تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

البشري. واذا هو يستنجد ربه ان يصرف عنه محاولات لا يقاعه في حبائلهن ، خيفة أن يضعف في لحظة أمام الاغراء المثير الهائل ، فيقع فيما يخشاه على نفسه ويدعو الله أن ينقذه منهن. وهي دعوة الانسان العارف ببشريته الذي لا يغتر بعصمته فيريد مزيدا من عناية الله تعالى له ، وعونه القريب ، على ما يعترضه من فتنة وكيد واغراء.

(فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ) وهذا الصرف قد يكون بادخال اليأس في نفوسهن من استجابته لهن. بعد هذه التجربة او بزيادة انصرافه عن الاغراء حتى لا يحس في نفسه أثرا ومليا ـ ولو داخليا بغير اختيار ـ اليهن (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الذي يسمع الشكوى ويجيب المضطر.

(ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ) : ولعل المرأة كانت قد يئست من محاولاتها بعد التهديد. ولعل الامر كذلك قد زاد انتشارا في طبقات الشعب الاخرى. وهنا بدا أن تحفظ سمعة (البيوتات) واذا عجز رجال البيوتات عن صيانة بيوتهن ونسائهن فانهم ليسوا بعاجزين عن تغطية ما يحدث في بيوتهم ولو بسجن من هو بريء من كل جريمة واعتداء ، واستحقاق للسجن.

(وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦)

قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٣٨))

البيان : (قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ)

٢٠١

وينتهز يوسف (ع) هذه الفرصة ليبث بين السجناء عقيدته الصحيحة فكونه سجينا لا يعفيه من تصحيح العقيدة الفاسدة والاوضاع الفاسدة ، القائمة على اعطاء حق الربوبية للحكام الارضيين وجعلهم بالخضوع لهم أربابا يزاولون خصائص الربوبية ويصبحون فراعنة.

ويبدأ يوسف مع صاحبي السجن من موضوعهما الذي يشغل بالهما ، فيطمئنهما ابتداء الى انه سيؤول لهم الرؤيا ، لأن ربه علمه علما خاصا جزاء على تجرده لعبادته وحده هو وآباؤه من قبل. وبذلك يكسب ثقتهما منذ اللحظة الاولى بقدرته على تأويل رؤياهما.

ويبدو في طريقة تناول يوسف للحديث لطف مدخله الى النفوس ، وكياسته وتنقله في الحديث في رفق لطيف. وهي سمة هذه الشخصية البارزة في القصة بطولها.

(قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ) : بهذا التوكيد الموحي بالثقة بان الرجل على علم يرى به مقبل الاشياء. (إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ) مشيرا بهذا الى القوم الذي ربي فيهم وهم على غير ذلك. وذكر الاخرة هنا ليقرر ان الايمان بالاخرة كان عنصرا من عناصر العقيدة على لسان الرسل جميعا ، منذ فجر البشرية الاول. ولم يكن الامر كما يزعم الافاكون : (يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ)

وهو سؤال يهجم على الفطرة في أعماقها ويهزها هزّا شديدا. ان الفطرة تعرف آلها واحدا ففيم اذن تعدد الارباب ، ان الذي يستحق أن يكون ربا يعبد ويطاع أمره هو آله واحد (الله الواحد القهار) ان الرب لا بد ان يكون الها يملك أمر هذا الكون ويسيره. ولا ينبغي أن يكون عاجزا عن كفاية من أطاعه وحمايته من كل ما يخاف ويخشى (ما تعبدون من دون الله الا اسماء سميتموها).

٢٠٢

ان هذه الارباب ـ سواء كانت من البشر أم من الحجر أو من شيء اخر ـ ليست بآلهة فهي عاجزة. (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) : ان الحكم لا يكون الا لله فهو مقصور عليه سبحانه بحكم الالوهية. اذ الحاكمية من خصائص الالوهية. من ادعى الحق فيها فقد نازع الله سبحانه في ملكه. (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) وهو تعبير يفيد الحصر والقصر فلا دين فيما سوى هذا الدين يتحقق فيه اختصاص الله تعالى بالحكم تحقيقا لاختصاصه بالعبادة (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) اذكر حالي (... فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ). ان عباد الله المخلصين ينبغي أن يخلصوا له ولا يلتجئوا الا اليه في جلب محبوب أو دفع مكروه.

(يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢))

(وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (٤٣) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (٤٤) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩))

٢٠٣

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (٥٢) وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣))

البيان : وهنا ترى يوسف يرد الرسول الذي جاء أول مرة ولا يستعجل الخروج حتى تحقق قضيته. ويتبين الحق واضحا في موقفه. وتعلن المرأة التي اتهمته براءته ـ على رؤوس الاشهاد ـ ان أثر التربية الربانية شديد الوضوح في الفارق بين الموقوفين.

لقد رد يوسف أمر الملك باستدعائه حتى يستوثق الملك من أمره ، وحتى يتحقق من شأن النسوة اللاتي قطعن أيديهن .. بهذا القيد تذكيرا بالواقعة وملابساتها وكيد بعضهن لبعض فيها وكيدهن له بعدها .. وحتى يكون هذا التحقق في غيبته لتظهر الحقيقة خالصة ، دون أن يتدخل هو في مناقشتها. كل ذلك لانه واثق من نفسه. واثق من براءته مطمئن ان الحق لا يخفى.

ورجع الرسول واخبر الملك واحضر النسوة يستجوبهن (ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ) (وهي الحقيقة التي يصعب انكارها ، وهنا تقدمت امرأت العزيز وأقرت أنها هي التي راودته عن نفسه فاستعصم. (وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ)

وزادت ما يكشف عن أن قلبها لم يخل من ايثاره ورجاء تقديره بعد كل هذا الامد ، (أَنَا راوَدْتُهُ) شهادة كاملة بنظافته وبراءته وصدقه. فهل هو الحق وحده الذي يدفعها لهذا الاقرار في حضرة زوجها.

٢٠٤

انها امرأة أحبت. امرأة تكبر الرجل الذي تعلقت به في جاهليتها واسلامها ، فهي لا تملك الا أن تظل معلقة بكلمة منه. وهكذا يتجلى العنصر البشري في القصة ويرسم التعبير الفني فيها بخفقاته.

وفي هذه اللحظة الاخيرة تبدو المرأة وكأنها مؤمنة متحرجة. تبرىء نفسها من خيانة يوسف في غيبته. ولكنها تتحفظ فلا تدعي البراءة المطلقة. لان النفس امارة بالسوء ـ الا ما رحم ربي ـ ثم تعلن ما يدل على ايمانها بالله عزوجل ـ ولعل ذلك كان اتباعا ليوسف ـ (إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٧))

البيان : لقد تحققت للملك براءة يوسف بدون ادنى ارتياب ، وتبين له علمه في تفسير الرؤيا وحكمته في طلب تمحيص أمر النسوة ، وتبينت له كرامته واباؤه ، وهو عدم تهافته على الخروج من السجن ولا للقاء الملك. وانه يقف وقفة الرجل الحكيم الخبير ، وانه كان من المظلومين في سجنه كل ذلك وقع في نفس الملك. وزاد عنده احترام يوسف وتقديره له (ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي). فهو لا يأتي به من السجن لطلق سراحه ، بل ليستخلصه لنفسه ويأمنه على خزائنه ويسلم اليه تدبير ملكه (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ : إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ) (قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ...)

وهكذا عوض الله يوسف (ع) عن المحنة تلك المكانة في الارض وهذه البشرى في الاخرة جزاء وفاقا على الايمان والصبر والاحسان (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) الذين يحسنون

٢٠٥

الايمان بالله والتوكل عليه ، والاتجاه اليه ، ويحسنون السلوك والعمل والتصرف مع الناس هذا في الدنيا (وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ)

فلا ينقص منه المتاع في الدنيا وان كان خيرا من متاع الدنيا ، متى آمن الانسان واتقى فاطمأن بايمانه الى ربه. وراقبه بتقواه في سره وجهره. وهكذا عوض الله يوسف على المحنة.

(وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (٥٩) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (٦٠) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (٦١) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢))

البيان : لقد اجتاح الجدب والمجاعة الناس بما فيها من فائض الغلة منذ سنوات السمان. وها نحن أولاء نشهدهم يدخلون على يوسف وهم لا يعلمون ـ أي أخوة يوسف ـ فهم لم يتغيروا كثيرا. أما يوسف فان خيالهم لا يتصور قط انه هو ذاك الغلام العبراني الذي وضعوه بالجب وأكل الدهر عليه وشرب وأصبح من الهالكين كما يخيل لهم وهمهم الكاذب الخاطىء.

(ولما جهزهم قال ائتوني بأخ لكم من ابيكم) ولما كانوا يعلمون كيف يضنّ أبوهم عليه. (قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ) : اما يوسف فقد أمر غلمانه أن يدسوا البضاعة التي أحضروها بدل الطعام في رحالهم لعلهم يرون كرامته لهم لعلهم يرجعون مع اخيه الصغير.

(فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (٦٣) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا

٢٠٦

بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥)

قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦))

البيان : ويبدو انهم في دخلتهم على أبيهم ، وقبل أن يفتحوا متاعهم عاجلوه بان الكيل قد تقرر منعه عنهم ما لم يأتوا عزيز مصر بأخيهم الصغير معهم ، فهم يطلبون اليه أن يرسل معهم أخاهم الصغير ليكتالوا له ولهم. وهم يعدون بحفظه. واستسلم الوالد على كره ولكنه جعل التسليم مقرونا بشرط : (قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ) (فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ). وحكم الله القدير يمضي في الناس على غير ارادة منهم ولا اختيار. والى جانبه حكمه الذي ينفذه الناس بارادتهم واختيارهم. ليستحقوا الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية. وهو الحكم المتمثل بأوامر الله تعالى ونواهيه لعباده في هذه الحياة الوقتية.

فارادة الله التكونية تنفذ مباشرة بدون دخل للمخلوقات فيها. وأرادة الله التشرعية تنفذ بمباشرة المخلوقات لان الله هكذا أراد. والحكمة هكذا اقتضت وهو العليم الخبير. والناس لم يكونوا مؤمنين بالله عن يقين وجزم حتى يختاروا حكم الله وينفذوه باختيارهم. وسار الركب ونفذوا وصية ابيهم. (ولما دخلوا من حيث أمرهم ابوهم ما كان يغني عنهم شيئا ..) فيم كانت هذه الوصية لم قال لهم ابوهم هذا. ويظهر أنه ظن الذي طلب الولد الصغير هو أخوه يوسف وخشي عند اللقاء أن يحصل ما يسبب الحسد لبقية أخوته ويقع النزاع كما وقع اولا فأحب أن لا يكونوا مجتمعين عند ملاقات يوسف بأخيه على تقديره انه عزيز مصر.

٢٠٧

(وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٩))

(وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ)

ـ البيان : ونجد السياق هنا يعجل بضم يوسف لأخيه في المأوى واطلاعه على انه هو أخوه. ودعوته لأن يترك من خاطره ذكرى ما فعلوه من قبل بأخيه. ولا بد ان يكون مكتوما عنهم الى حين ومن ثم جعله السياق اول عمل اوصاه به لأنه كان أول خاطر خطر على باله وهذه من دقائق التعبير في هذا الكتاب العجيب.

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (٧٠) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (٧١) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (٧٣) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (٧٤) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦))

ـ البيان : انه مشهد مثير. حافل بالحركات والانفعالات والمفاجآت كأشد ما تكون المشاهد حيوية وحركة وانفعالا. غير ان هذه صورة من الواقع يعرضها التعبير القرآني هذا العرض الحي.

فمن وراء الستار يدسّ يوسف كأس الملك ـ وهي عادة من الذهب ـ وقيل انها كانت تستخدم للشراب. ويستخدم قعرها الداخل المجوف من الناحية الاخرى في كيل القمح لندرته وعزته في تلك المجاعة.

٢٠٨

يدسها في الرحل المخصص لأخيه. تنفيذا لتدبير خاص ألهمه الله له.

ثم ينادي مناد بصوت مرتفع في صيغة اعلام وهم منصرفون (أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ). ويرتاع اخوة يوسف لهذا النداء الذي يتهمهم بالسرقة ـ وهم ابناء يعقوب بن اسحاق بن ابراهيم ـ فيعودون ادراجهم يتبينون الامر المريب : (فقالوا (ما ذا تَفْقِدُونَ).

قال الغلمان الذين يتولون تجهيز الرحال او الحراس ومنهم هذا الذي أذاع الاعلام (قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ) وأعلن المؤذن ان هناك مكافأة لمن يحضره متطوعا وهي مكافأة ثمينة حمل بعير.

ولكن القوم مستيقنون من براءتهم فهم لم يسرقوا وما جاؤوا ليسرقوا فهم يقسمون وثقين : (قالوا (لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ) قال الغلمان (فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ).

وهنا يكشف طرف التدبير الذي ألهمه الله يوسف (ع). فقد كان المتبع في دين يعقوب ان يؤخذ السارق رهينة او رقيقا في مقابل ما يسرق. ولما كان اخوة يوسف موقنين براءتهم ، فقد ارتضوا بحكم شريعتهم فيمن يظهر انه سارق ذلك ليتم تدبير الله ليوسف واخيه. (قالُوا جَزاؤُهُ .. فَهُوَ جَزاؤُهُ) وهذه هي شريعتنا نحكمها في السارق ، والسارق من الظالمين. كل هذا الحوار كان على منظر ومسمع من يوسف فأمر بالتفتيش وارشدته حصانته الى أن يبدأ برحالهم قبل رحل اخيه ، كي لا يثير شبهة (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ .. ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ) وجاءت المفاجأة العنيفة لابناء يعقوب (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) لقد قذفوا بها يوسف وأخاه وغاب عنهم ما كذبوه في يوسف على ابيهم بالدم الكذب. (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ .. قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً)

(قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي

٢٠٩

نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (٧٧) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قالَ مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (٧٩))

البيان : ولكن يوسف كان يريد ان يلقي عليهم درسا وكان يريد أن يشوقهم الى المفاجأة التي يعدها لهم ولوالده وللجميع ، ليكون وقعها أعمق اثرا في النفوس (إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ).

وكانت هي الكلمة الاخيرة في الموقف ، وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء ، فانسحبوا يكفرون في موقفهم المحرج امام أبيهم حين يرجعون.

(فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (٨١) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٨٢))

البيان : ان كبيرهم ليذكرهم بالموثق المأخوذ عليهم ، كما ذكرهم بتفريطهم في يوسف من قبل ويقرن ذلك بما علموه وشهدوا به ، وهو لا يبرح مصر الا ان يأذن له ابوه. فيخضع له وينصاع ، وليسأل القافلة التي كانوا فيها فهم لم يكونوا وحدهم. فالقوافل الكثيرة كانت ترد مصر لتمتار الغلة.

(قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤)

قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (٨٥) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٦) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (٨٧))

٢١٠

البيان : الذي يعلم حال يعقوب (ع) ويعلم ماوراء هذه الاحداث والامتحانات ، ويأتي بكل أمر في وقته المناسب. عند ما تتحقق حكمته في ترتيب الاسباب والنتائج. يتضح له هذا الشعاع من اين جاء الى قلب هذا الشيخ (ع) انه الرجاء في الله عزوجل. والاتصال الوثيق به والشعور بجوده ورحمته. ذلك الشعور الذي يتجلى في قلوب الصفوة المختارة ، فيصبح عندها أصدق وأعمق من الواقع المحسوس الذي تلمسه الايدي وتراه الابصار :

(وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ ، وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ). وهي صورة مؤثرة للوالد المفجوع فينفرد في معزل ، يندب فجيعته.

ويبلغ الحقد بقلوب الجاهلين من بنيه فلا يعزونه على مصابه ولا يعللونه بالرجاء بل بالعكس :

(قالُوا تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ). وهي كلمة حانقة مستنكرة فكأنهم يقولون ان يوسف ميئوس منه قد ذهب ولن يعود. ويرد عليهم الرجل بان يتركوه لربه فهو لا يشكو لأحد من خلقه ويعلم ما لا يعلمون (إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ) وفي هذه الكلمات يتجلى الشعور بحقيقة الالوهية في هذا القلب الموصول بخالقه. وهذه قيمة الايمان بالله ومعرفته سبحانه هذا اللون من المعرفة. والقلب الذي ذاق حلاوة الايمان بخالقه ، لا يدركه الا من ذاق مثله.

(يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ). فاما المؤمنون الموصولة قلوبهم بالخالق العظيم ، الشاعرة بنفحاته الندية ، فانهم

٢١١

لا ييأسوا مهما تفاقم المصاب. وعظمة الرزية ، وان روح المؤمن الحقيقي مليئة بالرجاء وازالة المحنة.

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (٨٩) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (٩١) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣))

البيان : عند ما يبلغ الامر بالانسان الى حد اليأس لا بد له من أن يسترحم بانكسار. فقد انتهت الدروس وحان وقت المفاجأة الكبرى التي لا تخطر لهم على بال. فاذا هم يعترفون بالخطأ ويسترحمون منه ، واذا بصاحب النفس الكبيرة يترفق في الافضاء بالحقيقة اليهم فيعود بهم الى الماضي البعيد الذي يعرفونه وحدهم. ولم يطلع عليه احد الا الله (قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ.) وقد رن في آذانهم صوت لعلهم يذكرون شيئا من نبراته ، ولاحت لهم ملامح الوجه لعلهم لم يلتفتوا اليها وهم يرونه في سمت العزيز وابهته. والتمع في نفوسهم خاطر من بعيد : (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) (قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا).

مفاجأة عجيبة يعلنها لهم يوسف ويذكرهم في اجمال بما فعلوه بيوسف واخيه في دفعة الجهالة اما هم فتتمثل لعيونهم وقلوبهم صورة ما فعلوا بيوسف ويجللهم الخزي والخجل وهم يواجهونه محسنا اليهم وقد أساءوا اليه من قبل (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ)

٢١٢

اعترافوا بالخطيئة وأقراروا بالذنب ، ويقابلهم يوسف بالصفح والعفو (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) لا مؤاخذة لكم ولا تأنيب اليوم. ثم يحول الحديث (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي) (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) وعلمه بان بصر ابيه يرجع بمجرد القاء القميص من الله لانه نبي ..

(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (٩٤) قالُوا تَاللهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (٩٥) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٩٦) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (٩٧) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (٩٨))

البيان : فما كان يخطر على بال احد ان يوسف بعد في الاحياء بعد هذا الامد الطويل. وان له ريحا يشمها هذا الشيخ الكليل .. كيف وجد يعقوب ريح يوسف منذ ان فصلت العير. وانه شم رائحة القميص من هذا المدى البعيد .. ولكن المفأجأة البعيدة تقع ويأتي البشير ونلمح هنا ان في قلب يعقوب شيئا من بنيه (قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي) ..

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ (٩٩) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (١٠٠) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (١٠١) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (١٠٢))

البيان : تلك القصة لم تكن متداولة بين القوم الذي نشأ محمد ص وآله فيهم. ثم بعث اليهم وفيها اسرار لم يعلمها الا الذين لامسوها من اشخاص القصة. وقد غيرت بهم القرون وقد سبق في مطلع السورة

٢١٣

قول الله عزوجل : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) (تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ) : والظاهر ان ما بينه في هذه القصة لم يكن معلوما حتى أخبر هذا القرآن عنه حتى عند غير العرب والا لما صدق عليه أنه غيب. فالغيب هو المختص بعلمه الله قبل ذكره. والتكذيب بالحق بعد وضوحه مكر وخداع (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)

(وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (١٠٣) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (١٠٤) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (١٠٥) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (١٠٦) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٠٧))

البيان : لقد كان رسول الله ص وآله حريصا على ايمان قومه. رغبة في ايصال الخير اليهم الذي جاء به من ربه. بل كانت غايته هذه الى كافة المخلوقات وليست مختصة بعشيرته. ولكن الله العالم الخبير بخفايا الخلق يقول له اكثرهم لا يريد الايمان ونبذ عصبيته وهواه والآيات التي اوجدها في الكون دالة على عظمته وحكمته وعنايته لما خلق وذرأ لا تعدو ولا تحصى (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ) : والايات الدالة على الله تعالى ووحدانيته وقدرته وحكمته الباهرة معروضة للابصار والبصائر. يمرون عليها في الصباح والمساء وهي ناطقة تكاد تدعو الناس اليها. بارزة تواجه العيون والمشاعر موحية للقلوب والعقول. ولكنهم لا يرونها ولا يسمعون نطقها البديع المرصع بالحكمة والاتقان والتدبير.

وان لحظة تأمل في مطلع الشمس ومغيبها لحظة تأمل في الظل الممتد. والعين الفوارة. والنبت الرائع. والزهرة المتفتحة. والطائر السابح في الهواء والعجائب السابحة في البحار. وسائر الحشود من

٢١٤

الامم والحيوانات والحشرات كلها آيات لاولى الالباب.

(أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ. أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

فهي لمسة قوية لمشاعرهم. ولأيقاظهم من غفلتهم وليحذروا عاقبة هذه الغفلة. فان عذاب الله الذي لا يعلم موعده احد قد يغشاهم اللحظة بعد اللحظة. وربما تكون الطامة على ابوابهم او فوق رؤوسهم فلا يحسون الا وقد اظلهم العذاب المدمر لهم.

ان الغيب موصد الابواب لا تمتد اليه عين ولا أذن. ولا يدري احد ماذا سيكون اللحظة.

(قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٨) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٠٩))

البيان : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي) واحدة مستقيمة لا عوج فيها ولا شك ولا شبهة. فنحن على هدى من الله ونور. نعرف طريقنا جيدا. ونسير فيها على بصيرة وادراك ومعرفة وخبرة هو اليقين المستنير. هذه طريقي من شاء فليتابع ومن لم شاء فأنا سائر في طريقي المستقيم. واصحاب الدعوة الى الله لا بد لهم من هذا التميز لا بد لهم من ان يعلنوا انهم امة واحدة يفترقون عمن لا عقيدة لهم مستقيمة. ولا يسلك مسلكهم ولا يدين لقيادتهم.

(حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (١١٠) لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِى الْأَلْبَبِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِى بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَىْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١١١))

البيان! (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ .. جاءَهُمْ نَصْرُنا) : انها صورة

٢١٥

رهيبة ترسم مبلغ الشدة والكرب والضيق في حياة الرسل. وهم يواجهون الكفر والعمى والاصرار والجمود. وتمر الايام وهم يدعون فلا يستجيب لهم الا قليل .. وتكر الاعوام والباطل في قوته وكثرة اهله. والمؤمنون في عدتهم القليلة وقوتهم الضئيلة.

انها ساعات حرجة. والباطل يتفشى ويطغى ويبطش ويغدر. والرسل ينتظرون الوعد فلا يتحقق لهم في هذه الارض فلعل انه يخطر في اذهان بعض اتباعهم ان الله مخلف وعده او لا ينصرهم على اعدائهم وينتشلهم من جراثم الظلم والعدوان.

وفي ساعة ما يستحكم فيها الكرب ويأخذ فيها الضيق بمخانق الرسل ولا تبقى ذرة من الطاقة المدخرة في هذه اللحظة الحرجة. يجيء للنصر كاملا حاسما فاصلا. وينتشل القلة المؤمنة المظلومة (جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).

تلك سنة الله في الدعوات. فلا بد من الشدائد للتمحيص ولا بد من الكرب للتصفية حتى لا يبقى الذين قد اندسوا مع الاخيار من الاشرار لأجل الدنيا او لأجل الفساد. ثم يجيء النصر بعد اليأس وينجي الله الذين اتقوا بمفازتهم. ويهلك المفسدين والمجرمين يجيء النصر من عند الله عزوجل. فينجوا الذين يستحقون النجاة. ينجون من الدمار الذي يأخذ المكذبين. وينجون من البطش الذي يسلطه الله تعالى على المتجبرين ويحل بأس الله تعالى بالمجرمين ما حقا لهم لا يمكنهم الوقوف امامه. ولا يدفعه عنهم وليّ ولا حميم. ولا رجال ولا سلاح. ذلك لا يكون النصر رخيصا فتكون الدعوات هزلا. فلو كان النصر رخيصا لقام في كل يوم دعي بدعوة لا تكلفه شيئا ودعوات الحق لا يجوز ان تكون عبثا ولا لعبا. فانما هي قواعد للحياة البشرية. ومناهج ينبغي صيانتها

٢١٦

وحراستها من الادعياء الكاذبين. وذلك منحصر بتلازمها للمتاعب والشدائد حتى تعجز الادعياء عن حمله والافتراء بدون حق وحينئذ تبين ان لا يصمد لحمل الدعوة الصادقة وتحمل لوازمها من الشدائد والمتاعب الا اهل الحق والصدق الذين لا يتخلون عن دعوة الله ولو اصابهم جميع الشدائد وان منع عنهم النصر من الله عزوجل لحكمة دعت ذلك الرب الحكيم العزيز.

ان الدعوة الى الله تعالى ليست تجارة قصيرة الاجل. اما ان تربح ربحا معينا محددا في هذه الارض. واما ان يتخلى عنها اصحابها الى تجارة اخرى اقرب ربحا وايسر حصلة.

والذي ينهض بالدعوة الى الله في المجتمعات الجاهلية ـ التي تدين لغير الله او تحكم بغير ما انزل الله ـ يجب ان يوطن نفسه على انه لا يقوم برحلة مريحة. ولا يقوم بتجارة مادية قريبة الأجل. انما ينبغي له ان يستيقن انه بمقدار ما يواجه الطواغيت يعلو قدره عند خالقه وينال ثوابه واذا كان الاجر بقدر المشقّة سهل حينئذ كل صعب وشدة.

ويجب ان يستيقنوا ان الدعوة الى الله كثيرة التكاليف وانما تختص بالصفوة المختارة الضئيلة (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) وان عدد هذه الصفوة يكون دائما قليلا جدا (وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) ولكن الله عزوجل قادر ان يجعل من هذه الصفوة القليلة قوة متينة ويعينها حتى تغلب اقوى قوة باذن الله (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) وعندئذ يدخل الناس في دين الله افواجا. وفي قصة يوسف (ع) الوان من الشدائد. ولكن قد اثمرت بعد ذلك براحة ونعيم وعزّ وفوز مبين. (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ .. وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ..

٢١٧

ـ ١٣ ـ سورة الرعد ـ وعدد آياتها ـ ٤٤ ـ اربع وأربعون آية

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١) اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢))

البيان : الف. لام. ميم. را (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ) آيات القرآن تدل على انها من عند الله. وان هذا الكتاب هو من صنع الخالق ولو ان للمخلوقين دخل فيه لاستطاعوا ان يردوا على تحديه لهم (وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ). الحق الخالص الذي لا يتلبس بالباطل. والذي لا يحتمل الشك والتردد وتلك الاحرف آيات على انه الحق فهي آيات على انه من عند الله العزيز الحكيم. ولا يكون ما عند الله الا حق لا ريب فيه.

(وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) : وتبدأ الريشة المعجزة في رسم المشاهد بعد هذه الايات الضخام. (الله رفع السماوات بغير عمد ترونها) فالسموات معروضة على الانظار في هولها العجيب. ونظامها الدقيق. ولا شك حين يخلو الناس الى تأملها لحظة. وهي هكذا لا تستند الى اي شيء مرفوعة (بِغَيْرِ عَمَدٍ).

هذه هي اللمسة الاولى للوجدان الانساني وهو يقف امام هذا المشهد الهائل يتملاه. ويدرك انه ما من احد يقدر على رفعها الا خالقها العظيم. ومن هذا المنظر الهائل الذي يراه الناس الى المغيب الهائل الذي تتقاصر دونه المدارك والابصار ومن الاستعلاء المطلق الى تسخير الشمس والقمر. (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) والى حدود مرسومة ووفق ناموس مقدر. سواء في جريانهما في فلكيهما دروة سنوية ودورة يومية. او جريانهما في مداريهما لا يتعديانه ولا ينحرفان عنه قيد شعرة. او جريانهما هذا الامد الطويل قبل وبعد (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) الامر كله على هذا

٢١٨

النحو من التدبير الذي يسخر الشمس والقمر. كل يجري لأجل مسمى ومن تدبيره الامر انه (يفضل الآيات) وينظمها وينسقها ويعرض كلا منها في حينه ولغلته (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) حين ترون الايات مفصلة منسقة ومن ورائها آيات الكون الهائلة.

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

البيان : ويهبط الخط التصوري الهائل من السماء الى الارض فيرسم لوحتها العريضة الاولى : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) والخطوط العريضة في لوحة الارض هي مد الارض وبسطها امام النظر وانفساحها على مداه. لايهم ما يكون شكلها الكلي في حقيقته ، انما هي مع هذا ممدودة مبسوطة فسيحة هذه هي اللمسة الاولى في اللوحة.

ثم يرسم خط الرواسي الثوابت من الجبال ولاحظ الانهار الجارية في الارض فتتم الخطوط العريضة الاولى في المشهد الارضي متناسقة متقابلة.

ومما يناسب هذه الخطوط الكلية ما تحتويه الارض من الكليات وما يلابس الحياة فيها من كليات كذلك. وتتمثل الثانية في ظاهرة الليل والنهار (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ).

والمشهد الاول يتضمن حقيقة لم تعرف للبشر من طريق علمهم وبحثهم الا قريبا. هي أن كل الاحياء وأولها النبات تتألف من ذكر وانثى وهي حقيقة تتضامن مع المشهد في اثارة الفكر الى تدبر اسرار الخلق بعد تملي ظواهره.

٢١٩

والمشهد الثاني مشهد الليل والنهار متعاقبين هذا يغشى ذاك في انتظام عجيب ، هو ذاته مثار تأمل في مشاهد الطبيعة. فقدوم الليل وأدبار النهار. أو اشراق فجر وانقشاع ليل ، حادث تهون الالفة من وقعه في الحس. ولكنه في ذاته عجب من الاعاجيب ، لمن ينفض عنه موات الالفة. وخمودها ، ويتلقاه بحس المتجدد ، الذي لم يجمد التكرار. والنظام الدقيق الذي لا تتخلف معه دورة الفلك هو بذاته كذلك مثار التأمل في ناموس هذا الكون. وتفكير في القدرة المبدعة. التي تدبره وترعاه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

ثم تمضي الريشة المبدعة في تخطيط وجه الارض بخطوط جزئية أدق من الخطوط العريضة :

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

وهذه المشاهد الارضية والكثيرون الذين يمرون عليها فلا تثير فيهم حتى رغبة التطلع اليها الا أن ترجع النفس الى حيوية الفطرة والاتصال بالكون الذي هي قطعة منه انفصلت عنه لتتأمله ثم تندمج فيه (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) متعددة الثتات ، والا لما تبين انها متعددة. منها الطيب الخصب. ومنها السبخ النكد. ومنها المقفر الجدب. ومنها الصخر الصلد. وكل واحد من هذه وتلك ابداع وألوان ودرجات ، ومنها العامر والغامر. ومنها المزروع والمغروس والمهمل والميت ومنها الريان والعطشان ، وهي كلها أرض متجاورة.

هذه اللمسة العريضة الاولى في التخطيط التفصيلي ثم تتبعها تفصيلات (وَجَنَّاتٌ ..) (وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) فمن غير الخالق المدبر المريد يفعل هذا وذاك.

٢٢٠