تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

السدّ. ورأى أن أيسر طريقة لاقامته هي ردم الممر بين الحاجزين. فطلب من القوم المعونة (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) (أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) وقد استخدمت هذه الطريقة حديثا في تقوية الحديد. وبذلك التحم الحاجز وسدت الطريق على يأجوج ومأجوج. ونظر ذو القرنين الى العمل الضخم الذي قام به. فلم يأخذه البطر والغرور. ولكنه وجه الشكر لخالقه الذي أعانه عليه (قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي).

وبذلك تنتهي هذه الحلقة من سيرة ذي القرنين. وهو النموذج الطيب للحاكم الصالح.

(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (١٠٤) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (١٠٥) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (١٠٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (١٠٧) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (١٠٨) قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (١١٠))

البيان : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً) الذين لا يوجد من هم أشد خسرانا منهم لانهم في غفلة هائلة بحيث لا يشعرون بضلال سعيهم وذهابه سدى فهم ماضون في هذا السعي الخائب ينفقون حياتهم فيه هدرا. (أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) فهم مهملون لا قيمة لهم ولا وزن في ميزان القيم الصحيحة (يَوْمَ الْقِيامَةِ) (ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ) (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) وهم فيها خالدون) غير معذورين في ضلالهم (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً خالِدِينَ فِيها).

وهذا المنزل في جنات الفردوس في مقابل ذلك النزل في نار

٣٤١

نار جهنم. وشتان شتان بين المنزلين. انهم خالدون في جنات الفردوس ، ولكن النفس البشرية الحيوانية لا تفرق بين المنزلين : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي ..) والبحر أوسع وأغزر ما يعرفه البشر. والبشر يكتبون بالمداد كل ما يكتبون. وكل ما يسجلون به علمهم الذي يعتقدون انه غزير.

والبحر هذا المثال يمثل علم الانسان الذي يظنه واسعا. وكلمات الله تعالى تمثل العلم الالهي الذي لا حدود له. والذي لا يدرك البشر نهايته.

ان ما يطيق الانسان تلقيه وتسجيله من علم الله من علم الله ضئيل قليل لانه يمثل نسبة المحدود الى غير المحدود. وسينفد البحر وكلمات الله لم تنفد ولو أمده الله ببحر مثله مددا. (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) بشر يستمد علمه من ذلك المعين الذي لا ينضب. بشر لا يتجاوز الهدى الذي يتلقاه من مولاه. (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً)

ـ ١٩ ـ سورة مريم (ع). وعدد آياتها ثمان وتسعون آية (٩٨)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كهيعص (١) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (٢) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (٣) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (٤) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (٦))

البيان : (كاف. ها يا عين. صاد) هذه الاحرف المتقطعة التي

٣٤٢

تبدأ بها بعض السور. والتي اخترنا في تفسيرها انها نماذج من الحروف الهجائية التي يتألف منها هذا القرآن فيجيء نسقا جديدا لا يستطيعه جميع المخلوقات من انس وجن. مع أنهم يملكون هذه الحروف ويعرفون هذه الكلمات. ولكنهم أعجز وأقصر من أن يقدروا على أن يصوغوا منها مثل ما تصوغه القدرة المبدعة لهذا القرآن. وما ذلك الا لانها صاغة آلهية ركبته ليكون معجزة خارقة لكل مخلوق حرّ الضمير غير مأسور لهواه وشهواته وغرائزه.

(إِذْ نادى رَبَّهُ) : انه يناجي ربه بعيدا عن عيون الناس. بعيدا عن أسماعهم في عزلة يخلص فيها لربه. ويكشف له عما يثقل كاهله ويكرب صدره ويناديه في قرب واتصال (رب) بلا واسطة. حتى ولا حرف نداء. وان ربه ليسمع ويرى من غير دعاء ولا نداء. ولكن المكروب يستريح الى البثّ. ويحتاج الى الشكوى. والله الرحيم بعباده يعرف ذلك من فطرة البشر فيستحب لهم ان يدعوه. وان يبثوه ما تضيق به صدورهم. (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ليريحوا أعصابهم من العبء المرهق. وليعلموا الجاهلين بالمصدر لجلب كل محبوب. ودفع كل مكروه وممغوض هو الرجوع الى الخالق العظيم. الذي أقرب لعبده من كل قريب. وأقدر على قضاء حوائجه من كل قدير. وبذلك تطمئن قلوبهم الى أنهم قد عهدوا بأعبائهم الى من هو أقدر واقوى على اجابتهم واعطاء سؤالهم لانه بيده أزمة الامور. واليه يرجع الامر كله. وليلجوا بالركن الذي لا يضام من التجأ اليه ولا يخيب من قصده وتوكل عليه بحق.

وزكريا يشكو الى ربه (وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) وحين يهن العظم يكون الجسم كله قد وهن لانه قوام البدن. ويشكو البدن اشتعال رأسه

٣٤٣

شيبا. وهذا دليل آخر على الوهن (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) : ولا ينسى زكريا أن يصور أمله بان يكون ذلك الوارث رضيا.

(يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (٧) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (٨) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (٩) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (١٠) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (١١))

البيان : فيض الكرم الالهي يغدقه على كل من رضي عليه من عباده. ويجيبه اذا دعاه وطلب منه حاجته. وكأنما أفاق زكريا من غمرة الرغبة وحرارة الرجاء. على هذه الاستجابة القريبة للدعاء. فاذا هو يواجه الواقع .. انه شيخ بلغ من الكبر عتيا. وقد وهن عظمه. وشاب رأسه. وامرأته عاقر لم تلد له في صباها. فكيف ياترى سيكون له غلام واذا يأتيه الجواب عن سؤاله : ان هذا هين على الله سهل (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) وليس في الخلق شيء يوصف بالهين والصعب على الله عزوجل فحسبه ان يريد فيكون ما أراد ومع هذا فان لهفة زكريا على الطمأنينة تدفع به ان يطلب آية وعلامة على تحقيق البشرى فأعطاه الله (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

(يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (١٥))

البيان : لقد ولد يحيى وترعرع وصار صبيا. في الفجوة التي تركها السياق بين المشهدين. ويطوي صفحته ليفتح الصفحة الجديدة على يحيى ويناديه ربه (يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ ..)

وهو يبدأ بهذا النداء العلوي ليحيى قبل أن يتحدث عنه بكلمة ،

٣٤٤

لان مشهد النداء مشهد رائع عظيم يدل على مكانة يحيى عند خالقه.(وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا) فهذه هي المؤهلات التي زوده الله بها آتاه الحكمة صبيا. وآتاه الحنان هبه لدنيه. (وَكانَ تَقِيًّا) موصولا بالله عزوجل. ذلك هو المراد الذي يمكن لصاحبه ان يأخذ من هذه الحياة الفانية الى الحياة الخالدة وتنيله سعادة الابد.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (١٧) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (١٨) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (١٩) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (٢٠) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (٢١) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (٢٢) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (٢٣) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (٢٤) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (٢٥) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (٢٦) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (٢٧) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (٢٨) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (٢٩) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (٣٠) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (٣١) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (٣٢) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (٣٣) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (٣٤) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٣٥) وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٣٦))

البيان : فهذه هي الخارقة الاولى من نوعها تحدث في عالم الوجود. فتاة عذراء قديسة وهبتها امها وهي في بطنها لخدمة المعبد البيت المقدس. لا يعرف احد عنها الا الطهر والعفاف حتى لتنسب الى هارون ابي سدنة المعبد الاسرائيلي المتطهر ـ ولا يعرف عنها اسرتها الا الطيب والصلاح من قديم.

٣٤٥

ها هي ذي تخلو الى نفسها لشأن من شؤونها التي تقتضي التواري عن الناس والاحتجاب عن الانظار وها هي في خلوتها مطمئنة الى انفرادها واذا هي تفاجأ برجل مكتمل سوي : (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) وها هي تنتفض انتفاضة العذراء المذعورة فتلجأ الى الله تستعيذ به وتستنجده لاغاثتها.

(قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا. قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).

وهنا يزداد الهلع والفزع. فقد تكون حيلة يستغل طيبتها. ثم تدركها شجاعة الانثى المهددة (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) هكذا في صراحة كيف يهب لها غلاما فالحياء هنا لا يجدي (قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) فهذا الامر الخارق للعادة لا تتصور مريم وقوعه.

بذلك انتهى الحوار بين الروح الامين جبرائيل (ع) ومريم العذراء ، (فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا).

ان السياق لا يذكر كيف حملته. هل كان حملا عاديا كما تحمل النساء. وتكون النفخة قد بعثت الحياة والنشاط في البويضة. فاذا هي علقة فمضغة فعظام ويستكمل الجنين مراحله كلها.

ولنشهد مريم تنتبذ مكانا قصيّا عن أهلها. في موقف أشد هولا من موقفها الذي أسلفنا عنه فلئن كانت في الموقف الاول تواجه الحصانة فهي هنا تواجه المخاض الذي (أجاءها). فاذا هي تقول : (يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا) وهي تتمنى لو كانت (نسيا) تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض. (فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلَّا تَحْزَنِي) يا لله طفل ولد اللحظة ينادي امه ويطمئن قلبها المضطرب ويرشدها الى طعامها وشرابها ويدلها على

٣٤٦

حجتها وبرهانها الذي يدفع عنها كل نسبة بطل وضلال ومنكر وفحشاء. ونحسبها قد دهشت طويلا وبهتت قبل أن تمد يدها الى جذع النخلة تهزها. ثم أفاقت فاطمأنت الى أن الله لا يتركها مهزأة للاعداء والاشرار (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ).

وهذا المشهد المثير. والدهشة التي تعلو وجوه القوم. ويبدو انهم أهل بيتها الاقربون. (قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) فظيعا مستنكرا. ثم يتحول السخط الى تهكم وتقريع.

(يا أُخْتَ هارُونَ) النبي الذي تولي الهيكل هو وذريته من بعده. وتنفذ مريم وصية ولدها (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) فماذا نقول في العجب والغيظ الذي ساورهم وهم يرون العذراء تواجههم بطفل غير معروف الاب. ثم تسخر منهم فتصمت وتشير لهم الى الطفل ليسألوه عن سرها

(قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا) ولكن لم يطل الذهول بهم واذا بذلك الطفل يتكلم بصراحة. (قالَ إِنِّي عَبْدُ اللهِ) وهكذا يعلن عيسى (ع) عبوديته لله قبل كل كلمة ينطق بها ليبرر ساحة والدته المذهولة المستسخر بها من أعدائها وأحبائها. فليس هو ابن لله كما يدعي الماكرون. وليس هو اله كما يزعم الدجالون. وليس هو شريك لله عزوجل. انما هو عبد لله ومخلوق بأمره (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) فلا يبقى بعد شهادة عيسى (ع) حجة لمخلوق يتمسك بها.

(فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٣٧) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٨) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٩) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٤٠))

البيان : لقد جمع الامبراطور الروماني قسطنطين مجمعا من

٣٤٧

الاسقفة ـ وهو أحد المجامع الثلاثة الشهيرة ـ بلغ عدد أعضائه ألفين ومئة وسبعين أسقفا فاختلفوا في عيسى اختلافا شديدا. وقالت كل فرقة فيه قولا.

قال بعضهم : هو ابن الله. وقال الاخر : هو أحد الاقانيم الثلاثة (الاب والابن وروح القدس). وقال بعضهم : هو ثالث ثلاثة (الله اله. وهو اله. وأمه اله).

وقال بعضهم : هو عبد الله ورسوله وروحه وكلمته. وقالت فرق أخرى أقوالا اخرى. ولم يجتمع احد منهم مع اخر. ومال الامبراطور الى أحد هذه الاقوال وطرد الباقي وشرد المعارضين وخاصة الموحدين.

ولما كانت العقائد المنحرفة قد قررتها تبعا لسلطان زمانها كما هم عليه اليوم وقبله فجاء القرآن المجيد يهدد المنحرفين الكافرين بالحق والصواب المتبعين للشهوات والاهواء.

(فويل للكافرين من مشهد يوم عظيم) ويل لهم من ذلك المشهد العظيم في حضرة الجبار الذي لا تخفى عليه خافية. المشهد الذي يشهده الثقلان الانس والجن والملائكة في حضرة الجبار العظيم.

(أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا) فما أعجب حالهم لا يبصرون ولا يسمعون حين يكون السمع والبصر وسيلة للهدى والنجاة. (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ) يوم تشتد الحسرات وتكثر الزفرات بدون نفع.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٤١) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (٤٢) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (٤٣) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (٤٤) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (٤٥) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (٤٦) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ

٣٤٨

بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (٤٨) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (٥٠))

البيان : بهذا اللطف في الخطاب يتوجه الى أبيه. يحاول أن يهديه الى الخير الذي هداه الله اليه. وعلمه اياه. وهو ليحبّب اليه اليه فيخاطبه (يا أبت) اذ كان عمّه وقومه يعبدون الاصنام وأبوه مؤمن مات قبل ولادته.

هذه هي اللمسة الاولى التي يبدأ بها ابراهيم دعوته لابيه. ثم يتبعها بانه لا يقول هذا من نفسه. انما هو العلم الذي جاءه من الله فهداه (فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا).

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ) والشيطان هو الذي يغري بعبادة الاصنام من دون الله ... وابراهيم يحذّر أباه أن يغضب الله عليه فيعاقبه فيجعله وليا للشيطان ـ مع انه عمه وليس أباه حقيقة ـ فما كان الجواب لابراهيم (ع) من عمه آزر الخبيث (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا).

بهذه الجهالة تلقّى الرجل الدعوة الى الهدى. وبهذه القساوة قابل قول الناصح الشفيق. وكم من الناس الذين يقابلون الاحسان بالاساءة. والنصيحة بالشتائم والسباب. (وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) وهكذا اعتزل ابراهيم اباه ـ يعني عمه ـ وقومه. وهجر أهله ودياره وتوجه الى الله. بعد أن حطم أصنامهم. فلم يتركه الله وحيدا بل وهب له ذرية صالحة خيرة. (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ .. وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) فكانوا صادقين في دعوتهم الى خالقهم العظيم.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥١) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (٥٢) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (٥٣)

٣٤٩

وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥))

البيان : عن الامام الباقر (ع) انه سئل عن هذه الاية : ما الرسول وما النبي فقال (ع) :

النبي الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعاين الملك. والرسول هو الذي يسمع ويرى في المنام. ويعاين الملك). ويبين فضل موسى (ع) بندائه من جانب الطور الايمن.

ثم يعود فيذكر من ذرية ابراهيم فيذكر اسماعيل ابا العرب. وهو رسول فلا بد أن له دعوة في العرب الاوائل. وهو جدهم الكبير. وكان في العرب موحدون ابرزهم أفراد قبيلة الرسالة المحمدية. فهم من سلسلة الموحدين على دين ابراهيم واسماعيل (ع) (وهو (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) يعني سلسلة آباء النبي محمد ص وآله من اسماعيل الى أبيه عبد الله. كلهم مؤمنون موحدون ومنهم ابو طالب عمه.

(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (٥٦) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (٥٨)

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (٥٩) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (٦٠))

(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (٦١) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (٦٢) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (٦٣) وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (٦٥))

٣٥٠

البيان : لا نملك نحن تحديد زمان ادريس (ع). ولكن الارجح انه هو جد نوح (ع) كما في الاخبار واسمه (أخنوخ) وهو أول من خاط الثياب ولبسها وكانوا يلبسون الجلود.

عن الامام الباقر (ع) قال قال رسول الله ص وآله : أخبرني جبرائيل أن ملكا من الملائكة كانت له عند الله منزلة عظيمة. فغضب عليه فاهبطه من السماء الى الارض. فأتى ادريس (ع) فقال له : ان لك عند الله منزلة فاشفع لي عند ربك فصلى ادريس ثلاث ليالي لا يفطر أيامها ثم طلب الى الله عزوجل في السحر في الملك. فقال الملك قد أعطيت سؤالك وقد أطلق الله لي جناحي وانا أحب ان أكافيك فاطلب مني حاجة وتمام الحديث في الجزء الاول من هذا الكتاب (ماذا في التاريخ) فاطلبه مفصلا ...

أولئك الاتقياء الذين تفيض عيونهم بالدمع وتخشع قلوبهم لذكر الله (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) ومن ثم يتهدد السياق هؤلاء الذين خالفوا وأضاعوا الصلاة (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) وهو الضلال وسوء العاقبة ، ثم يفتح باب التوبة على مصراعيه فتهب منه نسمات الرحمة والعفو عن التائبين (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) فالتوبة التي تنشيء الايمان والغمل الصالح (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) والعبادة في الاسلام ليست مجرد ركوع وسجود. بل هي الطاعة المطلقة التي ليس معها عصيان ابدا. انه منهج حياة كامل يعيش الانسان في ظله قرير العين ناعم البال سعيدا في الدارين وذلك هو الفوز المبين.

(وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (٦٦) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (٦٧) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (٦٨) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (٦٩) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (٧٠)

٣٥١

وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (٧١) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (٧٢) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (٧٣))

البيان : يبدأ المشهد بذكر ما يقوله (الانسان) عن البعث. وهذه المقالة قالها كثيرون من البشر في عصور مختلفة. (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً). ثم يعقب هذا التهديد حيث يقسم بنفسه وهو اعظم قسم (فوربك لنحشرنهم حول جهنم جثيا) وهي صورة رهيبة مرعبة. حيث هذه الجموع التي لا يحصيها العد محشورة حول جهنم جاثية حولها وهو مشهد مرعب للمتجبرين المتكبرين. (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) وان الله تعالى اعلم بمن هم اولى بها صليا. فلا يؤاخذ احد جزافا (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها)

عن رسول الله ص وآله انه سئل عن هذه الآية. فقال اذا دخل اهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا ان نرد النار. فيقال له قد وردتمها. وهي جامدة. قيل واما قوله : (أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) فالمراد عن عذابها. وقيل ورودها الجواز على الصراط فوق جهنم. (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ) (انها النوادي الفخمة والمجامع المترفة. التي يتعامل بها الكبراء والمترفون في عصور الفساد. والي جانب ذلك تلك المجتمعات المتواضعة المطهرة من ما ينافي الايمان.

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (٧٤) ... قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (٧٥) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَّرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (٨٣) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (٨٤) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (٨٥) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (٨٦) لَّا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٨٧) وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (٨٨) لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (٨٩)

٣٥٢

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (٩٠) أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (٩١) وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا (٩٢) إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (٩٣) لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (٩٦) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا (٩٧) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (٩٨))

البيان : (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) فلم ينفعهم اثاثهم ورياشهم ومظهرهم ان الانسان لينس. فلو تذكر وتفكر ما أخذه الغرور بمظهر ومصارع. ومصارع الغابرين من حولهم تناديهم ليعتبروا بغيرهم قبل ان يصبحوا عبرة لغيرهم.

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا)

(وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (٧٦) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (٧٧) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (٧٨) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (٧٩) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (٨٠) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِّيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (٨١) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (٨٢))

البيان : (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) هل رأيت الى هذا الذي كفر بآيات الله وهو يحيل على يوم لا يملك فيه شيئا. يوم يجرد من كل ما يملك في هذه الدنيا. انه نموذج الكفار في ادعائهم (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا). فهؤلاء الذين كفروا بآيات الله يتخذون آلهة يطلبون عندها العزة والنصر. وكان فيهم من يعبد الملائكة ومن يعبد الجن. كلا فسيكفر الملائكة والجن بعبادتهم وينكرونها عليهم ويبرأون الى الله منهم (وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا) (فلا تعجل عليهم فلهم ايام معدودة. وفي مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة المجرمين

٣٥٣

والمتقين. (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) : ان جرس الالفاظ وايقاع العبارات ليشارك ظلال المشهد في رسم الجو : جو الغضب والانتفاض. وان ضمير الكون وجوارحه لتنتفض وترتعش وترجف من سماع تلك القولة النكراء. والمساس بقداسة الذات العلية. كما ينتفض كل عضو وكل جارحة عند ما يغضب الانسان. للمساس بكرامته او كرامة من يحب ويحترم. هذه الانتفاضة الكونية للكلمة النكراء. تشترك فيها السموات والارض والجبال بالزلزال (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) وان الكيان البشري ليرتجف وهو يتصور مدلول هذا البيان (لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا) فلا مجال لهرب او اختفاء وهو وحيد فلا مجير (ان الذين آمنوا. (سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) وللتعبير بالودّ في هذا الجو نداوة رخية تمسّ القلوب وتنعش الارواح. وبعد فان هذه البشرى للمؤمنين المتقين. وذلك انذار للمجرمين (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) وتختم السورة بمشهد يتأمله القلب طويلا. ويرتعش له الوجدان (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) وهو مشهد يبدؤك بالرجة المدمرة. ثم يغمرك بالصمت العميق. وكأنما يأخذ بك الى وادي الردى. ويقفك على مصارع القرون. وفي ذلك الوادي الذي لا يكاد يحدّه البصر. ثم ان الصمت يخيم والموت يجثم. واذا الجثث والاشلاء والبلى والدمار لا يوصف (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) انظر وتلفت (هل تسمع لهم ركزا تسمع وأنصت. ألا انه السكون العميق والصمت الرهيب. وما من احد الا الواحد القهار والعزيز الجبار الحي الذي لا يموت.

٣٥٤

ـ ٢٠ ـ (سورة طه وهي (١٤٠) مائة واربعون آية)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. طه (١) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (٢) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (٣) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (٤) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (٦) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (٧) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (٨))

البيان : (طه. ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) مطلع رخي ندي يبدأ بالحروف المقطعة (طا. ها) للتنبيه الى ان هذه السورة كهذا القرآن ـ مؤلفة من مثل هذه الحروف على نحو ما أوردنا في مطالع السور. ويختار هنا حرفين ـ وفي بعض الاخبار ان هذا اسم من اسماء النبي ص وآله ولا يمنع ارادة الجميع.

ثم يتلى ذلك : ما انزلنا عليك القرآن ليؤدي الى شقائك. بل ليكون لك رحمة وسلوة وحكمة. وتسعد انت ومن تبعك بتلاوته والعمل باوامره ونواهيه وحكمه. وهو لا يكلف احدا الا وسعه. وهو (تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى) والذي يخشى تنفعه الذكرى ويسعد باتباعها.

والذي نزل هذا القرآن هو الذي خلق الارض والسموات. والقرآن ظاهرة كونية والذي نزل القرآن من الملأ الأعلى. وخلق الارض والسموات هو الرحمان الذي خلق الانسان وهو اعلم بما يصلحه وينفعه والمشاهد الكونية تستخدم في التعبير لابراز معنى الملك والاحاطة في صورة يدركها التصور البشري والخطاب للرسول ص وآله. لطمأنينة قلبه. بان ربه معه يسمعه ويراه أينما كان وسار.

(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (١٠) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ

٣٥٥

يا مُوسى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (١٦))

البيان : (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) وما يتجلى فيه من رعاية الله وهداه لمن اصطفاه. فها هو موسى (ع) في الطريق بين مصر ومدين. الى جانب الطور. ها هوذا عائد بأهله بعد ان قضى فترة التعاقد بينه وبين نبي الله شعيب (ع) والارجح انه وفاه عشر سنين.

وهكذا عاد موسى (ع) وهكذا ضل طريقه في الصحراء. ومعه زوجته وقد ضل طريقه والليل مظلم والمتاهة واسعة. ولقد رأى النار في الفلاة فاستبشر وذهب ليأتي منها بقبس يستدفىء به أهله فالليلة باردة وليالي الصحراء باردة. لقد ذهب يطلب قبسا من النار ولكنه وجد المفاجأة الكبرى (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) : ان القلب ليرجف. وان الكيان ليرتجف وهو يتصور ـ ذلك المشهد ـ موسى فريد في تلك الفلاة والليل دامس. فاذا الوجود كله من حوله يتجاوب بذلك النداء (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) ان تلك الذرة الصغيرة الضعيفة المحدودة تواجه الجلال الذي لا تدركه الابصار. الجلال الذي تتضاءل امامه جميع المخلوقات وتسجد خشعا له وخضوعا. انها لحظة ترتفع فيها البشرية كلها وتكبر ممثلة في موسى (ع) فبحسب الكيان البشري ان يطيق التلقي من ذلك الفيض لحظة. وبحسب البشرية ان يكون فيها الاستعداد لمثل هذا اللقاء.

فالعقل البشري ليس له هنا ليدرك ويحكم. انما قصاراه ان يقف مبهوتا يشهد ويؤمن ويذعن (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) نودى بهذا البناء المجهول. فما يمكن تحديد مصدر النداء ولا تعيين

٣٥٦

صورته ولا كيفية سمع موسى (ع) (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) فيا للتكريم ان يكون الله بذاته هو الذي قد اختار موسى (ع) من مجموع من يعيش على وجه الارض في ذلك الوقت والعصر. (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) فاما الالوهية الواحدة فهي قوام العقيدة. والله في ندائه لموسى (ع) يؤكدها كل التأكيدات (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) فالساعة هي الموعد المرتقب للجزاء الكامل العادل الذي تتوجه اليه النفوس فتحسب حسابه وتسير في الطريق. وهي تراقب وتحاسب وتخشى الانزلاق. والله سبحانه يؤكد مجيئها. (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) وانه يكاد يخفيها. فعلم الناس بها ممنوع ولا يمكن لهم الوصول اليها لأن الخالق العظيم يستحيل ان يحيط به المخلوق المحدود واذا حجب علم شيء عن مخلوقاته استحال ان يصلوا اليه لانهم لا يعلمون الا ما علمهم. (فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى) لان اتباع الهوى يسد عن معرفة الحق فالفطرة السليمة تؤمن من نفسها بان الحياة الدنيا لا تجوز ان تكون هي غاية وجود الانسان ولا يتم العدل الا بوجود دوام غير هذه الدار ليكافىء المحسن على احسانه ويعاقب المسيء بسبب عصيانه.

(وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (١٧) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (١٨) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (١٩) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (٢٠) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (٢٣) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٢٤)

قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (٣٥) قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (٣٦))

البيان : انها العصا ولكن أين هي انما يتذكر فيجيب. والسؤال

٣٥٧

لم يكن عن وظيفة العصا في يده انما كان عما في يمينه ولكنه ادرك ان ليس عن ماهيتها يسأل. (قالَ أَلْقِها يا مُوسى). ووقعت المعجزة الخارقة التي تقع في كل لحظة. وقعت معجزة الحياة. فاذا العصا تسعى وكم من ملايين الذرات الميتة او الجامدة كالعصا تتحول في لحظة الى خلية حية. ولكنها لا تبهر الانسان. كما يبهره ان تتحول العصا حية. وقعت المعجزة فدهش لها موسى (ع) وخاف. (قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ) : واطمأن موسى والتقط الحية. فاذا هي عصا كما كانت. وصدر الأمر العلوي مرة أخرى. (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ) (آيَةً أُخْرى) (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) والى هنا لم يكن موسى يعلم انه منتدب لهذه المهمة الضخمة وانه ليعرف من هو فرعون فقد ربي في قصره. وشهد طغيانه. وشاهد ما يصبه على مخالفه (قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ... هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي) (قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى)

والى هنا كفاية وفضل من التكريم والعطف. وقد طال التجلي. واجيب السؤال. ولكن فضل الله عزوجل لا خازن له. ورحمته لا ممسك لها. فهو يغمر عبده بمزيد من فضله ويمده بنجاته وهو يذكره بسابق نعمه ليشكره فيزيده (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ).

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (٤٤))

البيان : ان موسى (ع) ذاهب لمواجهة اقوى جبروت في الارض واطغى جبار. انه ذاهب لخوض معركة الايمان مع الطغيان. انه ذاهب

٣٥٨

الى خضم من الاحداث مع فرعون ثم مع قومه بني اسرائيل. اذهب انت واخوك مزودين بآياتي وقد شهد منها آية العصا. وآية اليد البيضاء (وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي) فهو عدتكما وسلاحكما. وسندكما الذي لا يغلب ولا يقهر. (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) وقد حفظتكما من شره قبل وبعد. اذهبا اليه غير يائسين من هدايته. راجين ان يتذكر ويخشى. فالداعية الذي ييأس من اهتداء احد بدعوته لا يبلغها ولا يثبت عليها في وجه الجحود والانكار. وان الله ليعلم ما يكون من فرعون. ولكن الأخذ بالاسباب في الدعوات وغيرها لا بد منه والله يحاسب الناس على ما يقع منهم بعد ان يقع في عملهم. وهو عالم بانه سيكون فعلمه تعالى بمستقبل الحوادث كعلمه بالحاضر والماضي على حد سواء لديه عزوجل.

(قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (٤٥) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (٤٦) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (٤٩) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (٥٠) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (٥١) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (٥٤) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (٥٥) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (٥٦))

البيان : هارون لم يكن مع موسى قطعا في موقف المناجاة الطويل ـ الذي تفضل المنعم فيه على عبده. فأطال فيه النجاء وبسط له في القول. واوسع له في السؤال والجواب ـ وردهما بقولهما : (إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى) لم يكن في موقف المناجاة الاولى وانما كان في موقف آخر. وذلك حين اجتمع موسى وهارون (ع) وقص موسى على هارون كل ما جرى وحصل. وقد أوحى الله عزوجل الى

٣٥٩

هارون بمشاركة اخيه في اداء الرسالة. (قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) : انه القوي الذي لا يغلبه غالب القهار فوق عباده. فما يكون فرعون وما يملك. والكائنات يستحيل ان تتحرك الا بأمر خالقها ومكونها وباعث فيها الحركة (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) انه لا يريد بأن يعترف بأن رب موسى وهارون ربه كما قالا له. (قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) : وهذا الوصف الذي يحكيه القرآن المجيد يلخص اكمل اثار الألوهية الخالقة المدبرة لهذا الوجود .. هذا الوجود الكبير المؤلف مما لا يحصى من الذرات والخلايا. وكل ذرة فيه تنبض وكل خلية فيه تحيا .. وكلها ادلة قاطعة على عظمة خالقها. (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ..) فالارض كلها مهد للبشر في كل مكان وزمان. والخالق العظيم المدبر الذي جعل الارض مهدا. وقد جعل فيها رزق البشر ومدفن البشر وحشر البشر. (مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ. وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى) : والانسان مخلوق من مادة هذه الارض ومن زروعها يأكل وماءها يشرب. وهواءها يتنفس. وهي له مهد ومأوى فالويل للمتكبرين.

(قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (٥٨) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (٦٠) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (٦١) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (٦٢) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (٦٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (٦٥) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (٦٦))

البيان : وهكذا لم يمض فرعون في الجدل. لأن حجة موسى (ع)

٣٦٠