تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

حقيقة واحدة من نوع هذه الحقيقة يكفي وحده لاثبات الوحي من الله بهذا القرآن. فالبشرية كلها كانت تجهل يومذاك هذه الحقيقة. ولم تكن لتلتفت اليها اصلا أو تفكر في حقيقتها.

والقرآن المجيد ـ يعبر عن هذه الحقائق العلمية البحتة ـ يحمل ادلة الوحي من الله في خصائصه لمن يدرك شيئا من هذه الخصائص ويقدر شأنها وعجيب صنعها. واقل ورود حقيقة واحدة من هذا النحو كافية لافحام المجادلين والمتعنتين. اذا قصدوا العدل والانصاف. وكل صنع الله عجيب والا كيف هذا الماء الذي ينزل من السماء فيخرج النبات والاشجار ويخرج منها الثمار. ويحول هذا الماء في الثمرات الى الوان واطعمة لا تعد ولا تحصى منها الحلو والحامض والمر .. ومنها الابيض والاسود. والاخضر والاحمر والأصفر وغير ذلك مما لا يحصيه العادون ولو قضوا الآف السنين والقرون.

(ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ. الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ) ٣٢ / ٧ ي.

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) : اللمسة اولى في الحياة والوفاة. هي متصلة بكل فرد وبكل نفس والحياة محبوبة. والتفكر في امرها قد يرد القلب الصلد الى شيء من اللين. والى شيء من الحساسية. فيوضح لها ان بيد الله عزوجل حياة الانسان وسعادته. والخوف على النفس قد يستجيش وجدان التقوى والحذر والالتجاء الى واهب الحياة وصورة الشيخوخة حين يرد الى أرذل العمر فينسى ما كان قد تعلم ويرتد الى مثل الطفولة من العجز والنسيان والسذاجة.

هذه الصورة قد ترد النفس الى شيء من التأمل في أطوار الحياة وقد تغض من كبرياء المرء واغتراره.

(وَاللهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا

٢٨١

بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٧١) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (٧٢) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (٧٣) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٧٤))

البيان : التفاوت في الرزق ملحوظ. والنص يرد هذا التفاوت الى تفضيل الله. ولكن هذا التفاضل لا بد أن يرجع لاسبابه او لحكمة الهية اقتضت ذلك. فليس شيء يصدر من الله جزافا وبدون سبب أو حكمة : (أَفَبِنِعْمَةِ اللهِ يَجْحَدُونَ).

واما الانفس والازواج والابناء والاحفاد. بتقرير الصلة الحية بين الجنسين. كما قال تعالى (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً) : فهن من انفسكم شطر منكم. لا جنس اخر احط. والاحفاد هبة من الله كالابناء ليعقب عليها بسؤال استنكاري (أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللهِ هُمْ يَكْفُرُونَ).

(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٧٥) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٧٧))

البيان : المثل الاول مأخوذ من واقعهم. فقد كان لهم عبيد مملوكون لا يملكون شيئا. ولا يقدرون على شيء. وهم لا يسوون بين العبد العاجز والسيد المالك. ولكن الله اوجب المساواة. فقد قال رسول الله ص وآله من كان عنده مملوك يجب ان يطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ويناديه يا مولاي). وكفى الأسلام بذلك فخرا واعتزازا وقال ص وآله : (ان الله خلق الجنة لمن اطاعه ولو كان عبدا

٢٨٢

حبشيا. وخلق النار لمن عصاه ولو كان سيدا قرشيا). وقال ص وآله : (لا فضل لعربي على عجمي. ولا لأبيض على أسود الا بالتقوى) وهذا من خصائص الاسلام ومنتهى العدل

(وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٧٩) وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٨٠))

(وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (٨١) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٨٢) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (٨٣) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٨٤) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٥))

البيان : أطوار الجنين كانت فيما مضى حتى نزول القرآن من قضايا الغيب التي لا يعلم عنها الناس شيئا. بل لم يكن احد يلتفت الى البحث عنها. وفي هذا العصر قد يراها الناس ولكنهم لا يعلمون كيف تنم. لأن سرها هو سر الحياة المكنون والعلم الذي يدعيه الانسان يتطاول به ويريد ان يختبر به أمر الساعة وأمر الغيب. علم حادث مكسوب مهما تقدم يرجع الى الله تعالى (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً) ومولد كل عالم وكل باحث. ومخرجه من بطن امه لا يعلم شيئا. وما كسبه بعد ذلك من فضل ما وهبه له الخالق العظيم الذي اتقن كل من خلق وما خلقه. وجعل فيه كفاية الحياة على هذا الكوكب (وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ).

والقرآن المجيد يعبر بالقلب ويعبر بالفؤاد. عن مجموع مدارك

٢٨٣

الانسان الواعية وهي تشمل ما اصطلح على انه العقل. وتشمل كذلك قوى الالهام الكامنة فيه مهما كانت. (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) حين تدركون قيمة النعمة في هذه وفي سواها من آلاء الله عليكم. واول الشكر للخالق العظيم : الايمان والاعتراف له بالوحدانية. والاذعان له بالطاعة والعبودية. وعجيبة اخرى من آثار القدرة الآلهية يرونها فلا يتدبرونها وهي مشهد عجيب معروض للعيون (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

ومشهد الطير مسخرات في جو السماء. مشهد مكرور. قد ذهبت الالفة بما فيه من عجب. وما يتلفت القلب البشري اليه حين يستيقظ. ويلحظ الكون بعين الشاعر الموهوب .. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فالقلب المؤمن هو القلب الشاعر. ببدائع الخلق والتكوين المدرك لما فيها من روعة باهرة. وحكمة بالغة. تهزّ المشاعر وتستجيش الضمائر. وتنعشها (وَاللهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً ..) والسكن والطمأنينة في البيوت نعمة لا يقدرها حق قدرها الا المشرّدون الذين لا بيوت لهم ولا سكن لديهم يطمئنون فيه ـ هذا في هذه الحياة الوقتية فالويل لمن يغفل عن احراز بيت في دار الخلود والدوام التي اكثر الناس عنها غافلون ولذا يقول الشاعر :

(لا دار للمرء بعد الموت يسكنها

الا التي كان قبل الموت بانيها)

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) : والمشهد هنا يبدأ بموقف الشهداء من الانبياء والاوصياء. الذين هم يعلمون بما وقع في هذه الحياة مع اقوامهم. من تبليغ وتصديق وتكذيب. والذين كذبوا واوقفوا مواهبهم لا يؤذن لهم في حجة ولا استشفاع ولا يطلب منهم ان يسترضوا ربهم بعمل او قول فقد فات الاوان .. (وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ)

٢٨٤

(عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ). ثم يقطع هذا الصمت حين يرى الذين اشركوا شركاءهم. في ساحة الحشر ممن كانوا يزعمون انهم شركاء لله في الأخذ والعطاء.

(وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (٨٦) وَأَلْقَوْا إِلَى اللهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٨٧) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (٨٨))

(وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٨٩)

إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٩٠))

البيان : المشهد يبدأ بموقف الشهداء المعروض على المشركين. والموقف العصيب الذي يكذب الشركاء .. فيه شركاءهم. ثم تجيء هذه اللمسة في وقتها وقوتها. (وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) ثم يذكر ان في الكتاب الذي نزل على الرسول (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) فلا حجة بعده لمحتج. ولا عذر معه لمعتذر (وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) .. فمن شاء الهدى والرحمة فليسلم قبل ان يأتي اليوم المرهوب (فلا يؤذن للذين كفروا ولا هم يستعتبون).

(إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ ..) لقد اتى هذا الكتاب بالمبادىء التي تكفل تماسك الجماعة والجماعات واطمئنان الافراد والامم والشعوب والثقة بالمعاملات والوعود والعهود (جاء بالعدل) الذي يكفل لكل فرد ولكل جماعة. ولكل قوم. قاعدة ثابتة للتعامل. لا تميل مع الهوى. ولا تتناثر بالود والبغض. ولا تتبدل بمجاراة للنسب والصهر. والغنى والفقر والفوة والضعف. انما تمضي في طريقها تكيل بمكيال واحد للجميع وتزن بميزان واحد للجميع.

٢٨٥

والى جوار العدل (الْإِحْسانِ) يلطف من حدة العدل الصارم الجازم ويدع الباب مفتوحا لمن يريد الزيادة فوق العدل الواجب عليه ليداوي جرحا او يكسب فضلا زائدا والاحسان اوسع مدلولا. فكل عمل طيب احسان. والامر بالاحسان يشمل الحياة كلها في علاقاته مع خالقه. وعلاقاته بالجماعة والبشر باجمعها. ومن ذلك وجوب الامر بالمعروف. والنهي عن المنكر. والمنكر كل فعل تنكره الشريعة المقدسة او الفطرة السليمة.

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٩١) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ

وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٩٢) وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٣) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٩٤))

البيان : الوفاء بعهد الله يشمل بيعة المسلمين للرسول ص وآله ويشمل بيعة المسلمين لعلي بن أبي طالب (ع) في غدير خم. بأمر من الله ورسوله كما نص على ذلك في القرآن المجيد في قوله :

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ. وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) ٥ س / ٦٧ ي.

والوفاء بالعهود هو ضمان لبقاء عنصر الثقة في التعامل بين الناس وبدون هذه الثقة لا يقوم مجتمع. ولا تقوهم انسانية. والنص يحذر المتعاهدين ان ينقضوا الايمان بعد توكيدها وقد جعلوا الله عليهم كفيلا واشهدوه على عهدهم. ولكن أهل السقيفة خانوا عهد الله ورسوله ولم يحفظوه. ونحّوا وصي رسول وخليفته عن منصبه الذي اختاره الله ورسوله له (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)

٢٨٦

وقد تشدد الاسلام في مسألة الوفاء بالعهود. فلم يتسامح فيها ابدا. لانها قاعدة الثقة التي ينفرط بدونها عقد النظام الاجتماعي.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ..) فمثل من ينقض العهد مثل امرأة حمقاء ضعيفة الفهم. تبرم غزها ثم تنقضه. وكان بعضهم يبرر لنفسه نقض عهده مع الرسول ص وآله ـ بان محمدا ومن معه قلة ضعيفة بينما قريش كثرة قوية. فنبههم الله الى ان هذا ليس مبررا لأن يتخذوا الخدع وسيلة لنقض عهدهم (وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ) فالاسلام لا يقر مثل هذا المبرر. ويجزم بالوفاء.

(وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٩٥) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٦) مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٩٧) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (١٠٠))

البيان : ان الجنسين : الذكر والانثى متساويان في قاعدة العمل والجزاء وفي صلتهما بالله. وفي جزائهما عند الله. وان العمل الصالح لا بد له من القاعدة الاصيلة ترتكز عليها. قاعدة الايمان بالله (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) فبغير هذه القاعدة لا يقوم بناء. وبغير هذه الرابطة لا يتجمع شتاته. انما هو هباء منثور. كرماد اشتد به الريح في يوم عاصف. فالعقيدة هي التي تجعل العمل الصالح باعثا وغاية.

وان العمل الصالح مع الايمان جزاؤه حياة طيبة في الدنيا والآخرة وفي الصحة والأمن والبركة. وان الحياة الطيبة في الدنيا لا تنقص من الاجر الحسن في الآخرة. ويتضمن هذا تجاوز الله عن السيئات. (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فالذين يتوجهون الى الله وحده ويخلصون قلوبهم لله لا يمكن للشيطان ان يغريهم ويخرجهم

٢٨٧

من اليقين الى الشك ومن الطاعة الى العصيان.

(وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣))

البيان : الفرية بزعمهم ان الذي يعلّم الرسول ص وآله هذا القرآن انما هو بشر سموه باسمه (يقال له جبر) وهو غلام نصراني وهو رجل اعجمي كان بين أظهرهم لبعض بطون قريش. وبياعا يبيع بين الصفا والمروة. وربما كان رسول الله ص وآله يجلس اليه يكلمه لجلبه للاسلام وهو لا يعرف العربية الا النزر القليل. ومقالتهم هذه كانت عن كيد ومكر لا عن قصد وجد لأنهم يعرفونه وانه لا يفهم من العلم شيئا. ولكن المكر يغري صاحبه لكل شيء.

(إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٠٤) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٠٥))

البيان : فهؤلاء الذين لم يؤمنوا بآيات الله لم يهديهم الله الى الحقيقة في أمر هذا الكتاب ولا يهديهم الى الحقيقة في شيء لكفرهم واعراضهم عن آيات الله مع وضوحها وبيان صحتها. فالكذب جريمة فاحشة لا يقدم عليها مؤمن لأن ايمانه ورقابة الله له يمنعانه عن ذلك.

(مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٦) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (١٠٧) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٠))

البيان : لقد لقى المسلمون الاوائل في مكة من الاذى ما لا يطيقه الا من نوى الاستشهاد. وآثر الموت على الحياة. وان الله عنده فوق

٢٨٨

كل شيء. ورضي بعذاب الدنيا مهما عان على العود الى الكفر والضلال والنص هنا يغلظ جريمة من كفر بالله من بعد ايمانه. لانه عرف الايمان وذاقه. ثم ارتد عنه ايثارا للحياة الدنيا على دينه. فرماهم بغضب من الله. وبالعذاب العظيم. والحرمان من الهداية.

روى ان المشركين اخذوا عمار بن ياسر فعذبوه حتى اعطاهم ما ارادوا. فلما تركوه ذهب الى النبي ص وآله وشكى له حاله وكيف فعلوا به حتى اعطاهم من القول ما ارادوا فتركوه. فقال ص وآله له : (كيف تجد قلبك) قال : مطمئنا بالايمان. فقال ص وآله له (ان عادوا فعد) فكانت رخصة لدفع الهلاك عن النفس. فنزل قوله (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

وقد كانوا من ضعاف العرب الذين فتنوا عن دينهم بالعذاب الشديد. ولكنهم هاجروا بعد ذلك عند ما امكنهم ذلك. وحسنوا اسلامهم فعفا الله عنهم (إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) فالله يبشرهم بانه سيغفر لهم ويرحمهم. ذلك يوم تشغل كل نفس بأمرها. لا تتلفت الى سواها (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) وهو تعبير يلقي الهول في قلوب المؤمنين. والذي يشغل كل عاقل متيقن بصحة هذا القول (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١١))

(وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١١٢) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١١٣) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (١١٤) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٥))

٢٨٩

البيان : وهذا الوصف يصدق على اهل مكة في ذلك الوقت ـ ويصدق على لبنان في القرن العشرين ـ فقد جعل الله تعالى البيت الحرام في مكة المكرمة. وجعلها بلدا حراما من دخله فهو آمن مطمئن لا تمتد اليه يد ولو كان قاتلا. ولا يجرؤ على ايذائه. وهو في جوار بيت الله الحرام. وكان الناس يتخطفون من حول البيت. وأهل مكة في حراسته وحمايته آمنون مطمئنون. كذلك رزقهم كان يأتيهم هينا هنيئا من كل مكان مع الحجيج والقوافل الآمنة. مع انهم في واد قفر جدب غير ذي زرع. فكانت تجيء اليهم الثمرات من كل مكان. كما قال ابراهيم (ع) (وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ). ثم ارسل اليهم الله عزوجل رسولا منهم يعرفونه صادقا أمينا. ولا يعرفون عنه ما يشين ابدا وقد بعثه الله تعالى اليهم رحمة لهم وللعالمين. دينه دين ابراهيم (ع) باني البيت الذي ينعمون في جواره بالأمن والطمأنينة والعيش الرغد. فاذا هم يكذبونه ويفترون عليه الافتراءات وينزلون به وبمن اتبعوه الاذى وهم ظالمون.

والمثل الذي يضربه الله لهم ينطبق على حالهم وعاقبة المثل امامهم (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ) ـ فلما كذبت رسول الله ص وآله (فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) واخذ قومها العذاب وهم ظالمون.

(وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (١١٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١١٧) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٨) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩))

البيان : لا تقولوا للكذب الذي تصفونه بألسنتكم : هذا حلال

٢٩٠

وهذا حرام. افتراء على الله عزوجل. وقد استحق اليهود تحريم هذه الطيبات عليهم بسبب تجاوزهم الحد. ومعصيتهم لله تعالى. فكانوا ظالمين لأنفسهم. فمن تاب ممن عمل السوء بجهالة ولم يصر على العصبان فان غفران الله تعالى يسعه ورحمته تشمله. والنص عام يشمل كل من تاب وعمل صالحا من جميع العباد.

(إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٠) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (١٢٢) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٢٣) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٢٤))

البيان : ان القرآن المجيد يرسم ابراهيم (ع) نموذجا للهداية والطاعة والشكر والانابة لله. ويقول عنه (انه كان أمة). واللفظ يحتمل انه يعدل امة كاملة بما فيها من خير وطاعة وبركة. وقد يكون انه لا يوجد في عصره من يعبد الله باخلاص ومعرفة سواه. فهو بمثابة الامة الكاملة. (ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) فالصلة الحقيقية هي صلة الدين الجديد. اما تحريم السبت فهو من اختراع اليهود وليس من دين الله في شيء (وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ)

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرِينَ (١٢٦) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (١٢٧) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (١٢٨))

البيان : على هذا الاسس يرسم القرآن المجيد خطه المستقيم. ويرسي قواعده للدعوة الحقة. ويخطط مبادئها. ويعين وسائلها وطرقها ان الدعوة دعوة الى سبيل الله لا الشخص الداعي ولا لقومه. فليس للداعي من دعوته الا ان يؤدي واجبه لله تعالى لا فضل له يتحدث به.

٢٩١

لا على الدعوة ولا على من يدعوه اليها. انما اجره على رب العالمين الذي منّ عليه واعطاه ورفعه واعلاه.

والدعوة بالحكمة. والنظر في احوال المخاطبين وظروفهم. والقدر الذي يبينه في كل مرة حتى لا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف قبل استعداد النفوس لها.

والموعظة الحسنة التي تدخل الى القلوب برفق. فان الرفق في الموعظة كثيرا ما يهدي القلوب الشاردة. ويؤلف القلوب النافرة. وهي وصية كل داعي الى الحق. والهدى بيد الله تعالى فالله حافظ عباده المخلصين من مكر الماكرين. ولا يدعهم للماكرين. هذا هو دستور الله الحق المبين.

ـ ١٧ ـ سورة بني اسرائيل ـ عدد آياتها مائة واحدى عشرة آية (١١١)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣))

البيان : تبدأ السورة بتسبيح الله. وهي أليق حركة نفسية تتسق مع جو الاسراء اللطيف. وهي أليق صلة بين العبد ومولاه في ذلك الافق الوضيء.

ثم تذكر صفة العبودية (أَسْرى بِعَبْدِهِ) لتقريرها وتوكيدها في مقام الاسراء والعروج الى الدرجات التي لم يبلغها بشر ـ لا قبل ولا بعد ـ

٢٩٢

وذلك لكي لا تنسى هذه الصفة ، ولا يلتبس مقام العبودية بمقام الالوهية ، كما التبسا في العقائد المسيحية بعد عيسى (ع) بسبب ما لابس مولده ووفاته. وبسبب الآيات التي أعطيت له فاتخذها بعضهم سببا للخلط بين مقام العبودية. ومقام الالوهية ، وبذلك تبقى للعقيدة الاسلامية ببساطتها ونصاعتها. وتنزيهها للذات الآلهية عن كل شبهة من شرك او مشابهة من قريب أو من بعيد.

والاسراء من السرى : السير ليلا. فكلمة (أَسْرى) تحمل معها زمانها. ولا تحتاج الى ذكره. ولكن السياق ينص على الليل (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) وهي تتملى حركة الاسراء.

والرحلة من المسجد الحرام الى المسجد الاقصى رحلة مختارة من اللطيف الخبير. تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن ابراهيم واسماعيل (ع) الى محمد ص وآله خاتم المرسلين. وتربط بين الاماكن المقدسة وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من الزمان والمكان تتكشف عنها للنظرة الاولى. ووصف المسجد الاقصى بانه (الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ) أي باركناه.

والاسراء آية صاحبتها آيات : (لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا) والنقلة العجيبة بين المسجد الحرام والمسجد الاقصى في البرهة الوجيزة التي لم يبرد فيها فراش الرسول ص وآله. ايا كانت صورتها وكيفيتها فهي آية من آيات الله عزوجل. تفتح القلوب على آفاق عجيبة في هذا الوجود. وتكشف عن الطاقات المخبئوة في كيان هذا المخلوق النوراني الروحاني البشري والاستعدادات اللدنية التي يتهيأ بها لأستقبال فيض القدرة في اشخاص المختارين. من هذا الجنس الذي كرمه الله وحمله في البر والبحر. وفضله على كثير من خلقه واودع فيه هذه الاسرار اللطيفة.

٢٩٣

(إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يسمع ويرى كل ما لطف ودق. وخفى على اسماع وابصار مخلوقاته من اللطائف والأسرار. والسياق يتنقل في آية الافتتاح من صيغة التسبيح لله الى غيرها وفقا لدقائق الدلالات التعبيرية بميزان دقيق حساس. فالتسبيح يرتفع موجها الى ذات الله سبحانه وتقرير القصد من الاسرار يجيء منه تعالى نصا. والوصف بالسمع والبصر يجيء في صورة الخبر الثابت لذات الآلهية. وتجتمع هذه الصيغ المختلفة في الآية الواحدة. لتؤدي دلالاتها بدقة كاملة.

هذا الاسراء آية من آيات الله تعالى. وهو نقلة عجيبة بالقياس الى مألوف البشر والمسجد الاقصى هو طرف الرحلة. وهو قلب الارض المقدسة التي اسكنها الله موسى وبني اسرائيل ثم اخرجهم منها. فسيرة موسى وبني اسرائيل تجيء هنا في مكانها المناسب (وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً) وهذه الحلقة من سيرة بني اسرائيل لا تذكر في القرآن الا في هذه السورة وهي تتضمن نهاية بني اسرائيل التي صاروا اليها. ودالت دولتهم بها. وذلك الانذار وهذا التذكير مصداق لوعد الله الذي يتضمنه سياق السورة.

ولقد خاطبهم بأسم آبائهم الذين حملهم مع نوح. وهو خلاصة البشر على عهد الرسول الاول في الارض. خاطبهم بهذا النسب ليذكرهم باستخلاص الله تعالى لآبائهم الاولين مع نوح (ع)

(وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦))

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما

٢٩٤

عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨))

البيان : وهذا القضاء أخبار من الله تعالى لهم بما سيكون منهم حسب ما وقع في علمه الالهي من مآلهم. لا انه قضاء قهري عليهم. وانما هو نتيجة أفعالهم واختيارهم. فالله سبحانه يستحيل ان يلزم عباده بالفساد او أن يرضى منهم أولهم الفساد. (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ).

ولقد قضى الله لبني اسرائيل في الكتاب الذي آتاه لموسى انهم سيفسدون في الارض مرتين وانهم سيعلون في الارض المقدسة ويسيطرون. وكلما ارتفعوا فاتخذوا الارتفاع وسيلة للافساد. سلط عليهم من عباده من يقهرهم ويستبيح حرماتهم ويدمرهم (وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً).

فهذه الاولى عند صلبهم المسيح (ع) أو عند اقامتهم له وارادتهم صلبه حيث نجاه الله من كيدهم فأرسل عليهم بختنصر فسحقهم سحقة لم تزل آثارها حتى العصور الكثيرة.

والمفسدة الثانية التي ارتكبها اليهود ما فعلوه في فلسطين وأهلها والمسجد الاقصى وسيرسل عليهم في هذه المرة عبادا له لا يقهرهم قاهر بعون الله وذلك عند ظهور الحجة المنتظر الامام الثاني عشر من أئمة أهل بيت محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(إِنْ أَحْسَنْتُمْ ، أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) : هذه هي القاعدة التي لا تتغير في الدنيا والاخرة. والتي تجعل عمل الانسان كله له. أو عليه بكل ثماره من خير وشر وحسن وقبح. وتجعل الجزاء ثمرة طبيعية للعمل. وتجعل الانسان مسؤولا عن نفسه ان شاء أحسن اليها وان

٢٩٥

شاء أساء. فلا يلومن الا نفسه حين يحق عليه الجزاء ويناله العقاب والنكال.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢))

البيان : هكذا على وجه الاطلاق فيمن يهديهم ، وفيما يهديهم ، فيشمل الهدى أقواما وأجيالا بلا حدود من زمان أو مكان. ويشمل ما يهديهم اليه لكل منهج قويم وكل طريق مستقيم. وكل خير يهتدي اليه البشر حتى يفنى البشر والزمان.

يهدي للتي هي أقوم في عالم الضمير والشعور. بالعقيدة الواضحة البسيطة التي لا تعقيد فيها ولا غموض. والتي تطلق الروح من أثقال الوهم والخرافة. وتطلق الطاقات البشرية الصالحة للعمل والبناء. وتربط بين نواميس الكون الطبيعية ، ونواميس الفطرة البشرية ، في تناسق واتساق.

ويهدي للتي هي أقوم في عالم العبادة بالموازنة ـ بين التكاليف والطاقة ، فلا تشق التكاليف على النفس حتى تمل وتيأس من الوفاء. ولا تسهل وتترخص حتى تشيع في النفس الرخاوة والاستهتار ولا تتجاوز القصد والاعتدال وحدود الاحتمال.

ويهدي للتي هي أقوم في التنسيق بين ظاهر الانسان وباطنه ، وبين مشاعره وسلوكه. وبين عقيدته وعمله. فاذا هي كلها مشدودة الى العروة الوثقى التي لا تنفصم. متطلعة الى أعلى مراتب الكمال الانساني. وهي مستقرة على الارض. واذا العمل عبادة متى توجه الانسان به الى ربه ولو كان هذا العمل متاعا واستمتاعا بالحياة.

٢٩٦

ويهدي للتي هي أقوم في علاقات الناس بعضهم ببعض. أفرادا وأزواجا. وحكومات وشعوبا. ودولا واجناسا. ويقيم هذه العلاقات على الاسس الوطيدة الثابتة. التي لا تتأثر بالرأي والهوى. ولا تميل مع المودة والشنآن. ولا تصرفها المصالح والاغراض.

الاسس التي أقامها العليم الخبير لخلقه. وهو أعلم بمن خلق. واعرف بما يصلح لهم في كل ارض وفي كل جيل. فيهديهم للتي هي أقوم في نظام الحكم ونظام المال. ونظام الاجتماع ونظام التعامل الدولي اللائق بعالم الانسان.

ويهدي للتي هي أقوم في تبني الديانة السماوية ، وتعظيم مقدساتها وصيانة حرماتها فاذا البشر كلها بجميع أصنافها وأجناسها وألوانها ولغاتها على أقوم دين وأعدل شرعية.

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ) فهذه هي قاعدته الاصيلة في العمل والجزاء ، فعلى الايمان والعمل الصالح يقيم بناءه الشامخ. فلا ايمان بلا عمل صالح ولا عمل صالح بلا ايمان. الاول مبتور لم يبلغ تمامه. والثاني مقطوع لاركيزة له. وبهما معا تسير الحياة على التي هي أقوم. وبهما معا تتحقق الهداية بهذا القرآن للتي هي أقوم وأعدل وأسما.

فأما الذين لا يهتدون بهدي القرآن. فهم متروكون لهوى الانسان العجول الجاهل بما ينفع وما يضر.

(وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ) : ذلك انه لا يعرف مصائر الامور وعواقبها. ولقد يفعل الفعل وهو شر. ويعجل به على نفسه وهو لا يدري. فأين هذا من هدى القرآن المجيد ، الثابت (الذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).

٢٩٧

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ) : فالناموس الكوني الذي يحكم الليل والنهار. يرتبط به سعي الناس للكسب وعلم السنين والحساب ، ويرتبط به كسب الانسان من خير وشر وجزاؤه على الخير والشر. وترتبط به علاقات عواقب الهدى والضلال. وفردية التبعة (لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ويرتبط به وعد الله ألا يعذب حتى يبعث رسولا. وترتبط به سنة الله في اهلاك القرى بعد أن يفسق أهلها.

والليل والنهار آيتان كونيتان كبيرتان. تشبهان بدقة الناموس الذي لا يصيبه الخلل ولا يدركه التعطل ولا مرة واحدة. (وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) فليس شيء في هذا الكون متروكا او مهملا.

(وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥))

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١))

البيان : طائر كل انسان ما يطير له من عمله. أي ما يقسم له من العمل. وهو كناية عما يعمله. والزامه له في عنقه تصوير للزومه. وعدم مفارقته. على طريق القرآن في تجسيم المعاني وابرازها في صورة حسية. فعمله لا يتخلف عنه. وهو لا يملك التملص منه.

وكذلك التعبير باخراج كتابه منشورا يوم القيامة. فهو يصور

٢٩٨

عمله مكشوفا لا يملك اخفاءه. أو تجاهله او المغالطة فيه. ويلحظ هذا الكتاب في فزع طائر في يوم عصيب.

(اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَ) فانما ضل عليها).

لقد شاءت رحمة الله ألا يؤخذ الانسان الا بعمله وما اختاره لنفسه من خير أو شر. (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وهي رحمة من الله ان يعذر الى العباد قبل أن يأخذهم بالعذاب.

(وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها. فَفَسَقُوا فِيها. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً).

المترفون في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة. فينعمون بالدعة والسيادة ، ويرتعون في الفسق والاستهتار بالقيم والمقدسات ، والكرامات.

والآية تقرر سنة الله هذه. فاذا قدر الله لقرية انها هالكة أخذت بأسباب الهلاك فحقت عليها سنة الله. وأصابها الدمار والهلاك ، وهي المسؤولة عما حل بها بما كسبت يداها.

ان الارادة هنا ليست ارادة للتوجيه القهري الذي ينشىء السبب ، ولكنه أنشأ النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق والطغيان. والظلم والعدوان.

وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشىء آثارها التي لا مفر منها. وهي عدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا ويطغون فيحق على الجميع سوء العذاب والتدمير.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ. عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ. ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً).

٢٩٩

الذي يريد الاخرة لا بد أن يسعى لها سعيها لها سعيها مع شرط الايمان بالله ورسوله وولي أمره من بعد. ويلزمه تأدية ما وجب عليه فعله والانتهاء عما وجب عليه تركه. حتى يكون من المتقين.

واذا كان يريد العاجلة ينتهي الى جهنم مذموما مدحورا (كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ. وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ)

التفاوت في حطام الدنيا لا يدل على التفاضل عند الله. بل ينحصر التفاضل عند الله في الاخرة لا غير. هناك في الرقعة الفسيحة ، والحياة الخالدة. وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. لا في جيف الدنيا وشقائها.

(لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥))

البيان : لقد أمر الله بتوحيد المعبود بعد النهي عن الشرك (ولفظة قضى) تخلع على الامر معنى التوكيد ، الى جانب القصر الذي يفيده النفي والاستثناء (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ).

فاذا وضعت القاعدة وأقيم الاساس. جاءت التكاليف الفردية والاجتماعية. ولها في النفس ركيزة من العقيدة في الله الواحد ، توحد البواعث والاهداف من التكاليف والاعمال.

والرابطة الاولى بعد رابطة العقيدة ، هي رابطة الاسرة ، ومن ثم يربط السياق بر الوالدين بعبادة الله. اعلانا لقيمة هذا البر عند الله : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ...) بهذه العبارات الندية ، والصور الموحية ، يستجيش القرآن المجيد وجدان البر والرحمة في قلوب الابناء ، ذلك ان

٣٠٠