تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٦٧) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (٦٨))

البيان : قال اعبدوا الله ما لكم من آله غيره) : انها كلمة لا تتغير فهي مبدأ دعوة كل نبي (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) والاضافة في (رَبِّي) ولفظ (قَرِيبٌ) ولفظ (مُجِيبٌ) واجتماعها وتجاورها ترسم صورة لحقيقة الالوهية كما تتجلى في قلب من قلوب الصفوة المختارة. وتخلع على الجو انسا واتصالا ومودة. تنتقل من قلب النبي صالح الى قلوب مستمعيه لو كانت لهم قلوب تفقه. ولكن قلوب القوم كانت قد بلغت من الفساد والاستغلاق والانطماس درجة لا تستشعر معها جمال تلك الصورة. ولا جلالها المنعش وجاء جوابهم (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) وهكذا يجيب القوم مما لا عجب فيه .. ويدهشون لدعوة اخيهم صالح الى عبادة الله وحده. وهكذا يبلغ التحجر بالناس ان يعجبوا من الحق المبين ويعرضون عن عبادة الخالق العظيم الى عبادة الاوثان التي لا تملك ضرا ولا نفعا. ويأتي الانذار لهم فيقول لهم :

(هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ) (فَعَقَرُوها .. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ) و (نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا) (كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا) (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) وما هي الا ومضة حتى اصبحوا هامدين وحقت عليهم اللعنة.

(وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (٦٩) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (٧٠) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (٧١) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ

١٨١

عَجِيبٌ (٧٢) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (٧٣) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (٧٤) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (٧٥) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (٧٦))

البيان : ولم يفصح السياق عن هذه البشرى الا في موعدها المناسب بحضور امرأة ابراهيم. وكان ابراهيم (ع) قد هاجر الى أرض الكلدانيين مسقط رأسه في العراق. وعبر الاردن وسكن في أرض كنعان في البادية ـ وعلى عادة البدو في اكرام الاضياف راح ابراهيم يحضر لهم الطعام (نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً) لما رأى أيديهم لا تصل اليه. فالذي لا يأكل الطعام يريب ويشعر بانه ينوي السوء بمن لا يأكل طعامهم وهي تقاليد اهل البدو. ويتحرج من ينوي السوء بمن لا يأكل طعام من يريد به السوء لانها تعد خيانة لان اكل الطعام علامة الامان والحب.

(فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ) وكانت عقيما لم تلد وقد أصبحت عجوزا ففاجأتها البشرى باسحاق وهي بشرى مضاعفة بان سيكون لاسحاق ذرية من بعده يعقوب ، وقد تعجبت من ذلك. وهو عجيب حسب العادة الجارية. ولكن لا عجب عند ارادة الخالق القادر على كل شيء فهو جعل العادة وهو قادر على تغييرها عند الارادة.

والذين يقيدون مشيئة الله بما يعرفونه ، هم لا يعرفون حقيقة الالوهية القادرة على كل شيء فمشيئة الله سبحانه طليقة وراء ما يقرره عزوجل من نواميس والتغيير والتبديل بيده.

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (٧٧) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ

١٨٢

مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (٧٨) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)

قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (٨١) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (٨٢) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (٨٣))

البيان : لقد كان لوط يعرف قومه ، ويعرف ما أصاب فطرتهم من انحراف وشذوذ عجيبين. اذ يتركون النساء ويرغبون في الرجال ، مخالفين الفطرة التي تهدي الى الحكمة البالغة ، التي تمد الحياة بالنسل والتي تجد اللذة الحقيقية في تلبية نداء الحكمة الالهية الازلية ، ولم تختص هذه الحكمة في الانسان فقط بل تشمل جميع الحيوانات والحشرات.

ورأى لوط ما يشبه الحمى في أجساد قومه المندفعين الى داره يهددونه في ضيفه وكرامته فحاول أن يوقظ فيهم الفطرة السليمة ، ويوجههم الى الجنس اللطيف الذي خلقه لهذه الغاية (فَاتَّقُوا اللهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي) : فالقضية مقصودة فلا ينفع مع المنحرف تنبيه اذا كان انحرافهم عن علم ودراية. ثم قال لوط : (لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً) : وغاب عن لوط انه يأوي الى ركن شديد. وهو ركن الله عزوجل لا يغلبه غالب : (إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ) (إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ).

فلما جاء موعد تنفيذ الامر (جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها) وهي صورة للتدمير الكامل الذي يقلب كل شيء ويغير المعالم ويمحوها ، وهذا القلب وجعل عاليها سافلها ، اشبه شيء بتلك الفطرة المقلوبة الهابطة ، المرتكسة من قمة الانسان الى درك الحيوان : (وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ) فهي قريبة من كل جبار عنيد فمتى أراد الخالق العظيم تدميره فلا يحتاج الا الى قوله : (كُنْ فَيَكُونُ* وَقُضِيَ الْأَمْرُ)

١٨٣

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (٨٤) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٨٥) بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (٨٦) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (٨٧) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (٨٨) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (٨٩) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (٩٠)

قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (٩١) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٩٢) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (٩٣) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (٩٤) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (٩٥))

البيان : فالقضية هنا قضية الامانة والعدالة ـ بعد قضية العقيدة والدينونة ـ أو هي قضية الشريعة والمعاملات التي تنبثق من قاعدة العقيدة والدينونة.

فقد كان أهل مدين ـ وبلادهم تقع في الطريق من الحجاز الى الشام ـ وكانوا ينقصون المكيال والميزان. ويبخسون الناس أشياءهم أي ينقصونهم قيمة أشيائهم في المعاملات وهي رذيلة تمس نظافة القلب واليد. كما تمس المروءة والشرف. كما كانوا بحكم موقع بلادهم يملكون ان يقطعوا الطريق على القوافل الذاهبة والآبية بين شمال الجزيرة وجنوبها ويتحكموا في طريق القوافل ويفرضوا ما يشاؤون من المعاملات الجائرة كما وصفها الله تعالى.

١٨٤

ومن ثم تبدو علاقة عقيدة التوحيد والدينونة لله وحده بالامانة والنظافة وعدالة المعاملة وشرف الأخذ والعطاء ، ومكافحة السرقة الخفية سواء قام بها الافراد ام قامت بها الدول. فهي بذلك ضمانة لحياة انسانية افضل. وضمانة للعدل والسّلام في الارض بين الناس ، وهي الضمانة الوحيدة التي تستند الى الخوف من الله وطلب رضاه ، فتستند الى أصل ثابت لا يتأرجح مع المصالح والاهواء.

ان المعاملات والاخلاق لا بد أن تستند الى أصل ثابت لا يتعلق بعوامل منقلبة. هذه هي نظرة الاسلام ، وهي تختلف من الجذور مع سائر النظريات الاجتماعية والاخلاقية التي ترتكز الى تفكيرات البشر وتصوراتهم ، وأوضاعهم ومصالحهم الظاهرة لهم.

وهي حين تستند الى ذلك الاصل الثابت ينعدم تأثرها بالمصالح المادية القريبة ، كما ينعدم تأثرها بالبيئة والعوامل السائدة فيها.

فلا يكون المتحكم في أخلاق الناس وقواعد تعاملهم من الناحية الاخلاقية ، هو كونهم يعيشون على الزراعة ، أو الرعي ، أو الصناعة ، ان هذه العوامل المتغيرة تفقد تأثيرها في التصور الاخلاقي وفي قواعد المعاملات الاخلاقية. حين يصبح مصدر التشريع للحياة كلها هو شريعة الله تعالى. وحين تصبح قاعدة الاخلاق هي ارضاء الله عزوجل وانتظار ثوابه وتوقي عقابه وسخطه. ويصبح كل ما يعتبره المخلوقات لغوا في ظل النظرة الاخلاقية الالهية الاسلامية.

(وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ) : فقد رزقكم الله رزقا حسنا فلستم بحاجة. (وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ) اما عاجل الحياة أو في آجلها. وسيزول عنكم كلما تملكون.

(بَقِيَّتُ اللهِ خَيْرٌ لَكُمْ) : ومثل هذا الاسلوب يشعر المخاطبين بخطورة

١٨٥

الامر ، ويقفهم وجها لوجه امام العاقبة التي ستقع بهم ولا راد لها عندئذ ، ولكن القوم كانوا قد عتوا وطغوا :

(قالُوا : يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا ، أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا)

وهو رد واضح التهكم والسخرية ، ولا عجب اذا حصل هذا من أهل العصور المظلمة. لكن الأعجب والاغرب ما يحصل من ارباب القرن العشرين عصر العلم والثقافة والتقدم. وهم يدعون الاسلام والايمان. ويستنكرون وجود صلة بين العقيدة والاخلاق ، وبخاصة في المعاملات بحيث انعدم عندهم : هذا حلال وهذا حرام ، فلم يبق لمفهوم الحرام عندهم مصداق.

وحجتهم انا قد حصلنا على الشهادات العليا من جامعاتنا وجامعات العالم فلا حاجة لنا بعد لان نقول هذا حلال وهذا حرام فكل ما يقدر عليه الانسان فهو حلال بدون استثناء حتى على وطىء اخته وبنته وجارته ، ونهب كل مال يقدر عليه الانسان. وهم يستنكرون بشدة وعنف أن يتدخل الدين في شيء من المعاملات.

ويتساءلون أولا وما للاسلام وسلوكنا الشخصي ، وما للاسلام والعرب في الشواطىء ، ما للاسلام وزي المرأة في الطريق. ما للاسلام وتصريف الطاقة الجنسية بأي سبيل ، ما للاسلام وتناول كأس من الخمر لاصلاح المزاج. فأي فرق بين هذه التساؤلات وبين أهل مدين مع نبيهم شعيب (ع).

وقولهم (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا). الثاني استنكارهم على تدخل الدين في الاقتصاد والنهي عن أشياء يسمونها محرمة بجميع انواع الحيل والمكر والغش وبخس الميزان.

١٨٦

ويسخر أهل مدين بنبيهم فيقولون : (انك انت الحليم الرشيد) وهم يعنون العكس من معناه. وكذلك هو عند العرب المثقفين المتحضرين في القرن العشرين ، يعيبون على المتدينين بعض ما يلتزمون به مما أمر الله بفعله أو نهى عن فعله.

ويتوجه شعيب الى تذكير القوم بما أصاب غيرهم من الامم لما عصوا خالقهم وكذبوا أنبيائهم فقال (ع) : (يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ) ولكن القوم كانوا قد بلغوا من الفساد الروحي ، ومن سوء تقدير القيم حدا لا يوصف (سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ) : أنا أم أنتم (وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ).

ترقبوا العاقبة التي تنتظرني وتنتظركم ، وفي هذا التهديد ما يوحي بثقته بالمصير.

ويسدل الستار هنا ، على هذه الكلمة الاخيرة الفاصلة وعلى هذا الافتراق والمفاصلة ليرفع هناك على مصرع القوم. وعلى مشهدهم جاثمين في ديارهم. قد أخذتهم الصاعقة التي أخذت قوم صالح ، فكان مصيرهم كمصيرهم. فقد خلت منهم الديار وأصبحوا عبرة لأولي الالباب :

(كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ) وطويت صفحة أخرى من العبر والعظة.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (٩٦) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (٩٧) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (٩٨) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (٩٩) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (١٠٠) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا

١٨٧

جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (١٠١) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (١٠٢) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨))

البيان : تتضمن هذه الاشارات ايماءات كثيرة الى وقائع القصد التي لم تذكر هنا. كما تضم مشهدا من مشاهد القيامة الحية المتحركة. وهذا وذلك الى تقرير مبدأ رئيسي من مبادىء الاسلام. مبدأ التبعية الفردية ، التي لا يسقطها اتباع الرؤساء والكبراء.

(وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ. يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ. فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ)

وما كانوا الا تبعا لفرعون في كفره وطغيانه على خالقه. وظلمه وعدوانه على عباده. كان لا بد ان يتحد مسراهم مع مسراه ونهايتهم مع نهايته : (فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ).

ومصارع القوم معروضة ومشاهد تزحم بالعبرة والعظة لقوم يعقلون : منهم الغارقون في لجة الطوفان .. ومنهم المأخوذون بالعاصفة المدمرة. ومنهم من أخذته الصيحة. ومنهم من خسفنا به وبداره الارض. ومنهم غير ذلك قد نزل بهم أنواع من العذاب والانتقام في الدنيا قبل الاخرة. (مِنْها قائِمٌ) لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران. كبقايا عاد في الاحقاف. وبقايا ثمود في الاحجار (ومنها حصيد) اجتثت من فوق الارض آثارها كما حل بقوم نوح ولوط (ع) (وَما ظَلَمْناهُمْ) فهم عطلوا مداركهم وتولوا عن الهدى وكذبوا بالايات واستهزأوا بالوعيد الموعود.

١٨٨

(فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) : وبمثل هذا الدمار والنكال يأخذ ربك القرى حين تطغى وتحارب خالقها بعصيانه. وتتحكم بسلطانه ، وتدين بغير ربوبيته ، وما جلب ذلك الظلم الا عليها وعلى نفسها لذلك استحقت العقاب والعذاب (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ). (ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ).

وهنا يرسم مشهد التجميع يشمل الخلق جميعا. والرهبة الشاملة تخيم على المشهد ومن فيه. والكلام باذن ، لا يجرؤ أحد على طلبه ، ولكن يؤذن لمن شاء الله فيخرج من صمته وذهوله الهائل.

ومن خلال التعبير نشهد (الَّذِينَ شَقُوا) نشهدهم في النار مكروبي الانفاس (لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ) ونشهد (الَّذِينَ سُعِدُوا) نشهدهم في الجنة لهم فيها عطاء غير مجذوذ ، دائم غير مقطوع ولا منقوص.

هؤلاء وأولئك خالدون كل فيما استحق من عذاب أو نعيم (ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) نعوذ بالله من سوء العاقبة وقبح المنقلب.

(فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (١٠٩) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (١١٠) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١١١) فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١١٢)

وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (١١٣) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (١١٤) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١١٥) فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (١١٦) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (١١٧))

١٨٩

البيان : (فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ) : اذن فمصيرهم كمصير آبائهم ، العذاب والدمار ، فقد وقف المشركون وقفتهم العنيدة من القلة المؤمنة. ومن رسول الله ص وآله ، وتجمدت الدعوة على وجه التقريب بينما عذاب الله الموعود مؤجل لم يقع ـ اكراما لرسول الله ص وآله (ما كان الله معذبهم وانت فيهم) والاذى ينزل بالعصبة المؤمنة ، ويمضي أعداؤها ناجين .. انها فترة تهتز فيها بعض القلوب (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) لقد أخذت النبي ص الله رهبة هائلة حين نزول هذه الآية عليه فقال ص وآله (شيبتني سورة هود) فالاستقامة والاعتدال والمضي على النهج دون انحراف يحتاج الى يقظة هائلة ودائمة وضبط الانفعالات البشرية التي تميل الاتجاه الى الانحراف (إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) : فلا تستندوا ولا تطمئنوا الى الذين ظلموا من الجبارين والطغاة الظالمين أرباب القوة والفساد في الارض ، الذين يقهرون العباد بقوتهم وطغيانهم (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) والاستقامة في هذا الزمان الفاسد أمر شاق.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) : ولقد علم الله عزوجل أن هذا هو الزاد الذي يبقى حين يفنى كل زاد. والذي يقيم البنية الروحية ، ويمسك القلوب على الحق الشاق للتكاليف والدوام عليها ، فان الصلاة تصل القلوب بخالقها الرحيم الودود ، القريب المجيب ، ويرشح عليها من نسيمه المنعش ويؤنسها في وحدتها وعزلتها عن أهل الضلال والفساد ، في الجاهلية النكدة (ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ) (وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (فلو لا من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الارض).

وهذه الاشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الامم ، فالامة التي

١٩٠

يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله ، فأصحاب الدعوة الى ربوبية الله وحده ، وتطهير الارض من الفساد يصيبها بالدينونة لغيره ، وهذا يبرز قيمة كفاح المكافحين لاقرار ربوبية الله عزوجل على عباده.

(وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (١١٩) وَكُلًّا نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِى هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (١٢٠) وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَٰمِلُونَ (١٢١) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (١٢٢) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَفِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (١٢٣))

البيان : وهذه الاشارة تكشف عن سنة من سنن الله في الامم ، فالامة التي يقع فيها الفساد بتعبيد الناس لغير الله عزوجل. فلا ينهض من يدفع الظلم والفساد ، فان سنة الله ان تحق عليها اما الهلاك والاستئصال ، واما الهلاك والانحلال.

فأصحاب الدعوة الى عبودية الخالق وحده ، وتطهير الارض من الفساد الذي يصيبها بالدينونة لغيره هم ضمان الامان للامم والشعوب ، وهنا يبرز قيمة كفاح المكافحين لاقرار ربوبية الله وحده : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) : يعني لو أراد الخالق اجبار العباد على طاعته لفعل ولكن شاءت الارادة الآلهية ان يبين لهم طريق الجنة وطريق النار ويترك لهم الخيار وفي النهاية الحساب :

(وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)

وحيث أن أكثر الناس ينجرون وراء أهوائهم فلذا استحقوا العذاب الخالد لخلود عصيانهم لو داموا في هذه الحياة فالمجازات على النوايا ولكل امرىء مانوى.

(وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ. وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وهكذا تختم السورة

١٩١

التي بدئت بالتوحيد في العبادة والتوبة والانابة والرجعة الى الله في النهاية.

وهكذا يلتقي جمال التنسيق الفني في البدء والختام والتناسق بين المبدأ والختام وكمال النظرة والفكرة ، والاتجاه في هذا القرآن (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)

ان الحقيقة الاولى البارزة في سياق السورة كلها هي التركيز على الامر بعبادة الله وحده والنهي عن عبادة سواه. وتقرير ان هذا هو الدين كله لله.

ان هذا يعطينا ايحاءا عميقا بقيمة تلك الحقيقة الكبيرة ووزنها في ميزان الله عزوجل بحيث تستحق ألّا توكل الا الى المفهوم المتضمن لعبادة الله وحده. وتقرير ان لا اله الا هو الذي يستحق الطاعة والعبادة. ومن ثم جاء التعبير القرآني عن حقيقة التوحيد بالامر والنهي معا ، بحيث يؤكد أحدهما الاخر التوكيد الذي لا يبقى معه ثغرة ينفذ منها الشرك في كافة صوره.

(ألم : كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير أن لا تعبدوا الا الله انني لكم منه نذير وبشير) انذار وتحذير من العصيان الذي يهوي بصاحبه الى الخلود في النار او التبشير بالفوز والسعادة التي ينالها المؤمنون المطيعون في الدنيا والاخرة وذلك هو الفوز العظيم والعاقبة للمتقين والحمد لله رب العالمين.

١٩٢

ـ ١٢ ـ سورة يوسف عدد آياتها : مائة واحدى عشرة آية

بسم الله الرحمن الرحيم

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (٣)

إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (٤) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (٥) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦))

البيان : ألف. لام. را (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) هذه الاحرف ومايليها من جنسها هي بين يدي الناس اجمع. هي بعينها تلك الآيات المتسامية على الطاقة البشرية ، ولقد ألف الخالق العظيم منها هذا الكتاب وهو عربي ومن هذه الاحرف العربية ، فيأتوا بمثله ان اعتراهم الشك في أنه من عند الخالق العظيم. وهو يحكم على استحالة المخلوقات عن الاتيان بمثله.

كان يوسف (ع) صبيا وهذه الرؤيا ليست من رؤى الصبية ، ولا تشبه اسلوب الصبيان لهذا فقد ادرك أبوه يعقوب ان وراء هذه الرؤيا شأنا عظيما لهذا الغلام.

(إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ومن ثم فهو يوغر صدور الناس بعضهم على بعض ويزين لهم الخطيئة والشر ليفعلوه : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) والتأويل هو معرفة الاشياء قبل حدوثها. وانما هو الهام من الله يخص به أولياءه المقربين.

(لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً

١٩٣

صالِحِينَ (٩) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (١٠))

البيان : لقد كان في قصة يوسف وأخوته آيات وامارات على حقائق كثيرة لمن ينقب عنها وهذا الافتتاح كفيل بتحريك الاتنباه والاهتمام. فهم يتحدثون عن ايثار يعقوب ليوسف وأخيه عليهم :

(إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا) : فهو يؤثر غلاما وصبيا صغيرين على مجموعة من الرجال الكبار. ثم يغلي الحقد ويدخل الشيطان ، فيختل تقديرهم للوقائع ، وتهون الفعلة الشنعاء وصحة تقديرها للاحداث ، وهكذا لما غلا في صدورهم الحقد برز الشيطان ليقول لهم : اقتلوا ، والتوبة بعد ذلك تمحو ما فات. وانما هي تبرير لارتكاب الجرائم يزينه الشيطان اللعين. كما تزين الكنيسة صكوك الغفار للمجرمين

ولكن ضميرا واحدا فيهم يرتعش لهول ما صمموا عليه : (فقال : (لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ) كأنه يشككهم في أنهم مصرون على ايقاع الاذى بيوسف وهو أسلوب من اساليب التثبيط عن الفعل. واضح فيه عدم الارتياح للتنفيذ. ولكن هذا كان أقل ما يشفي حقدهم ، ولم يكونوا على استعداد للتراجع فيما اعتزموه.

(قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (١٣) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (١٤)

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٥) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (١٦) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (١٧) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (١٨))

١٩٤

البيان : (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) : سؤال فيه عتب وفيه استنكار خفي. والتسليم لهم بعكسه وهو تسليمهم يوسف فهو كان ينبغي أن يستبقي يوسف ولا يرسله معهم. ومبادرتهم له بانه لا يأتمنهم على أخيهم مقصود بها استجاشته لنفي هذا الخاطر. فهي مبادرة ماكرة منهم خبيثة.

وردا على العتاب والاستنكار الاول جعل يعقوب ينفي ـ بطريق غير مباشر ـ انه لا يأمنهم عليه ويعلل احتجازه بقلة صبره على فراقه. وخوفه عليه من الذئب.

واختاروا اسلوبا من الاساليب المؤثرة لنفي هذا الخاطر عنه (قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ)

وهكذا استسلم الوالد الحريص لهذا التوكيد ولذلك الاحراج ، ليتحقق قدر الله وتتم القصة.

(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ) استقر رأيهم جميعا على أن يجعلوه في غيابة الجب ، حبث يغيب فيه عنهم وفي لحظة الضيق والشدة التي كان يواجه فيها هذا الفزع ، والموت منه قريب. ولا منقذ له ولا مغيث الا الله. وهو وحده مع صغره. وهم عشرة أشداء. في هذه اللحظة اليائسة يلقي الله في روعه انه ناج. وانه سيعيش حتى يواجه اخوته بهذا الموقف الشنيع. وهم لا يشعرون بان الذي يواجههم هو يوسف الذي تركوه في غيابة الجب وهو صغير. سيصير عما قريب عزيز مصر وملكا عليها.

(وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ ...) لقد ألهاهم الحقد الغائر عن سبك الكذبة ، فكان لالتقاطهم لحكاية الذئب المكشوفة دليلا يخشون ألا تواتيهم الفرصة مرة أخرى. وقد كان أبوهم يحذرهم ذلك ، ويكادون يتهكمون بها. فلم يكن من المستساغ ان يذهبوا في الصباح

١٩٥

ليتركوا يوسف للذئب الذي حذرهم أبوهم منه أمس ، وبمثل هذا التسرع جاؤوا على قميصه بدم كذب لطخوه في غير اتقان فكان ظاهره الكذب حتى ليوصف بانه كذب وما اتقنوا اصطناعه.

(وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) : وأدرك يعقوب من دلائل الحال ومن نداء قلبه ان يوسف لم يأكله الذئب ، وانهم دبروا له مكيدة ما. وانهم يلفقون له قصة مصطنعة لم تقع (قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ).

(وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠)

وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢))

البيان : لقد كان الجب (البئر) على طريق القوافل التي تبحث عن الماء في مظانه في الآبار. وفي مثل هذا الجب الذي ينزل فيه ماء المطر ويبقى فترة ويكون في بعض الاحيان جافا قد انتهى ماؤه.

وجاءت القافلة ـ سميت سيارة من السير الطويل ـ (فَأَدْلى دَلْوَهُ) لينظر الماء واذا به قد تعلق بالدلو غلام. وحقق النظر فاذا هو انسان ففرحوا به واستبشروا بالثمن الغالي الذي سينالونه منه. ولكن الشيء الذي يأتي عفوا بلا تعب يباع رخيصا فباعوه بثمن بخس (وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ) لانهم يريدون التخلص من تهمة استرقاقه وبيعه. وتم كل شيء فعلوه. (وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ) ويكشف الرجل لأمرأته عما يتوسمه في الغلام من خير ، وما يتطلع اليه من أمل صالح ولعلهما لم يكن لهما أولاد كما تذكر بعض الروايات. ومن ثم

١٩٦

تطلع الرجل أن يتخذاه ولدا اذا صدقت فراسته. وتحققت نجابته مع وسامته.

وهنا يكشف لنا أن هذا التدبير من الله عزوجل. وبمثله قدر ليوسف التمكين في الارض (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ) وها هو ذا يوسف أراد له أخوته أمرا. وأراد الله له عكسه. ولا يكون الا ما أراد الله الحكيم الخبير. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)

(ولما بلغ آتيناه حكما وعلما) فقد أوتي صحة الحكم على الامور وأوتي علما بمصائر الاحاديث. (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا).

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤)

وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (٢٩))

البيان : ان السياق لم يذكر كم كانت سنها وكم كانت سنه. فلننظر في الامر من باب التقدير لقد كان يوسف غلاما عند ما التقطته القافلة ، وباعته في مصر. أي انه كان حوالي الرابعة عشر تنقص ولا تزيد. فهذه هي السن التي يطلق عليها لفظ غلام. وبعدها يسمى فتى فشابا فرجلا. وهي السن التي يجوز فيها ان يقول يعقوب :

(وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ).

١٩٧

وفي هذا الوقت كانت زوجة العزيز وكان زوجها لم يرزقا أولادا كما يبدو من قوله : (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) ولا يقال هذا الا اذا وصل سن المرأة حد اليأس ، حتى يحصل اليأس من الولد. فلا بد ان تكون قد مضت على زواجهما فترة طويلة يعلمان فيها أن لا ولد يأتيها بعد وعلى كل حال فالمتوقع عن سنها ان يكون قد تجاوز الاربعين على أقل تقدير. بل كان زوجها غنينا لا يصيب النساء اصلا.

واذا قلنا أن المراودة كانت بعد شراء يوسف بعشر سنين فتكون سنها وقت راودت يوسف خمسين سنة والتي يتحدث فيها النسوة عن امرأة العزيز. فيكون جوابها عليهن ان أعدت مأدبة لهن وأمرت أن يخرج عليهن يوسف فيفتننّ به. ويصرخن (ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ.)

(وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) فهذه البيئة التي تسمح بهذا وذلك هي بيئة خاصة ، هي بيئة الطبقة المترفة دائما ، ويوسف كان فيها عبدا مملوكا. وتربى فيها في سن الفتنة.

فهذه هي المحنة الطويلة التي مر بها يوسف وصمد لها. ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها. وميوعتها ووسائلها الخبيثة ، ولسنه وسن المرأة التي يعيش معها تحت سقف واحد كل هذه المدة. قيمة في تقدير مدى الفتنة. وخطورة المحنة والصمود لها هذا الامد الطويل.

أما هذه المرأة فلو كانت وحدها وكانت مفاجأة بلا تمهيد من اغراء طويل ، لما كان عسيرا ان يصمد لها يوسف ، وبخاصة انه هو مطلوب فيها لا طالب. وتهالك المرأة قد يصد من نفس الرجل وهي كانت متهالكة. والان نواجه النصوص :

(وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ).

١٩٨

اذن فقد كانت المراودة في هذه المرة مكشوفة ، وكانت الدعوة فيها سافرة ، الى الفعل الاخير وحركة غلقت الابواب ، لا تكون الا في اللحظة الاخيرة. وقد وصلت المرأة الى اللحظة الحاسمة التي تهتاج فيها دفعة الجسد الغليظة ، ونداء الجسد الاخير (وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ)

هذه الدعوة السافرة الجاهرة الغليظة لا تكون أول دعوة من المرأة ، انما تكون هي الدعوة الاخيرة. وقد لا تكون ابدا اذا لم تضطر اليها المرأة اضطرارا ، والفتى يعيش معها وقوته وفتوته تتكامل وأنوثتها هي كذلك تكمل وتنضج ، فلا بد كانت هناك اغراءات عديدة متنوعة قبل هذا.

(قالَ مَعاذَ اللهِ) أعيذ نفسي بالله ان افعل ... انه لا يفلح الظالمون) الذين يتجاوزون حدود الله. فيرتكبون ما تدعينني اللحظة اليه. والنص هنا صريح وقاطع. في أن ردّ يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو الاباء المصحوب بتذكر نعمة الله عليه ، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود. فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته اليه دعوة غليظة جاهرة بعد تغليق الابواب وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته. والمراد انها همت بجذبه اليها وهو يدفعها عنه. هذا منتهى العفة والثبات عند عواصف الرياح.

(وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ

١٩٩

الْجاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥))

البيان : وهو الكلام الذي تقوله النسوة في كل بيئة جهالية عن مثل هذه الشؤون ولاول مرة نعرف أن المرأة هي امرأة العزيز. وان الرجل الذي اشتراه من مصر هو عزيز مصر. أي كبير زعمائها ـ ليعلن هذا مع اعلان الفضيحة العامة بانتشار الخبر في المدينة. (فقد شغفها حبا) فهي مفتونة به. بلغ حبه شغاف قلبها ومزقه. وشغاف القلب غشاؤه. وهي السيدة الكبيرة زوجة زعيم كبير. تفتتن بفتاها العبراني المشترى. أم لعلهن يتحدثن عن انتشارها بهذه الفتنة. وانكشافها وظهور أمرها. (فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ).

لقد أقامت مأدبة في قصرها وندرك من هذا انهن كن من نساء الطبقة الراقية. فهن اللواتي يدعين الى المأدبة في القصور. وندرك من هذا ان هن الواتي يؤخذون بهذه الوسائل الناعمة ويبدو انهن كن يأكلن وهن متكئات على الوسائد والحشايا على عادة الشرق في ذلك الزمان فأعدت لهن هذا المتكأ وآتت كل واحدة منهن سكينا تستعملها في قطع الطعام. وبينهن منشغلات بتقطيع اللحم ، أو تقشير الفاكهة ، فاجأتهن بيوسف ، فبهتن ودهشن (وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ) وجرحن أيديهن بالسكاكين للدهشة المفاجئة (وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ). وهي كلمة تنزيه تقال في هذا الموضع تعبيرا عن الدهشة بصنع الله عزوجل البديعة.

ورأت المرأة انها انتصرت على نساء طبقتها وانهن لقين من طلعة يوسف الدهشة والاعجاب فقالت المنتصرة (فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ) ولقد بهرني مثلكن فراودته عن نفسه فاستعصم) (قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ.) ولم يقل ما تدعوني اليه ، فهن جميعا كن قد اشتركن في الدعوة. سواء بالقول أم بالحركات واللفتات والاغراءات المثيرة للتوازن

٢٠٠