تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

ان يعودوا الى ملة قومهم المعاندين للحق وبعد أن يصروا على تميزهم بدينهم وبايمانهم عن الباطل وأهله.

وبعد أن يفاصلوا قومهم على أساس العقيدة فينقسم القوم الواحد الى آمتين مختلفتين عقيدة ومنهجا وقيادة وتجمعا. عندئذ تتدخل القوة الكبرى لتضرب ضربتها الفاصلة ولتدمر على الطواغيت الذين يتهددون المؤمنين. وليتحقق وعد الله لرسله بالنصر والتمكين. وتقف الطغاة المتجبرون بقوتهم المادية في صفّ. وتقف الرسل الداعون الى الله والحق ومعهم الله العظيم في صفّ. ولا بد هنا أن يكون النصر في جانب القوة الالهية التي لا تغلب. (وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) انه مشهد عجيب يرسم لنا الخالق الجبار صفة الخائب المهزوم. مع قوتهم الغاشمة التي كانوا يهددون بها دعاة الحق والخير والصلاح والايمان بالله العظيم.

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا

فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (١٧))

(مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٨))

البيان : مشهد الرماد تشتد به الريح في يوم عاصف. مشهد مشهود معهود. يجسم به السياق معنى ضياع اعمال اهل العصيان سدى. لا يقدر اصحابها على امساك شيء منها. ولا الانتفاع بها والسياق

٢٤١

يجسمه في هذا المشهد العاصف المتحرك فيبلغ في تحريك المشاعر الحية. ما لا يبلغه التعبير الذهني المجرد عن ضياع الاعمال وذهابها بددا.

هذا المشهد ينطوي على حقيقة ذاتية في اعمال الكفار والعصاة. فالاعمال التي تقوم على قواعد من الايمان ولا تمسكها العروة الوثقى التي تصل العمل بالباعث وتصل الباعث بالله تعالى مفككة كالهباء والرماد لا قوام لها ولا نظام. فليس المعول عليه هو العمل. ولكن باعث العمل وهو العقيدة الصحيحة بالله ورسوله واهل بيته (ع) الذين هم العروة الوثقى دون غيرهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (٢١))

البيان : ان الانتقال من حديث الايمان والكفر. ومن قضية الرسل والجاهلية الى مشهد السموات والارض. هو انتقال طبيعي في المنهج القرآني. كما انه انتقال طبيعي في مشاعر الفطرة البشرية يدل على ربانية هذا المنهج القرآني.

أن بين الفطرة الكائنة في الانسان. وبين هذا الكون لغة سرية مفهومة. ان فطرة الانسان تتلاقى مع السر الكامن وراء هذا الكون بمجرد الاتجاه اليه والتقاط ايقاعاته ودلالالته والذين يرون هذا الكون ثم لا تسمع فطرتهم هذه الايقاعات وهذه الايحاءات. هم افراد معطلوا الفطرة. في كيانهم خلل تعطلت به اجهزة الاستقبال الفطرية. كما تصاب الحواس فتتعطل فوائدها المختصة بها. كما تصاب العين بالعمى والاذن بالصم واللسان بالبكم.

ومن هؤلاء كل اصحاب التفكير المادي ـ الذي يسمونه (المذهب

٢٤٢

العلمي) كذبا وافتراء. ان العلم يبرأ مما يعطل أجهزة الفطرة التي فطر الله الناس عليها ويسبب فساد اجهزة الاتصال الانساني بالكون وما حواه. فهؤلاء هم الذين يسميهم القرآن بالعمى قال عزوجل : (أم نحسب ان اكثر يسمعون او يعقلون ان هم الا كالانعام بل هم أضل سبيل (٢٥ ي ٤٤ س (لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها. أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ. أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ) (ـ عن آيات الله العظيم ـ (٧ ـ ي ١٧٩ ـ) (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ).

فالقادر على خلق السموات والارض هو أقدر على استخلاف جنس غير هذا الجنس. الا ان خلق السموات والارض اعجاز في تنسيق المشاهد والصور في هذا القرآن المجيد. (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً) : لقد انتقلت الرواية. رواية الدعوة والدعاة. والمكذبين والطغاة. انتقلت من مسرح الدنيا واكاذيبها الى مشهد الاخرة وحقائقها التي لا شك فيها فالطغاة المكذبون واتباعهم من الضعفاء وارباب الشهوات ومعهم الشيطان الغوي. لقد برزوا وامتلأت الساحة ورفع الستار وبدأ الحوار. والضعفاء هم الذين تنازلوا عن اخص خصائصهم حين تنازلوا عن حريتهم الشخصية في التفكير والاعتبار وجعلوا انفسهم تبعا للمستكبرين والطغاة. ودانوا لغير الله. من عبيده واختاروها على الدينونة لله وحده. والضعف هنا ليس ضعف فهم ولا ضعف بدن وجسم. بل ضعف ارادة واتباع ولا يعذرون في هذا الاتباع لاهل الضلال. بل هو جريمة منهم في اتباعهم ومساعدتهم لاهل الفساد والضلال. ان المستضعفين كثرة. والطواغيت قلة فمن ذا الذي يخضع الكثرة للقلة. لو لا اتباع الهوى وحب الشهوات المذللة لاربابها في الدنيا والمستوجبة

٢٤٣

لهم في الآخرة عذاب النار. (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) : لقد قضي الامر وانتهى الجدال وسكت الحوار. هنا نرى على المسرح عجيبا. نرى الشيطان الذي كان يهتف فيهم ويغويهم نراه الساعة يسخر منهم بكلام ربما كان اقس عليهم من عذاب النار :

(وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٢))

البيان : الله. الله أما أن الشيطان حقا لشيطان. وان شخصيته لتبدو هنا على اتمها كما بدت شخصية الضعفاء وشخصية المستكبرين في هذا الحوار.

انه الشيطان الذي يوسوس في الصدور ويغري بالعصيان. ويزين الكفر والضلال. وهو الذي يقول لهم بعد استغوائه لهم : فلا تلوموني ووموا أنفسكم.

فيا للشيطان ويا لهم من وليهم الذي هتف بهم الى الغواية فاطاعوه ودعاهم الرسل الى الهدى والسعادة. فكذبوا وابوى (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

(وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (٢٦))

البيان : ان مشهد الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة اصلها ثابت وفرعها في السماء. والكلمة الخبيثة كالشجرة الخبيثة قد اجتثت من فوق الارض ما لها من قرار. هو مشهد مأخوذ من السياق. ومن قصة

٢٤٤

النبيين والمكذبين. ومصير هؤلاء. وهؤلاء بوجه خاص. وشجرة النبوة هنا وظل ابراهيم (ع) ابي الانبياء عليها واضح. وهي تؤتى أكلها كل فترة وقد ختمت بعترة اهل البيت عليهم‌السلام.

ان الكلمة الطيبة ـ هي كلمة الحق ـ التي تدور مع علي بن ابي طالب وابنائه (ع) كيفما داروا. فهم مع شيعتهم الخلص ثابتون على الحق ومع الحق حتى يردون الحوض على رسول الله ص وآله.

وان الكلمة الخبيثة ـ هي كلمة الباطل التي اسسها اهل السقيفة وبنى عليها بنو أمية وبنوا العباس ظلما وفسادا. في الارض. كما اراده المؤسسون الاول أهل النفاق والضلال (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) : فهي امثال مصداقها واقع في الارض. ولكن الناس كثيرا ما ينسونه في زحمة الحياة (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ) في الحياة الدنيا وفي الآخرة بالايمان الثابت في القلوب والضمائر. (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) بظلمهم وشركهم وفسادهم.

(يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ ما يَشاءُ (٢٧))

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠))

البيان : ألم تر الى هذا الحال العجيب. حال الذين وهبهم الله تعالى نعمة ممثلة في رسول الله وفي دعوته الى الايمان. وفي قيادته الى المغفرة. والى مصيرهم الى الجنة. فاذا هم يتركون هذا كله ويأخذون بدله (كُفْراً) اؤلئك هم القادة من كبراء قومك. مثلهم كمثل القادة من الامم السالفة في الازمنة الغابرة.

وبهذا الاستبدال العجيب قادوا قومهم الى جهنم. وانزلوهم بها ـ كما شاهدنا منذ قليل الانقلاب الذي حصل لأهل السقيفة بعد موت

٢٤٥

نبيهم مباشرة. وتركوا الحق المبين والصراط المستقيم الذي امرهم الله ورسوله ص وآله باتباعه والسير على منهجه وجعله اولى بالمؤمنين من انفسهم وتمادوا في غيهم وضلالهم حتى ارادوا ان يحرقوا بيت رسول الله على أهله وهو لم يزل مسجى لم يوار في ضريحه. الم تر الى تصرف القوم العجيب بعد ما رأوا ما حل بمن قبلهم ـ قد عرضه القرآن عليهم عرضا. كمن قد رأى وشاهد. ومع هذا فقد استبدلوا بنعمة الرسول واهله بيته الميامين كفرا وطغيانا. (وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ قُلْ تَمَتَّعُوا) قليلا (فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ)

(قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (٣١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (٣٢) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (٣٣) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤))

البيان : قل لهم ينفقوا ليربوا رصيدهم المدخر. وليضاعف لهم العطاء. ويدخر لهم الثواب والجزاء من قبل ان يأتي يوم لا تنمو فيه الاموال ولا تنفع اربابها شيئا. لان الباب اغلق والعلاقة انقطعت.

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ. وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها ..)

انها حملة. انها سياط تلذع الوجدان. ام تحييه. وتنعشه. وتنيره بحقائق الايمان. أم تضيئه. فيسعد صاحبه في الدنيا والآخرة ام تضنيه وتعميه. فيشقى صاحبه في الدنيا والآخرة.

أن من معجزات هذا الكتاب انه يربط كل مشاهد الكون. وكل خلجات النفس الى عقيدة التوحيد. ويحول كل ومضة في صفحة الكون او في ضمير الانسان الى دليل او ايماء.

٢٤٦

وهكذا يكون الكون بكل ما فيه وبكل من فيه معرضا لآيات الله. تبدع فيه يد القدرة الالوهية والعبودية في جدل ذهني. وتتجلي آثارها في كل مشهد فيه ومنظر. وفي كل صورة فيه. والمشهد الهائل الحافل المعروض هنا لأيادي الله وآلائه. تسير فيه خطوط الريشة المبدعة وفق اتجاه الآلاء بالقياس الى الانسان (وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها).

انه الاعجاز الذي تتناسق فيه كل لمسة. وكل خط. وكل لون. في مشهد الكون وما حواه. افكل هذا مسخر للانسان. افكل هذا الكون الهائل وما حواه. مسخر لذلك المخلوق الصغير.

(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ). فقد آتاكم من المال. والذرية. وصحة الابدان. وزينة ـ ومتاعا. هي اكبر واكثر من ان يحصيها العادون والحاسبون. وبعد هذه النعم عليكم. تجعلون لله اندادا. وبعد ذلك كله لا تشكرون نعمة الله.

وحين يستيقظ ضمير الانسان ويتطلع الى الكون من حوله. فاذا هو مسخر له. اما مباشرة واما بموافقة ناموسه لحياة البشر وحوائجهم ويتأمل فيما حوله فاذا هو صديق له برحمة الله. معين بقدرة الله. ذلول بتسخير الله.

حين يستيقظ ضمير الانسان فيتطلع ويتأمل ويتدبر. لا بد ان يرتجف ويخشع ويسجد لله ويشكره. ويتطلع الى ربه المنعم : حين يكون في الشدة ليبدله منها يسرا وعافية.

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٦) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى

٢٤٧

عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (٤١))

البيان : ويبدو في دعوة ابراهيم (ع) الثانية تسليم ابراهيم المطلق الى ربه. والتجاؤه اليه في اخص قلبه فهو يدعوه ان يجنبه عبادة الاصنام هو وبنيه. يستعينه بهذا الدعاء ويستهديه (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي. وَمَنْ عَصانِي) منهم (فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

وفي هذا تبدو سمة ابراهيم (ع) العطوف. فهو لا يطلب الهلاك لمن يعصيه من نسله. ولا يستعجل لهم العذاب .. (رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ. وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ) وينتهي المشهد الطويل : مشهد الدعاء الخاشع الضارع. ينتهي بعد ان يخلع على الموقف كله ظلا وديعا. تهفو القلوب معه الى جوار ربه عزوجل وتذكر فيه نعم الله التي لا تحصى.

(وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (٤٣)

وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (٤٤) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (٤٥))

البيان : الرسول ص وآله بعيد عن هذا. ولكن المقصود سواه الذين يرون ان الظالمين يتمتعون ويسمعون بوعيد الله. ثم لا يرون ذلك واقعا بهم في هذه الحياة الدنيا. فهي صيغة تكشف عن الأجل المضروب لأخذهم الاخذة الاخيرة التي لا امهال بعدها. فان الله تعالى سيأخذهم في يوم عصيب تشخص فيه الابصار من شدة الهول

٢٤٨

والفزع. فالسرعة المهزولة في الهيئة المشدودة مع القلب الفزع الطائر من شدة الخوف الشديد فاذا جاء ذلك الاجل المعين فلا اعتذار يومئذ ينفع او يقبل ولا شفيع او مجير يدفع (وانذر الناس يوم يأتيهم العذاب فيقول الظالمون ربنا اخرنا .. نجب دعوتك) وهنا ينقلب السياق من الحكاية الى الخطاب. كأنهم ماثلون شاخصون. يوجّه اليهم التبكيت والتأنيب والتذكير بالتفريط : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ)

فكيف ترون الآن. زلتم ام لم تزولوا. وكنتم تقولون هذا واثار الظالمين قبلكم ماثلة امامكم وان هذا المثل ليتجدد في الحياة ويقع كل حين. فكم من طغاة يسكنون مساكن الطغاة الذين اهلكهم الله تعالى لما ظلموا. وقد يرون هلاك من جلسوا في مجالسهم. فلا تهز وجدانهم تلك الاثار. التي رأوها وشاهدوها والتي حدثهم التاريخ عنها. ثم يفعلون ما فعل من هلك قبلهم وهم على يقين انهم سيأتيهم الدمار والانتقال من هذه الحياة ومع هذا لا يتعظون ولا يعتبرون.

(وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (٤٦) فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ ٱلْأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِى ٱلْأَصْفَادِ (٤٩) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِىَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١) هَذَا بَلَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَبِ (٥٢))

البيان : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ) لا يدع الظالم يفلت. ولا يدع الماكر ينجو. وكلمة الانتقام هنا تلقى الظل المناسب للظلم والمكر. فالظالم الماكر يستحق الانتقام. وهو بالقياس الى الله تعالى يعني تعذيبهم جزاء الظلم وجزاء مكرهم تحقيقا لعدل الله في الجزاء. (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ. وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ)

٢٤٩

نعم تبدل الارض بنظر كل انسان عند ما ينقطع الامل من هذه الحياة الخدّاعة. ويأتي اليوم الموعود بالانتقال الى الحياة الخالدة. اما في النعيم واما في الجحيم. بدون تخيير ولا تأخير. وعند الموت أحس الظالمون انهم مكشوفون. وقد احصيت اعمالهم وفسادهم فلا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها. ولا يقيهم واق ولا يسترهم ساتر احصاه الله ونسوه. (وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ .. سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) فمشهد المجرمين مقترنين في الوثاق .. مشهد مذل ومخزي سرابيلهم وثيابهم من قطران تلتهب على ابدانهم وهي قذرة نتنة. وفيها الايحاء بشدة الاشتعال تزيدهم لهيبا في النار (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ. وَلِيُنْذَرُوا بِهِ) : ان الغاية الاساسية هي الوعظ والتذكير للمخاطبين وللامم الآتية. وامثال يضربها خالق البشر لهذا البشر لعلهم يعتبرون ويذعنون. ويرجعون الى اله واحد. فهذه هي قاعدة دين الله التي يقوم عليها منهجه في الحياة.

ونحن لا ندرك مرامي هذا القرآن المجيد. قبل ان ندرك حدود العقيدة في هذا الدين ان الاسلام لم يجيء لمجرد تحطيم الاصنام الحجرية او الفراعنة البشرية. انما جاء الاسلام ليقيم مفرق الطريق بين الدينونة لله وحده في كل أمر أمر به. أو نهى عنه.

والذين يظنون بانفسهم انهم على دين الله لانهم ينطقون بالسنتهم بالشهادة. دون قلوبهم ودون افعالهم وتطبيقهم. ثم يحكمون ويخضعون لشرائع لم يأذن بها الله بل يكفّر اربابها وها هو يعلن فيقول عزوجل : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ. وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ. وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ)

٢٥٠

ـ ١٥ ـ سورة الحجر. وهي تسع وتسعون آية (٩٩)

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (١) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (٢) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٣) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (٤) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (٥))

البيان : ألف. لام. را. (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) : هذه الاحرف ونظائرها هي الكتاب وهي القرآن. هذه الاحرف في متناول الجميع. هي (تِلْكَ) الآيات العالية الافق البعيدة المتناول. المعجزة التنسيق. هذه الاحرف التي لا مدلول لها في ذاتها. هي القرآن الواضح الحق المبين والصراط المستقيم. الذي دوخ أرباب العقول. وحيرت أهل البصائر بلاغته وعظمته.

فاذا كان قوم قد كفروا بآياته واعجازه. وكذبوا بعظمته الباهرة ، فسيأتي يوم يودون فيه لو كانوا غير ما كانوا. ويتمنون فيه لو انهم امنوا واستقاموا : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ).

ولكن حيث لا ينفع التمني ، ولا تجدي الودادة. وفيها التهديد الخفي. والاستهزاء الملفوف ، وفيها كذلك الحث على انتهاز الفرصة المعروضة للاسلام قبل أن تضيع. ويأتي يوم يودون فيه لو كانوا مسلمين فما ينفعهم يومئذ انهم يودون).

وتهديد آخر ملفوف : (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)

ذرهم فيما هم فيه من حياة حيوانية محضة للاكل والمتاع ، ذرهم في تلك الدوامة ، الامل يلهي والمطامع تغري ، والعمر يمضي والفرص تضيع ، فلا تشغل نفسك بهؤلاء الهالكين ، الذين ضلوا في متاهة الامل والغرور. ويشغلهم بالاطماع ، ويملي لهم فيحسبون ان أجلهم ممدود. وان ليس وراءهم حسيب. وانهم ناجون في النهاية مما يزالون فيه من الضلال والفساد والطغيان.

٢٥١

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (فلا يغرنهم تخلف العذاب عنهم قليلا انهم لن يسبقوا ولن يتأخروا اذا جاء الوقت المعلوم للحساب والجزاء.

ان سنة الله لا تتخلف ، ولكل أمة اجل مرتب على عملها.

(ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ)

(وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (٦) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (٨) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٩) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (١٠) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (١١) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (١٢) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (١٣) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (١٤) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (١٥) وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (١٦) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (١٧) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (١٨))

البيان : وتبدو السخرية في ندائهم : (يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) فهم ينكرون الوحي والرسالة. ولكنهم يتهكمون بهذا النداء. ويبدو منهم سوء الادب في وصفهم للرسول الامين (إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ) وكانوا من قبل ان يدعوهم الى الايمان بالله. يصفونه (بالصادق الامين) ولكن الهوى غير مجراهم وقلب ألفاظهم : (لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

ويأتي الرد على ذلك التهكم وتلك الوقاحة وذلك الجهل المركب (ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ) وليس الذي ينقصهم هو توافر دلائل الايمان. فهم معاندون مكابرون مهما تأتهم من آية بينة. فهم في عنادهم ومكابرتهم سادرون (وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ) ـ لقالوا ـ (نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ). لقالوا سحرنا هذا الساحر. فكل ما نراه وما نحسه وما تتحرك فيه العاب سحرية واوهام :

٢٥٢

(وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ).

انه الخط الاول في اللوحة العريضة. لوحة الكون العجيب. الذي ينطق بآثار اليد المبدعة. ويشهد بالاعجاز اكثر مما يشهد بنزول الملائكة. ويكشف عن دقة التنظيم والتقدير. كما يكشف عن عظمة القدرة على هذا الخلق الكبير.

والبروج قد تكون هي النجوم والكواكب الضخمة. وهي شاهدة بالقدرة العظمى والابداع الجميل (وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ) وهي لفتة هنا الى جمال الكون. والغاية المقصودة من خلق هذا الكون.

وان نظرة واحدة مبصرة الى السماء في ليلة ظلماء ، تريك كيف تتناثر فيها الكواكب والنجوم.

ان نظرة واحدة شاعرة ، لكفيلة بادراك حقيقة الجمال الكوني ، وتريك عمق هذا الجمال. في تكوينه : (وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي لا ينالها ولا يدنها ولا ينفث فيها من شره شيطان. فالشيطان يختص بهذه الارض وحدها. وبالغواية لاهلها. اما السماء ـ وهي رمز السمو والارتفاع ـ فهو مطرود عنها لا ينالها ولا يدنس أهلها. فاذا أراد ذلك أصابه شهاب ثاقب.

والخط الثاني في اللوحة هي الارض العريضة الهائلة : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها ..)

ان ضخامة الارض واضحة والآية الكونية هنا تتجاوز الافاق الى الانفس المبدعة العجيبة.

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (١٩) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (٢٠) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (٢١) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ

٢٥٣

فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (٢٢) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (٢٣) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (٢٤) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (٢٥))

البيان : والاية الكونية هنا تتجاوز الافاق الى الانفس ، فهذه الارض المحدودة للنظر والخطو ، وهذه الرواسي الملقاة على الارض ، وهي الارزاق المؤهلة للعيش والحياة فيها ، تصاحبها الاشارة الى النبت الموزون ، وهي كثيرة شتى : (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ).

فهم يعيشون على أرزاق الله التي جعلها لهم في الارض (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) فما من مخلوق يقدر على شيء أو يملك شيئا. انما هي خزائن الله عزوجل. ينزل منها على الخلق (بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) فليس من شيء ينزل جزافا. ولا اعتباطا ، ولا صدفة.

(وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ) الرياح تنطلق وفق عوامل فلكية وجوية. وتحمل الماء وفقا لنواميس الهية. وتسقط بقدر معلوم في مكان معلوم. في وقت معلوم بنظام مضبوط والذي قدر ذلك كله هو الخالق العظيم والصانع القدير.

ونلاحظ في التعبير انه يرد كل حركة الى الله حتى شرب الماء (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ) فالرياح والماء ، والاستقاء كله يرجع الى سنة الله المدبر الحكيم.

(وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ) وهنا يلتقي المقطع الثاني بالمقطع الاول. فهناك قال (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) وهنا يقرر ان اللحياة والموت بيد الله العزيز الحكيم. وان الله هو الذي يرث الارض ومن عليها. والسماء ومن فيها : (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ).

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٦) وَالْجَانَّ

٢٥٤

خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٧) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٢٨) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٢٩) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٣٠) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣١) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (٣٢) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (٣٣) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٣٤) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٣٥))

البيان : في هذا الافتتاح يقرر اختلاف الطبيعتين ، بين الصلصال ـ وهو الطين اليابس ـ والنار الموسومة بانها شعواء سامة : نار السموم وفيما بعد سنعلم أن طبيعة الانسان قد دخل فيها عنصر جديد : هو النفخة من روح الله عزوجل. اما طبيعة الشيطان فبقيت من نار السموم.

فأما كيف ارتقى هذا الدين من طبيعته الاولى الى أفق الحياة العضوية. والى أفق الحياة الانسانية اخيرا. فهنا السر الذي يعجز عن تعليله البشر أجمعون. وما يزال سر الحياة في الخلية الاولى ـ على حسب نظرية النشوء والارتقاء كما يزعمه بعضهم ـ خافية لا يزعم أحد أنه اهتدى اليها.

فأما سر الحياة الانسانية العليا بما فيها من مدارك واشراقات وطاقات متميزة على الخلائق الحيوانية جميعا ، تفوقا حاسما فاصلا ، فلا تزال النظريات تخبط حوله ، على حين يفسره لنا القرآن المجيد التفسير المجمل (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فهي نفخة من روح الله تنقل هذا التكوين العضوي الوضيع الى ذلك الافق الانساني الرفيع.

هذه النفخة التي تصله بالملأ الاعلى ، وتجعله أهلا للاتصال بخالقه العظيم ـ من حيث الطهارة والقدسية ـ نطاق التجريدي الذي تتعامل فيه القلوب والعقول. والتي تمنحه ذلك السر الخفي الذي يسرب به

٢٥٥

وراء الزمان والمكان والى مرتبة غير محدودة من الفضيلة والكمال.

(قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٣٦) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٣٧) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٣٨) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٣٩) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٤٠)

قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (٤١) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (٤٢) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٣) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (٤٤))

البيان : بذلك قد حدد ابليس اللعين ساحة المعركة ، انها الارض (لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) ولذا لا يجترح الانسان الشر والقبيح الا وعليه مسحة مزينة من الشيطان الرجيم. فليفطن الناس الى عدة الشيطان. وليحذروا كلما وجدوا في أمر تزيينا من نفوسهم اليهم اشتهاء ، ليحذروا فقد يكون الشيطان هناك. ويستحيل أن يحميهم منه الا طاعة الله عزوجل والاستعانة بالله عليه ليحميهم منه.

والمراد بعباد الله المخلصين هم الذين استعملوا عقولهم ونظروا الى الدلائل والبراهين على عظمة الخالق القدير. والتصديق برسله وشريعته ، كما يصفهم أمير المؤمنين (ع) بقوله :

ان الله سبحانه وتعالى جعل الذكر جلاء للقلوب تسمع به بعد الوقرة. وتبصر به بعد العشوة. وتنقاد به بعد المعاندة. وما برح لله ـ عزت آلاؤه ـ في البرهة بعد البرهة. وفي أزمان الفترات عباد ناجاهم في فكرهم وكلمهم في ذات عقولهم فاستصبحوا بنور يقظة في الابصار والاسماع والافئدة. يذكّرون بايام الله. ويخوفون مقامه. بمنزلة الادلة في الفلوات ، من أخذ القصد حمدوا اليه طريقه. وبشّروه بالنجاة ومن أخذ يمينا وشمالا ذموا اليه الطريق وحذّروه من الهلكة. وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات ، وأدلة تلك الشبهات ، وان للذكر لأهلا

٢٥٦

أخذوه من الدنيا بدلا. فلم تشغلهم تجارة ولا بيع عنه. يقطعون به ايام الحياة ويهتفون بالزواجر عن محارم الله في اسماع الغافلين.

ويأمرون بالقسط ويأتمرون به. وينهون عن المنكر ويتناهون عنه ، فكأنما قطعوا الدنيا الى الاخرة وهم فيها فشاهدوا ما وراء ذلك ، فكأنما اطلعوا غيوب أهل البرزخ في طول الاقامة فيه. وحققت القيامة عليهم عداتها. فكشفوا غطاء ذلك لأهل الدنيا. حتى كأنهم يرون ما لا يرى الناس. ويسمعون ما لا يسمعون)

(هذا صراط علي المستقيم. (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) ليس له الى أغوائهم ولا الى اطاعته سبيل. بعد معرفتهم الحقيقة والتمسك بها مهما كلفهم الامر وعرفوا عداوته لهم فاتخذوه عدوا واستعانوا عليه بخالقهم فأعانهم وحرسهم وحماهم منه. وزادهم بصيرة وايمانا ويقينا. فأصبحوا منه في حمى وحصن حصين وان الله عزوجل تكفل أن يكفل من استكفله. ويجير من استجار به من كل خوف.

ان الشيطان لا يتلقف الا الشاردين. كما يتلقف الذئب الشاردة من القطيع. فاما من يعتصم بالله ويستخلص له. فالله لا يتركه للضياع (ألا ان جار الله آمن. وعدّو خائف) كما يقول امير المؤمنين (ع)

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٤٥) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (٤٦) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (٤٧) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (٤٨) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٤٩) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (٥٠)

(وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (٥١) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ

٢٥٧

إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (٥٢) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٥٣) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (٥٤) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (٥٥) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (٥٦) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٥٧) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٥٨) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٩) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (٦٠))

(فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (٦١) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (٦٢) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (٦٣) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٦٤) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (٦٥) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (٦٦)

وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (٦٧) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (٦٨) وَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ (٦٩) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧))

البيان : كان الامر الى لوط أن يسير بقومه في الليل قبل الصبح. وان يكون هو في مؤخرتهم يتفقدهم ولا يدع احدا منهم يتخلف او يلتفت الى ورائه. وكان الوعد الصبح ، والصبح قريب. واطلعناه على ذلك الامر الخطير : ان آخر هؤلاء القوم مقطوع في الصباح. واذا انقطع آخرهم. فقد انقطع أولهم بالضرورة. والتعبير على هذا النحو يصور النهاية الشاملة التي لا تبقي أحدا. فلا بد من الحرص واليقظة ، كي لا يتخلف أحد ولا يتلفت فيصيبه ما يصيب الهالكين.

قدم السياق في هذه الواقعة صباح الوجوه ـ قيل دلتهم امرأته الخبيثة عليهم ـ ففرحوا وهرعوا. (وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ) والتعبير على هذا النحو يكشف عن مدى الشناعة والبشاعة التي وصل

٢٥٨

اليها قوم لوط من الدنس والفجور في الفاحشة ، ويكشف عن هذا المدى في مشهد أهل المدينة يجيئون جماعة. يستبشرون بالعثور على شبّان يعتدون عليهم جهرة وعلانية. هذه العلانية الفاضحة في طلب هذا المنكر ـ فوق المنكر ذاته ـ شيء بشع لا يكاد الخيال يتصور وقوعه لو لا انه وقع بالفعل وأخبر عن وقوعه من لا شك في صدق ما قال وما أخبر.

فقد يشذ فرد مريض فيتوارى بشذوذه ، ويتخفى بمرضه. ويحاول الحصول على لذته المستقذرة في الخفاء ـ او اطفاء علته المبتلي بها ـ وهو يخجل ان يطلع عليه الناس.

وان الفطرة لتدعو الى التخفي بهذه اللذة ـ أو هذه البلية ـ حين تكون قد سيطرت على صاحبها وبعض انواع الحيوان يحس بذلك ويتخفى عن الانظار عند ممارسته هذه الجنسية أو هذه الرذيلة.

بينما أولئك القوم المتوحشون يجاهرون بها ويتجمهرون لتحصيلها بكل وقاحة واعلان. فاما لوط فوقف مكروبا يحاول أن يدفع عن ضيفه عن شرفه. وقف يستثير النخوة ـ ان كان لم يزل فيهم بقية منها ـ ويستجيش وجدان تقوى الله. وان كان يعلم انهم لا يتقون الله. ويعلم يقينا ان هذه النفوس المرتكبة هذه الجريمة لم تعد فيها نخوة. ولا شعور انساني يستجاش ولكنه تشبث الغريق. ووسيلة المضطر. (إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ) ..

وبدلا من أن يثير هذا في نفوسهم رواسب المروءة والحياء ، اذا هم يتبجحون فيؤنبون لوطا (قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ) قال هؤلاء بناتي

٢٥٩

ـ يعني نساءهم لانهن بمنزلة بنات النبي ـ (فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ. فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) وقد خسف بقرى لوط ويقال : ان بحيرة لوط الحالية وجدت بعد هذا الحادث. وقرى لوط تقع بين الحجاز والشام.

(وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (٧٨) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (٧٩) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (٨٠) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٨١) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (٨٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (٨٣) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٤))

البيان : لقد فصل القرآن المجيد قصة شعيب مع قومه ، أهل مدين واصحاب الايكة في مواضع اخرى. اما هنا فيشير ارشاده الى ظلمهم والى مصرعهم. ومدين. والايكة. كانتا بالقرب من قرى لوط.

اما اصحاب الحجر فهم قوم صالح. والحجر تقع بين الحجاز والشام أيضا الى وادي القرى. وهي ظاهرة الى اليوم ، فقد نحتوها في الصخر في ذلك الزمان البعيد. مما يدل على القوة واليد المتحضرة في زمانهم.

(وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ).

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦) وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (٨٧) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (٨٩) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (٩٠) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (٩١))

البيان : ان هذا التعقيب بتقرير الحق الذي تقوم به السموات والارض ، والذي كان به خلقهما وما بينهما ، لتعقيب عظيم الدلالة ،

٢٦٠