تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي

تفسير البيان الصافي لكلام الله الوافي - ج ٣

المؤلف:

الشيخ محمد حسن القبيسي العاملي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البلاغ
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠

المأمورون فعامة المؤمنين أمروا بذلك. واما الصادقون فخاصة لاخي ـ علي بن ابي طالب ـ وأوصيائي من بعده الى يوم القيامة. قالوا : اللهم نعم.

(ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (١٢٠) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢١))

البيان : ان الله غني جواد اذا أفاض بالعطاء علي من رضي عنه لم يكن لعطائه حد محدود يجزل العطاء على العمل الصالح والنفع راجع لعامله وله الفضل الوافر في توفيقه للعامل فعطاؤه تفضل ، وهو المتفضل في الهداية والتوفيق للعاملين ولو لا توفيقه لما اهتدوا.

(وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (١٢٢)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٢٣) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (١٢٥))

البيان : عن الصادق (ع) انه قيل له ان قوما يروون ان رسول الله ص وآله قال اختلاف امتي رحمة. فقال (ع) صدقوا فقيل ان كان اختلافهم رحمة فاجتماعهم عذاب.

فقال (ع) : ليس حيث ذهبتهم وذهبوا. انما أراد من قوله عزوجل (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ) مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ).

فأمرهم أن ينفروا الى رسول الله ص وآله ، ويختلفوا اليه

١٢١

فيتعلموا ثم يرجعوا الى قومهم فيعلموهم. انما أراد من اختلافهم من البلدان لا اختلافا في دين الله ، انما الدين واحد) انتهى

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ)

ان الاسلام لم يكره فردا على تغيير عقيدته ، كما انطلقت الصليبية على مدار التاريخ تذبح وتقتل وتبيد شعوبا بأسرها ـ كشعب الاندلس قديما وشعب زنجبار حديثا ـ فتكرههم على التنصر وأحيانا لا تقبل منهم ذلك حتى تبيدهم لانهم مسلمون.

أرسل النبي ص وآله معاذ بن جبل الى أهل اليمن معلما ، فكانت وصيته له مايلي :

(انك تأتي قوما أهل كتاب ، فادعهم الى شهادة لا اله الا الله ، واني رسول الله. فان هم اطاعوا لذلك ، فاعلمهم بان الله تعالى فرض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة ، فان هم أطاعوا لذلك فاعلمهم بان الله افترض عليهم الصدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ، فان هم أطاعوا لذلك فاياك وكرائم أموالهم ، واتق دعوة المظلوم ، فانه ليس بينها وبين الله حجاب)

(وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ..)

انه سؤال مريب لا يقوله الا الذي لم يستشعر وقع السورة المنزلة في قلبه ، والا لتحدث عن آثارها في نفسه ، لذلك يجيء الجواب الحاسم ممن لاراد لما يقول وقوله حق وعدل.

فاما الذين آمنوا فقد أضيفت الى دلائل الايمان عندهم فزادتهم ايمانا. وقد خفقت قلوبهم بذكر ربهم فزادتهم ايمانا. وقد استشعروا عناية ربهم في انزال آياته عليهم فزادتهم ايمانا. واما الذين في قلوبهم رجس من النفاق فزادتهم رجسا الى رجسهم وماتوا وهم كافرون ، وهو نبأ من الله صادق ، وقضاء منه سبحانه محقق.

١٢٢

(أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَىٰكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ ٱنصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (١٢٧) لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (١٢٨) فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (١٢٩))

البيان : (صرف الله قلوبهم بانهم قوم لا يفقهون ، صرفها عن الهدى بسبب اجرامهم الذي فعلوه ، وبذلك فقد عطلوا قلوبهم الفطرية التي فطرت على الايمان والتوحيد لخالقها. انه مشهد كامل حافل بالحركة ، ترسمه بضع كلمات ، فاذا هو شاخص للعيون كأنها تراه).

(لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ) : انما هي الرحمة التي تنبع من قلب رحيم طاهر نقي ، يحب الخير والفلاح حتى لاعدائه ومن يتمنى له الموت والدمار ، انه بهم رحيم.

وحين يوجد المجتمع المسلم مرة اخرى ويتحرك ، فانه يكون في حل من تطبيق الاحكام ، المرحلية في حينها ، ولكن عليه ان يعلم انها أحكام مرحلية ، وان عليه ان يجاهد ليصل في النهاية الى تطبيق الاحكام النهائية ، التي تحكم العلاقات النهائية ، بينه وبين سائر المجتمعات والله هو الناصر والمعين لمن اعتمد وتوكل عليه وفوض اليه أمره.

١٢٣

ـ ١٠ ـ سورة يونس ـ عدد آياتها ـ مائة وتسع آيات

بسم الله الرحمن الرحيم

(الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢))

البيان : من هذه الحروف وأمثالها ، تتألف آيات هذا الكتاب الحكيم ، الذي ينكرون أن يكون الله قد أوحى به الى رسوله محمد ص وآله.

وهذه الحروف في متناول كل عربي ، وكل آدمي ، ثم هو يتحدى الانس والجن على أن يأتوا بسورة من مثله ان استطاعوا ، واذا هم ينكصون رؤوسهم خائبين عاجزين.

ومع هذا هم معاندون منحرفون تكبرا واعراضا لأهواء واغراض دعتهم لذلك لا غير والمعاندة للحق لهوى ولأغراض له خاصة لا ينفعه كل دليل وبرهان واعجاز وآيات لان المسألة عناد واهواء. وكل ما خالف الهوى يجب نبذه برأي صاحبه مهما كان عظيما. وادراك ان الوحي هو مفرق الطريق بينهم وبين الرسول ص وآله ، وانه لو لا هذا الوحي لوقف وقفتهم عاجزا عن تأليف آية واحدة. من هذه الحروف المبذولة للجميع.

(تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) : الحكيم الذي يخاطب العقول البشرية وفطرتها الانسانية ، وما يناسب طبائعها التي فطرها الله عليها. وهو الحكيم الذي ينبه الغافلين الى تدبر آيات الله عزوجل في صفحة هذا الكون وتضاعيفه ، في السماء والارض ، وفي الشمس والقمر وفي الليل والنهار ، وفي مصارع القرون الاولى. وفي قصص الامم مع انبيائها. وفي دلائل القدرة الكامنة والظاهرة في هذا الوجود.

١٢٤

(أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ ، وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا)

سؤال استنكاري يستنكر هذا العجب الذي تلقى به الناس حقيقة الوحي منذ كانت الرسل.

لقد كان السؤال الدائم الذي قوبل به كل رسول : أبعث الله بشرا رسولا ، ومبعث هذا يتمثل فيهم. فهم يستكثرون على بشر أن يكون رسولا من الله عزوجل ، وأن يتصل بالله. انهم ينتظرون ان يرسل الله ملكا أو خلقا آخر أعلى رتبة من الانسان عند الله ، غير ناظرين الى تكريم الله عزوجل لهذا الانسان اذا اذعن لخالقه واستقام ، وقد اسجد له أفضل مخلوقات السماء من الملائكة المقربين والروحانيين والكروبيين.

وقد اختاره خالقه العظيم لان يكون خليفته في أرضه وأمينه في مملكته ، وحيث يذعن ويطيع لخالقه يصبح بأمر الله واذنه اذا قال للشيء كن فيكون.

وقد منح الله عزوجل لهذا الانسان عقلا ، ليس لنموه حدود ، ولم يزل يتعرف خصائص الكون وما حواه ، وينكشف له من جديد بعد جديد ولم يقف على حد من الحدود.

ولقد أدرك هذا الانسان كل الخصائص الانسانية القابلة للادراك ، فضلا عما لم يزل لديه آفاق من المجهول لا تحد بحدود.

ففي الانسان اذن طاقات مجهولة لا يعلمها الا الذي خلقها ووهبها لهذا الانسان المنحرف والعبد الآبق المتجاهر بالعصيان لخالقه المنعم المنان.

والله أعلم حيث يجعل رسالته في الانسان ذي الطاقة التي تحمل

١٢٥

هذه الرسالة. وقد تكون هذه الطاقة مجهولة للناس ، مجهولة حتى لصاحبها نفسه قبل أن يختصه لرسالته.

ولكن الله الذي نفخ في هذا الانسان من روحه ، عليم بما تنطوي عليه كل خلية منه وكل نية. وكل مخلوق قادر على أن يتصل بخالقه ويترقى معارج الكمال الانساني ويتذوق لذة في ذلك لا يدركها الا من ذاقها وأوتيها.

وحكمة الله واضحة في الايحاء الى رجل منهم. رجل يعرفهم ويعرفونه ، يطمئنون اليه ويأخذون منه ويعطونه ، بلا تكليف ولا عناء ، أما حكمته في ارسال الرسل فهي أوضح ، والانسان مهيأ بطبعه لان يكون خيرا ويختار الطاعة لخالقه وينال الكرامة عنده ، أو يختار العصيان ويستحق العذاب والنيران ، ولما كان دليله العقلي يحتاج الى ميزان مضبوط يعود اليه دائما كلما غم عليه الامر ، وأحاطت به الشبهات وجذبته التيارات والشهوات ، وأثرت فيه المؤثرات العارضة ، فهو في حاجة ماسّة الى ميزان مضبوط ثابت لا يقبل التغيير لانه من رب العالمين لذلك كانت حكمة الخالق ورأفته بعباده أن يرسل لهم ميزانا من عنده على يد بعض عباده المعصومين بواسطة بعض ملائكته المقربين وكان خاتمهم سيد المرسلين محمد ص وآله بواسطة سيد ملائكته جبريل (ع) وبذلك تمت الحجة ، وفاضت النعمة وكانت لله تعالى الحجة البالغة على خلقه بما انذرهم من عذابه ورغبهم الى ثوابه والعاقبة للمتقين.

(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)

١٢٦

هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦))

البيان : وهذه هي القضية الاساسية الكبرى في العقيدة ، قضية الربوبية ، فقضية الالوهية لم تكن محل انكار جدي من المشركين. فهم كانوا يعتقدون بوجود الله ـ لان الفطرة البشرية لا تستطيع التخلي عن الاعتقاد بوجود آله لهذا الكون الا في حالات نادرة منحرفة شديدة الانحراف ـ ولكنهم كانوا يشركون مع الله أربابا يتوجهون اليهم بالعبادة.

أما ليقربوهم الى الله زلفى ـ كما هو منطوق الآية : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) ويكونوا لهم شفعاء عنده كما كانوا يزاولون خصائص الربوبية فيشرعون لانفسهم ما لم يأذن به الله عزوجل. واما لامور اخرى يخدعون بها السذج والبسطاء.

ان هذا الكون الهائل في سماواته وأرضه ، شمسه وقمره ، ليله ونهاره وما في السموات والارض من خلق ومن أمم ومن سنن. كلها تجري على تلك السنن.

ان هذا كله ليستجيش كل خالجة في كيان الانسان للتأمل والتدبر والتأثر حين يستيقظ مباشرة الى ايقاظ القلب والعقل لتدبر هذا الحشد من الصور والآيات :

(يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ. ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ).

اعبدوه ولا تشركوا معه غيره في جلب الخير ودفع الشر ، وتدبير الامور لانه عزوجل بيده أزمة الامور واليه يرجع الامر كله ، فان مرجعكم اليه وحسابكم عنده.

١٢٧

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا) ـ بذلك (لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ) (وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ولو وقف الانسان لحظة واحدة يرقب (ما خَلَقَ اللهُ) ويستعرض هذا الحشد الذي لا يحصى من الانواع والاجناس ، والهيئات والاحوال والاوضاع والاشكال ولو وقف لحظة واحدة لامتلأ قلبه وطاب وفاض بما يغنيه في حياته كلها ، يشغله بالتدبر والتفكر والتأثر ما عاش. وكل ذلك (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) تستشعر قلوبهم هذا الوجدان الخاص وجدان التقوى الذي يدع هذه القلوب مستجاشة حساسة سريعة التأثر والاستجابة لمجال القدرة ومظاهر الابداع ومعجزات الخلق المعروضة للانظار والاسماع (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ)

وما تزال دلالة وجود الكون ذاته. ثم حركته المنتظمة المنسقة المضبوطة ، تحاصر الهاربين من الله هنا وهناك. والفطرة البشرية بجملتها ـ قلبا وعقلا وحسا ووجدانا ـ تواجه هذه الدلالة ، وتستجيب لها. وما يزال المنهج القرآني هذا يخاطب الفطرة بجملتها يخاطبها ، من أقصر طريق ، ومن أوسع طريق وأعمق طريق.

والذين يرون كل هذا ، ثم لا يتوقعون لقاء الله ، ولا يدركون أن من مقتضيات هذا المقام المحكم ان تكون هناك آخرة ، وان الله لم يجعل الدنيا هي النهاية ، لان البشرية لم تبلغ فيها كمالها المنشود ، والذين يمرون بهذه الآيات كلها غافلين ، لا تحرك فيهم قلبا يتدبر ، ولا عقلا يتفكر. هؤلاء لن يسلكوا طريق الكمال الانساني ، ولن يصلوا الى الجنة التي وعد المتقون بها.

انما الجنة للذين آمنوا وعملوا الصالحات ، حيث يفرغون من نصب الدنيا وصغارها الى تسبيح الله وحمده في نعيم مقيم ، لذلك يقول عزوجل :

١٢٨

(إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)

وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢))

ان الذين لا يتدبرون النظام الكوني الموحي بان لهذا الكون خالقا مدبرا ، لا يدركون ان الآخرة ضرورة من ضرورات هذا النظام ، يتم فيها تحقيق القسط والعدل ، كما يتم فيها ابلاغ البشرية الى آفاقها العليا. ومن ثم فهم لا يتوقعون لقاء الله. ونتيجة لهذا القصور يقفون عند هذه الحياة بما فيها من نقص وهبوط ، ويرضونها ويستغرقون فيها ، فلا يدركون ما فيها من نقص. ولا يدركون انها لا تصلح ان تكون نهاية لوجود البشر ، لان الكثيرين منهم يغادرونها ولم يستوفوا كل جزائهم على ما عملوا من خير ، أو اجترحوا من شر.

والوقوف عند حدود هذه الحياة يسبب هبوط لاصحابها ، لانهم يخفضون رؤوسهم وابصارهم دائما الى هذه الارض وما عليها. غافلين عن آيات الله الكونية التي توقظ القلب وترفع الحس وتحفز انسانية الانسان الى كمالها الرفيع. (أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

وفي الضفة الاخرى الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، الذين أدركوا أن هناك ما هو أعلى وأسمى من هذه الحياة الوقتية. وقد حفزهم على عمل الصالحات ايمانهم بان بعد هذه الحياة ، حياة خلود لا نسبة بينها وبين هذه الحياة من جميع الجهات تحقيقا لامر الله يعملون الصالحات : (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ)

١٢٩

ويفتح بصائرهم على استقامة الطريق ويهديهم الى الخير بوحي من حاسية الضمير وتقواه وهؤلاء يدخلون الجنة خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم ورضوا عنه أولئك المتقون.

(دَعْواهُمْ فِيها : سُبْحانَكَ اللهُمَّ ، وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)

انه الانطلاق من هموم الحياة الدنيا ، وشواغلها ، والارتفاع عن ضروراتها وحاجاتها. والرفرفة في آفاق الرضى والتسبيح والحمد والسّلام ، تلك الافاق اللائقة بكمال الانسان المكرم عند خالقه الذي أسجد له ملائكته المقربين وبوأه مقام صدق في الاخرين :

(وَلَوْ يُعَجِّلُ اللهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ).

ولقد كان أعداء الله يتحدون رسول الله ص وآله أن يعجل لهم العذاب ، فكان الجواب ما ذكره عزوجل. وكل هذا يصور حالة العناد التي كانوا يواجهون بها هدى الله تعالى وقد شاءت حكمته العادلة ان يؤجلهم ـ ليوم لا ريب فيه ـ وهو يقول عزوجل انه لو عجّل لهم العذاب لقضي عليهم. ثم يحذرهم من هذا الامهال الذي اذا نزل بهم عرفهم كيف حالهم

(كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ). فماذا كانت نهاية الاسراف في القرون الاولى.

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ

١٣٠

يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧))

البيان : لقد انتهى بهم الاسراف وتجاوز الحد والظلم ـ الى الشك ـ وهذه مصارعهم كان الحاضرون يرونها في مساكن عاد وثمود وقوم لوط وأصحاب مدين وغيرهم.

و (كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) : الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فلم يؤمنوا فحق عليهم العذاب (ثم جعلناكم خلائف الارض من بعدهم لننظر كيف تعملون).

وهي لمسة قوية للقلب الحي ، اذ يدرك انه مستخلف في ملك خالق الكون وما حواه.

ان هذا التصور الذي ينشئه الاسلام في القلب البشري ، فيريه الحقيقة بعينها ، فلا خدعة ، ولا مراء ، فيريه ان الانسان مبتلي وممتحن بأيامه الوقتية على هذه الارض المنخفضة. وها هو يعطيه وقاية من الاستغراق في متاع هذه الحياة الدنيا ، ومن التكالب على هذا المتاع هو مسؤول عنه وممتحن فيه : (لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ).

وهذا هو مفرق الطريق بين التصور الذي ينشئه الاسلام في القلب البشري بمثل هذه اللمسات القوية والتصورات التي تخرج الرقابة الالهية والحساب الاخروي في نهايته.

والحياة في الاسلام حياة متكاملة القواعد والاركان ، ويكفي أن نذكر فقط مثل هذه الحقيقة الاساسية في التصور الاسلامي ، وما ينشأ عنها من آثار في حركة الفرد والجماعة.

والذين يتصورون انه من الممكن تطوير الحياة الاسلامية ، والنظام بمنتجات حياة اخرى ونظام آخر ، لا يدركون طبيعة الفوارق الجذرية

١٣١

العميقة بين الاسس التي تقوم عليها الحياة في الاسلام والتي تقوم عليها الحياة الفعلية في كل نظام بشري من صنع الانسان.

(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا ..)

وهو طلب عجيب لا يصدر عن تعقل. وانما يصدر عن عبث وهزل ، وجهل وغباوة ...

(قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) انها ليست لعبة لاعب ولا مهارة مشعبث انما هو الدستور الالهي الشامل الصادر من مدبر حكيم وخالق عظيم ، الذي هو أعلم بما يصلح الانسان وبسعده في هذه الحياة وفيما بعدها ، فما يكون لمخلوق أن يبدله او يغيره :

(فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ).

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠))

البيان : ان النفس حين تنحرف عن الخط المستقيم ، لا تقف عند حد محدود بل تستمر بالمزيد من الانحراف كلما تمادت في السير والابتعاد ، وهذه الارباب المتعددة المتنوعة هي اكبر دليل واقوى برهان على صحة ما نقول حتى عبدوا الحجر والشجر.

(وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا) وقد اقتضت المشيئة الالهية امهالهم حتى يستوفوا نصيبهم من هذه الحياة ، ثم يأخذهم أخذ عزير ذي اقتدار ثم مصير الى جهنم وبئس المصير :

١٣٢

(وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) فكل الآيات التي يحتويها هذا الكتاب العظيم هي معجزات كبرى وخارقات بالغة ، لقوم يتدبرون ويتفكرون لو كانوا يعقلون :

(إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)

وهو جواب في طيه الامهال وفي طيه التهديد ، وفي طيه بعد ذلك بيان حدود العبودية في جانب الالوهية ، فان محمدا ص وآله وهو أعظم الانبياء والمرسلين ، لا يملك من أمر الغيب شيئا فالغيب كله لله ، ولا يملك من أمر الناس شيئا ، فأمرهم موكول الى الله عزوجل. وهكذا يتحدد مقام العبودية في جانب مقام الالوهية ، ويخط خط بارز فاضل بين الحقيقتين لا شبهة بعده. ولا ريبة. والى الله يرجع الامر كله بيده الخير وهو على كل شيء قدير.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣))

البيان : كذلك صنع قوم فرعون مع موسى. فكلما أخذوا بعذاب استغاثوا به ووعدوا بالعدول عما هم فيه. فاذا رفع عنهم البلاء ، مكروا وأولوها على غير ما يرجع الى الله تعالى وقالوا : انما رفع عنا البلاء بسبب كذا وكذا. وكذلك صنعت قريش وقد أجدبت وخافت الهلاك فجاءت الى محمد ص وآله تناشده الرحم أن يدعو الله فدعاه فاستجاب له وأنزل عليهم الغيث. ثم مكروا بآية الله ونسبوا ذلك الى غير الله عزوجل :

١٣٣

(قُلِ اللهُ أَسْرَعُ مَكْراً) فالله أقدر على التدبر وابطال ما تمكرون ، فلا يخفى عليه شيء في الارض ولا في السماء ، ولا ما يظهروا وما تكنه الصدور. وهو اللطيف الخبير :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ) سواء كان بغيا على النفس خاصة بايرادها موارد الهلكة ، والزج بها في ركب الندامة الخاصة بالمعصية ، أو كان بغيا على الناس. والناس حين يجتمعون على البغي ، يذوقون عاقبته في حياتهم الدنيا ، قبل أن يذوقوا عقابه في الاخرة ، (مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) والدنيا كالخيال او كسراب يحسبه الظماء ماء.

(وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ)

فيالبعد الشقة بين دار يمكن أن تطمس في لحظة ، وقد أخذت زخرفها وأزينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها. فاذا هي حصيد كأن لم تغن بالامس.

ودار السّلام التي يدعو الله عزوجل عباده اليها دائمة لا تزول ولا تنفذ وفيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ويراها الانسان بالعيان حينما تصفى سريرته ويطهر قلبه ويصبح لا يرى أمامه الا ما له قيمة أو وزن :

(الا رضا الله عزوجل والجنة لا غير)

(إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧))

١٣٤

البيان : كانت آخر آية فيما سبق (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ ،) أما الذين أحسنوا فقد أحسنوا الاعتقاد أولا ثم أحسنوا العمل ثانيا. ثم أخلصوا في العمل وثبات العقيدة فهؤلاء لهم الحسنى جزاء ولهم زيادة من فضل الله ورضوان منه أكبر).

(فلا ترهق وجوههم قتر ولا ذلة) : القتر الغبار والسواد ، أو الحزن والضيق ، والذلة والانكسار والمهانة او الاهانة ، التعبير يوحي بان في الموقف من الزحام والهول ما يخلع آثاره على القلوب والوجوه ما لا يوصف (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ) سينالهم عدل الله وجزاء ما كسبوا (وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) (ما لَهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ) يمنعهم من الوصول الى البلاء أو يمنع عنهم ما يستحقون من العقاب والجزاء

(كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً) هذه صفة المكان الذي انتهوا اليه.

(أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) فبئس المصير وبئس الاختيار الذي اختاروه.

(وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠))

البيان : هذه قصة الشفعاء في مشهد من مشاهد المواجهة يوم الحساب مشهد محسوس ابلغ من الاخبار المجردة ، مشهد يوري اربابه ما سيؤول اليه أمرهم قبل وقوعه. ويوري التابعين والعابدين للمخلوقين انهم لن ينفعوهم شيئا عند الضيق والحرج ، بل سيتبرأون منهم وينكرون معرفتهم أصلا.

هؤلاءهم قد حشروا جميعا الكفار والشركاء ، وهم كانوا يزعمون

١٣٥

لاتباعهم انهم سيشفعون لهم عند الله غدا. ولكن القرآن يسميهم (شُرَكاءَهُمْ) تهكما واستهزاء (قفوا مكانكم). ولا بد ان يكونوا قد تسمروا في أماكنهم فالامر نافذ لا يمكنهم التحرك عند امرهم بالوقوف (فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ) وعندئذ لا يتكلم الذين كفروا ولكن الشركاء يتكلمون ، ليبرؤ أنفسهم من الجريمة. جريمة العبودية لهم مع الله عزوجل :

(وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ)

يالها من وقفة خجل وافتضاح من التابع والمتبوع : (هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ) (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) وهكذا يتجلى المشهد المحسوس ، في ساحة المحشر بكل حقائقه وبكل وقائعه. فتبلغ من النفس ما لا يبلغه الاخبار المجردة ، ولا براهين الجدل الطويل.

(قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣))

البيان : ولقد مر ان مشركي العرب لم يكونوا ينكرون وجود الله. ولا انه الخالق والرازق والمدبر. انما كانوا يتخذون الشركاء للزلفى او يعتقدون ان لهم قدرة الى جانب قدرة الله تعالى. فهو هنا يأخذهم بما يعتقدونه في أنفسهم ليصحح لهم ـ عن طريق ايقاظ وعيهم وتدبرهم ومنطقهم الفطري ـ ذلك الخلط والضلال (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ) (اي من يهبها القدرة على اداء وظائفها. فيبصرها ويسمعها وما زال البشر يكشفون من طبيعة السمع والبصر. ومن دقائق صنع الله في هذين الجهازين ما يزيد السؤال شمولا وسعة. ان تركيب العين واعصابها وكيفية ادراكها للمرئيات او تركيب الاذن واجزائها وطريقة ادراكها للذبذبة. أنه لعالم يدير الرؤوس ويحير الالباب (ومن يخرج الحي من الميت. ويخرج الميت من الحي).

١٣٦

ان وقفة امام الحبة والنواة. تخرج منها النبتة والنخلة. لكافية لاستغراق حياة في التأمل فأين كانت تكمن السنبلة في الحبة. واين كانت تلك الجدور والساق والاوراق في النخلة. وما يزال البشر يكشفون من اسرار الموت. واسرار الحياة. واخراج الحي من الميت. (ومن يدبر الأمر) : من يدبر الناموس الكوني الذي ينظم حركة هذه الافلاك على أتم تنظيم (فَسَيَقُولُونَ اللهُ. فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ) : افلا تخشون الله الذي يرزقكم من السماء والارض والذي يملك السمع والابصار. والذي يدبر الأمر كله (فَذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ). والحق واحد لا يتعدد. ومن تجاوزه فقد وقع في الباطل. وقد ضل سواء السبيل. (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) و (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا)

الفسق غطاء للبصيرة وعمى للقلب. وموت للاحساسات الروحية والمنتهى الى الجحيم.

(قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦))

كان المشركون يعتقدون بان الله هو الذي يبدأ الخلق لكن غير مؤمنين باعادته بعد موته ، ولكن عند التأمل وعدم التعصب يتضح جليا أن البدء لا بدّ له من الاعادة ، والا لما وجدت الحكمة في وجوده الاول ، ولم يبلغ الكمال المقدر له. ويصبح خلقا ناقصا لا يليق بالحكيم وجوده ناقصا وهو القادر على كماله وتمامه. والحياة الاخرى قريبة الشبه من اخراج الحي من الميت ، الذي يسلمون به في البدء :

(قُلِ اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) فالاعادة أهون

١٣٧

من الابداع. (فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) ما الذي أصابكم ودعاكم الى انكار الاعادة الا سوء الاعمال والاجرام :

(إِنَّ الظَّنَ) ـ بعدم الاعادة (ـ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ـ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ).

(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤))

البيان : فالقرآن بخصائصه الموضوعية والتعبيرية ، بهذا الكمال في تناسقه ، وبهذا الكمال في العقيدة التي جاء بها. وفي النظام الانساني ، الذي يتضمن قواعده العادلة. وبهذا الكمال في تصوير حقيقة الالوهية ، وفي تصوير طبيعة البشر وطبيعة الحياة ، وطبيعة الكون ، يستحيل أن يكون مفترى من دون الله العزيز الحكيم ، القدير الخبير ، لان القدرة البشرية المتعددة يتباين صنعها مع القدرة الواحدة التي تملك الاتيان غير قدرة الله العزيز الحكيم ، القدرة التي تحيط بالاوائل والاواخر ، والظواهر والبواطن وتضع المنهج العادل اللائق باصلاح الجميع بدون افراط او تفريط او زيادة او نقصان ، المبرأ من كل قصور او جهل او عجز ، وما هو من لوازم المخلوقات المحدودة.

(لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) تقرير وتوكيد لنفي جواز افترائه عن طريق اثبات مصدره (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) الذي هو خبير بما يصلحهم لانه

١٣٨

الصانع لهم ولا بد من الرجوع للقاعدة المسلمة في صحتها : (وهي أن كل مصنوع يرجع به الى صانعه الخبير بعلله وأحواله) (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ)

بعد هذا النفي والتقرير فهو اذن من صنع محمد ، ومحمد بشر ينطق باللغة التي ينطقون بها ولا يملك من حروفها الا ما يملكون. (ألف لائم. ميم) .. (ألف. لام. راء) (ألف. لام. صاد) الخ فدونهم اذن ـ ومعهم من يستطيعون جمعهم ـ فليفتروا كما افترى (بزعمهم) محمد ص وآله فليفتروا سورة واحدة لا قرآنا كاملا : (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ).

وقد ثبت هذا التحدي ، وثبت تعجيز منه لهم. وما يزال ثابتا ولن يزال الى الابد. والذين يدركون بلاغة هذه اللغة ، ويتذوقون الجمال الغني والتناسق فيها. يدركون ان هذا النسق من القول لا يستطيعه الانسان ـ مهما سمى وعلا ـ وكذلك الذين يدرسون النظم الاجتماعية. والاصول التشريعية ، ويدرسون النظام الذي جاء به هذا القرآن ، ويدركون النظرة فيه الى تنظيم الجماعة الانسانية ، ومقتضيات حياتها من جميع جوانبها.

وليس هو اعجاز اللفظ والتعبير واسلوب الاداء وحده ، ولكنه الاعجاز المطلق الذي يلمسه الخبراء في هذا وفي النظم والتشريعات والنفسيات وما اليها ينتمي.

ومع تقدير العجز والتعجيز سلفا عن بيان حقيقة هذا الاعجاز ، ومداه الذي لا يدرك والعجز عن تصويره بالاسلوب البشري ، ومع تقدير أن الحديث المفصل عن هذا الاعجاز ـ في حدود الطاقة البشرية ـ هو موضوع كتاب مستقل.

١٣٩

ان هذا القرآن يخاطب الكينونة البشرية بجملتها ، فلا يخاطب ذهنها لمجرد مرة. وقلبها الشاعر مرة ، وحسها المتفرد مرة ، ولكنه يخاطبها جملة من أقصر طريق. وينشىء فيها الخطاب تصورات وتأثرات وانطباعات لحقائق الوجود كلها.

والقرآن يقدم حقائق العقيدة ـ أحيانا ـ في مجالات لا يخطر للفكر البشري عادة ان يلم بها ، لانها ليست من طبيعة ما يفكر فيه عادة ، او يلتف اليه على هذا النحو.

ومن هذا القبيل ما جاء في سورة الانعام في تصوير حقيقة العلم الالهي ومجالاته :

(وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها ، وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ ، وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)

فهذه المصارح المترامية الخفية والظاهرة ، ليست مما يتوجه الفكر البشري الى ارتيادها على هذا النحو ، وهو في معرض تصوير شمول العلم مهما أراد تصوير هذا الشمول. ولو أن فكرا بشريا هو الذي يريد تصوير شمول العلم لاتجه اتجاهات اخرى تناسب اهتمامات الانسان وطبيعة تصوراته.

ولا يفكر البشر أن تكون كل ورقة ساقطة ، وكل حبة مخبوءة ، وكل رطب ويابس في كتاب مبين ، وفي سجل محفوظ ، فما شأنهم بهذا ، وما فائدته لهم ، انما الذي يحصيه ويسجله هو صاحب الملك الذي لا يند عنه شيء في ملكه.

ان هذا المشهد الشامل الواسع العميق الرائع ، مشهد الورق الساقط من شجر الارض جميعا والحب المخبوء في أطوار الارض ، والرطب واليابس في أرجاء الارض جميعه محصى ومسجل.

١٤٠