تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

بمعونتهم ان ساروا عليها والكفالة والحراسة لهم في الدنيا. والخلود لهم في نعيم الجنة في الآخرة ان هم أطاعوا والتزموا بها وحذرهم عن السلوك في طريق الضلال وهددهم ان هم خالفوا ابتلاهم في الدنيا ودخولهم الى جهنم في الآخرة.

فالذين يستحقون هداية الله هم الذين أذعنوا وأطاعوا وطلبوا منه العون والتوفيق. والذين استحقوا الضلال هم الذين خالفوا أمره العون والتوفيق ، والذين استحقوا الضلال هم الذين خالفوا امره وأعرضوا عن طاعته فكالهم لأنفسهم فضلوا السبيل : (وقالوا ا اذا كنّا الخ كأنه حاضر الآن. وكأنما الدنيا التي كانوا فيها قد انطوت صفحتها وصارت ماضيا بعيدا.)

ثم يأتي التنبيه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ).

فأية غرابة في البعث والله الذي خلق هذا الكون الهائل هو قادر على أن يخلق مثل هذا الانسان الصغير الذي لا يساوي ذرة صغيرة من هذا الكون : (فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً).

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥))

البيان : انها كلمة الحق والتوحيد والدعوة الى ترك الظلم والطغيان والايذاء التي لا تصدر في عرف الطاغية الا من مسحور لا يدري ما يقول. ولا يرفع أحد رأسه ليتحدث بهذا القول.

٣٢١

وأما موسى (ع) فهو قوي بالحق الذي أرسل به والذي أرسله بشيرا ونذيرا ، فهو مطمئن الى نظرة الله له (فقال : (... وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) هالكا مدمرا. جزاء تكذيبك بآيات الله. وانت تعلم ان لا احد يملك غير الله هذه الخوارق ، وقد جحدت الحق بعد معرفتك له.

(وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (١١١))

البيان : لقد جاء هذا القرآن ليربّي أمة. ويقيم لها نظاما عالميا فتحمله هذه الامة الى مشارق الارض ومغاربها. وتعلم به البشرية أجمع أن هذا النظام دون سواه. وفق طبائعها الفطرية.

ومن ثم فقد جاء القرآن مفرقا بين الحق والباطل ، والصلاح والفساد. والعدل والجور. جاء وفق الحاجات الواقعية لتلك الامة. ووفق الملابسات التي صاحبت فطرته الاولى. جاء ليكون عمليا يتحقق جزءا لا يتجزأ. كاملا بدون نقصان. ثابتا لا يقبل التغيير ولا التبديل ولقد تلاه الجيل الاول من المسلمين على هذا المعنى ، تلقوه توجيها يطبق في واقع الحياة. ولقد أنزل الله تعالى هذا القرآن المجيد قائما بالحق وعلى الحق (بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ). فالحق مادته والحق غايته. ومن الحق قوامه. وبالحق اهتمامه. وهو الحق الثابت. والقرآن مرتبط بناموس الوجود كله. اليه يشير وعليه يدل. والحق سنداه ولحمته. (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) وهو مشهد موح يلمس الوجدان. مشهد الذين أوتوا العلم من قبله وهم يسمعون القرآن

٣٢٢

فيزيدهم خشوعا. ويغلبهم التأثر فلا تكفي الالفاظ في تصور ما يجيش في صدورهم منه فاذا الدموع تنطلق معبرة عن ذلك التأثر الغامر.

(قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى)

انه مشهد يرسم تأثير هذا القرآن في القلوب المتفتحة. لاستقبال فيضه المنعش الفياح قلوب العارفة بطبيعته وقيمته بسبب ما أوتيت من العلم قبله. والعلم المقصود هو ما أنزله الله من الكتاب قبل القرآن. فالعلم الحق هو ما جاء من عند الله دون سواه :

(وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ).

ـ ١٨ ـ سورة الكهف عدد آياتها (١١١) آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (١) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (٢) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (٣) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً (٤) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (٥) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (٦))

البيان : قد بدأت السورة بما فيه استقامة وصرامة ، وفيه حمد لله على انزاله الكتاب (عَلى عَبْدِهِ) بهذه الاستقامة. لا عوج ولا التواء ولا مداراة ولا مداورة فيه (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً).

ومنذ الآية الاولى تتضح المعالم. فلا لبس في العقيدة ولا غموض :

٣٢٣

الله هو الذي أنزل الكتاب. والحمد منحصر به على انزاله. ومحمد هو عبد الله. فالكل اذن عبيد لله عزوجل فليس له ولد ولا شريك ولا ند ولا شبيه ولا مثيل ليس كمثله شيء وهو العزيز الحكيم.

وهذا الكتاب الذي أنزله على عبده محمد ص وآله. لا عوج فيه (قَيِّماً) مستقيما واضحا. (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ) بالأجر والثواب والسعادة والكرامة. (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ) : فما أشنع وأفظع أن يلفظوا بهذا القول بغير علم هكذا جزافا. (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) : فهو يبدأ بكلمة (كَبُرَتْ) لتجبه السامع بالضخامة والفظاعة. ويعقب على ذلك بالتوكيد عن طريق النفي (إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً) (فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ) أي فلعلك قائل لنفسك أسفا وحزنا عليهم ان لم يؤمنوا بهذا القرآن. وما يستحق هؤلاء أن تحزن عليهم. فدعهم. فقد جعلنا ما على الارض من زخرف ومتاع وأموال وأولاد ، جعلناه اختبارا وامتحانا لأهلها. يتبين من يحسن منهم العمل في هذه الحياة الوقتية. ويستحق ما وجدناه فيها. وما يلازمه في الحياة الخالدة من نعيم وسعادة. ممن يسييء ويطغى.

(إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (٧) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (٨))

البيان : ونهاية هذه الزينة فستعود هباء ، ويهلك كل ما عليها. (جُرُزاً) تصور معنى الجدب. كما أن كلمة (صَعِيداً) ترسم مشهد الاستواء والصلادة.

(أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (١٠) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (١١) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (١٢))

٣٢٤

البيان : هذا تلخيص مجمل القصة ، ويرسم خطوطها الرئيسية العريضة. فتعرفنا أن أصحاب الكهف كانوا فتية ـ لا نعلم عددهم ـ قد أووا الى الكهف وهم مؤمنون وانه ضرب على آذانهم في الكهف ـ أي ناموا ـ سنين معدودة ـ لا نعلم عددها ـ وانهم بعثوا من رقدتهم الطويلة. وانه كان هناك فريقان يتجادلان في شأنهم ثم لبثوا في الكهف ثم بعثوا أي الفريقين أدق احصاء. وان قصتهم على غرابتها ليست بأعجب آيات الله. وفي صفحات هذا الكون من العجائب والغرائب ما يفوق قصة أصحاب الكهف والرقيم. ثم يبدأ هذا التفصيل للقصة.

(نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (١٣) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (١٤) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً (١٥) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (١٦))

البيان : هذا هو المشهد الاول من مشاهد القصة (إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً) أي ألهمناهم كيف يدبرون أمرهم (هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) فهذا هو طريق الاعتقاد بحيث يكون للانسان دليل عقلي قاطع يرتكز عليه بنيان دينه وعقيدته. والا فهو كاذب. انما هم فتية تبين لهم الهدى في وسط مجتمع كافر ظالم. فلا حياة لهم في وسط هذا المجتمع. ان هم أعلنوا عقيدتهم وجاهروا بها. ولا يمكنهم أن يداهنوا القوم في دينهم الباطل. فلا سبيل لهم الا ان يقروا بدينهم الى الله. وأن يختاروا الكهف على زينة الدنيا وقد أجمعوا أمرهم هذا.(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ) : وهنا ينكشف العجب في شأن القلوب المؤمنة. فهؤلاء الفتية الذين يعتزلون قومهم ويهجرون ديارهم

٣٢٥

ويفارقون أهلهم. ويتجردون من زينة الارض ومتاع الحياة. هؤلاء الذين يأوون الى الكهف الضيق الخشن المظلم. فاذا الكهف فضاء فسيح رحيب وسيع تنتشر فيه الرحمة ، وتشملهم بالرفق واللين والرخاء. وان الجدران الصلدة لترق ، وان الوحشة لتشف. فاذا الرحمة والرفق والراحة والارتفاق.

(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (١٧) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (١٨))

البيان : هذا مشهد آخر من القصة. ينقل بالكلمات هيئة الفتية في الكهف. كما يلتقطها شريط متحرك. والشمس تطلع على الكهف فتميل عنه كأنها متعمدة. ولفظ تزاور تصور مدلولها. والشمس تغرب فتجاوزهم وهم في فجوة منه. (ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ).

ثم يمضي المشهد العجيب وهم يقلّبون من جنب الى جنب في نومتهم الطويلة. فيحسبهم الرائي ايقاظا وهم رقود. وكلبهم يحرسهم ، وهم في هيئة يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم. وذلك من تدبير الله كي لا يعبث بهم عابث حتى يحين الوقت المعلوم.

وفجأة تدب فيهم الحياة : (وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ) : ان السياق يحتفظ بالمفاجأة في عرض نفسه. والفتية يستيقظون وهم لا يعرفون كم لبثوا منذ أن أدركهم النعاس. انهم يفركون أعينهم ويلتفت أحدهم الى الاخرين. فيسأل (كَمْ لَبِثْتُمْ : (قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ). ثم رأوا ان يتركوا هذه المسألة التي لا طائل وراء البحث فيها. ويدعوا أمرها الى الله تعالى. وان يأخذوا في شأن عملهم فهم جائعون ولديهم نقود فضية. خرجوا بها من المدينة :

٣٢٦

(قالُوا ... فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ). وهم يحذرون أن ينكشف أمرهم ويعرف مخبؤهم. فيأخذهم أصحاب السلطان فيقتلوهم رجما. (إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً) فما يفلح من يرتد عن الايمان الى الكفر. وانها لخسارة كبرى.

وهكذا نشهد الفتية يتناجون فيما بينهم حذرين خائفين ، ولا يدرون ماذا جرى وصار وان أعواما مرت ، وقرونا مضت وهم نيام وان الاحوال تغيرت والحكام تبدلت وهم نيام.

وان أجيالا قد تعاقبت. وان قصة الفتية الذين فروا بدينهم من أهل الطغيان قد تناقلها الخلف عن السلف وان الاقاويل حولهم متعارضة حول عقيدتهم وحول الفترة التي مضت منذ اختفائهم.

وكل ما نفهم حول الحاضر أن أهل المدينة اليوم مؤمنون. فهم شديدوا الحفاوة بالفتية لو انكشف لهم حالهم. وحين ذهب احدهم لشراء الطعام. عرف انه احد الفتية الذين فروا بدينهم منذ الزمن (وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ) : ان العبرة في خاتمة هؤلاء الفتية هي دلالتها على البعث بشكل محسوس ولكن هذا لمن له قلب واحساس روحي تنفعه الدلائل والعبر. (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) وقضى الله تعالى فيهم ارادته فاماتهم حيث أرادوا ذلك فأجابهم.

(فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً) (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً).

(وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ

٣٢٧

بِكُمْ أَحَداً (١٩) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (٢٠) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (٢١))

(سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (٢٢) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (٢٣) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (٢٤))

ـ البيان : هذا الجدل حول عدد الفتية لا طائل وراءه. مهما كان عددهم فهو أمر موكول الى الله تعالى.

(وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) : ان كل حركة وكل نفس من انفاس الحي مرهون بارادة الله تعالى. فلا يقل الانسان اني فاعل ذلك الا بالأسناد الى مشيئة الله تعالى. وليس يعني هذا ان يقعد الانسان. ولا يفكر في أمر مستقبله ولكن معناه ان يحسب حساب ما يريده الله تعالى الذي ارادته فوق ارادة المخلوقات أجمع فعلامة من عرف ربه ان يرجع تتميم الامر الذي يريده الى مشيئته تعالى. فالعبد يجب ان يعمل ويقوم بما يرجع اليه وتمام الامر الى الله عزوجل في السلب والايجاب وفي المنع والعطاء (إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ). وبيده أزمة الامور) فمهما صعب. على الله يهون بالعون منه.

هذا المنهج الذي يأخذ به الاسلام قلب المسلم. فلا يشعر بالوحدة والوحشة. وهو يفكر ويدبر ولا يحس بالغرور والبطر. وهو يفلح وينجح. ولا يستشعر اليأس والقنوط وهو يفشل ويخفق. بل يبقى في كل أحواله متصلا بخالقه العظيم. قويا بالاعتماد عليه في دفع كل مكروه. وجلب كل محبوب. شاكرا لتوفيقه اياه على كل حال مرجعا

٣٢٨

الاختيار له في حالتي الأخذ والعطاء. (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) (والجأ اليه في جميع أمورك واستعن به على السراء والضراء.

(وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (٢٥) قُلِ اللهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (٢٦) وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (٢٧))

البيان : الى هنا نكون قد علمنا كم لبث الفتية في الكهف وهم نيام. وهذا قول علام الغيوب فهو قول الفصل. ويعقب القصة اعلان الوحدانية الظاهر الاثر في سير القصة وأحداثها (ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ. وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً) (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً).

(وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (٢٨) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (٢٩))

البيان : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ) أي لا تمل ولا تستعجل فالله غايتهم يتجهون اليه بالغداة والعشي لا يتحولون عنه ولا يبتغون الا رضاه. فجالسهم وعلمهم ففيهم الخير وعليهم يعول في نشر الصلاح فالدعوة الصحيحة لا تقوم على يد أهل الاطماع والاهواء. انما تقدم الدعوة الى الخير على يد أهل الخير.

لقد جاء الاسلام ليسوي بين الرئيس والمرؤوس والابيض والاسود والعربي والعجمي. فلا ميزة عند الله تعالى بين المخلوقات الا بالتقوى (أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) بهذه العزة وبهذه الصراحة ، وبهذه الصرامة يؤسس الاسلام أساسه وعلى هذا الاساس يشيد الاسلام بنيانه.

٣٢٩

فالحق لا ينثني ولا ينحني. وانما يسير في رفعته وعزته التي لا يدنو اليها ذل أو انخفاض وحيث ترى بعض المسلمين أو دول الاسلام يتسكعون على أعتاب اهل الكفر والضلال. انما ذلك لخروجهم عن الاسلام ونبذ الاسلام لهم في واقع الحال والمظاهر والادعاءات لا تغير الواقعيات. فمن لم يرضه الحق لا يرضيه الباطل. ومن لم يجعل هواه تبعا لسيده ومولاه فهو عبد آبق ومن لم يحن هامته ويطامن من كبريائه أمام جلالة الخالق العظيم فلا خير فيه ولا كرامة له في الاسلام والحق المبين. فان الحساب أمامه ونهاية أمره الى جهنم وبئس المصير ان لم يرجع ويتوب والذي يترفع على المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي لا يريد رضاه فلا خير فيه ولا كرامة له. (إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً) فهي لا تحتاج الى جهد لا يقادها (وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ)

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (٣٠) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (٣١))

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (٣٢) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (٣٣) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (٣٤) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (٣٥) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (٣٦))

البيان : فهما جنتان مثمرتان من الكرم ويتفجر بينهما نهر (كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ...) انه الغرور يخيل لذوي الجاه والسلطان والثراء. ان القيم التي يعاملهم بها أهل هذه الدنيا الفانية تظل محفوظة لهم حتى الملأ الاعلى.

(قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ

٣٣٠

مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (٣٧) لكِنَّا هُوَ اللهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (٣٨) وَلَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (٣٩) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (٤٠) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (٤١) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (٤٢) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (٤٣) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (٤٤))

البيان : هكذا تنتفض عزّة الايمان في النفس المؤمنة. فلا تبالي بالمال والرجال مهما كثر بدون عناية الله تعالى وعونه. فلا تداري الغنيّ لغتاه ولا الزعيم لوجاهته. ولا تتلعثم في نصر الحق مهما كان المقابل قويا وغنيا. فان القوة التي يستند اليها المتقون المؤمنون هي أقوى وأغنى. من قوة المخلوقات بأجمعها.

وهكذا يستشعر المؤمن دائما وابدا بالعز والافتخار ما زالت عناية الله تحوطه من كل جهة فان فضل الله عظيم وهو يطمع في كرمه. ونقمة الله شديدة وهو يرتقب نزولها على عدوه.

وفجأة ينقلنا سياق القرآن من مشهد النماء والازدهار الى مشهد الدمار والبوار. ومن هيئة البطر والاستكبار الى هيئة الندم والاستغفار. فلقد كان ما توقعه الرجل المؤمن. (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ) وهنا يتفرد الله بالولاية والقدرة فلا قوة الا قوته ولا نصر الا نصره. (وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) وجعل النادم الخاسر يقلب كفيه أسفا وندما.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (٤٥) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (٤٦))

البيان : هذا المشهد يعرض قصيرا خاطفا ليلقى في النفس ظل

٣٣١

الفناء والزوال. فما أقصر هذه الحياة وما أهونها وأوهنها. (الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا) انهما زينة وقتية زائلة. فلا يجوز أن يوزن بهما الناس ولا ان يقدروا على أساسهما شيئا مما خلق لاجله الانسان. واذا كان أمل الناس عادة يتعلق بالاموال والبنين فان الباقيات الصالحات خير ثوابا وخير أملا. وذلك عند ما تتعلق بها القلوب ويناط بها الرجاء ويرتقب المؤمنون نتاجها وثمارها يوم الخلود.

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (٤٩))

البيان : انه مشهد تشترك فيه الطبيعة ويرتسم فيه الهول على صفحاته وصفحات القلوب. مشهد تتحرك فيه الجبال الراسخة فتسير. فكيف القلوب الضعيفة وتبدي فيه الارض عارية.

(لا تجد (فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً) (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا) هذه الخلائق التي لا يحصى لها عدد. منذ ان قامت البشرية على ظهر هذه الارض الى نهاية الحياة الدنيا. هذه الخلائق كلها محشودة مجموعة. لم يتخلف منها أحد. فالارض مكشوفة مستوية لا تخفي احدا.

(لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) هذا الالتفات من الوصف الى الخطاب يحيي المشهد ويجسمه كأنما هو حاضر اللحظة. لا مستقبل في ضمير الغيب في يوم الحساب.

واننا لنكاد نلمح الخزي والذل والصغار على الوجوه الشاخصة ، وصوت الجليل الرهيب يؤنب ويعاتب (لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) وتركتم كل ما كنتم تحافظون عليه وتدافعون به (وَوُضِعَ الْكِتابُ

٣٣٢

فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ) فهذا هو سجل أعمالهم يوضع امامهم فاذا هو شامل كل صغيرة وكبيرة وكل ظاهرة وخفية قد أحصاها ولم يغادر سيئا. ضبط مكشوف لا يفلت منه شيء.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠))

(ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢))

البيان : هذه الاشارة الى القصة القديمة. تجيء هنا للتعجب والتأنيب. من أبناء آدم الذين يتخذون ابليس وذريته وأعوانه من الانس أولياء من دون الله بعد ذلك العداء القديم.

واتخاذ ابليس وذريته اولياء يتمثل في تلبية دواعي المعصية والتولي عن دواعي الطاعة. (وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) : انهم في الموقف الذي لا تجدي فيه دعوى بلا برهان. والديان يطالبهم ان يأتوا بشركائهم الذين زعموا. ويأمرهم أن يدعوهم ليحضروا. وانهم لفي ذهول ينسون انها الاخرة. فينادون. ولكن الشركاء لا يجيبون لانهم هم خائفون لا يملكون ضرا ولا نفعا. ويتطلع المجرمون فتمتلىء نفوسهم بالخوف والهلع وهم يتوقعون في لحظة ان يقعوا فيها وما أشق توقع العذاب وهو حاضر. وقد أيقنوا ان لا نجاة منها ولا محيص.

(وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (٥٥) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (٥٦))

٣٣٣

البيان : ويعبر السياق عن الانسان في هذا المقام بانه شيء) وانه أكثر جدلا. ذلك كي يطامن الانسان كبريائه ويقلل من غروره. ويشعر بانه خلق من مخلوقات الله الكثيرة (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) : فلقد جاءهم من الهدى ما يكفي للاهتداء لو أرادوا الهداية. ولكنهم كانوا يطالبون من نبيهم أن يحل بهم ما حل بالمكذبين من قبلهم. وليس هذا الاستعجال بالهلاك من شأن الرسل الذين ارسلوا رحمة للعالمين.

والحق واضح ولكن الذين كفروا يجادلون بالباطل ليغلبوا به الحق ويبطلوه وهم حين يطلبون الخوارق ويستعجلون العذاب لا يبغون اقناعا. انما هم يستهزؤون بالايات والنذر ويسخرون.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (٥٩))

البيان : فهؤلاء الذين يستهزئون بآيات الله ونذره لا يرجى منهم أن يفقهوا هذا القرآن ولا ان ينتفعوا به. لذلك جعل الله على قلوبهم أغطية تحول دون فقهه. وجعل في آذانهم كالصمم. فلا يستمعون اليه. وقدر عليهم الضلال ـ بسبب استهزائهم واعراضهم ـ (فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) فللهدى قلوب متفتحة ومستعدة للتلقي (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ). كل ذلك حصل لهم من عصيانهم لله تعالى

ولكن الله تعالى يمهلهم رحمة بهم ويؤخر هلاكهم لعلهم يرجعون.أو القاء للحجة عليهم. (بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ) موعد في الدنيا يحل بهم فيه شيء من العذاب. وموعد في الاخرة يوفون فيه للحساب لانهم

٣٣٤

مستحقون ذلك لاجرامهم وعصيانهم. وان كان الله تعالى أمهلهم لحكمة اقتضتها ارادته فيهم. فلم يعاجلهم في الدنيا. بل جعل لهم موعدا لا يخلفونه.

(وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) فلا يغرنهم امهال الله لهم فان موعدهم آت عن قريب.

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (٦٢) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (٦٤) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦))

(قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (٧٠)) ..

البيان : هذه الحلقة من سيرة موسى (ع) لا تذكر في القرآن كله الا فى هذا الموضع من هذه السورة والقرآن لا يحدد المكان الذي وقعت فيه الا بأنه (مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ) ولا يحدد التاريخ الذي وقعت فيه من حياة موسى (ع). هل كان ذلك هو فى مصر قبل خروجه ببني اسرائيل ، أم بعد خروجه بهم. كذلك لا يذكر القرآن شيئا عن العبد الصالح الذي لقيه موسى (ع) من هو وما اسمه. وقد ورد في بعض الاخبار انه الخضر (ع) والله أعلم بحقيقة الحال.

والارجح أن مجمع البحرين (بحر الروم وبحر القلزم) أي البحر الابيض. والبحر الاحمر. ومجمعهما مكان التقائهما في منطقة البحيرات المرة وبحيرة التمساح. أو انه مجمع خليجي العقبة والسويس

٣٣٥

في البحر الاحمر. فهذه المنطقة كانت مسرح تاريخ بني اسرائيل بعد خروجهم من مصر.

وعلى أي حال فقد تركها القرآن مجملة والله هو العالم الخبير.

والارجح أن الحوت كان مشويا وان احياءه واتخاذ سبيله في البحر كان آية من الله تعالى لموسى ليعرف موعده. بدليل عجيب أعجب فتاه. ويرجح أن الرحلة كلها مفاجآت غيبية وأدرك موسى انه جاوز الموعد الذي حدده ربه له للقاء عبده الصالح وانه هنالك عند الصخرة ثم عاد على أثره هو وفتاه فوجداه (قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ).

ويبدو ان ذلك اللقاء كان سر موسى وحده مع ربه. فلم يطلع عليه فتاه حتى لقياه. ومن ثم ينفرد موسى والعبد الصالح في القضية بكاملها. (قال (أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً).

بهذا الادب اللائق بنبي يستفهم ولا يجزم ويطلب العلم الراشد من العبد الصالح العالم. (قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) ويعزم موسى على الصبر والطاعة ويستعين بالله ومشيئته. (قال ستجدني صابرا) فيزيد الرجل توكيدا وبيانا (فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً)

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (٧١) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٢) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (٧٣) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (٧٤) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦))

البيان : سفينة تحملهما وتحمل معهما ركابا. وهم في وسط اللجة. ثم يجيء هذا العبد الصالح فيخرق السفينة. ان ظاهر الامر هنا أن هذه الفعلة تعرض السفينة وركابها لخطر الغرق وتؤدي بهم الى هذا الشر. فلماذا يقدم الرجل على هذا الشر.

٣٣٦

(حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ) فاذا كانت المرة الاولى خرق السفينة وتعرضها للغرق. فهذه قتل نفس قتل عمد لا مجرد احتمال وهي فظيعة كبيرة. كيف يصبر موسى عليها.

(قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً) فليس ناسيا بل مستنكرا.

(أَلَمْ أَقُلْ لَكَ ...) ويعود موسى فيطلب الصحبة (قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً)

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا ...)

وهنا يشعر موسى بالتناقض (قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً) : وكانت هي الفاصلة.

(فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (٧٧)

قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٧٨) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (٨٢))

البيان : وهنا يأخذ السر الخفي في التجلي : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ) فبهذا العيب نجت السفينة من أن يأخذها ذلك الملك الظالم غصبا. وكان الضرر الصغير الذي أصابها اتقاء للضرر الكبير. الذي يكنّه الغيب لها لو بقيت على سلامتها.

٣٣٧

(وأما الغلام الذي لا يبدو في حاضره ومظهره أنه يستحق القتل. قد كشف ستر الغيب عن حقيقته للعبد الصالح فاذا هو في طبيعته كافر طاغ تكمن في نفسه بذور الكفر والطغيان.

(وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ) فهذا الجدار الذي أتعب الرجل نفسه في اقامته. ولم يطلب عليه أجرا من أهل القرية .. كان يخبىء تحته كنزا لغلامين يتيمين.

ثم ينفض الرجل يده من الامر. فهي رحمة الله التي اقتضت هذا التصرف وهو أمر الله لا أمره فالان ينكشف الستر عن حكمة ذلك التصرف كما انكشف عن غيب الله الذي لا يطلع عليه أحدا الا من ارتضى. وفي دهشة السر المكشوف والستر المرفوع يختفي الرجل كما بدا. لقد مضى في المجهول فالقصة تمثل الحكمة الكبرى. وهذه الحكمة لا تكشف عن نفسها الا بمقدار ثم تبقى وراء الاستار.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (٩١) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (٩٤) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (٩٨))

٣٣٨

(وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (٩٩) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (١٠٠) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (١٠١) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (١٠٢))

البيان : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ) : التاريخ المدون يعرف ملكا اسمه اسكندر ذي القرنين. ومن المقطوع به انه ليس ذا القرنين المذكور في القرآن. فالاسكندر الاغريقي كان وثنيا. وهذا الذي يتحدث عنه القرآن مؤمن بالله وحده معتقدا بالبعث والاخرة.

ويروى : ان ذا القرنين المذكور في القرآن المجيد كان حميري من حمير. واسمه ابو بكر ابن افريقش. وكان يلقب كل ملك به من ملوك حمير (بِذِي) مثل ذي نواس. وذي يزن) وغيرهما. ويرون أن ذا القرنين هذا رحل بجيوشه الى ساحل البحر الابيض المتوسط. فمر بتونس ومراكش وغيرهما وبنى مدينة افريقية القارة كلها باسمه. وسمى ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس المطلع والمغرب ـ هذا فيه مسامحة لان المطلع والمغرب ليسا بمحدودين حتى يبلغا.

وقد يكون هذا القول صحيحا ولكننا لا يمكن التعويل عليه لعدم القدرة على تمحيصه. لان التاريخ المدون شأنه شأن كثير من القصص ، فالتاريخ مولود حديث العهد جدا. بالقياس الى عمر البشرية. وقد جرت قبل هذا التاريخ المدون احداث كثيرة لا يعرف عنها شيئا. وقد أشبعنا التفاصيل عن ذي القرنين في الجزء الاول من هذا الكتاب (ما ذا في التاريخ) (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) لقد مكن الله تعالى له في الارض فأعطاه سلطانا وصيد الدعائم ويسر له أسباب الحكم والفتح وأسباب البناء والعمران. وأسباب السلطان والمتاع (فَأَتْبَعَ سَبَباً) ومضى في وجه ما هو ميسر له. وسلك طريقه الى المغرب. (حتى بلغ مغرب الشمس).

٣٣٩

ومغرب الشمس هو المكان الذي يرى الرائي ان الشمس تغرب فيه وراء الافق الذي هو فيه وهو يختلف بالنسبة للاماكن. والظاهر من نص القرآن أن ذا القرنين غرب حتى وصل الى نقطة على شاطىء المحيط الاطلسي ـ وكان يسمى بحر الظلمات وتنتهي عنده اليابسة والارجح انه كان عند مصب أحد الانهار. حيث تكثر الاعشاب ويتجمع حولها طين لزج وتوجد البرك وكأنها عيون الماء. فرأى الشمس تغرب هناك ـ أي تغيب عن البصر ـ.

وقد أعلن ان المعتدين الظالمين سوف نعذبهم ثم يردوا الى ربهم فيعذبهم أيضا. وهذا هو دستور الحكم الصالح فالمؤمن الصالح ينبغي أن يجد الكرامة والتيسير والجزاء الحسن والمعتدي الظالم يجب أن يلقى العذاب والقصاص. قال تعالى (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ).

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ) : وما قيل عن مغرب الشمس قيل في مشرقها. فالمقصود هو مطلعها من الافق الشرقي. والقرآن لم يحدد المكان ولكنه وصف طبيعته وحال القوم الذين وجدهم ذو القرنين هناك. ولقد أعلن ذو القرنين من قبل. دستوره وفي الحكم فلم يتكرر بيانه هنا. قد علم الله تعالى كل مالديه من أفكار واتجاهات.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ) ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء عن المكان الذي بلغ اليه ذو القرنين (بَيْنَ السَّدَّيْنِ) : كل ما يفهم من النص انه وصل الى منطقة بين جبلين. تفصلهما فجوة أو ممر. وعند ما وجدوه فاتحا قويا وتوسموا فيه القدرة والصلاح ، عرضوا عليه أن يجعل لهم سدّا في وجه يأجوج ومأجوج ، الذين يهاجمونهم من وراء الحاجزين. وتبعا لمنهجه الصالح أجابهم على طلبهم. وتطوع باقامة

٣٤٠