الوصائل إلى الرسائل - ج ١٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-13-9
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

فَاضْرِبْ بِهِ) الآية ، إنّما دلّ على جواز برّ اليمين على ضرب المستحقّ مائة بالضرب بالضغث.

وفيه : ما لا يخفى.

ومنها : قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) إلى آخر الآية ،

______________________________________________________

((فَاضْرِبْ بِهِ) (١) الآية).

وعليه : فان قوله تعالى في هذه الآية (إنّما دلّ على جواز برّ اليمين على ضرب المستحقّ مائة) وذلك برّا ليمينه (بالضرب بالضغث) فنستصحبه إلى شريعتنا ، فيجوز لمن حلف على ضرب المقصّر مائة ضربة أن يعمل بحلفه بطريق أسهل ، وذلك بأن يضربه بالضغث ـ مثلا ـ.

(وفيه : ما لا يخفى) لأن اليمين ان كان منعقدا لم يجز التخلف عنه وان لم يكن منعقدا لم يجز العمل به في ضرب الناس حتى ولو كان سوطا واحدا وأقل منه.

أقول : لا إشكال في كون ضربها كان جائزا ، ولذلك انعقد يمينه عليه‌السلام ، لكن إنّما وجب عليه ضربها بالضغث للجمع بين الحقين ، لوجود محذور في ضربها بالسياط دون الضغث ، وهذا الحكم يستصحب في شريعتنا أيضا ، وقد ثبت مثل ذلك في حدّ المريض ، كما هو مذكور في كتاب الحدود من الفقه (٢).

(ومنها : قوله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) إلى آخر الآية (٣) ،

__________________

(١) ـ سورة ص : الآية ٤٤.

(٢) ـ راجع موسوعة الفقه ج ٨٧ ـ ٨٨ كتاب الحدود والتعزيرات ، للشارح.

(٣) ـ سورة المائدة : الآية ٤٥.

٦١

استدلّ بها في حكم من قلع عين ذي العين الواحدة.

ومنها : قوله تعالى حكاية عن شعيب : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ).

وفيه : أنّ حكم المسألة قد علم من العمومات والخصوصيات الواردة فيها فلا ثمرة في الاستصحاب.

______________________________________________________

استدل بها في حكم من قلع عين ذي العين الواحدة) ولكن حيث ان في خصوص هذه المسألة تفصيلا فقهيا ، نتركه لكتاب القصاص (١).

أقول : والظاهر من الآية المباركة : ان القصاص كان حكم الامّة السابقة في شريعتهم ، وهو أيضا الحكم الجاري في شريعتنا وذلك للنصوص الخاصة عليه عندنا ، فلا حاجة فيه إلى الاستصحاب.

(ومنها : قوله تعالى حكاية عن شعيب) عليه‌السلام ، حيث قال لموسى عليه‌السلام : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ») (٢)) وذلك بأن يعمل موسى لشعيب عليهما‌السلام ثمان سنوات ، فان ظاهر الآية المباركة جواز جعل المنفعة صداقا في شريعتهم فنثبته في شريعتنا بالاستصحاب.

(وفيه : أنّ حكم المسألة قد علم من العمومات والخصوصيات الواردة فيها) أي : في المسألة : من ان الصداق يجب ان يكون عينا وذلك على ما ذكره الفقهاء في كتاب النكاح ، وحينئذ (فلا ثمرة في الاستصحاب) فان الاستصحاب دليل حيث لا دليل ، فاذا وجد النص الخاص فلا مجال للاستصحاب.

__________________

(١) ـ راجع موسوعة الفقه : ج ٨٩ كتاب القصاص ، للشارح.

(٢) ـ سورة القصص : الآية ٢٧.

٦٢

نعم ، في بعض تلك الأخبار إشعار بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق لو لا المنع عنه ، فراجع وتأمّل.

الأمر السادس :

قد عرفت أنّ معنى عدم نقض اليقين والمضيّ عليه هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقّن

______________________________________________________

(نعم ، في بعض تلك الأخبار) الدالة على جواز جعل المنفعة صداقا للمرأة واستشهادها بقصة شعيب (إشعار بجواز العمل بالحكم الثابت في الشرع السابق لو لا المنع عنه) بسبب نسخه بمجيء شريعتنا (فراجع وتأمّل).

والحاصل : ان الظاهر جواز استصحاب الشرائع السابقة إذا ثبتت في شريعتنا بنص أو إجماع أو ما أشبه ذلك ، ولم يثبت نسخ تلك الشريعة في شريعتنا.

(الأمر السادس) : في بيان عدم حجية ما اصطلحوا عليه بالأصل المثبت بمعنى : ان الاستصحاب إنّما ينفع في إثبات اللوازم الشرعية للمستصحب ، لا اللوازم العقلية والعادية والعرفية له كما قال :

(قد عرفت) فيما سبق عند تقريب دلالة الأخبار على اختصاص الاستصحاب بالشك في الرافع ، وهكذا في موارد أخر من المباحث السابقة : (أنّ معنى عدم نقض اليقين والمضيّ عليه) ليس هو عبارة عن إبقاء نفس اليقين ، لأن نفس اليقين أثر تكويني غير قابل للجعل الشرعي ، وقد انتقض بسبب الشك ، وكذا ليس هو إبقاء المتيقن واقعا ، لخروجه عن اختيار المكلّف وعدم قبوله الجعل الشرعي وإنّما (هو ترتيب آثار اليقين السابق) أي : ترتيب تلك الآثار (الثابتة بواسطته) أي : بواسطة اليقين (للمتيقّن) فإذا كان ـ مثلا ـ على يقين من الوضوء

٦٣

ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع ، لا يعقل إلّا في الآثار الشرعية المجعولة من الشارع لذلك الشيء ، لأنّها القابلة للجعل ، دون غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة.

فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد ، وإيجابه

______________________________________________________

وشك فيه ، رتب بالاستصحاب الآثار الثابتة لليقين بالوضوء.

(و) من المعلوم : ان (وجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع ، لا يعقل إلّا في الآثار الشرعية المجعولة من الشارع لذلك الشيء) كالآثار الشرعية المجعولة للوضوء ـ مثلا ـ فإذا كان في الصباح على يقين من وضوئه ، ثم شك فيه ظهرا ، استصحب بقاء وضوئه ، ومعنى استصحاب وضوئه : ترتيب آثاره الشرعية عليه كجواز الدخول في الصلاة ـ مثلا ـ وهذا إذا كان المستصحب حكما شرعيا ، وإذا كان موضوعا خارجيا كاستصحاب حياة الزوج وعدم موته فمعناه كذلك ترتيب آثاره الشرعية عليه كوجوب نفقة الزوجة ـ مثلا ـ عليه ، وهكذا.

وإنّما لا يعقل ذلك إلّا في الآثار الشرعية (لأنّها) أي : الآثار الشرعية المترتبة من قبل الشارع هي (القابلة للجعل ، دون غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة) والعرفية.

مثلا : ان لحياة زيد أثرا عقليا ، هو تنفسه وأثرا عاديا هو نبات لحيته ، وأثرا عرفيا هو توقفه عند الضوء الأحمر مثلا ، وقد سبق بيان الفرق بين الأخيرين ، فالعادي : ما جرت العادة عليه ، والعرفي : ما لم يشترط فيه جريان العادة عليه ؛ إذ قد يكون ما يتعارف عليه شيئا جديدا لم تجر العادة عليه ، كما إذا قرّرت الدولة توقف السيارات عند الضوء الأحمر من هذا اليوم ، فانه عرف وليس بعادة.

وكيف كان : (فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد ، وإيجابه) أي : والمعقول

٦٤

ترتيب آثار الحياة في زمان الشك هو : حكمه بحرمة تزويج زوجته ، والتصرّف في ماله ، لا حكمه بنموّه ونبات لحيته ، لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع.

نعم ، لو وقع نفس النموّ ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره من التنزيلات الشرعيّة

______________________________________________________

من إيجاب الشارع وأمره ب (ترتيب آثار الحياة في زمان الشك) في حياة زيد (هو : حكمه بحرمة تزويج زوجته ، والتصرّف في ماله) إلى غير ذلك من الأحكام الشرعية التابعة لحياته.

(لا حكمه بنموّه) الذي هو أثر عقلي لحياته (ونبات لحيته) الذي هو أثر عادي له ، وتوقفه عند الضوء الأحمر ـ مثلا ـ الذي هو أثر عرفي له ، إلى غير ذلك من الآثار غير الشرعية التابعة لحياته.

وإنّما المعقول ترتيب الآثار الشرعية دون العقلية والعادية والعرفية (لأنّ هذه) أي : الآثار العقلية والعادية والعرفية (غير قابلة لجعل الشارع) بجعل تشريعي ، فان النمو ونبات اللحية وما أشبه ذلك من مجال التكوين ، وليس من مجال التشريع ، فانه وان كان بيد المولى الحقيقي جعل هذه الامور جعلا تكوينيا ، إلّا ان المقام في المجعولات التشريعية ، لا التكوينية.

(نعم ، لو وقع نفس) الأثر غير الشرعي مثل : (النموّ ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره) أي : غير الاستصحاب (من التنزيلات الشرعيّة) الاخرى ، ترتب عليهما الأثر الشرعي أيضا فقط.

وإنّما قال : أو غير الاستصحاب من التنزيلات الشرعية ، لأن الاستصحاب هو أيضا تنزيل شرعي ، فقد نزّل الشارع فيه المشكوك بمنزلة المتيقن ، واما تنزيل

٦٥

أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة ، لكنّ المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب.

______________________________________________________

النمو ونبات اللحية بتنزيل شرعي غير الاستصحاب فهو كما إذا نزّل الشارع النمو بمنزلة الولادة ، ونزّل نبات اللحية بمنزلة البلوغ ـ مثلا ـ على غرار : المطلقة الرجعية زوجة.

أمّا مثال وقوع نفس النمو ونبات اللحية موردا للاستصحاب ، فهو بأن تتوفر شروط الاستصحاب فيهما : من يقين سابق بالنمو ، ونبات اللحية ، وشك لاحق فيهما مع ترتب أثر شرعي عليهما ، كما إذا نذر التصدق بدرهم في كل يوم لو استمر نموّ ولده ، أو نبات لحيته ، فإذا شك فيهما استصحبهما فيترتب عليه وجوب التصدق بدرهم في كل يوم.

وأمّا مثال تنزيل النمو ونبات اللحية بتنزيل شرعي غير الاستصحاب ، فهو كما إذا نزّل الشارع النموّ بمنزلة الولادة ، فانه يثبت للنمو ما ثبت للولادة من الآثار الشرعية لا غير الشرعية ، فاذا قال : يستحب العقيقة للولادة ، استحب للنمو أيضا ، وكما إذا نزّل الشارع نبات اللحية منزلة البلوغ ، فانه يثبت لنبات اللحية ما ثبت للبلوغ من الآثار الشرعية دون غير الشرعية ، فإذا قال : تجب التكاليف على البالغ وجبت على من نبتت لحيته أيضا.

وعلى أي حال : فلو وقع نفس النمو ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو وقعا موردا لتنزيل شرعي غير الاستصحاب (أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعيّة) فقط (دون العقليّة والعاديّة ، لكنّ المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب) فيترتب على الحياة أثرها الشرعي لا ورود النمو ونبات اللحية مورد الاستصحاب حتى يترتب عليهما أثرهما الشرعي.

٦٦

والحاصل : أنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقن كسائر التنزيلات إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعية المحمولة على المتيقن السابق.

فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة لعدم قابليتها للجعل ، ولا على جعل الآثار الشرعية المترتبة على تلك الآثار ، لأنّها ليست آثار نفس المتيقن

______________________________________________________

(والحاصل : أنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقن كسائر التنزيلات) الشرعية مثل : جعل الطواف بالبيت صلاة ، والفقاع خمر ، وما أشبه ذلك (إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعية) فقط (المحمولة على المتيقن السابق) بلا واسطة ، فإذا كان المتيقن حياة زيد فغاب فشككنا في حياته ، فاستصحبنا حياته ، ترتّب عليه مثل : حرمة التصرّف في ماله ، ووجوب النفقة على زوجته ، وغير ذلك من الآثار الشرعية المحمولة على الحياة بلا واسطة فقط.

وعليه : (فلا دلالة فيها) أي : في التنزيلات الشرعية سواء الاستصحاب أم غير الاستصحاب (على جعل غيرها) أي : غير الآثار الشرعية (من الآثار العقليّة والعاديّة) والعرفية جعلا شرعيا ، وذلك (لعدم قابليتها للجعل) الشرعي.

(و) أيضا (لا) دلالة فيها (على جعل الآثار الشرعية المترتبة على تلك الآثار) العقلية والعادية والعرفية ، فإن استصحاب حياة زيد لا يثبت أثره العقلي كالنمو ، ولا العادي كنبات لحيته ، ولا العرفي كتوقفه عند الوضوء الأحمر ، حتى يترتب على هذه الآثار غير الشرعية آثارها الشرعية من نذر وما أشبه ، وذلك : (لأنّها) أي : الآثار الشرعية المترتبة على الأثر العقلي أو العادي أو العرفي آثار مع الواسطة ، فهي (ليست آثار نفس المتيقن) الذي هو الحياة ، حتى يترتب عليه وجوب الوفاء بالنذر مثلا.

٦٧

ولم يقع ذوها موردا لتنزيل الشارع حتى تترتّب هي عليه.

إذا عرفت هذا فنقول : إنّ المستصحب ، إمّا أن يكون حكما من الأحكام الشرعية المجعولة كالوجوب والتحريم والإباحة وغيرها ،

______________________________________________________

كما (ولم يقع ذوها) أي : ذو الآثار : من النمو ، ونبات اللحية ، والتوقف عند الوضوء الأحمر بنفسها (موردا لتنزيل الشارع حتى تترتّب هي) أي : تلك الآثار الشرعية من وجوب الوفاء بالنذر (عليه) أي : على ذي الأثر ، إذ المفروض : ان مورد التنزيل هو الحياة لا النمو ، ووجوب الوفاء بالنذر ليس أثر الحياة ، وإنّما هو أثر النمو ، والنمو لم يقع مورد التنزيل.

(إذا عرفت هذا) أي : ما ذكرناه إجمالا : من عدم إثبات الاستصحاب للآثار العقلية والعادية والعرفية (فنقول) في تفصيل ذلك ما يلي :

(إنّ المستصحب ، إمّا أن يكون حكما من الأحكام الشرعية المجعولة كالوجوب) لصلاة الظهر ـ مثلا ـ فإذا شك المكلّف في إتيانها والوقت لم يخرج بعد ، فانه يجب عليه الاتيان بها ، امّا إذا خرج الوقت فالوقت حائل والشك بعد الوقت لا يعتنى به.

(و) اما ان يكون المستصحب (التحريم) كحرمة وطي الزوجة فيما إذا شك الزوج بعد نقائها وقبل الغسل في انه هل يجوز وطيها ، لأنّ المعيار النقاء من الدم ، أو لا يجوز ، لأن المعيار الغسل؟.

(و) اما ان يكون المستصحب (الإباحة) كاباحة شرب التتن قبل الشرع فيما لو شك المكلّف في انه هل الشارع حرّم التتن أم لا؟.

(و) اما ان يكون المستصحب (غيرها) أي : غير الوجوب والتحريم والاباحة ، وهو : الاستحباب والكراهة ، وتسمى هذه الخمسة بالأحكام

٦٨

وإمّا أن يكون من غير المجعولات كالموضوعات الخارجية واللغوية.

فان كان من الأحكام الشرعية فالمجعول في زمان الشك حكم ظاهري مساو للمتيقن السابق في جميع ما يترتب عليه ، لأنّه مفاد وجوب ترتيب آثار المتيقن السابق ووجوب المضي عليه والعمل به ، وإن كان من غيرها فالمجعول في زمان الشك هي : لوازمه الشرعية

______________________________________________________

الشرعية التكليفية.

(وإمّا أن يكون من غير المجعولات) الشرعية (كالموضوعات الخارجية) مثل حياة زيد ، وطلاق زوجته ، وما أشبه ذلك (واللغوية) مثل أصالة الحقيقة وأصالة عدم النقل ونحو ذلك.

وعليه : (فان كان من الأحكام الشرعية) أي : الخمسة التكليفية (فالمجعول في زمان الشك حكم ظاهري مساو للمتيقن السابق في جميع ما يترتب عليه) لوضوح : انا سابقا كنّا نعلم بالوجوب والحال نشك في الوجوب ، فجعل لنا الشارع مثل ذلك الوجوب حكما ظاهريا جعلا بسبب الاستصحاب.

وإنّما المجعول حكم ظاهري يساوي المتيقن السابق (لأنّه مفاد وجوب ترتيب آثار المتيقن السابق ووجوب المضي عليه) أي : على المتيقن السابق (والعمل به) أي : بذلك المتيقن ، فان الشارع لما قال : اعمل بالمتيقن السابق كان معناه : رتّب أثر المتيقن عند الشك فيه كما كنت ترتبه عليه عند اليقين به ، فانه كما كان يجوز له الدخول في الصلاة ـ مثلا ـ عند يقينه بالوضوء فكذلك يجوز له عند شكه في بقاء وضوئه.

(وإن كان من غيرها) أي : من غير الأحكام الشرعية كالامور الخارجية (فالمجعول في زمان الشك هي : لوازمه الشرعية) أي : لوازم الموضوع التي

٦٩

دون العقليّة والعاديّة ، ودون ملزومه ، شرعيا كان أو غيره ، ودون ما هو ملازم معه لملزوم ثالث.

ولعل هذا

______________________________________________________

هي شرعية ، فان اللوازم الشرعية للموضوعات هي القابلة للجعل فقط ، فإذا استصحبنا حياة الزوج ـ مثلا ـ وجبت النفقة لزوجته ، وحرم على زوجته الزواج بغيره ، إلى غير ذلك.

(دون العقليّة) كنموه الملازم عقلا لحياته (والعاديّة) كنبات لحيته الملازم عادة لحياته ، والعرفية كتوقفه عند الضوء الأحمر الملازم عرفا لحياته.

وإنّما لا تترتب اللوازم العقلية والعادية والعرفية على استصحاب الموضوع ، لأن هذه اللوازم ليست قابلة للجعل الشرعي.

(ودون ملزومه ، شرعيا كان) ذلك الملزوم كما إذا قال لزوجته أنت بتلة ، ثم شك في انها حرمت عليه أم لا ، فاستصحاب عدم حرمتها الذي هو اللازم لا يثبت الملزوم الذي هو عدم كون بتلة محرّما (أو غيره) بأن يكون الملزوم غير شرعي كاستصحاب نموّ زيد لاثبات الملزوم وهو حياة زيد ـ مثلا ـ.

(ودون ما هو ملازم معه) أي : مع المتيقن (لملزوم ثالث) كما إذا استصحب نموّ زيد لاثبات ملازمه وهو نبات لحيته ، فان النمو ونبات اللحية مثلا زمان ، إذ كلاهما لا زمان لملزوم واحد هو : حياة زيد ـ مثلا ـ.

والحاصل : ان الاستصحاب يثبت اللازم الشرعي فقط ، ولا يثبت اللازم العقلي والعادي والعرفي للمتيقن ، كما لا يثبت ملازم المتيقن ولا ملزومه سواء كان الملزوم شرعيا أم غير شرعي.

(ولعل هذا) الذي ذكرناه : من عدم إثبات الاستصحاب الملزوم سواء كان

٧٠

هو المراد بما اشتهر على ألسنة أهل العصر من نفي الاصول المثبتة فيريدون به أنّ الأصل لا يثبت أمرا في الخارج حتى يترتّب عليه حكمه الشرعي ، بل مؤداه أمر الشارع بالعمل على طبق مجراه شرعا.

فان قلت :

______________________________________________________

شرعيا أم غير شرعي ، ولا اللازم العرفي والعادي والعقلي ، وإنّما الشرعي فقط (هو المراد بما اشتهر على ألسنة أهل العصر) من علمائنا : (من نفي الاصول المثبتة).

وإنّما قال المصنّف : لعل ، لأن ما ذكره أهل العصر ليس بهذا التفصيل الذي ذكره المصنّف ، وإنّما ذكروا بعض ذلك ، فلعلهم بذكر البعض أرادوا كل ما ذكره المصنّف وكان ذكرهم للبعض من باب المثال كما قال :

(فيريدون به) أي بنفيهم للاصول المثبتة ما خلاصته : (أنّ الأصل لا يثبت أمرا في الخارج) أي : انه لا يجعل له وجودا خارجيا (حتى يترتّب عليه) أي : على وجوده بعد تحققه في الخارج (حكمه الشرعي) وذلك على ما عرفت.

إذن : فليس مؤدّى الاستصحاب إثبات الامور التكوينية (بل مؤداه) إثبات الامور التشريعية فيكون مؤدّى الاستصحاب هو : (أمر الشارع بالعمل على طبق مجراه شرعا) وذلك بترتيب الآثار الشرعية فقط.

(فان قلت) : نسلّم ان أخبار الاستصحاب لا تدل على ترتيب اللوازم العقلية والعادية والعرفية ، لكن لما ذا لا تدل على ترتيب اللوازم الشرعية المترتبة على اللوازم العقلية والعرفية والعادية ، مثل : وجوب الوفاء بنذره المترتب على نموّ زيد ، أو نبات لحيته ، أو توقفه عند الضوء الأحمر ، فان النمو والانبات والتوقف عند الضوء الأحمر وان لم تثبت باستصحاب بقاء الحياة ، لكن لازمها الشرعي ،

٧١

الظاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشاكّ عمل المتيقن ، بأن يفرض نفسه متيقنا ، ويعمل كلّ عمل ينشأ من تيقّنه بذلك المشكوك سواء كان ترتبه عليه بلا واسطة أو بواسطة أمر عادي أو عقلي مترتّب على ذلك المتيقن.

قلت : الواجب على الشاكّ عمل المتيقن بالمستصحب من حيث تيقّنه به ،

______________________________________________________

وهو وجوب الوفاء بالنذر لا مانع من ثبوته ، بسبب بقاء الحياة ، فاللازم الشرعي ثبت ، سواء كان بلا واسطة أم مع الواسطة.

وعليه : فيكون (الظاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشاكّ عمل المتيقن ، بأن يفرض نفسه متيقنا ، ويعمل كلّ عمل ينشأ من تيقّنه بذلك المشكوك) الذي يريد استصحابه (سواء كان ترتبه عليه بلا واسطة) كمثال وجوب نفقة الزوجة في استصحاب حياة الزوج (أو بواسطة أمر عادي أو عقلي) أو عرفي (مترتّب على ذلك المتيقن) كمثال وجوب الوفاء بالنذر المترتب على لازم غير شرعي لاستصحاب حياة زيد.

وإنّما الظاهر عدم الفرق بينهما لأن الأثر الشرعي مع الواسطة هو أثر شرعي أيضا ، فيكون حاله حال الأثر الشرعي بلا واسطة.

(قلت) : إذا لم يثبت بسبب استصحاب الحياة النمو ، أو نبات اللحية ، أو التوقف عند الضوء الأحمر ، فكيف يثبت ما هو لازم لها من وجوب الوفاء بالنذر؟.

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف بقوله : فان (الواجب على الشاكّ) هو ان يعمل (عمل المتيقن بالمستصحب من حيث تيقّنه به) أي : بالمستصحب نفسه ، لا بلوازمه ، فانه إذا كان متيقنا بالمستصحب كيف كان يعمل ، كذلك يعمل مثل ذلك العمل إذا كان شاكا فيه واستصحبه.

٧٢

وأمّا ما يجب عليه من حيث تيقنه بأمر يلازم ذلك المتيقن عقلا أو عادة ، فلا يجب عليه ، لأنّ وجوبها عليه يتوقف على وجود واقعي لذلك الأمر العقلي أو العادي أو وجود جعليّ بأن يقع موردا لجعل الشارع

______________________________________________________

(وأمّا ما يجب عليه من حيث تيقنه بأمر يلازم ذلك المتيقن عقلا أو عادة) أو عرفا مثل : الوفاء بالنذر المترتّب عليه النمو ، أو نبات اللحية ، أو التوقف عند الضوء الأحمر الملازمة لبقاء حياة زيد ـ مثلا ـ (فلا يجب عليه) أي : على الشاك ذلك.

وإنّما لا يجب عليه ذلك لأن دليل الاستصحاب لا يشمل مثل هذا الأثر الذي هو أثر بالواسطة ، فان وجوب الوفاء بالنذر مترتّب على الحياة من حيث اليقين بلوازم الحياة غير الشرعية ، مثل النمو ، بينما أخبار الاستصحاب ظاهرة في الآثار بلا واسطة ، لا الآثار المترتبة مع واسطة أمر عقلي أو عادي أو عرفي.

وعليه : فلا يجب على الشاك العمل بتلك الأحكام الشرعية المترتبة على ما يلازم المستصحب عقلا أو عادة أو عرفا ، وذلك (لأنّ وجوبها عليه) أي : على الشاك (يتوقف) على أحد أمرين :

الأوّل : (على وجود واقعي لذلك الأمر العقلي أو العادي) أو العرفي ، يعني : بأن يعلم علما وجدانيا مثلا بنمو زيد ، أو نبات لحيته ، أو توقفه عند الضوء الأحمر ، حتى يجب عليه الوفاء بنذره والمفروض : انه لا وجود واقعي لذلك.

الثاني : (أو) على (وجود جعليّ بأن يقع موردا لجعل الشارع) أي : موردا للاستصحاب ، وذلك كما إذا توفرت شروط الاستصحاب : من يقين سابق بالنمو ، أو بنبات اللحية ـ مثلا ـ وشك لاحق فيه ، فيستصحب النمو أو نبات اللحية ويترتب عليه الحكم الشرعي وهو : وجوب الوفاء بالنذر ، والمفروض : انه

٧٣

حتى يرجع جعله غير المعقول إلى جعل أحكامه الشرعية.

وحيث فرض عدم الوجود الواقعي والجعلي لذلك الأمر ، كان الأصل عدم وجوده وعدم ترتب آثاره.

وهذه المسألة نظير ما هو المشهور في باب الرضاع

______________________________________________________

لا وجود جعلي لذلك (حتى يرجع جعله) الشرعي (غير المعقول) لما عرفت : من ان النمو أو نبات اللحية ـ مثلا ـ غير قابل للجعل الشرعي وإنّما جعله يكون بالتكوين ، فإذا قال الشارع ، استصحب النمو أو نبات اللحية ، رجع قول الشارع (إلى جعل أحكامه الشرعية) مثل : وجوب الوفاء بالنذر.

هذا (وحيث فرض عدم الوجود الواقعي) لأنا لا نعلم بوجود النمو أو نبات اللحية واقعا (و) عدم (الجعلي) أي : عدم الوجود الجعلي لأنا لا نستصحب النمو أو نبات اللحية ، وإنّما نستصحب الحياة ، فلا وجود واقعي ولا جعلي إذن (لذلك الأمر) أي : للنمو ، أو لنبات اللحية ، وحيث فرض ذلك (كان الأصل عدم وجوده وعدم ترتب آثاره) مثل : وجوب الوفاء بالنذر وعليه :

(وهذه المسألة) التي ذكرناها : من انه لا يثبت بالاستصحاب اللوازم العقلية والعرفية والعادية تكون (نظير ما هو المشهور في باب الرضاع) فان الشارع قال : «الرضاع لحمة كلحمة النسب» (١) ، فاذا كان أخ واخت رضاعيان ، فانه يحرم أحدهما على الآخر ، لكن إذا كان عنوان ملازم للأخ أو للاخت مثل : أخ الأخ ، أو اخت الاخت ، فانه لا يحرم أحد الملازمين على أحد الرضاعيّين.

مثلا : فاطمة وإبراهيم أخ واخت من الرضاعة ، ولفاطمة اخت تسمّى زينب ، فانها لا تصبح اختا لابراهيم حتى تحرم على إبراهيم ، لأن المحرّم هو الاخت

__________________

(١) ـ جامع المقاصد : ح ١٣ ص ٢٤٣.

٧٤

من : أنّه إذا ثبت بالرضاع عنوان ملازم لعنوان محرّم من المحرّمات لم يوجب التحريم ، لأنّ الحكم تابع لذلك العنوان الحاصل بالنسبة أو بالرضاع ، فلا يترتّب على غيره المتّحد معه وجودا.

ومن هنا ، يعلم أنّه لا فرق في الأمر العادي بين كونه متّحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلّا مفهوما

______________________________________________________

من الرضاعة لا اخت الاخت ، وهكذا.

ولذا اشتهر بين الفقهاء : (من أنّه إذا ثبت بالرضاع عنوان ملازم لعنوان محرّم من المحرّمات) فان الاخت من الرضاعة محرّم من المحرّمات ، واخت الاخت عنوان ملازم له ، لكنه (لم يوجب التحريم) له ، إذ الاخت الرضاعية محرّمة ، لا اخت الاخت.

وإنّما لا يوجب التحريم للملازم (لأنّ الحكم) الذي هو التحريم بسبب الرضاع (تابع لذلك العنوان) أي : عنوان الاختية (الحاصل بالنسبة ، أو بالرضاع ، فلا يترتّب) الحكم بالتحريم (على غيره) أي : الملازم لذلك العنوان (المتّحد معه) أي : مع ذلك العنوان ، فاخت الاخت ليست بمحرّم رضاعا ، وان كانت اخت الاخت متحدة مع عنوان الاخت (وجودا) لوضوح : ان اخت الاخت اخت لكن المحرّم بالرضاع هو الاخت ، لا اخت الاخت.

(ومن هنا) أي : ممّا ذكرنا : من ان دليل الاستصحاب لا يقتضي ترتيب ما كان ثابتا على المستصحب عقلا أو عادة أو عرفا (يعلم) ستة امور :

الأوّل : (أنّه لا فرق في الأمر العادي) الذي قلنا : بانه لا يثبت بالاستصحاب (بين كونه متّحد الوجود مع المستصحب بحيث لا يتغايران إلّا مفهوما) أي : بأن يكون لهما اتحاد وجودي ومصداقي فقط ، ففي الخارج ليس إلّا شيئا واحدا ،

٧٥

كاستصحاب بقاء الكرّ في الحوض عند الشك في كرّية الماء الباقي فيه

______________________________________________________

لكن مفهومهما شيئان متغايران وذلك : (كاستصحاب بقاء الكرّ في الحوض عند الشك في كرّية الماء الباقي فيه) فان وجود الكرّ في الحوض ، وكرية ماء الحوض ، متحدان خارجا متغايران مفهوما.

اما إنهما متحدّان خارجا ، فلأنه ليس في الخارج إلّا شيء واحد يصدق هذان المفهومان عليه.

وامّا انهما متغايران مفهوما : فلأنه فرق بين أن يقال ، وجد الكر ، أو يقال : الماء كر ، فان ماء الحوض لو كان كرا ، فقد وجد الكر في الحوض.

وعليه : ففي زمان القطع بوجود الكر يحكم بطهارة الثوب النجس المغسول به ، وذلك لليقين بكرية ماء الحوض ، لا لليقين بوجود الكر ، ولذا في زمان الشك في بقاء الكرية لا ينفع استصحاب وجود الكر في الحكم بطهارة الثوب ، لأن الحكم بطهارة الثوب لم يكن في السابق مترتبا على نفس المستصحب من حيث يقين به ، بل من حيث اليقين بلازمه العادي المتحد معه وهو : كرية الماء.

إذن : فلو أجرينا الاستصحاب في وجود الكر لم ينفع في الحكم بطهارة الثوب ، بينما لو أجرينا الاستصحاب في كريّة الماء وقلنا : بأن هذا الماء كان كرا فهو كر ، نفع في الحكم بطهارة الثوب ، وذلك فيما إذا كان الموضوع الفعلي هو الموضوع السابق عرفا ، بأن لم ينقص الماء نقصا فاحشا حتى يرى العرف ان هذا الماء هو غير الماء السابق.

وعليه : فلا فرق في عدم ثبوت الأمر العادي بالاستصحاب ، بين اتحاد وجوده مع المستصحب وقد عرفت مثاله وتفصيله في الأمر الأوّل وبين تغاير وجوده مع المستصحب وذلك على ما يأتي بيانه.

٧٦

وبين تغايرهما في الوجود ، كما لو علم بوجود المقتضي لحادث على وجه لو لا المانع حدث وشك في وجود المانع.

وكذا لا فرق بين أن يكون اللزوم بينها وبين المستصحب كلّيا لعلاقة وبين أن يكون اتفاقيا

______________________________________________________

الثاني : (وبين تغايرهما في الوجود ، كما لو علم بوجود المقتضي لحادث على وجه لو لا المانع حدث) ذلك الحادث (وشك في وجود المانع).

مثلا : لو أخذ خشب الغير وألقاه في النار فانه يقتضي الاحتراق لو لا الرطوبة في الخشب ، واحتراقه يوجب الضمان ، ومعلوم : ان الاحتراق وعدم الرطوبة كما يتغايران مفهوما يتغايران خارجا أيضا ، فإذا شك في الضمان للشك في الرطوبة ، فاستصحاب عدم الرطوبة لا ينفع في الحكم بالضمان ، لأن الحكم بالضمان لم يكن في السابق مترتبا على نفس المستصحب من حيث اليقين به ، بل من حيث اليقين بلازمه العادي المغاير له وهو : الاحتراق.

إذن : فلو أجرينا الاستصحاب في عدم الرطوبة لم ينفع الحكم بالضمان ، لأن الحكم بالضمان مع العلم بعدم الرطوبة كان قطعيا ، وذلك لليقين بالاحتراق لا لليقين بعدم الرطوبة حتى يثبت بالاستصحاب.

الثالث : (وكذا لا فرق بين أن يكون اللزوم بينها) أي : بين تلك اللوازم (وبين المستصحب كلّيا لعلاقة) كعلاقة الفرد والكلي كما تقدّم من مثال وجود الكر في الحوض ، وكرية ماء الحوض ، فانه كلّما وجد الكلي وجد الجزئي ، ولا يعقل ان يوجد أحدهما بدون الآخر.

الرابع : (وبين أن يكون) اللزوم بين اللوازم وبين المستصحب (اتفاقيا

٧٧

في قضية جزئية ، كما إذا علم لأجل العلم الاجمالي الحاصل بموت زيد أو عمرو : أنّ بقاء حياة زيد ملازم لموت عمرو ، وكذا بقاء حياة عمرو ، ففي الحقيقة عدم الانفكاك اتفاقي من دون ملازمة.

وكذا لا فرق بين أن يثبت بالمستصحب تمام ذلك الأثر العادي ، كالمثالين

______________________________________________________

في قضية جزئية ، كما إذا علم لأجل العلم الاجمالي الحاصل بموت زيد أو عمرو : أنّ بقاء حياة زيد ملازم لموت عمرو ، وكذا بقاء حياة عمرو) ملازم لموت زيد ، ومن الواضح : ان هذه الملازمة ليست لعلاقة الكلي وجزئية ، ولا غير ذلك ، بل الملازمة اتفاقية ناشئة عن العلم الاجمالي الخارجي.

وعليه : فان مراد المصنّف من اللزوم الاتفاقي هو : المقارنة الاتفاقية ، فلا يستشكل عليه : بان اللزوم والاتفاق متقابلان لا يصدق أحدهما على الآخر ، وإذا كان مراده ذلك فلا تناقض في قوله المزبور وبين ان يكون اللزوم اتفاقيا ، في قضية جزئية.

ويؤكد إرادة المصنّف المقارنة الاتفاقية من اللزوم الاتفاقي قوله : (ففي الحقيقة عدم الانفكاك اتفاقي من دون ملازمة) بينهما ، فإذا استصحبنا حياة زيد في المثال ، فانه لا يثبت ما اتفق عدم انفكاكه عنه من موت عمرو ، وذلك لما عرفت : من ان الاستصحاب لا يثبت اللوازم العقلية والعرفية والعادية ناهيك عن المقارنات الاتفاقية.

الخامس : (وكذا لا فرق بين أن يثبت بالمستصحب تمام ذلك الأثر العادي ، كالمثالين) السابقين حيث كان المقصود في المثال الأوّل وهو استصحاب عدم الرطوبة : إثبات الاحتراق وهو تمام الأثر العادي الموجب للضمان ، في المثال

٧٨

أو قيد له عدمي أو وجودي ، كاستصحاب الحياة للمقطوع نصفين ، فيثبت القتل الذي هو إزهاق الحياة ، وكاستصحاب عدم الاستحاضة ، المثبت لكون الدم الموجود حيضا ، بناء على أنّ كلّ دم ليس باستحاضة ، حيض شرعا ، وكاستصحاب عدم الفصل الطويل المثبت لاتصاف الأجزاء

______________________________________________________

الثاني وهو استصحاب حياة زيد : إثبات موت عمرو وهو تمام الأثر العقلي الاتفاقي الموجب لتقسيم ماله ـ مثلا ـ.

السادس : (أو) يثبت بالمستصحب (قيد له عدمي أو وجودي ، كاستصحاب الحياة للمقطوع نصفين ، فيثبت القتل الذي هو) قيد وجودي أي : (إزهاق الحياة).

مثلا : إذا كان زيد ملفوفا بثوب ، فضربه عمرو ضربة بالسيف فقدّه نصفين ، ثم شككنا في انه هل كان ميتا قبل الضربة حتى لا يلزم على زيد دية القتل أو القصاص مثلا ، أو انه قتل بتلك الضربة حتى يلزمه الدية أو القصاص؟ فان الموت معلوم لكن قيده وهو : ان الموت مستند إلى ضربة عمرو أم لا ، فمشكوك ، والدية أو القصاص إنّما يترتبان على الموت بازهاق عمرو لروحه ، فيراد باستصحاب الحياة إثبات ذلك.

(وكاستصحاب عدم الاستحاضة ، المثبت لكون الدم الموجود حيضا) لأن الدم موجود وجدانا وقيده العدمي وهو : عدم كونه استحاضة مشكوك ، ويراد إثبات هذا العدم باستصحاب عدم وجود الاستحاضة سابقا وذلك (بناء على أنّ كلّ دم ليس باستحاضة ، حيض شرعا) فيما إذا لم يكن دم بكارة أو جرح أو ما أشبه ذلك.

(وكاستصحاب عدم الفصل الطويل المثبت) هذا العدم (لا تصاف الأجزاء

٧٩

المتفاصلة بما لا يعلم معه فوات الموالاة بالتوالي.

وقد استدلّ بعض تبعا لكاشف الغطاء ، على نفي الأصل المثبت بتعارض الأصل في جانب الثابت والمثبت ، فكما أنّ الأصل : بقاء الأوّل ، كذلك الأصل : عدم الثاني ،

______________________________________________________

المتفاصلة بما لا يعلم معه فوات الموالاة) لأن الفصل إذا كان طويلا ، فاتت الموالاة وبطلت الصلاة ، بخلاف ما إذا لم يكن الفصل طويلا فتتصف الأجزاء (بالتوالي) وتصح الصلاة.

إذن : فالأجزاء للصلاة ـ مثلا ـ معلومة الوجود ، امّا قيدها الوجودي أعني التوالي مشكوك ، لفرض وجود مقدار فصل بين الأجزاء يحتمل مع هذا الفصل فوات الموالاة ، فيراد باستصحاب عدم حدوث الفصل الطويل إثبات الموالاة حتى تصح الصلاة ، فان الفصل لم يكن سابقا موجودا ، فاذا شككنا في انه وجد أم لا ، نستصحب عدمه.

هذا ، ولكن قد عرفت : انّ دليل اعتبار الاستصحاب لا يشمل أيا من هذه الأقسام المذكورة من أقسام الاستصحاب التي يراد بها إثبات أثر عقلي أو عرفي أو عادي ، وقد ذكرنا سابقا : إنّ بالاستصحاب يثبت الأثر الشرعي بدون واسطة فقط ، وهذا هو الذي نراه من عدم صحة مثبتات الاصول ، وحاصله : عدم شمول الدليل له.

(وقد استدلّ بعض) وهو صاحب الفصول وذلك (تبعا لكاشف الغطاء ، على تفي الأصل المثبت) بدليل آخر ، وهو ما ذكره بقوله : (بتعارض الأصل في جانب الثابت والمثبت ، فكما أنّ الأصل : بقاء الأوّل ، كذلك الأصل : عدم الثاني) فيتساقطان.

٨٠