث لا ينفعهم اعتراف ولا ندم. (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ).

وحبة الخردل تصور أصغر ما تراه العيون وأخفه في الميزان. وهي لا تترك يوم الحساب. (فلتنظر نفس ما قدمت لغد). وليصغ قلب الى النذير. وليبادر الغافلون المعرضون المستهزأون قبل أن يحق العذاب عليهم ويأتيهم الموت بغتة وهم لا يشعرون.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً ...) فها هو يكشف لهم أن ارسال الرسل من البشر ويسمى الكتاب الفرقان وهي صفة القرآن المجيد. وجعل التوراة (ضياء) يكشف ظلمات القلب والعقيدة. وظلمات الضلال والباطل. وان القلب ليظلم حتى تشرق فيه شعلة الايمان. وجعل التوراة كالقرآن (ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ) تذكرهم بخالقهم الذين يخشون ربهم بالغيب) ..

(وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (٥١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (٥٢) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (٥٣) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٥٤) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (٥٥) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٥٦) وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (٥٨) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (٥٩) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (٦٠) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى

٣٨٢

أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (٦١) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦٤) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٦٥) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (٦٦) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٧) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٦٨) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (٦٩) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (٧٠))

البيان : آتيناه رشده. أي كنا عالمين بحاله وباستعداده لحمل الامانة بحق واخلاص. (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ) فكانت قولته هذه دليل على رشده. ونعت تلك الاصنام باسمها (ما هذِهِ التَّماثِيلُ) واستنكر أن يعكفوا عليها بالعبادة. وكلمة (عاكِفُونَ) تفيد الانكباب الدائم المستمر. فكان جوابهم وحجتهم أن (قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) وهو جواب يدل على التحجر العقلي والنفسي داخل قوالب التقليد الميتة. في مقابل حرية معنوية للايمان الصحيح. (قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) فالقيم لا تنبع من تقليد الاباء وتقديسهم. انما تنبع من جوهرية الذات لمن يستحق العبادة والتقديس. وبهذه الصراحة في الحكم راحوا يسألون :

(قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) وهو سؤال لا يخرج الا من مزعزعي العقيدة المشكوك بصحتها. والعبادة الصحيحة لا تقوم الا على اليقين الثابت كايمان ابراهيم (ع) الواثق المستيقن بربه. (قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) فهذه هي العقيدة المستقيمة الناصعة. انه واثق وثوق من شاهد بعينه حقيقة الشيء. (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ).

وتحولت الالهة المعبودة الى كومة ركام. الا كبير الاصنام فقد تركه ابراهيم (ع) ليتم به مراده وعاد القوم فنظروا الى ما أصاب الهتهم

٣٨٣

من التحطيم والدمار : (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا). ويبدو من هذا ان ابراهيم (ع) كان شابا صغير السن حينما استنكر عبادة الاصنام وحطمها (قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ) فهم لا يزالون يصرون على انها الهة وهي جذاذ مهشمة فبدأ ابراهيم (ع) التهكم عليهم والسخرية بهم. قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) والتهكم واضح جلي ان هذا التمثال الكبير هو الذي حطمهم (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ويبدو ان هذا التهكم قد أثر في بدء الامر عليهم وهزهم هزا .. وردهم الى شيء من التفكر (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ).

وكانت بادرة يستبشر بها لعلهم يثبتون عليها. ولكن هيهات الاهواء والمصالح هي التي دعتهم لذلك فهم يعرفون ذلك ولكن مصالح ورياسة الاكابر متوقفة على ذلك وانما المخدوع العوام والاتباع (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ. لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) وحقا لقد كانت الاولى من الاتباع رجعة وإفاقة. ولكن جاءت لعبة الاكابر واصحاب المنافع والرياسة. فاغروا بعضا وهددوا آخرين ولما جابههم ابراهيم بحجته الدامغة أخذتهم العزة بالاثم كما تأخذ الطغاة فيما يتنافى مع أغراضهم : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) ودبت صيحة الدعاة للباطل والشيطان. فيالها من آلهة ينصرها عبادها وهي لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا. والاكابر على يقين من ذلك.

(قالُوا حَرِّقُوهُ) وقال من بيده أزمة الامور واليه يرجع الامر كله واذا قال للشيء كن فيكون : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) فيالها من كلمة ما أعظمها وأعلاها وأقواها تهزّ الكون وتغير طبائع الاشياء. كلمة واحدة تكون بها أكوان. وتنشأ بها عوالم. وتخلق بها نواميس.

٣٨٤

ان الذين يقيسون أعمال الله سبحانه الى أعمال المخلوقات هم جاهلون لعظمته التي لا تغلب ولا تقهر ولا يعجزها شيء. فاما الذين يعرفون الفارق الهائل بين قدرة المخلوق والخالق. فانهم لا يسألون ولا يتعجبون ولا يستبعدون مهما رأوا وشاهدوا من الخوارق فان علمهم وايمانهم بقدرة الله تعالى أعظم مما صار وما يصير. ومما رأوا وسمعوا مهما كان نوعه. لان اعمال الله عزوجل غير خاضعة لمقييس المخلوقات مهما كان نوعها ومكانتها وتدبيرها. فاذا النار الملتهبة التي كان الطير لا يقدر على المرور فوقها فاذا هي (بردا وسلاما وروضة من رياض الجنة

(وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) هنا لذة العبودية لهذا المعبود العظيم الذي لا يقهر وهنا الافتخار الهائل لمن عبد هذا الاله العظيم على كل من عبد سواه واعتمد عليه وهو مثله ضعيف فقير. لو نزل به ما نزل باتباعه لكان مثلهم محتاج الى المنقذ والمساعد والمعين.

ومما يروى أن الملك نمرود الذي جلس على منصّة عالية ينظر كيف تحرق النار ابراهيم الذي قد صرف الناس عن عبادته وعبادة أصنامه جعل ينظر الى ابراهيم وهو يهوى في وسط النار واذا به ينزل في روضة وسط النار والاشجار حوله والماء محيط به وهو جالس مع جبرائيل يوانسه. فلما انتهت النار من حوله تقدم نمرود وسأل ابراهيم من فعل بك هذا يا ابراهيم؟. قال (ع) فعل هذا آله ابراهيم الذي هو على كل شيء قدير. فقال نمرود حقا انه عظيم فمن أراد أن يعبد آلها فليعبد رب ابراهيم. ولكن لابد من النكسة بعد ذلك لحفظ المصالح الخاصة.

(وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (٧١) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (٧٢) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ

٣٨٥

بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (٧٣))

وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (٧٤) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥))

البيان : وهي أرض الشام التي هاجر اليها هو وابن اخيه لوط. فكانت مهبط الوحي فترة طويلة. ومبعث الرسل من نسل ابراهيم (ع) وفيها الارض المقدسة وثاني الحرمين. وفيها بركة الخصب والرزق الى جانب بركة الوحي والنبوة جيلا بعد جيل. (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً).

لقد ترك ابراهيم (ع) وطنه ـ في العراق ـ فعوضه الله الارض المباركة وذرية أئمة يدعون الناس لأمر الله. وأوحى اليهم أن يفعلوا الخيرات وكانوا طائعين لله عابدين. فنعم العوض ونعم الجزا.

(وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً) وقصة لوط قد سبقت مفصلة وهنا يشير اليها وقد صحب عمه ابراهيم (ع) من العراق الى الشام ـ وتشمل لبنان والاردن وفلسطين ـ كلهم يقال عنها الشام. (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ) ـ يعني قوم لوط (ع) (وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) يعني لوطا وأهله ـ

(وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٧٧) وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (٧٨) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (٧٩) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (٨٠))

البيان : وهي اشارة الى ما جرى على نوح (ع) مع قومه لا

٣٨٦

نفصيل فيها (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ ..) وقصة الحرث التي حكم فيها داود وسليمان.

يقول الرواة في تفصيلها : ان رجلين دخلا على داود أحدهما صاحب حرث ـ اي كرم ـ والاخر صاحب غنم فقال صاحب الحرث : ان غنم هذا قد نفشت في حرثي ـ اي انطلقت فيه ليلا ـ فلم يبق منه شيئا. فحكم داود لصاحب الحرث ان يأخذ غنم خصمه في مقابل حرثه.

ومرّ صاحب الغنم بسليمان فأخبره بقضاء داود. فدخل سليمان على أبيه. فقال يا نبي الله ان القضاء غير ما قضيت. فقال : كيف. قال سليمان ان الكرم لم يتلف نهائيا وبعد سنة يرجع كما كان. فلازم ان يؤخذ من نتاج الغنم من لبن وصوف فينفق على الكرم حتى بعود الى اصله فيبقى الغنم لصاحبه. وينتفع صاحب الكرم بنتاج الغنم حتى يرجع كرمه الى ما كان عليه. وبذلك نكون قد جبرنا على صاحب الكرم ما فات من كرمه وأبقينا الغنم لصاحبها يعيش بها وهذا هو العدل الاجابي. وهو فتح من الله والهام يهبه من يشاء فلذا قال عزوجل : (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ .. وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) وكان الامر كما حكم سليمان (ع) في القضية

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (٨١) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (٨٢) وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٨٣) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (٨٤) وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (٨٥) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٦))

البيان : النص القرآني هنا يقرر تسخير الريح لسليمان (ع) تجري بأمره. وكذلك تسخير الجن لسليمان. ليغوصوا في اعماق البحر ويستخرجوا كنوزها. وقد قررت النصوص القرآنية ان هناك

٣٨٧

خلقا يسمون الجن خافين علينا فمن هؤلاء الذين سخرهم الله تعالى لسليمان. (ع) لقد ابتلى الله داود وسليمان (ع) بالملك حتى يكونا حجة على من افتتنوا بها (وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) وقصة ابتلاء ايوب من اروع قصص الابتلاء والنصوص القرآنية تشير الى مجملها دون تفصيل. وهنا تعرض دعاء ايوب (ع) واستجابة الله دعاءه وابتلاء ايوب ايضا هو حجة على من افتتنوا بالابتلاء وخرجوا عن طاعة خالقهم بحجة ابتلائهم. وفي اللحظة التي توجه بها ايوب الى ربه بهذه الثقة وبذلك الادب ـ رب مسني الضر وانت ارحم الراحمين ـ كانت الاستجابة وكانت الرحمة وكانت نهاية الابتلاء (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) ، اما اسماعيل (ع) فقد صبر على ابتلاء ربه له بالذبح فاستسلم لله عزوجل. واما ادريس (ع) فزمانه مجهول ولكن لا بد ان نؤمن انه من الصابرين. (واما ذا الكفل فهو كذلك مجهول لدينا والارجح انه من انبياء بني اسرائيل في زمن بختنصر. كما ذكرنا ذلك مفصلا في الجزء الاول من هذا الكتاب (ما ذا في التاريخ) فراجع

(وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (٨٧) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (٨٩) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (٩٠))

البيان : وقصة يونس (ع) تأتي هنا في صورة مجملة وتفصّل في سورة الصافات لقد سمي ذا النون ـ اي صاحب الحوت ـ لأن الحوت التقمه ثم نبذه بعد مدة. (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) اي يجب عليه ترك قومه العاصين فان الله لا يضيعه وقد فصلنا ذلك في الجزء الاول فراجع

٣٨٨

وقصة زكريا (ع) واعطائه يحيى بعد اليأس والشيخوخة. وكانت الاستجابة سريعة. (إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ .. وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ) (اي متواضعين مطيعين.

(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (٩١) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (٩٣) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (٩٤) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (٩٥))

البيان : لم يذكر هنا اسم مريم. لأن المقصود هو ابنها (ع) وانما يذكر صفتها المتعلقة بولدها (الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) أحصنته صانته من كل مباشرة. والاحصان يطلق عادة على الزواج. لأن الزواج حصن من الوقوع في الفاحشة. اما هنا فيذكر في معناه الاصيل وهو الحفظ والصون من كل شيء. وذلك تنزيها لمريم عن كل ما رماها به اليهود مع يوسف النجار الذي كان معها في خدمة الهيكل. والذي تقول عنه الاناجيل المتداولة. انه كان قد تزوجها ولكنه لم يدخل بها ولم يقربها (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ). وهي آية لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية. ولكن القدرة الآلهية والمشيئة تفعل ما تشاء (ان هذه امتكم امة واحدة وانا ربها فاعبدون). ان هذه امتكم امة الانبياء كلها امة واحدة تدين بعقيدة واحدة ومنهج واحد. هي عقيدة التوحيد لله والعمل بنظامه ومنهجه دون سواه. (وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) اي انما كانت التفصيلات في مناهج الحياة تختلف باختلاف الاجيال والازمان. وكان اتباع الرسول يختلفون فيما بينهم لأجل الجاه والمال اللذين هما منبع النفاق في قلوب الناس. في هذه الحياة الفانية. (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) هذا هو قانون السعادة والفوز بالنعيم الخالد عقيدة صحيحة وايمان ثابت وعمل صالح وحياة سعيدة دائما. ان

٣٨٩

الايمان الصحيح الثابت هو قاعدة السعادة في الحياة. وهو الصلة بين المخلوق والخالق والعمل هو ثمرة الايمان التي تثبت وجوده في ضمير الانسان. وهو الثمرة اليانعة للجذور الممتدة في الاعماق. ومن ثم يقرن القرآن المجيد دائما بين الايمان والعمل الصالح.

والعمل الطيب الذي يصدر عن غير ايمان. انما هو مصادفة عابرة او مصدره مصالح ترجع الى العامل من شهوات ونزوات. لا علاقة لها بالحقيقة ومكارم الاخلاق لذا يقول الله عزوجل (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً) حتى اذا جاءه لم يجد شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه) ٤٤ س ٣٩ ي

(حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (٩٦) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (٩٧) إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (٩٩) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (١٠١) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (١٠٢) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (١٠٣))

البيان : لقد قلنا في سورة الكهف في قصة ذي القرنين :اقتراب الوعد الحق الذي يقرنه السياق بفتح سد يأجوج ومأجوج. ربما كان قد وقع بانسياح التتر وتحطيمهم للممالك والعروش. وربما بكون ذلك في آخر الزمان. ولم يحصل لحد الان. هذا الوعد من الله عزوجل : وفي المشهد المعروض هنا يبرز عنصر المفاجأة التي تبهت المفجوعين وتفقدهم التوازن. (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) وهو تفجّع تكشف عنه الحقيقة المروعة بغتة. ويصدر هذا الاعتراف في ذهول المفاجأة (لَوْ كانَ هؤُلاءِ

٣٩٠

آلِهَةً ما وَرَدُوها) وهو برهان وجداني ينتزع من هذا المشهد المعروض (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) ولفظة حسيسها ينبىء عن عظمة صوت النار. وشدة زفرتها حين يلقى فيها اعداء الله فالمتقون لا يرون هذا الفزع ولا يسمعون حسه (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) واذا هناك عالم غير هذا العالم الضيق الصغير لانه وقتي وفان لا يدوم.

(يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤) وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (١٠٥) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ (١٠٦) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (١٠٧) قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (١٠٨) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ (١٠٩) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (١١٠) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (١١١) قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١١٢))

البيان : الزبور اما ان يكون كتابا بعينه. هو الذي انزل على داود (ع) ويكون الذكر هو التوراة التي سبقت الزبور. واما ان يكون وصفا لكل كتاب انزله الله عزوجل على رسله وعلى اية حال فالمقصود بقوله : (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) سنة الله المقررة في وراثة الارض (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) فما هي هذه الوراثة. ومن هم عباد الله الصالحون

عن الامام الباقر (ع) في قوله (أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) قال (ع) : هم الامام المهدي المنتظر (ع) واصحابه في آخر الزمان. وفي ما رواه العامة عن رسول الله ص وآله انه قال : لو لم يبق من الدنيا الا يوم واحد. لطول الله ذلك اليوم. حتى يبعث رجلا من اهل بيتي. يملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا). وفي هذا المضمون اخبار لا تحصى كما عليه الفرقة المحقة (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ

٣٩١

وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) ان في هذا القرآن وما يكشفه من سنن في الكون والحياة. ومن صائر ما حصل وما يحصل في الدنيا والاخرة ومن قواعد العمل والجزاء ... ان في هذا لبلاغا وكفاية للمستعدين لاستقبال هدى الله. ويسميهم (عابِدِينَ) من حيث ما وهبهم خالقهم العظيم من استعدادات وقابليات واحساسيات تقودهم بان يكونوا من العابدين لخالقهم العظيم شاكرين لنعمه التي لا تحصى حتى يزيدهم من فضله وكرمه انه جواد كريم ويسميهم (عابِدِينَ) لأن العابد خاشع القلب لخالقه شاكر لجوده وكرمه. لقد فضله على سائر مخلوقاته. بل خلق الكون وما حواه لكرامته وسخرها لمعونته وارادته. لقد ارسل الله تعالى رسوله رحمة للعالمين ليهديهم الطريق المستقيم التي من سلكها كان من الآمنين.

لقد أنزل الله لعباده هذا القرآن المشتمل على أصول المنهج الدائم لحياة انسانية أفضل متجددة وترك للبشرية ان تستنبط الاحكام الجزئية من آياته. وجعل فيهم عدل القرآن الذي هو خبير بجميع أهدافه وجعله سيد الاوصياء من بعد نبيه (امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (ع) الذي هو نفس الرسول الاعظم. وباب مدينة علمه. وسفينة نجاته الذي من تبعه فاز ونجا. ومن تركه وتخلف عنه شقى وفي حفر الضلال والنيران هوى.

وجعل من بعده أبناءه المعصومين آخرهم مهديهم المنتظر سمى جده ص وآله وبه يملأ الارض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا عجل الله تعالى فرجه وسهل مخرجه.

ولقد كانت رسالة محمد ص وآله رحمة لقومه. ورحمة للبشرية

٣٩٢

كلها من بعده الى يوم يقوم الناس لرب العالمين وتفنى الارض ومن عليها ويبقى الحي القيوم الذي لا يموت.

ولكن البشرية أخذت من يومها الاول الفوائد المادية من القرآن وتركت فوائده الروحية التي هي الاساس واللباب لأولي الالباب ولحياة النفوس وضيائها الذي به تستنير.

لقد جاء الاسلام لينادي بانسانية الانسان ولتتحد به افراد البشرية أجمع. وتنبذ الفوارق الجنسية بين الافراد. ولتلتقي في عقيدة واحدة ـ هي التوحيد المطلق ـ وتحت نظام عام ـ وهو القرآن ـ ولكن العنصرية والاهواء مانعة من ذلك حتى بقي الانسان في جهله وشقائه وتناحره وانحطاطه كما ترى وتسمع في أقطار الارض.

ولقد جاء الاسلام ليقول قولته العادلة التي يستحيل وجود العدل الصحيح الا بها (لا فضل لعربي على عجمي ولأبيض على اسود. ولا لذكر على انثى الا بالتقوى لا غير (أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) جاء الاسلام ليسوي بين جميع الشعوب والافراد امام حساب القضاء. والقانون الالهي جاء ليفعل هذا في وقت كانت البشرية غارقة في ظلمها العنصري ، وفسادها الطبقي. وان البشرية اليوم لهي في أشد الحاجة الى هذه العقيدة الصحيحة. وهذا القانون العادل والا لا بد لها من زيادة البلاء والشقاء. والشرود في المتاهات المادية وجحيم الحروب الدامية (قل (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). هذا هو ميزان الحق وميزاب الرحمة والعدل عنصر التوحيد للحي القيوم. ونبذ كل الهة المخلوقين الضعفاء الفقراء الفانين لا محالة.

هذا هو الاسلام الذي يكفل لكل مخلوق كرامته وعزته وحقه في الحياة بدون نقصان. ويقف دائما مرفوع الرأس. فلا ينحني رأسه الا

٣٩٣

لخالقه ورازقه ومحييه ومميته وحارسه. هذا هو طريق الرحمة التي أرسلها خالق العباد لعباده فيسعدوا بها (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ) أي أكشف لكم ما عندي فأنا وأنتم على خط سواء. وامام حاكم وقانون سواء. (آذنتكم على سواء ولست أدري متى يحل بكم العذاب ان خالفتم وتركتم الحق الى الباطل. وانتقلتم من الصلاح الى الفساد ومن العز الى الذل والاهانة). (إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) فأمركم كله مكشوف. وحين يحاسبكم بما يعلم وحين يعذبكم يعذبكم بما عملتم بدون أدنى مسامحة او نقصان وانه عليم بذات الصدور. (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) فالحساب والعذاب لا بد منه ولكن وقته مجهول لدينا.

وبهذا البيان والانذار يلمس قلوبهم لمسة قوية. ويدعهم وقوع العذاب عليهم في كل لحظة وبهذا البيان والتحذير يوقظ قلوبهم من غفلة متاع الحياة الفانية الخداعة الزائلة. (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ).

هذه هي صفة الرحمة الكبيرة. وهذه هي صفة العدالة الصحيحة. وهذه هي العقيدة الحقة. (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)

(فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ).

٣٩٤

ـ ٢٢ ـ سورة الحج عدد آياتها (٧٨) ثمان وسبعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥))

البيان : انه مطلع عنيف مرعب. ومشهد ترتجف لهوله القلوب الحية. يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعا. (يا أَيُّهَا النَّاسُ) يدعوهم الى أخذ الحذر الشديد من الوقوع في هول هذا اليوم (اتَّقُوا رَبَّكُمْ) يا له من يوم عصيب (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) من غير تحديد لشدة هول ذلك اليوم ـ لا في الزمان. ولا في المقدار ـ ومعنى ذلك انه لا تحدد شدته حتى يمكن تحديده في الزمان. ولا في المقدار. لانه مشهد حافل فكل مرضعة ذاهلة عما ارضعت وهي تنظر ولا ترى بأعينها من شدة الهول والفزع. وتتحرك ولا تعي ما تفعل فالحامل أيضا تسقط حملها بطريق أولى. والناس في ذلك اليوم سكارى وما هم بسكارى وفي نظري أن ذلك اليوم قد ينطبق على ساعة الاحتضار وخروج الروح لانه مبدأ الخوف ولذا الخوف ولذا ورد في الخبر عن سيد البشر انه قال : (اذا مات المرء قامت قيامته)

والهول الشاخص يذهله. فلا يكاد يبلغ أقصاه ... وهو هول حي لا يقاس بالحجم ولا بالضخامة. ولكن يقاس بوقعه في النفوس

٣٩٥

الادمية. في المرضعات الذاهلات عما أرضعن ـ وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها الا الهول الذي لا يدع فيها بقية وعي. والحوامل الملقيات حملهن. وبالناس السكارى وما هم بسكارى (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) انه مطلع عنيف مرهوب تتزلزل له القلوب. وفي ظل هذا الهول يذكر أن هنالك من يتطاول فيجادل في الله. ولا يستشعر وقاية هذا الهول. ولا تجنب أسبابه الموصلة اليه. لان هذا الهول مختص بأهل المعاصي والانحراف عن الصراط المستقيم. اما أهل التقوى (فهم (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) وهم عنهه مبعدون) (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) والجدال في الله بغير علم ، سواء في وجوده عزوجل. أو في وحدانيته. أو في صفاته الكمالية. فالجدال في شيء من هذا في ظل هذا الهول ـ يعني ممن يؤمن به بعيد ـ الذي ينتظر كل حي ووقوعه به بعد لحظات. والذي لا نجاة منه الا بتقوى الله عزوجل واحراز رضاه في هذه الحياة وقبل فوات الاوان .. ذلك الجدال يبدو عجيبا من ذي عقل وقلب لا يتقي شر ذلك الهول المزلزل للقلوب المذهل للمرضعات. المسقط لحمل الحاملات المشيب للاطفال. وياليته كان جدالا عن علم وتفهم. ولكنه جدال (بِغَيْرِ عِلْمٍ) ولا تفهم جدال بالباطل والضلال. جدال ناشىء من اتباع الشيطان. فهذا الصنف من الناس يجادل في الله بالهوى والتضليل وهم أتباع لكل شيطان مريد (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) فالشيطان قد حتم على نفسه أنه يضل من صدقه واتبعه. الى عذاب لا نهاية له ولا نفاد.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ) : ان البعث هو اعادة لحياة كانت ولتجمع عظام بليت وتفرقت. وهو أيسر من ايجادها من

٣٩٦

العدم. فالبدء كالاعادة لما تفرق او انعدم وهذا انما يظهر صعبا بالنسبة لمن قدرته محدودة والى المخلوقين. ولكن يستحيل ان يقال عن شىء صعب بالنسبة الى الخالق الذي (اذا أراد شيئا فحسبه أن يقول له كن فيكون)

ولكن القرآن المجيد يأخذ البشر بمقاييسهم ويخاطبهم بحسب مستواهم. ومنطقهم. فيوجه قلوبهم الى تدبر المشهود والمفهوم لهم ، وهو يقع لهم كل لحظة ويمرّ بهم في كل برهة. وهو من الخوارق التي لو تدبرونها بالعين البصيرة. والقلب المفتوح. والحس المدرك لارتهم حقائق الامور وارتفع عنهم كل مستور. ولم يقعوا في أدنى محظور. ولكنهم يمرون به او يمر بهم الشيء الكثير دون وعي منهم ولا انتباه لهم اليه لذا قال عزوجل :

(وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ). (اي ١٠٥)

أفلا ينظر أولوا الالباب : ما هم. ومن اين جاؤوا وكيف كانوا وفي أي الاطوار مرّوا والى أي شيء ينتهي أمرهم. (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) والانسان ابن هذه الارض واليها يعود. ومنها يخرج تارة اخرى. وهم عن جميع ذلك غافلون فسوف يعلمون حينما يظهر لهم الحال وينكشف عن بصائرهم الغطاء (فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ).

ولكن أين التراب. واين الانسان. أين تلك الذرات الساذجة. من ذلك الخلق السوي الذي هو في أحسن تقويم. الذي يضع قدميه على الارض. ويرفع بقلبه الى السماء. انها نقلة عجيبة ضخمة. بعيدة عن الاغوار والآماد. تشهد بالقدرة العظمى لخالقها. وبالحكمة الكبرى لصانعها ومدبرها. (نطفة. علقة. مضغة. انسان مفكر عظيم) (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) فتستوفوا نمو الاعضاء. وكمال الفهم والادراك ورفعة

٣٩٧

النفس الانسانية التي نفخها الله عزوجل في هذا المخلوق الانساني ، وبها تفضل على العالمين وفاق بكماله وفضيلته وعلو مقامه على الملائكة المقربين).

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) هذا التردي والهبوط انما هو مختص بجسم الانسان. لانه مادة. من طبيعتها السعود والهبود كبقية النباتات الطبيعية.

واما الانسان بعقله ومداركه فانه لم يزل يتصاعد في كماله الانساني الى غير حد محدود فهو دائما في ازدياد اذا كان سائرا في طريق الحق والرشاد وسيره صعودي (وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ) الهمود هو درجة بين الموت والحياة. وهكذا يكون جميع ما في الارض مما له قابلية النبات والحياة.

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠))

البيان : ذلك .. أي انشاء الانسان من التراب وتطور الجنين في مراحل تكوينه. فدلالة هذه الاطوار على البعث دلالة مزدوجة. فهي تدل على البعث من ناحية ان القدرة التي قدرت على الانشاء من العدم هي أقدر على الاعادة. وهي تدل على البعث لان الارادة المدبرة لكل شيء تكمل تطوير الانسان في الدار الاخرة. والا كان وجوده عبثا بدون ثمرة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) والجدال في الله بعد تلك الدلائل يبدو غريبا. فلا يستمد من كتاب ينير القلب والعقل. ويوضح الحق ويهدي الى اليقين.

٣٩٨

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥))

البيان : ان العقيدة هي الركيزة الثابتة في حياة المؤمن ، تضطرب الدنيا من حوله فيثبت هو على هذه الركيزة ، وتتجاذبه الاحداث والدوافع فيثبت هو كالصخرة التي لا تتزعزع. وتتهاوى من حوله الاسناد فيستند هو الى القاعدة التي لا تحول ولا تزول.

هذه هي قيمة العقيدة في حياة المؤمن. ومن ثم يجب أن يستوي عليها متمكنا منها واثقا بها. لا يتلجلج فيها. ولا ينتظر عليها جزاء الا على تفسخ القلب للنور. وطلبه الهدى. ومن ثم يهبه الله العقيدة ليأوي اليها. ويطمئن بها. هي في ذاتها جزاء يدرك المؤمن قيمته حين يرى الحيارى الشاردين من حوله تتجاذبهم الرياح. وتتقاذفهم الزوابع.

اما ذلك الصنف من الناس الذي يتحدث عنه السياق فيجعل العقيدة صفقة في سوق التجارة (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ) (وان أصابته فتنة انقلب على عقبيه).

والمؤمن لا يجرّب خالقه فهو المستسلم لأمره الراضي بقضائه ان أعطى او منع وان عافى أو أبلى.

والذي ينقلب على وجهه عند الامتحان يخسر الطمأنينة (ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ) وهم الثابتون في كل حالة وابتلاء. (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ) فعليه ان يفتش على من ينصره من بعد الله وليحتمي به والذي ييأس في

٣٩٩

الضر من عون الله يفقد كل نافذة مضيئة. وكل رجاء فرج ، فيزيد بذلك كربه.

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧)

أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨))

البيان : ارادة الله عزوجل قد قررت سبق الهدى على الضلال فمن طلب الهدى تحققت ارادة الله بهدايته وفق سننه. ومن طلب الضلال تركه الله وشأنه فيحيطه الخوف والقلق وتستهويه الشياطين فيصبح تائها حيران (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا) قد سبق تعريف هذه الفرق. وبقي تذكر هنا بمناسبة ان الله يهدي من يريد ..

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ).

وعند ما يتدبر القلب الطاهر هذا النص يتعجب من هذا الحشد الهائل من الخلائق التي تذعن وتستسلم لارادة الله تعالى وطاعته مما نعلم وما لا نعلم. واذا بتلك الحشود كلها في موكب خاشع لله عزوجل وتتجه اليه وحده دون سواه.

الا ذلك الانسان فهو وحده الذي يتفرق (وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ. وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ). وهنا يقرر تلازم الهوان في الدنيا لمن استحق العذاب في الاخرة (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) أي فلا كرامة الا لمن كرمه الله. ولا عزة الا لمن أعزه الله. وقد ذل وأهان من عصاه.

(هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ

٤٠٠