تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

الحياة وهي مندفعة في طريقها بالاحياء. توجه اهتمامهم القوي الى الامام الى الذرية.

ان الوالدين يندفعان بالفطرة الى رعاية الاولاد ، الى التضحية بكل شيء حتى الذات في سبيلهم اما الاولاد فسرعان ما ينسون هذا كله. ويندفعون بدورهم الى الامام الى الزوجات والذرية.

ومن ثم لا يحتاج الآباء الى التوصية بالابناء ، كما يحتاج الاولاد الى استجاشة وجدانهم نحو الوالدين ليذكروا واجب الجيل الذي اتفق رحيقه كله حتى أدركه الجفاف (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما).

فالكبر له جلاله. وضعف الكبر له ايماؤه. وكلمة (عِنْدَكَ) تصور معنى الالتجاء والاحتماء في حالة الكبر والضعف : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) وهي أول مرتبة من مراتب الرعاية والادب مع الوالدين : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ. إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً)

وجاء هذا النص قبل أن يمضي في بقية التكاليف والواجبات والاداب ليرجع اليه كل قول وكل فعل. وليفتح باب التوبة والرحمة لمن يخطىء أو يقصر. ثم يرجع فيتوب من الخطأ والتقصير. ومادام القلب صالحا ، ان باب المغفرة مفتوح والاوّابون هم الذين كلما وقعوا في الخطأ أنابوا الى ربهم بالتوبة.

(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))

القرآن المجيد يجعل لذي القربى والمسكين وابن السبيل حقا في الاعناق يوفي بالأنفاق فليس هو تفضلا من احد على احد ، انما

٣٠١

هو الحق الذي فرضه الله عزوجل. ووصله بعبادته وتوحيده الحق الذي يؤديه المكلف فيبرىء ذمته ، ويصل المودة بينه وبين من يعطيه.

في الكافي عن الكاظم (ع) قال : ان الله تعالى لما فتح على نبيه ص وآله فدك وما والاها لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب. فأنزل الله على نبيه : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) ان ادفع فدك الى فاطمه (ع) فدعاها رسول الله ص وآله فقال يا فاطمة ان الله امرني أن أدفع اليك فدكا ، فقالت قبلت يا رسول الله من الله ومنك) الحديث.

وفي العيون عن الامام الرضا (ع) : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) خصوصية خصّ الله تعالى بها فاطمة (ع) وابنائها (ع) خصهم الله العزيز الجبار بها واصطفاهم على الامة. فلما نزلت هذه الاية على رسول الله قال : ادعوا لي فاطمة فدعيت له فقال يا فاطمة قالت لبيك يا رسول الله ص وآله.

فقال : يا فاطمة هذه فدك وهي ممالم يوجف عليه بخيل ولا ركاب وهي لي خاصة دون المسلمين فقد جعلتها لك كما أمرني الله به فخذيها لك ولولدك). الحديث.

وينهي القرآن عن التبذير ـ وهو بذل الشيء بدون عوض ـ وقد ورد في الحديث :

(لو انفق انسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا. ولو أنفق درهما في غير حق كان مبذرا). (ومن أظهر مصاديق التبذير في عصرنا بذل الاموال في تدخين الدخان الذي لا يدخنه الا حيوان) ولا اشكال في أن مدخني الدخان ، من اخوان الشياطين لانهم من أظهر المبذرين.

(وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً).

٣٠٢

فالتوازن هو القاعدة الكبرى في المنهج الاسلامي (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ).

(وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥))

البيان : ان انحراف العقيدة وفسادها تنشىء آثاره في حياة الجماعة الواقعية. ولا يقتصر على فساد الاعتقاد والطقوس التعبدية ، وتصحيح العقيدة تنشىء آثاره في صحة المشاعر وسلامتها وفي سلامة الحياة الاجتماعية واستقامتها. وهذا المثل من وأد البنات مثل بارز على آثار العقيدة في واقع الجماعة الانسانية. وشاهد على أن الحياة لا يمكن الا ان تتأثر بالعقيدة من صحة وفساد.

وهنا تعبير فائق بالسياق : ففي هذا الموضع قدم رزق الابناء على رزق الآباء. فقال تعالى :

(نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ) وفي سورة الانعام قدم رزق الاباء على رزق الابناء. فقال عزوجل (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) وذلك لاختلاف السببين. فهذا النص (وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ). والنص الاخر : (ولا تقتلوا اولاد من أملاق). فهنا كان قتل الاولاد خشية الاملاق والفقر. وهناك كان سبب قتل الاولاد نفس الاملاق والفقر وحصوله فعلا لذلك ناسب التمايز في التعبير.

(وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً) : ان في ارتكاب الزنا أيضا قتلا للذرية. لان الزنا هو وضع النطفة في غير موضعها.

٣٠٣

ويتبعه غالبا الرغبة في التخلص من آثاره بقتل الجنين قبل أن يكشف جريمة أهله. وان ترك الجنين ترك في الغالب لحياة شريرة ، أو حياة مهينة. فهي حياة مضيعة في المجتمع على نحو الازدراء والضياع. وهذا قتل في صورة اخرى. بل هو قتل للجماعة التي يفشو فيها هذا الفساد المهلك لانه يسبب ضياع الانساب وتخليط الدماء. وتتحلل الجماعة بتفشي الزنا فيها. وتتفكك روابطها فتنتهي الى ما يشبه الموت والفناء. والقرآن المجيد يحذر من مجرد مقارنة الزنا. ويبالغ في التحرز ، لان الزنا تدفع اليه شهوة عنيفة. فالتحرز من المقاربة أضمن ولذا ورد في الخبر :

(ما اجتمع رجل وامرأة في مكان منفرد الا أغراهما الشيطان في ارتكاب الحرام).

(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) : الاسلام دين الحياة ودين السّلام. فقتل النفس عنده كبيرة تلي الشرك بالله. فالله واهب الحياة ، وليس لأحد غير الله أن يسلبها الا باذنه وفي الحدود التي يرسمها مالك الحياة عزوجل : وذلك اذا ارتكبت جريمة القتل للغير عمدا ، أو جريمة الزنا مع الاحصان. أو جريمة الفساد في الارض. وفيما عدا ذلك لا يجوز قتل النفس الا في حدود حددها خالقها.

(وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) : والاسلام يحفظ الدماء والاعراض والاموال ، لقوله ص وآله (كل مسلم يحرم دمه وعرضه وماله) ولكنه يشدد في مال اليتيم بالخصوص ، الا بالتي هي أحسن لليتيم. (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً). وقد أكد الاسلام أيضا على الوفاء بالعهد وشدد. لان هذا الوفاء مناط الاستقامة والثقة. سواء في ذلك عهد الفرد أو عهد الجماعة فلا بد من الوفاء به.

٣٠٤

(وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) : المناسب بين الوفاء بالعهد وايفاء الكيل والميزان ظاهرة في المعنى واللفظ. فالانتقال في السياق ملحوظ التناسق.

وايفاء الكيل والميزان أمانة في العامل. ونظافة في القلب وللقلب. وتقيم بهما التعامل بين أفراد البشر وجماعاته. وتتوافر بهما الثقة في النفوس. وتوجد بهما البركة في الاموال. (ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) خير في الدنيا. وأحسن حالا في الاخرة.

وفي الخبر عن سيد البشر ص وآله : (من قدر على حرام ، ثم تركه وعفى عنه مخافة الله عزوجل الّا أبدل الله به في عاجل الدنيا قبل الاخرة ما هو خير من ذلك وضاعف له العطاء)

وهذه حقيقة أدركها بعيدوا النظر في عالم التجارة فاتبعوها. ولم يكن الدافع دين أو ايمان بل مجرد ادراكها في واقع البيع والشراء بالتجربة العملية).

والفارق بين من يلتزم ايفاء الكيل والميزان تجارة ، ومن يلتزمه اعتقادا ، ان هذا يحقق أهداف ذاك. ويزيده الله عليه نظافة القلب والتطلع في نشاطه العملي الى آفاق أعلى من الارض وأدوم من هذه الحياة الفانية. فيكون نظره الى احراز رضا الله ونعيم الخلود في الآخرة.

(وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩))

البيان : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) : هذه الكلمات القليلة

٣٠٥

تقيم منهجا كاملا للقلب والعقل. يشمل المنهج الالهي. والمنهج العلمي الذي عرفته البشرية حديثا جدا. ويضيف اليه استقامة القلب. ومراقبة الخالق العظيم. وهي ميزة الاسلام التي تبني موازينها على المناهج العقلية المحضة.

فالتثبت من كل خبر ومن كل ظاهرة ومن كل حركة قبل الحكم عليها. هو دعوة القرآن المجيد. وهو منهج الاسلام الحق المبين. ومتى استقام القلب والعقل على هذا المنهج لم يكن مجال للوهم والخرافة في عالم العقيدة. ولم يبق مجال للظن والشبهة في عالم الحكم والقضاء والتعامل. ولم يبق مجال للاحكام السطحية والوهمية في عالم البحوث والتجارب.

انها أمانة الجوارح والحواس والعقل والقلب. أمانة يسأل عنها صاحبها. ونسأل عنها الجوارح والحواس والعقل والقلب جميعا. امانة يرتعش الوجدان لدقتها وجسامتها. كلما نطق اللسان بكلمة ، وكلما روى الانسان رواية. وكلما أصدر حكما على شخص أو أمر امرا ، او أحدث حادثة.

(وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) : الانسان حين يخلو قلبه من الشعور بالخالق القاهر فوق عباده تأخذه الخيلاء والكبرياء بما يبلغه من ثراء أو سلطان. او قوة او جمال.

ولو تذكر ما به من نعمة من الله. وتحقق لديه افتقار له. وضعفه أمامه لطامن من كبريائه. وخفف من خيلائه ولا طأطأ رأسه خجلا وحياء من خالقه العظيم ومنعمه الكريم. والقرآن المجيد يجبه المتطاول المختال بضعفه وعجزه وضآلته (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ..)

وفي الحديث (من تواضع لله رفعه. فيصبح بنفسه متواضعا

٣٠٦

وعند الناس كبيرا. ومن استكبر وضعه الله. فيصبح بنفسه كبيرا وعند الناس حقيرا. حتى يكون أبغض اليهم من كلب أجرب).

ويختتم ألاوامر والنواهي التي كما بدأها بربطها بالله. وعقيدة التوحيد والتحذير من الشرك. وبيان انها بعض الحكمة التي يهدي اليها القرآن الذي اوحاه الله الى رسوله ص وآله ذلك مما اوحى اليك ربك من الحكمة (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً) وهو ختام يشبه الابتداء. فتجيء محبوكة الطرفين. موصولة بالقاعدة الكبرى التي يقيم عليها الاسلام بناء الحياة. قاعدة توحيد الله وعبادته دون سواه.

(أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣)

تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤))

البيان : استفهام للاستنكار والتهكم. استنكار لما يقولون من ان الملائكة بنات الله. تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. (إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً) .. عظيما في شناعته وبشاعته. عظيما في جرأته ووقاحته. عظيما في ضخامته. عظيما في خروجه عن التصور العقلاني.

(وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا) : فقد جاء القرآن بالتوحيد وسلك الى تقرير هذه العقيدة وايضاحها طرقا شتى. وأساليب متنوعة. ووسائل متعددة (لِيَذَّكَّرُوا) فالتوحيد لا يحتاج الى اكثر من التذكر. والرجوع الى الفطرة ومنطقها. والى الآيات الكونية ودلالتها. ولكنهم يزيدون نفورا. كلما سمعوا هذا القرآن. نفورا من العقيدة التي جاء بها. ونفورا من القرآن لأنه يتنافى مع اهوائهم (قل لو كان معه آلهة كما يقولون اذا لا تبغوا الى ذي العرش سبيلا). فالآلهة التي يدعونها ما

٣٠٧

هي الا من مخلوقات الواحد الأحد. سواء كانت حجرا او شجرا شمسا او قمرا. (سبحانه عما يقولون). (تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ) : وهو تعبير تفيض به كل ذرة في هذا الكون الكبير. وتنتفض روحا حية تسبح لله خالقها وصانعها ومدبرها ومديرها. واذا الوجود كله تسبيح انه لمشهد كوني فريد. حين يتصور القلب كل حصاة وكل حجر. وكل حبة وكل ورقة خضراء وكل زهرة وثمرة. وكل حشرة وبعوضة. وكل حيوان وانسان. كلها تسبح بعظمة خالقها ومتقنها وان الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله مما يرى ومما لا يرى كله في غاية الاتقان والحكمة البالغة والمنافع الرائعة التي تترتب على وجوده.

ان الوجدان ليرتعش وهو يستشعر الحياة تدب في كل ما حوله وكلها تسبيح وتمجيد لخالقها الحكيم. (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ).

(وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨))

البيان : (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً). لقد كان فطرتهم الانسانية تدفعهم لاستماع القرآن. لأن القرآن المجيد غذاء روحي للفطرة والانسانية وكانت الكبرياء تمنعهم عن التسليم والاذعان لما يدعوهم اليه هذا القرآن المجيد وهذا النبي الكريم. وهذا الخالق العظيم (وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً).

٣٠٨

(وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) : وهذه الكلمة ذاتها تحمل في ثناياها دليلا واضحا يدل على شدة تأثرهم بالقرآن. فهم يستكثرون في دخيلتهم ان يكون هذا قول بشر (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا) ضربوا لك الامثال بالمسحورين ولست بمسحور انما أنت رسول فضلوا ولم يهتدوا. وحاروا فلم يجدوا طريقا يسلكونه الى الهدى.

(وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢))

البيان : وقد كانت قضية البعث مثار جدل طويل بين الرسول ص وآله. والمشركين. وقد اشتمل القرآن المجيد على كثير من هذا الجدل. مع بساطة هذه القضية ووضوحها عند من يتصور طبيعة الحياة والموت. وطبيعة البعث والحشر وكان الرد على ذلك حاسما. (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ. فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا. قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ) (يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) وهو مشهد يصور اولئك المكذبين بالبعث المنكرين له. وقد قاموا يلبون دعوة الداعي. والسنتهم تلهج بحمد الله.

(وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧))

٣٠٩

البيان : العلم المطلق لله. وهو يرتب على كامل علمه بالناس رحمتهم او عذابهم. وعند البلاغ تنتهي وظيفة الرسول. وعلم الله الكامل يشمل من في السموات والارض من ملائكة ورسل وانس وجن وكائنات. لا يعلم الا الله ما هي. وما قدرها. وما درجتها.

وبهذا العلم المطلق بحقائق الخلائق فضل الله بعض النبيين على بعض : وهو تفضيل يعلم الله اسبابه. اما مظاهر هذا التفضيل فقد سبق الحديث عنها فيما مضى عند تفسير قوله تعالى (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ (وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) وهو نموذج من عطاء الله لأحد أنبيائه (ع) (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً).

وهنا يقرر لهم ان الذين زعمتم من دونه. لا حول لهم ولا طول لانفسهم فضلا عن قدرتهم لنفع غيرهم. وقد كان بعضهم يدعو عزيرا ابن الله ويعبده. وبعضهم يدعو عيسى ابن الله ويعبده. وبعضهم يدعو الملائكة بنات الله ويعبدهم. فالله يقول لهم جميعا ان هؤلاء الذين تدعونهم كلهم يعبدون الله تعالى ويبتغون عنده واليه الوسيلة حتى يعطيهم ويحميهم ويرجون رحمته. ويخشون عذابه : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ).

(وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠))

البيان : فقد قدر الله عزوجل ان يجيىء يوم القيامة. ووجه هذه الارض خال من الاحياء : فالهلاك ينتظر كل حي قبل ذلك اليوم

٣١٠

الموعود. كذلك قدر العذاب لبعض هذه القرى بما ترتكب من ذنوب. هذا ما ركز في علم الله العزيز الحكيم. والله يعلم ما سيكون وما هو كائن (وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً).

ان معجزة الاسلام هي القرآن. وهو كتاب يرسم منهجا كاملا للحياة. ويخاطب العقل والفكر والقلب. ويلبي الفطرة القويمة. ويبقى بابه مفتوحا للعصور والاجيال المتتابعة. تقرؤه وتنهل من نبعه الفياض. ويلزمها بموجب عقلها وفطرتها ان تصدقه وتؤمن به بانه كتاب آلهي.

على ان كثرة من كانوا يشاهدون الآيات لم يؤمنوا بها عن تعصب وعناد باعترافهم انفسهم وقد اخبرهم عما اصاب الامم السالفة حينما عاندوا الحق وتعصبوا للباطل ومنها ما اصاب قوم ثمود مع نبيهم صالح (ع) (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ) ٤١ س ي ١٧

وقد اقتضت الحكمة الآلهية ان يمهل قريش لما كذبوا رسولهم ولم بأخذهم بالابادة كقوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب .. وكان من المكذبين من آمن بعد ذلك. ومنهم من انجب الصادقين.

وظل القرآن المجيد .. معجزة الاسلام. وظل كتابا مفتوحا يتحد الاجيال عن أن يأتوا بسورة من مثله ان شكوا انه من عند غير الخالق العظيم. وسيبقى كذلك حجة الى الابد على الانس والجن.

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥))

٣١١

البيان : ان السياق يكشف عن الاسباب الاصيلة لضلال الضالين فيعرض هذا المشهد هنا ليحذر الناس وهم يطلعون على اسباب الغواية ويرون ابليس عدوّهم وعدو ابيهم يتهددهم بها. عن اصرار سابق قديم انه الحسد لأدم وانه التكبر. وانه الجهل وعدم التمييز بين الحقائق والاضاليل. ويغفل ابليس عن استعداد الانسان للخير والهداية. كاستعداده للشر والغواية. وانه اذا اعتصم بخالقه اندحر عنه الشيطان الرجيم. وهيىء له الله بعنايته ما يصرف عنه كيد الشيطان ويرتفع في مراتب التكامل الانساني حتى انه قد يعلو الى ما فوق الملائكة المقربين.

ومشاركة ابليس للانسان في الاموال والاولاد وذلك مختص في المال الحرام والنكاح المحرم فكل من أخذ مالا حراما فقد اشرك ابليس في ماله فلا يدعه ان ينفقه الا في الحرام. وكل من اختلى بأمرأة اجنبية كان الشيطان ثلاثهم فلا يدعهما يفترقان بدون ان يرتكبا الحرام وهو معهما شريك وقد حذر الاسلام ونبيه عن ذلك في كثير من الروايات والآيات. حتى قال عزوجل. (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ) ٣٣ س ٥٣ ي وقال عزوجل (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ. وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ) وامر النساء ان لا يخرجن من بيوتهن ولا يتبرجن تبرج الجاهلية فقال عزوجل : (قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى. وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) ٣٣ س ٣٢ ي. وابليس لا بد ان يستعمل جميع وسائل الاغراء والخدع. ومنها الوعود المغرية الخادعة. لذا قال (وعدهم (وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً). كالوعد بالافلات من العقوبة والقصاص. والوعد بالغنى من جهة المال الحرام. واغراء لهم بالعفو

٣١٢

والمغفرة من الله عزوجل وتسويف التوبة (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً).

فمتى اتصل القلب بالله. واتجه اليه بالعبادة. ومتى ارتبط بالعروة الوثقى ـ التي هي ولاية اهل البيت (ع) ومتى استيقظت في روحه النفحة العلوية. فاشرقت وانارت. حينئذ فلا سلطان للشيطان عليه. ولا على ذلك القلب الموصول بالله عزوجل. وهذه هي الروح المشرقة بنور الايمان (وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً) حينئذ يعتصم صاحب تلك النفس المطمئنة من وساوس الشيطان وخدعه وغروره لظهور جميع ذلك له.

(رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧)

أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩))

البيان : السياق يعرض هذا المشهد. مشهد الفلك في البحر. نموذجا للحظات الشدة والحرج. لان الشعور بيد الله في الخضم اقوى واشد حساسية. ونقطة من الخشب او المعدن تائهة في ذلك الخضم تتقاذفها الامواج والتيارات. والناس متشبثون بهذه النقطة على كف الرحمان.

انه لمشهد يحسّ به من كابده. ويحس به القلب الخافق المتعلق بكل هزّة وكل رجفة في ذلك الفلك. صغيرا كان او كبيرا. حتى عابرات المحيط الجبارة. ما هي في ذلك البحر الخضم الا ريشة في مهب الرياح العاصفة. ليس لها ملجأ ولا منجا الا بأرادة محرك تلك الامواج ومدير تلك البحار والرياح.

٣١٣

والتعبير يلمس القلب لمسة قوية. وهو يشعر الناس ان يد الله هي التي تزجى لهم الفلك في هذه البحار. وتدفعه. (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ (إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً).

ولكن الانسان كفور. فما ان تنجلي الغمرة وتمسّ قدماه الارض حتى ينسى كل ما كان فيه وينسى الذي كان يتضرع اليه حتى نجاه من الغرق بين ان كادت تبتلعه الامواج ويصبح طعاما لهوام البحر. (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً) الا من اتصل قلبه بالله فاشرق. (أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ) : ان البشر في قبضة الله عزوجل في كل لحظة ومكان. انهم في قبضته عزوجل في البر كما هم في قبضته في البحر .. الا انها الغفله التي تعرض للانسان تنسيه خالقه العظيم. ويزين له الشيطان ذلك كأنها آخر شدة تعرض عليه. وكأن الله لم يبق له عليه قدرة.

(وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢))

البيان : لقد كرم الله تعالى بني آدم بالعقل والادراك ومنحهم قابلية الترقي والاعتلاء. وخلق لأجل من اطاع الله تعالى منهم الكون وما حواه وسخر لهم كل مخلوق خلقه. ولاجل من اطاع الخالق العظيم منهم خلق الجنة وما فيها ومن نعم لا تحصى. ولاجل عقوبة من عصاه خلق النار وما فيها من العذاب والنكال. (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) اي بمن كانوا يأتمون به في هذه الحياة ويقتدون بافعاله. فان كان من اولياء الله فله الجنة وان كان من اولياء الشيطان فله النار وبئس المصير.

٣١٤

عن الامام الباقر (ع) لما نزلت هذه الآية. قال المسلمون يا رسول الله ألست امام الناس كلهم أجمعين فقال ص وآله : انا رسول الله الى الناس اجمعين. ولكن سيكون من بعدي أئمة على الناس من الله من اهل بيتي يقومون في الناس فيكذبون ويظلمهم أئمة الكفر والضلال واشياعهم. فمن والاهم واتبعهم وصدقهم فهو مني ومعي. وسيلقاني. ألا ومن ظلمهم وكذبهم فليس مني ولا معي وانا منه بريء)

وعنه ص وآله : كم من امام يجيء يوم القيامة. يلعن اصحابه ويلعنونه : الا تحمدون الله الذي منّ عليكم بولاية اهل بيت نبيكم. فاذا كان يوم القيامة فدعى كل قدم الى من يتولونه وفزعتم الى اهل بيت نبيكم. وفزع اهل بيت نبيكم اليه ص وآله. فالى اين ترون يذهب بكم الى الجنة ورب الكعبة قالها ثلاثا. الحديث (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً).

ـ عن الامام الباقر (ع) قال : من لم يدله خلق السموات والارض واختلاف الليل والنهار. والآيات العجيبة على عظمة الخالق الحكيم فهو في الاخرة اعمى واضل سبيلا).

ـ وعن الامام الرضا (ع) قال : اياك وقول الجهال اهل العمى والضلال الذين يزعمون ان الله جل وعلا موجود في الآخرة للحسنات والثواب والعقاب وليس بموجود في الدنيا للعطاء والرجاء. ولو كان في وجود الله عزوجل نقص واهتضام لما كان آله ابدا. ولكن القوم تاهوا وعموا وصموا عن الحق من حيث لا يعلمون. وذلك قوله عزوجل (مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى).

وعن امير المتقين (ع) : قال اشد الناس عمى من عمى عن فضلنا وناصبنا العداوة. بلا ذنب سبق اليه منا الا ان دعوناه الى الحق ودعاه سوانا الى الفتنة في الدنيا اتاهما وتركنا ـ يعني الاول والثاني ـ

٣١٥

وتصب البراءة منا والعداوة لنا (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)

(وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥)

وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧))

البيان : ما ذكر في هذه الآيات مما ظاهره انه خطاب للنبي ص وآله : انما يراد به سواه من امته من باب : اياك اعني واسمعي يا جارة ـ.

لأن المسألة مسألة ايمان بالدعوة كلها. فالذي يتنازل عن جزء منها مهما صغر والذي يسكت عن طرف منها مهما كان ضئيلا. لا يمكن ان يكون مؤمنا بدعوته حق الايمان. فكل جانب من جوانب الدعوة في نظر المؤمن هو حق كالآخر. وليس فيها فاضل ومفضول. وليس فيها ضروري ونافلة وليس فيها ما يمكن الاستغناء عنه. وهي كل متكامل يفقد خصائصه كلها حين يفقد احد اجزائه كالمركّب يفقد عنوانه بفقد احد اجزاءه. لذلك امتن الله على رسوله ص وآله. ان ثبته على ما اوحى الله عزوجل اليه. وعند ما عجز المشركون عن استدراج الرسول ص وآله. الى هذه الفتنة حاولوا استفزازه من الارض ـ اي مكة ـ ولكن الله اوحى اليه ان يخرج هو مهاجر لما سبق في علمه من عدم اهلاك قريش بالابادة. ولو أخرجوا الرسول ص وآله : (وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً).

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١))

٣١٦

البيان : دلوك الشمس هو ميلها الى جهة المغيب. والامر هنا للرسول ص وآله ولعامة المسلمين.

ـ عن الامام الباقر (ع) انه سئل عما فرض الله من الصلوات. فقال (ع) : خمس صلوات في الليل والنهار. فقيل هل سماهنّ في كتابه وبينهن فقال (ع) نعم : قال الله تعالى لنبيه (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ) ـ ودلوكها زوالها وفيما بين دلوك الشمس الى غسق الليل أربع صلوات. سماهن الله وبينهن وو قتهن. وغسق الليل انتصافه. ثم قال تعالى (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) فهذه الخامسة وهي صلاة الصبح. ومعنى مشهودا تشهده كتبه الليل وكتبه النهار فاذا صلى العبد الصبح مع طلوع الفجر فان الله يأمر ملائكة الليل ان يثبتوها. وملائكة النهار فتثبت مرتين. وأما التهجد فهي النوافل فكانت واجبة على النبي ص وآله خاصة. وهي مستحبة لأمته. وهي متممات للفرائض. فما انشغل فكر المصلي في الفرائض يجبر بما اقبل عليه في النوافل حتى تكمل صلاته. لانه ليس للمصلي من ثواب الصلاة الا ما أقبل عليه كما في الحديث.

(وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً). هذا هو السلطان المستمد من الله تعالى. فاعلان مجيء الحق بقوته وصدقه وثباته. وزهوق الباطل واندحاره وذهابه وزواله. (إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً) لانه لا يحمل عناصر البقاء في ذاته. انما يستمد حياته الموقوتة من عوامل خارجية. واسناد غير طبيعية. فاذا تخلخلت تلك العوامل وهن هذا الاسناد تهاوى الباطل وانهار.

فاما الحق فانه يستمد بقائه من ذاته الحقة ومن عناصره الصحيحة الثابتة. وقد تقف ضده الاهواء. والظروف والمصالح التي تهواها الشهوات الحيوانية. ولكن لأمد محدود ثم تنهار. وما من مؤمن ذاق

٣١٧

طعم الايمان. الا وذاق معه حلاوة الوعد وصدق العهد الذي وعده الله تعالى (ومن أوفى بعهده من الله عزوجل ومن اصدق من الله حديثا)

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤))

البيان : في القرآن شفاء من كل داء. وفي القرآن رحمة من كل نقمة. وفي القرآن غنى من كل فقر. كلّ ذلك لمن خالط قلوبهم بشاشة الايمان. فاشرقت نفوسهم وانشرحت صدورهم واستنارت قلوبهم حتى اصبحوا على مثل نور النهار من اليقين بعناية خالقهم لهم وكفالته وصيانته لهم أينما كانوا فاطمأنت نفوسهم وسعدوا باحراز رضا خالقهم (أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

في القرآن شفاء من وسوسة الشيطان اللعين. وفي القرآن شفاء من الدنس والطمع والحسد وفي القرآن شفاء من الاتجاهات المختلفة. فهو يعصم العقل من الشطط والقلق (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) لأنهم لم يؤمنوا به عن يقين ولانهم تظاهروا بالايمان عن مكر ونفاق. فهم في الدنيا أشقياء وفي الآخرة مخلدون في النار. (وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) لأن العين الرمداء يؤلمها الضياء. (وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ) (فالنعمة تزيد الاشرار طغيانا وفسادا. ومن هنا تتجلى نعمة الايمان بقدر نعم الله عليها (قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً).

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ

٣١٨

ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩))

ليس هنالك تحجير على العقل الانساني. ولكن له حدود لا يمكنه ان يتعداها فله ان يعمل ضمن حدوده التي يستطاع له ان يدركها اما ما ليس من مداركه فليس له ذلك لانه لا يملك وسائله.

والروح أمر غيبي خارج عن استطاعة العقل ادراكه فيختص بخالق الروح. الذي يعلم ما خلق ويدرك ما صنع وابدع. وبيده تدبيره وادارته. لقد ابدع الانسان في الارض ما ابدع. ولكنه لم يزل طفل رضيع فيما وراء قدرته فلم يزل واقفا بدون ان يدرك شيئا عن الروح وسرها الغامض لا يدركها الا الخالق الخبير (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ ..)

فاذا كان هذا القرآن المجيد مركب من حروف بين يدي البشر ولكن ركبه خالق البشر بشكل يكون معجزة للبشر فلم يزل المخلوق عاجزا على ان يأتي بمثله مهما تقدم وتفنن واجتهد فما خلقه الله وركبه معجزة للبشر يستحيل على البشر ان يأتوا بمثله مهما تقدموا في غيره.

والقرآن بعد ذلك منهج كامل. ومنهج ملحوظ فيه نواميس الفطرة التي تصرّف النفس البشرية في كل اطوارها واحوالها. ومن ثم فهو يعالج النفس المفردة ويعالج الجماعات بكاملها. ان اعجاز القرآن ابعد مدى من اعجاز نظمه ومعانيه. وعجز الانس والجن عن الاتيان بمثله هو عجز كذلك عن ابداع منهج كمنهجه يحيط بكل حركة وسكنة في الكون وما حواه (ولقد صرفنا في هذا القرآن من كل مثل. فأبى اكثر الناس الا كفورا)

(وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ

٣١٩

زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦))

البيان : هكذا قصر ادراكهم عن التطلع الى آفاق الاعجاز القرآنية. فراحوا يطلبون تلك الخوارق المادية. ويتعنتون في اقتراحاتهم الدالة على الطفولة العقلية. فلم تنفعهم امثال القرآن لعرض حقائقه في أساليب شتى تناسب شتى العقول والمشاعر. وشتى الاجيال والاطوار. (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً) وعلقوا ايمانهم بالرسول ص وآله بان يفجر لهم من الارض ينبوعا او يسقط عليهم قطعا من السماء او يأتيهم بالملائكة ولم يرضوا بان يعرج امامهم الى السماء. وقد غفلوا او تغافلوا مكرا وخداعا عن خوارق القرآن المجيد. التي تحدّ بها الانس والجن. (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً. وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا. إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (قُلْ كَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ) وهو قول يحمل رائحة التهديد اما عاقبته فيرسمها في مشهد من مشاهد القيامة مخيف فيقول عزوجل :

(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠))

البيان : لقد جعل الله للهدى والضلال سننا. وترك الناس لهذه السنن يسيرون وقد أمرهم بسلوك سنن الهدى وحثّهم على ذلك ووعد

٣٢٠