الوصائل إلى الرسائل - ج ١٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-13-9
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

ونفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة ، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث.

ودعوى «قيام الدليل الخاص على اعتبار هذا الظنّ ، بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين ، من أنّ شرائع الأنبياء السلف ، وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن ، بل بمجيء النبي اللاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق ،

______________________________________________________

بالظن الانسدادي.

(و) إن قلت : انا لا نتمكن من الاحتياط في العمل بالشريعتين ، لأنه حرج.

قلت : إنّ (نفي الحرج لا دليل عليه في الشريعة السابقة ، خصوصا بالنسبة إلى قليل من الناس ممّن لم يحصل له العلم بعد الفحص والبحث) فان أهل الشريعة السابقة ما داموا لم يفحصوا أو فحصوا ولم يحصل لهم العلم بأحد الطرفين ، عليهم ان يحتاطوا بالجمع بين الشريعتين ، بل ربما يظهر من جملة من الآيات والروايات : ان الحرج كان في الشرائع السابقة لتعنّت الامم الماضية وعدم انصياعهم للحق.

هذا (ودعوى قيام الدليل الخاص على اعتبار هذا الظنّ) ببقاء النبوة والشريعة ، وذلك (بالتقريب الذي ذكره بعض المعاصرين) وهو صاحب الفصول : (من أنّ شرائع الأنبياء السلف ، وإن كانت لم تثبت على سبيل الاستمرار ، لكنّها في الظاهر لم تكن محدودة بزمن معيّن) كمائة سنة أو خمسمائة سنة مثلا ، (بل بمجيء النبي اللاحق ، ولا ريب أنّها تستصحب ما لم تثبت نبوّة اللاحق).

وعليه : فان العقلاء إذا شكّوا في مجيء النبي اللاحق وعدم مجيئه ، ولم يكن لهم طريق إلى إثبات نبوة النبي اللاحق بالقطع واليقين ، فانهم يستصحبون نبوة

١٨١

ولو ذلك لاختلّ على الامم السابقة نظام شرائعهم من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبي ولو في الأماكن البعيدة ، فلا يستقر لهم البناء على أحكامهم» ، مدفوعة : بأنّ استقرار الشرائع لم يكن بالاستصحاب قطعا ، وإلّا لزم كونهم شاكّين في حقيّة شريعتهم ونبوّة نبيهم في أكثر الأوقات ، لما تقدّم : من أنّ الاستصحاب بناء على كونه من باب الظنّ ، لا يفيد الظنّ الشخصي في كلّ مورد.

وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب

______________________________________________________

النبي السابق وشريعته.

(ولو لا ذلك) أي : الاستصحاب حين الشك في مجيء النبي الجديد والشريعة الجديدة (لاختلّ على الامم السابقة نظام شرائعهم) وذلك (من حيث تجويزهم في كلّ زمان ظهور نبي ولو في الأماكن البعيدة) فإذا لم يستصحبوا مع ذلك نبوة النبي اللاحق وشريعته (فلا يستقر لهم البناء على أحكامهم») التي عملوا بها في صلاتهم وصيامهم وعقودهم وإيقاعاتهم ، ونكاحهم ومواريثهم ، وغير ذلك.

وكيف كان : فان هذه الدعوى (مدفوعة : بأنّ استقرار الشرائع) عند أهل كل شريعة : إنّما هو بسبب علمهم ، فانه (لم يكن بالاستصحاب قطعا ، وإلّا) بان كان بالاستصحاب (لزم كونهم شاكّين في حقيّة شريعتهم ونبوة نبيهم في أكثر الأوقات).

وإنّما لزم كونهم شاكين (لما تقدّم : من أنّ الاستصحاب بناء على كونه من باب الظنّ ، لا يفيد الظنّ الشخصي في كلّ مورد) فكيف يلتزمون بنبوة نبيهم وبقاء شريعتهم مع انه لا قطع ولا ظن شخصي لهم بذلك ، وهذا ممّا لا يمكن أن يلتزم به أحد؟.

(وغاية ما يستفاد من بناء العقلاء في الاستصحاب) لنبوة النبي اللاحق

١٨٢

هي ترتيب الأعمال المترتبة على الدين السابق دون حقيّة دينهم ونبوّة نبيهم التي هي من اصول الدين.

فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبي السابق.

نعم ، بعد ظهور النبي الجديد ، الظاهر كونهم شاكّين في دينهم مع بقائهم على الأعمال.

وحينئذ : فللمسلمين أيضا أن يطالبوا اليهود باثبات حقيّة دينهم لعدم الدليل لهم عليها وإن كان لهم الدليل على البقاء

______________________________________________________

وشريعته على فرض حصول الشك لهم في ذلك (هي ترتيب الأعمال المترتبة على الدين السابق) فقط (دون حقيّة دينهم ونبوّة نبيهم التي هي من اصول الدين) فانهم لا يبنون عليها للاستصحاب أو الظنون الشخصية ، وحينئذ (فالأظهر أن يقال : إنّهم كانوا قاطعين بحقيّة دينهم من جهة بعض العلامات التي أخبرهم بها النبي السابق) مثلا.

(نعم ، بعد ظهور النبي الجديد ، الظاهر كونهم) في الغالب عند التفاتهم إلى ذلك يصبحون (شاكّين في) حقيّة (دينهم) ولذا كان كثير منهم يفحصون ويبحثون ، ويناظرون ويجادلون ولكن (مع بقائهم على الأعمال) السابقة بالاستصحاب حتى يتبين لهم ان الحق في أيّ الطرفين؟.

(وحينئذ) أي : حين يصبحون شاكّين في دينهم بعد ظهور النبي الجديد (فللمسلمين أيضا أن يطالبوا) هؤلاء الشاكين من (اليهود) والنصارى وسائر أهل الكتاب والشرائع السابقة (باثبات حقيّة دينهم لعدم الدليل لهم عليها) أي : على حقيّة دينهم (وإن كان لهم الدليل) وهو الاستصحاب (على البقاء

١٨٣

على الأعمال في الظاهر.

الثالث : أنّا لم نجزم بالمستصحب وهي : نبوة موسى أو عيسى إلّا بأخبار نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونصّ القرآن ،

______________________________________________________

على الأعمال في الظاهر) ما داموا شاكين ـ على ما عرفت ـ ولكن لا يخفى : انهم لو شكوا في حقيّة دينهم شكوا في بقاء شريعتهم أيضا ، لأنه فرع الدين ، ومثل هذا لا يبني العقلاء عليه بالاستصحاب.

الوجه (الثالث) : من وجوه الأجوبة على استصحاب الكتابي هو : ان الاستصحاب لا يكون دليلا ملزما لنا نحن المسلمين ، وذلك (أنّا لم نجزم بالمستصحب وهي : نبوة موسى أو عيسى إلّا باخبار نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ونصّ القرآن) (٢) الذي هو معجزة نبينا ، ويدل على عدم جزمنا به لو لا إخبار رسول الاسلام وقرآنه عدم جزمنا بنبوة مثل بوذا أو كنفوسيوس وسقراط وغيرهم ممن يدّعي أتباعهم نبوتهم ، لأن نبيّنا لم يخبرنا عن نبوتهم.

هذا بالاضافة إلى أنّ في الموجود الآن بين يدي أهل الكتاب من دين موسى وعيسى ومن توراتهم وانجيلهم ما يندى له الجبين من كثرة الخرافات المنسوبة إلى شخص النبيين وإلى شرائعهم ، حتى انه لو لم يكن أخبرنا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنهما نبيّان ، وان أصل كتابيهما : التوراة والانجيل ـ لا هذان الموجودان الآن ـ من الله سبحانه وتعالى ، لكنّا نعتقد بعدم نبوتهما ، وعدم صحة انتساب التوراة والانجيل إلى الله سبحانه (٣).

__________________

(١) ـ بصائر الدرجات : ص ١٢١ ح ١ ، بحار الانوار : ج ٢٣ ص ٩٦ ب ٥ ح ٣ وج ٦٩ ص ١١ ب ٢٨ ح ١٢.

(٢) ـ راجع سورة البقرة : الآية ٣٦ ، وسورة الاعراف : الآية ١٠٤ ، وسورة المائدة : الآية ٤٦.

(٣) ـ وقد تطرّق الشارح الى مثالب المسيحية في كتابه : ما ذا في كتب النصارى؟.

١٨٤

وحينئذ : فلا معنى للاستصحاب.

ودعوى : أنّ النبوّة موقوفة على صدق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا على نبوته» ، مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلّا من حيث ثبوته.

______________________________________________________

(وحينئذ) أي : حين لم نجزم بالمستصحب إلّا بأخبار نبينا (فلا معنى للاستصحاب) بعد ذلك ، لأن اليقين بنبوة موسى أو عيسى لم يحصل لنا إلّا من اليقين بنبوة نبينا وحقانية كتابه وشريعته ونسخ ما قبلها من النبوات والشرائع ، ومعه لا شك فلا استصحاب.

هذا (ودعوى : أنّ النبوّة) لموسى أو لعيسى غير موقوفة على نبوة نبينا حتى تكون نبوة نبينا ناسخة لنبوة موسى أو عيسى ، وإنّما هي (موقوفة على صدق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا على نبوته») وإذا لم تكن نبوة موسى أو عيسى موقوفة على نبوة نبينا ، بل على صدقه فقط ، فلا نبوة لنبينا فرضا حتى تكون ناسخة لنبوة موسى أو عيسى ، فيجري استصحاب نبوة موسى أو عيسى بلا مانع.

وبعبارة اخرى : ان كون موسى وعيسى نبيّين موقوف على صدق المخبر ، لا على نبوته ، وذلك لأن الصادق إذا أخبر بشيء قبل خبره ، فإذا أخبرنا الصادق الأمين يعني : محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنبوة موسى وعيسى يحصل لنا اليقين بنبوتهما ، فيجري الاستصحاب عند الشك في بقاء نبوتهما.

لكن هذه الدعوى (مدفوعة : بأنّا لم نعرف صدقه إلّا من حيث ثبوته) أي : ان صدق محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث يحصل من خبره العلم بنبوة موسى وعيسى لم يعرف إلّا من جهة نبوته ، فانا إذا لم نكن نعرف انه نبي لم نكن نعرف انه صادق ، فالمعجزة دلت على نبوته ، ونبوته أوجبت علمنا بصدقه.

١٨٥

والحاصل : أنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه ، لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة.

وهو مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ، لامكان معارضة قول النصارى بتكذيب اليهود.

الرابع : أنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلّا إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبي ،

______________________________________________________

(والحاصل : أنّ الاستصحاب موقوف على تسالم المسلمين وغيرهم عليه) أي : على المستصحب من جهة ثبوته خارجا بالمعجزة (لا من جهة النصّ عليه في هذه الشريعة) فان اتفق الكل على المستصحب لثبوته خارجا بالمعجزة كان إلزام الكتابي لنا صحيحا ، وامّا ان يثبت المستصحب بنص شريعتنا فان ذلك ممّا لا ينفع الكتابي ، لأنا نصدّق بشريعتنا ، ومعنى تصديقنا بشريعتنا : ان نبوتهما قد انقطعت.

هذا ، ولكن تسالم الجميع على المستصحب ممنوع كما قال : (وهو) أي : التسالم (مشكل ، خصوصا بالنسبة إلى عيسى على نبيّنا وآله وعليه‌السلام ، لا مكان معارضة قول النصارى) القائلين ان عيسى نبي (بتكذيب اليهود) لهم ، فان اليهود ينكرون نبوة عيسى ، ويكذّبون النصارى في ذلك ، كما ان النصارى ينكرون نبوة موسى ويكذبون اليهود في ذلك ، وأما نحن المسلمين ، فانا وان قلنا بنبوة موسى وعيسى من جهة النص عليهما في شريعتنا ، إلّا انا نقول بانقطاع نبوتهما ، فأين التسالم مع وجود هذا الاختلاف الكبير؟.

الوجه (الرابع) : من وجوه الأجوبة على استصحاب الكتابي هو : (أنّ مرجع النبوّة المستصحبة ليس إلّا إلى وجوب التديّن بجميع ما جاء به ذلك النبي) وهو

١٨٦

وإلّا فأصل صفة النبوة أمر قائم بنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لا معنى لاستصحابه لعدم قابليته للارتفاع أبدا.

ولا ريب أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبي السابق الاخبار بنبوّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

______________________________________________________

موسى في المثال فإذا تديّنا بجميع ما جاء به موسى ، ومن جملة ما جاء به بلا ريب هو : نبوة نبينا ، فيلزم من وجوب التديّن بما جاء به موسى التديّن بانقطاع نبوته بمجيء نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

توضيحه : إنّ النبوة التي يريد الكتابي استصحابها ان كانت بمعنى الصفات الرفيعة الموجودة في نفس موسى التي تؤهله لتلقّي الوحي والرسالة ، فاستصحابها لا ينفعنا ، لأن كون النفس رفيعة لا توجب لنا تكليفا.

وإن كانت بمعنى : السلطة التي بها يتصرّف في الآفاق والأنفس بسبب ارتفاع نفسيته ومكانته من الله سبحانه وتعالى ، فاستصحابها لا ينفعنا أيضا ، لأنه لا يحدث لنا تكليفا أيضا.

وإن كانت بمعنى : الرئاسة الالهية العامة ، المستلزمة وجوب إطاعته واتباع شريعته ، فذلك لا ينفع الكتابي ، لأن ممّا جاء به موسى هو : البشارة بنبينا ، وإذا ثبتت بشارته بنبينا كما نحن نقطع بذلك ، فليس علينا اتباعه بعد مجيء نبينا.

(وإلّا) بأن لم تكن النبوة بمعنى وجوب التديّن الذي ذكرناه في المعنى الثالث (فأصل صفة النبوة أمر قائم بنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا معنى لاستصحابه) بل هو مقطوع به (لعدم قابليته للارتفاع أبدا) فان النبي لا ينقلب عن كونه نبيا.

هذا (ولا ريب أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبي السابق) هو (الاخبار بنبوّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) ممّا يوجب عدم كون الاستصحاب ملزما لنا نحن المسلمين

١٨٧

كما يشهد به الاهتمام بشأنه في قوله تعالى حكاية عن عيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) فيكون كلّ ما جاء به من الأحكام ، فهو في الحقيقة مغيّا بمجيء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فدين عيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام المختص به ، عبارة عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالا بمجيء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ومن المعلوم : أنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين لا يضرّ

______________________________________________________

(كما يشهد به) أي : بأخبار النبي السابق بنبوّة نبينا (الاهتمام بشأنه) أي : بشأن نبينا (في قوله تعالى حكاية عن عيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام : (إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) (١)) فالبشارة برسول الاسلام من أعظم ما بشر به عيسى.

وعليه : (فيكون كلّ ما جاء به) النبي السابق (من الأحكام ، فهو في الحقيقة مغيّا بمجيء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وإذا ثبتت هذه البشارة كما هي ثابتة لدينا ، فلا يبقى مجال للكتابي حتى يلزمنا بسبب الاستصحاب.

إذن : (فدين عيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام المختص به ، عبارة عن مجموع أحكام مغيّاة إجمالا بمجيء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) وكذلك بقية أديان الأنبياء السابقين فانها مغيّاة بمجيء نبينا.

(ومن المعلوم : أنّ الاعتراف ببقاء ذلك الدين) السابق كدين موسى أو دين عيسى إلى زمان مجيء نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ما نعتقد به نحن (لا يضرّ

__________________

(١) ـ سورة الصف : الآية ٦.

١٨٨

المسلمين فضلا عن استصحابه.

فان أراد الكتابي دينا غير هذه الجملة المغيّاة إجمالا بالبشارة المذكورة فنحن منكرون له ، وإن أراد هذه الجملة فهو عين مذهب المسلمين ، وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم مغيّاة لا رفع حقيقة ، ومعنى النسخ : انتهاء مدّة الحكم المعلوم إجمالا.

______________________________________________________

المسلمين فضلا عن استصحابه) أي : انه إذا كان اعترافنا نحن المسلمين ببقاء الأديان السابقة إلى مجيء نبينا لا يضر باعتقادنا بنبينا وشريعتنا ، فاستصحاب بقائها لا يضر باعتقادنا بطريق أولى.

وعليه : (فان أراد الكتابي دينا غير هذه الجملة) من شريعة موسى أو عيسى (المغيّاة إجمالا بالبشارة المذكورة) بنبينا (فنحن منكرون له) أي : لذلك الدين الخالي عن البشارة بنبينا.

(وإن أراد هذه الجملة) المشتملة على البشارة بنبينا (فهو عين مذهب المسلمين) فلا يكون الكتابي بسبب الاستصحاب ملزما للمسلمين ، وإنّما يكون المسلمون بسبب مجيء نبينا ونسخ ما قبله ملزمين للكتابي ، مضافا إلى ان الاستصحاب هنا لا مجال له ، لانتهاء أمد الأديان السابقة بمجيء نبينا ، فلا شك ، وعلى فرض الشك فهو في المقتضي لا في الرافع كما قال :

(وفي الحقيقة بعد كون أحكامهم) أي : أحكام الأديان السابقة (مغيّاة) بمجيء نبينا (لا رفع حقيقة) حتى يكون الشك في الرفع ، وإنّما تنتهي الأديان السابقة بانتهاء أمدها (و) ذلك معنى النسخ ، فان (معنى النسخ : انتهاء مدة الحكم المعلوم إجمالا) وهذا ليس معناه الرفع ، وإنّما معناه : انتهاء المقتضي.

١٨٩

فان قلت : لعلّ مناظرة الكتابيّ في تحقق الغاية المعلومة وأنّ الشخص الجائي هو المبشّر به أم لا فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب.

قلت : المسلّم هو الدين المغيّى بمجيء هذا الشخص الخاص ، لا بمجيء موصوف كلّي حتى يتكلّم في انطباقه على هذا الشخص ويتمسك بالاستصحاب.

الخامس : أن يقال :

______________________________________________________

(فان قلت : لعلّ مناظرة الكتابيّ) ليس في أصل الغاية ، بل (في تحقق الغاية المعلومة وأنّ الشخص الجائي هو المبشّر به) من جهة النبي السابق (أم لا) وإنّما يأتي بعد ذلك؟ وحينئذ (فيصحّ تمسّكه بالاستصحاب).

وإنّما يصح تمسك الكتابي حينئذ بالاستصحاب ، لأنّه قد اعترف بأن دينه ينتهي بمجيء نبي الاسلام محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما يشك في الصغرى يعني : في ان محمدا الذي ينسخ دين الكتابي هل هو محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المبعوث قبل أربعة عشر قرنا ، أو هو محمد آخر يأتي بعد ذلك؟ فالكتابي بادعاء هذا النوع من الشك يريد أن يلزم المسلمين باستصحاب شريعته حتى يثبت له مجيء محمد الذي بشّر به موسى.

(قلت : المسلّم) وجوده من الدين في الزمان السابق والذي يراد استصحابه (هو الدين المغيّى بمجيء هذا الشخص الخاص) الذي جاء قبل أربعة عشر قرنا (لا بمجيء موصوف كلّي حتى يتكلّم في انطباقه على هذا الشخص و) عدم انطباقه حتى (يتمسك بالاستصحاب) لبقاء الدين السابق ، فلا مسرح إذن للاستصحاب هنا على ما يدّعيه الكتابي.

الوجه (الخامس) من وجوه الأجوبة على استصحاب الكتابي هو (أن يقال :

١٩٠

إنّا معاشر المسلمين ، لمّا علمنا أنّ النبي السالف أخبر بمجيء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ ذلك كان واجبا عليه ، ووجوب الاقرار به والايمان به يتوقف على تبليغ ذلك إلى رعيته ، صحّ لنا أن نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبي السالف على تقدير تبليغ نبوّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والنبوّة التقديرية لا تضرّنا ولا تنفعهم في بقاء شريعتهم.

ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات الله عليه في جواب الجاثليق ، حيث قال له عليه‌السلام :

«ما تقول في نبوة عيسى

______________________________________________________

إنّا معاشر المسلمين لمّا علمنا أنّ النبي السالف) كالنبي موسى أو عيسى ـ مثلا ـ كان قد (أخبر بمجيء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ ذلك) أي : اخباره بمجيء نبينا (كان واجبا عليه ، ووجوب الاقرار به والايمان به يتوقف على تبليغ ذلك إلى رعيته) لأن النبي معصوم ، فلا يمكنه ترك التبليغ ، وإذا كان كذلك (صحّ لنا أن نقول : إنّ المسلّم نبوّة النبي السالف على تقدير تبليغ) ذلك النبي السالف (نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم).

وعليه : فالنبوة التحقيقية عندنا لموسى أو عيسى هي المبشرة بنبينا ، ممّا يوجب انقطاع نبوتهما عند مجيء نبينا (والنبوة التقديرية) التي لم تبشر بنبينا (لا تضرّنا) لأنا لا نسلم بتلك النبوة (ولا تنفعهم) أي : لا تنفع الكتابي أيضا ، لأنه لا يستطيع إلزامنا بها (في بقاء شريعتهم) لأنا لا نسلّم النبوة السابقة التي لم تبشر بمجيء نبينا ولا نعترف بها ، ومع عدم الاعتراف لا مسرح للاستصحاب.

(ولعلّ هذا الجواب يرجع إلى ما ذكره الإمام أبو الحسن الرضا صلوات الله عليه في جواب الجاثليق حيث قال) الجاثليق (له عليه‌السلام : «ما تقول في نبوة عيسى

١٩١

وكتابه؟ هل تنكر منهما شيئا؟ قال عليه‌السلام : أنّا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشّر به امّته ، وأقرّت به الحواريون ، وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه ، ولم يبشّر به امته. ثم قال الجاثليق : أليست تقطع الأحكام بشاهدي عدل؟ قال عليه‌السلام : بلى. قال الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين من غير أهل ملّتك على نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لا ينكره النصرانيّة ، وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا ، قال عليه‌السلام : «الآن جئت بالنصفة يا نصراني!».

______________________________________________________

وكتابه؟ هل تنكر منهما شيئا؟ قال عليه‌السلام : أنّا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشّر به امّته ، وأقرّت به الحواريون) من النبوة التي فيها بشارة لنبينا (وكافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ بنبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه ، ولم يبشّر به امته) فليس لي يقين بنبوة لم تبشر بنبينا حتى يتم الاستصحاب.

(ثم قال الجاثليق : أليست تقطع الأحكام) أي النزاعات (بشاهدي عدل؟) فإذا لم أتمكن من إثبات نبوّة نبيّ بالاستصحاب ، أليس فصل الأمر إلى الشهود؟ (قال عليه‌السلام : بلى).

وحينئذ : (قال الجاثليق : فأقم شاهدين عدلين من غير أهل ملّتك) أي : من غير المسلمين ، لأن المسلمين في نظر الجاثليق متهمون بأنهم يجرّون النار إلى قرصهم ، فيشهدان (على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لا ينكره النصرانيّة) لأن الشاهد يجب ان يكون مقبولا عند الطرفين : المدّعي والمنكر (وسلنا مثل ذلك) أعني : شاهدين عادلين (من غير أهل ملتنا) أي : من غير النصارى على صحة دين عيسى.

(قال عليه‌السلام : «الآن جئت بالنصفة يا نصراني!») والانصاف والنصفة بمعنى واحد ، وذلك باعتبار أن كل واحد من المتنازعين يأخذ النصف ، لا ان يجوز أحدهما على الآخر بأخذ الكل أو الأكثر.

١٩٢

ثم ذكر عليه‌السلام أخبار خواصّ عيسى عليه‌السلام بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

______________________________________________________

(ثم ذكر عليه‌السلام أخبار خواصّ عيسى عليه‌السلام) من الحواريين (بنبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (١) فأقام الإمام عليه‌السلام شاهدين عادلين مقبولين لدى الجاثليق على إنهما بشّرا بنبوة نبي الاسلام فقال عليه‌السلام : ما تقول في يوحنا الديلمي؟.

قال الجاثليق : بخ بخ ذكرت أحب الناس إلى المسيح.

قال الإمام عليه‌السلام : أقسمت عليك هل نطق الانجيل بأن يوحنا قال : إنّما المسيح أخبرني بدين محمد العربي وبشّرني به انه يكون من بعدي ، فبشّرت به الحواريون فآمنوا به؟.

قال الجاثليق : قد ذكر ذلك يوحنا عن المسيح وبشّر بنبوة رجل وبأهل بيته ووصيه ، ولم يلخّص متى يكون ذلك؟ ولم يسمّ لنا القوم فنعرفهم.

أقول : قد اعترف الجاثليق بكلامه هذا بأصل البشارة ، لكن ادعى انه لم يعيّن ان محمدا الذي يأتي من بعد عيسى هو محمد رسول الله الذي يعترف به المسلمون ، وانه لم يسمّ عليا وفاطمة والحسن والحسين ومن إليهم من آله بيتهما صلوات الله عليهما وعليهم أجمعين.

وبعبارة اخرى : إنّ الجاثليق بعد انقطاعه عن الكبرى تمسك بالصغرى ، وادّعى ان الصغرى غير متحققة لديه وان كان قد قبل الكبرى ببشارة عيسى بنبي المسلمين.

قال عليه‌السلام : فإن جئناك بمن يقرأ الانجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته وامته أتؤمن به؟.

__________________

(١) ـ انظر عيون أخبار الرضا : ج ١ ص ١٥٦ ـ ١٥٧ ح ١ ، التوحيد : ص ٤٢٠ ، الاحتجاج : ص ٤١٧ ، بحار الانوار : ج ١٠ ص ٣٠٢ ب ١٩ ح ١.

١٩٣

ولا يخفى : أنّ الاقرار بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به امته لا يكون حاسما لكلام الجاثليق ، إلّا إذا اريد المجموع من حيث المجموع ، بجعل الاقرار بعيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة.

______________________________________________________

أقول : ان الإمام عليه‌السلام بكلامه هذا أوضح للجاثليق : بانه مستعدّ لأن يدلّه على ما جاء في الانجيل من التصريح بالصغرى أيضا.

قال الجاثليق : أمر سديد.

عندها قال الإمام عليه‌السلام : خذ عليّ السفر الثالث من الانجيل ، ثم قرأ منه حتى بلغ ذكر محمد وأهل بيته وامته ، ممّا دل على الصغرى الشخصية أيضا ، ثم انجرّ الكلام إلى ان قال الجاثليق : لا أنكر ما قد بان لي في الانجيل واني لمقرّ به ، (١) وتفصيل القصة مذكور في الاحتجاج والبحار وغيرهما.

هذا (ولا يخفى : أنّ الاقرار) من الإمام عليه‌السلام (بنبوّة عيسى وكتابه وما بشّر به امته) بنحو الاجمال (لا يكون حاسما لكلام الجاثليق) أي : رادا له حتى ينقطع استصحابه (إلّا إذا اريد) أي أراد الإمام عليه‌السلام (المجموع من حيث المجموع ، بجعل الاقرار بعيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام مرتبطا بتقدير بشارته المذكورة) يعني : بأن جعل الإمام عليه‌السلام الاقرار معلّقا على نبوة مركّبة مع التبليغ والبشارة على نحو المركب الارتباطي بحيث لو أنكر انهم الجزء انعدم المركب كلّه ، وحينئذ ينقطع الكتابي في تمسكه بالاستصحاب.

__________________

(١) ـ الاحتجاج : ص ٤١٧ ، التوحيد : ص ٤٢٠ ، عيون اخبار الرضا : ص ١٥٦ ـ ١٥٨ ح ١ ، بحار الانوار : ج ١٠ ص ٣٠٢ ب ١٩ ح ١.

١٩٤

ويشهد له قوله عليه‌السلام بعد ذلك : «كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم يبشّر» فانّ هذا في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق.

وأمّا التزامه عليه‌السلام بالبيّنة على دعواه فلا يدلّ على تسليمه الاستصحاب وصيرورته مثبتا بمجرّد ذلك ،

______________________________________________________

(ويشهد له) أي : لارادة المجموع من حيث المجموع (قوله عليه‌السلام بعد ذلك : «كافر بنبوّة كلّ عيسى لم يقرّ ولم يبشّر») بنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (فانّ هذا) الكلام من الإمام عليه‌السلام هنا (في قوّة مفهوم التعليق المستفاد من الكلام السابق) وهو قوله عليه‌السلام : انا مقرّ بنبوة عيسى وكتابه ، وما بشر به امته ، وأقرّت به الحواريون (١).

إذن : فالاقرار معلق على اعتراف الكتابي بمركب ارتباطي جزء منه : النبوة ، وجزء منه : البشارة بنبي الاسلام ، فإذا قبل الكتابي المركب كله فقد انقطع استصحابه ، لأنه قد اعترف بنبوة نبي الاسلام ، وإذا لم يقبل الكتابي جزء البشارة ، فقد انعدم المركب كله ، فلا إقرار منّا حتى يلزمنا بالاستصحاب ، فلا استصحاب هنا على كل تقدير

(و) ان قلت : إذا كان الإمام عليه‌السلام لم يقبل استصحاب الجاثليق ، فلما ذا قبل من الجاثليق أن يأتيه بالبينة؟.

قلت : (أمّا التزامه عليه‌السلام بالبيّنة على دعواه) الظاهر من قوله عليه‌السلام للجاثليق : الآن جئت بالنصفة (فلا يدلّ على تسليمه) عليه‌السلام من الجاثليق (الاستصحاب وصيرورته) أي الجاثليق بالاستصحاب (مثبتا) ومدّعيا (بمجرّد ذلك) أي :

__________________

(١) ـ عيون أخبار الرضا : ص ١٥٧ ، التوحيد : ص ٤٢٠ ، الاحتجاج : ص ٤١٧ ، بحار الانوار : ج ١٠ ص ٣٠٢ ب ١٩ ح ١.

١٩٥

بل لأنّه عليه‌السلام من أوّل المناظرة ملتزم بالاثبات. وإلّا فالظاهر المؤيد بقول الجاثليق : «وسلنا مثل ذلك» ، كون كلّ منهما مدّعيا ، إلّا أن يريد الجاثليق ببيّنته نفس الإمام وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام

______________________________________________________

بمجرد الالتزام منه عليه‌السلام باقامة البيّنة (بل لأنّه عليه‌السلام من أول المناظرة ملتزم بالاثبات) لنبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وليس للجاثليق فحسب ، بل لكل من يطلب الحق ، ومن المعلوم : ان كل من يريد إثبات أمر لأحد فعليه أن يأتي لذلك بالبيّنة.

(وإلّا) بان لم نقل ان الإمام عليه‌السلام ملتزم بالاثبات وإقامة البينة من أول المناظرة (فالظاهر المؤيد بقول الجاثليق : «وسلنا مثل ذلك» ، كون كلّ منهما مدّعيا) مع انه ليس كذلك قطعا ، فان الإمام عليه‌السلام ادّعى لعيسى النبوة المركبة مع التبليغ والبشارة ، والجاثليق أنكر جزء البشارة ، فالجاثليق هنا منكر والإمام عليه‌السلام مدّع ، وليس كلاهما مدّعيين ، فليس إذن التزامه عليه‌السلام بالبينة تسليما للاستصحاب هنا.

نعم ، يمكن إخراج بينة الجاثليق عن كونها بينة اصطلاحية ، وذلك بارادته من البينة : اعتراف الإمام عليه‌السلام نفسه بنبوة نبيهم ، فإذا خرجت عن كونها بينة اصطلاحية ، صح كون الجاثليق منكرا وكون الإمام عليه‌السلام مدعيا ، وبهذا الاخراج لا يكون أيضا التزام الإمام عليه‌السلام بالبينة تسليما للاستصحاب.

وإلى هذا الاخراج أشار المصنّف حيث قال : (إلّا أن يريد الجاثليق ببيّنته) التي عرض على الإمام عليه‌السلام ان يسأله عنها بأنها ليست هي البينة الاصطلاحية ، بل هي اعتراف (نفس الإمام) عليه‌السلام (وغيره من المسلمين المعترفين بنبوّة عيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام) ومن المعلوم : ان هذا الاعتراف ليس هو بينة اصطلاحية.

وإنّما أخرج المصنّف بينة الجاثليق عن كونها بينة اصطلاحية وقال : بأنه يريد

١٩٦

إذ لا بيّنة له ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك ، فافهم.

الأمر العاشر :

إنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق ، إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني ، كقوله : «أكرم العلماء في كلّ زمان» وكقوله : «لا تهن فقيرا» ، حيث انّ النهي للدوام ؛

______________________________________________________

من البينة اعتراف الإمام عليه‌السلام نفسه ، لأنه كما قال : (إذ لا بيّنة له) أي : للجاثليق بينة اصطلاحية بأن يقيم شاهدين عادلين (ممّن لا ينكره المسلمون سوى ذلك) أي سوى اعتراف الإمام عليه‌السلام نفسه وسائر المسلمين بنبوة نبيهم.

(فافهم) إشكال من المصنّف على ما قاله قبل قليل من قوله : إلّا ان يريد الجاثليق ، لأن الظاهر من كلام الجاثليق هو : ان يأت الإمام عليه‌السلام ببينة ممن يقبله النصارى ، وان يأت هو أيضا ببينة يقبله الإمام عليه‌السلام والمسلمون ، لا ان المراد ببينة الجاثليق اعتراف الإمام عليه‌السلام وسائر المسلمين.

(الأمر العاشر) : في بيان عموم العام واستصحاب المخصص ، اعلم (إنّ الدليل الدالّ على الحكم في الزمان السابق) على ثلاثة أقسام :

الأوّل : وله شقان : (إمّا أن يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني) تصريحا (كقوله : «أكرم العلماء في كلّ زمان») أو أكرم العلماء دائما ، أو وأكرم العلماء طول عمرك ، وغيره ممّا يدل على الدوام في كل الأزمنة تصريحا (و) إما التزاما (كقوله : «لا تهن فقيرا» ، حيث انّ النهي للدوام) إذ هو لطلب ترك الطبيعة ، والطبيعة سارية في الزمان الأوّل والزمان الثاني وسائر الأزمنة.

١٩٧

وإمّا أن يكون مبيّنا لعدمه ، نحو : «أكرم العلماء إلى أن يفسقوا» بناء على مفهوم الغاية».

وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا ، إمّا لاجماله ، كما اذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين استتار القرص وذهاب الحمرة ، وإمّا لقصور دلالته ،

______________________________________________________

الثاني : (وإمّا أن يكون مبيّنا لعدمه) أي : لعدم ثبوت الحكم في الزمان الثاني (نحو : «أكرم العلماء إلى أن يفسقوا») فانه دليل على عدم وجوب اكرامهم بعد فسقهم ، وذلك (بناء على مفهوم الغاية) كما هو المشهور بين الاصوليين والفقهاء : من ان الغاية لها مفهوم مثل قوله سبحانه : (أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) (١) وغيره من سائر الآيات والروايات المشتملة على الغاية الدالة على انقضاء الحكم بمجيء الغاية.

الثالث : (وإمّا أن يكون غير مبيّن لحال الحكم في الزمان الثاني نفيا وإثباتا) فلا يدل على ثبوت الحكم في الزماني الثاني ولا على نفيه فيه ، وعدم دلالته لأحد وجهين :

الوجه الأوّل : (إمّا لاجماله ، كما اذا أمر بالجلوس إلى الليل ، مع تردّد الليل بين استتار القرص وذهاب الحمرة) فان الدليل لما كان مجملا لا نعلم هل الحكم مستمر إلى ذهاب الحمرة ، أو يكفي فيه استتار القرص الذي هو قبل ذهاب الحمرة بمقدار ربع ساعة تقريبا؟.

الوجه الثاني : (وإمّا لقصور دلالته) وذلك يكون بالاهمال ، فانه فرق

__________________

(١) ـ سورة البقرة : الآية ١٨٧.

١٩٨

كما إذا قال : «إذا تغيّر الماء نجس» ، فانّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء ، ومثل : الاجماع المنعقد على حكم في زمان ، فانّ الاجماع لا يشمل ما بعد ذلك الزمان.

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث ، وأمّا القسم الثاني ،

______________________________________________________

بين الاجمال والاهمال ، فان المجمل ما له دلالة ولكنّا لا نعلم هل دلالته على هذا الشيء أو ذاك الشيء؟ وبينما المهمل ما ليس له دلالة أصلا ، وذلك (كما إذا قال : «إذا تغيّر الماء نجس» ، فانّه لا يدلّ على أزيد من حدوث النجاسة في الماء) بسبب التغيّر ، وهذا الدليل مهمل لحكم النجاسة أو اللانجاسة بعد زوال التغيّر.

(ومثل : الاجماع المنعقد على حكم في زمان) كخيار العيب ، حيث لا نعلم هل ان الحكم بالخيار ، الثابت في أول زمن العلم بالعيب موجود بعد ذلك الزمان حتى يصح الأخذ به ، أو ليس بموجود حتى لا يصح الأخذ به (فانّ الاجماع لا يشمل ما بعد ذلك الزمان) لأنه مهمل بالنسبة إليه.

إذن : فالدليل القائل : «إذا تغيّر الماء نجس» ، والاجماع ، كلاهما مهمل ، ولكن مع فرق بينهما وهو : ان الأوّل مهمل لفظي ، والثاني مهمل لبّي ، كما انه علم ممّا تقدّم : إنّ الاجمال لا يكون إلّا في الدليل اللفظي ، بينما الاهمال قد يكون في الدليل اللفظي وقد يكون في الدليل اللبّي.

هذا (ولا إشكال في جريان الاستصحاب في هذا القسم الثالث) بكلا شقّيه : المجمل والمهمل ، وذلك لأن أركان الاستصحاب تامة فيه ، لوجود اليقين السابق ، والشك اللاحق ، وهما ركنا الاستصحاب فيجري الاستصحاب بلا إشكال.

(وأمّا القسم الثاني) وهو الذي ذكره المصنّف بقوله : «واما ان يكون مبيّنا

١٩٩

فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، لوجود الدليل على ارتفاع الحكم في الزمان الثاني.

وكذلك القسم الأوّل ، لأنّ عموم اللفظ للزمان اللاحق كاف ومغن عن الاستصحاب ، بل مانع عنه ، إذ المعتبر في الاستصحاب : عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة.

ثم إذا فرض خروج بعض الافراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم ،

______________________________________________________

لعدمه» (فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه ، لوجود الدليل على ارتفاع الحكم في الزمان الثاني) فلا شك في الزمان الثاني حتى يجري فيه الاستصحاب.

(وكذلك القسم الأوّل) وهو الذي ذكره المصنّف بقوله : «اما ان يكون مبيّنا لثبوت الحكم في الزمان الثاني» فانه لا يجري فيه الاستصحاب أيضا (لأنّ عموم اللفظ للزمان اللاحق) الذي هو دليل اجتهادي (كاف ومغن عن الاستصحاب) الذي هو دليل فقاهي.

إذن : فلا مجال للاستصحاب مع وجود الدليل الاجتهادي ، لان الدليل الاجتهادي ينفي موضوع الاستصحاب الذي هو الشك ، فلا شك معه (بل) عموم اللفظ للزمان الثاني (مانع عنه) أي : عن الاستصحاب في الزمان الثاني لما عرفت : من عدم الشك الذي هو موضوع الاستصحاب في الزمان الثاني.

وإنّما يكون عموم اللفظ للزمان الثاني مانعا عن الاستصحاب (إذ المعتبر في الاستصحاب : عدم الدليل ولو على طبق الحالة السابقة) فإذا كان دليل على طبق الحالة السابقة ، أو دليل على خلاف الحالة السابقة ، لم يكن مجرى للاستصحاب.

(ثم إذا فرض خروج بعض الافراد في بعض الأزمنة عن هذا العموم) بأن قال ـ مثلا ـ : اكرم العلماء دائما ثم قال : لا تكرم زيدا العالم يوم الجمعة ، فالسؤال

٢٠٠