الوصائل إلى الرسائل - ج ١٣

آية الله السيد محمد الشيرازي

الوصائل إلى الرسائل - ج ١٣

المؤلف:

آية الله السيد محمد الشيرازي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة عاشوراء للطباعة والنشر
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ٢
ISBN: 964-7263-13-9
ISBN الدورة:
964-7263-04-X

الصفحات: ٤٠٠

١
٢

٣

الوصائل

الى

الرسائل

تتمّة المقصد الثالث

تتمّة بحث الاستصحاب

٤

وأمّا موضوعه ـ كالضرر المشكوك بقاؤه في المثال المتقدّم ، فالذي ينبغي أن يقال فيه : أنّ الاستصحاب إن اعتبر من باب الظنّ عمل به هنا ، لأنّه يظنّ الضرر بالاستصحاب ، فيحمل عليه الحكم العقليّ إن كان موضوعه أعمّ من القطع والظنّ ، كمثال الضرر ؛

______________________________________________________

(وأمّا موضوعه) أي : استصحاب موضوع الحكم العقلي ، وذلك بان شككنا في الحكم العقلي للشك في بقاء موضوعه لاشتباه خارجي (ـ كالضرر المشكوك بقاؤه في المثال المتقدّم) في شرب الماء المسموم ، فان الاستصحاب يجري فيه بشرطين : الشرط الأوّل ما أشار إليه بقوله :

(فالذي ينبغي أن يقال فيه : أنّ الاستصحاب إن اعتبر) حجيته (من باب الظنّ عمل به هنا).

وإنّما يعمل بالاستصحاب هنا ان اعتبر من باب الظن (لأنّه يظنّ الضرر بالاستصحاب ، فيحمل عليه الحكم العقليّ) أي : يحمل على مظنون الضرر الحكم العقلي بوجوب الاجتناب.

هذا هو الشرط الأوّل للاستصحاب هنا والشرط الثاني هو : (إن كان موضوعه) أي : موضوع الحكم العقلي (أعمّ من القطع) بالضرر (والظنّ) به (كمثال الضرر) في شرب الماء المسموم فانه لا فرق عند العقل بين القطع بالضرر ، أو الظن به في وجوب الاجتناب عنه.

مثلا : ان العقل يحكم بقبح شرب الماء المسموم ، فإذا شك في بقاء السم في الماء ، أو انه زال عنه لتغيّر حصل في الماء بزيادة الماء ، أو معالجة السم بمواد كيماوية ، فانه يستصحب الضرر ويثبت القبح العقلي المستتبع للحرمة الشرعية ، غير انّ جريان هذا الاستصحاب ـ على ما مر ـ مشروط بأمرين :

٥

وإن اعتبر من باب التعبّد لأجل الأخبار فلا يجوز العمل به ، للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشك في الموضوع الذي كان يحكم عليه مع القطع.

______________________________________________________

الأمر الأوّل : ان يكون الاستصحاب حجة من باب الظن ، كما يقول به جمع من الاصوليين ، لا من باب التعبد ، على ما سيأتي بقوله : وان اعتبر من باب التعبد ، وإلّا فانه إذا كان الاستصحاب حجة من باب التعبد كان أصلا مثبتا ، وقد عرفت : ان الأصل المثبت ليس بحجة.

الأمر الثاني : ان يكون موضوع حكم العقل أعم من مقطوع الضرر ومظنونه ، فانه لو كان للقطع مدخلية في موضوع حكم العقل بوجوب الاجتناب ، ارتفع الحكم بارتفاع القطع ، حيث ان الحكم لا يبقى بعد ارتفاع موضوعه.

لكن لا يخفى : ان موضوع حكم العقل هو : أعم من القطع والظن ، ومن الاحتمال الموهوم فيما لو كان الضرر كثيرا ، وذلك على ما تقدّم في بعض مباحث الكتاب ، فإذا كان ـ مثلا ـ في كل من عشر سيارات ، تنزلق سيارة واحدة فتسقط في الهوة ممّا يوجب هلاك ركابها ، فان الاحتمال يكون موهوما بالنسبة إلى كل سيارة سيارة ، لكن العقل يقول بلزوم الاجتناب.

هذا (وإن اعتبر) الاستصحاب (من باب التعبّد لأجل الأخبار) الدالة على الاستصحاب لا من باب الظن (فلا يجوز العمل به) أي : بهذا الاستصحاب (للقطع بانتفاء حكم العقل مع الشك في الموضوع) الضرري (الذي كان يحكم عليه مع القطع) به ، يعني : ان الاستصحاب يوجب الظن بالضرر لا القطع به ، والعقل يقول بلزوم الاجتناب عن الضرر المقطوع به ، فالاستصحاب لا يفيد ذلك الموضوع حتى يجب الاجتناب عنه.

٦

مثلا : إذا ثبت بقاء الضرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب ، فمعنى ذلك ترتيب الآثار الشرعيّة المجعولة للضرر على مورد الشك.

وأمّا الحكم العقلي بالقبح فلا يثبت بذلك.

نعم ، يثبت الحرمة الشرعية بمعنى : نهي الشارع ظاهرا لثبوتها سابقا ولو بواسطة الحكم العقلي ، ولا منافاة بين انتفاء الحكم العقلي

______________________________________________________

(مثلا : إذا ثبت بقاء الضرر في السمّ في المثال المتقدّم بالاستصحاب) بان كان سابقا سمّا ، ثم شككنا في انه هل زال بواسطة أمر عدمي كضعف مفعوله بسبب مرور الزمان عليه ، أو بواسطة أمر وجودي كاضافة الماء عليه أو معالجته بالمواد الكيماوية ـ مثلا ـ (فمعنى ذلك) الاستصحاب هو : (ترتيب الآثار الشرعيّة المجعولة للضرر على مورد الشك) فيحكم بوجوب الاجتناب عنه.

(وأمّا الحكم العقلي بالقبح) لشربه (فلا يثبت بذلك) الاستصحاب ، لعدم تحقق موضوع القبح وهو كونه مقطوع الضرر ، أو مظنونه ، لأن الحكم العقلي بالقبح كان مترتبا على أحدهما ، والاستصحاب من باب الاخبار لا يثبت شيئا منهما.

(نعم ، يثبت) هذا الاستصحاب (الحرمة الشرعية) وذلك (بمعنى : نهي الشارع ظاهرا) وقال ظاهرا ، لأن الاستصحاب لا يفيد إلّا النهي الظاهري.

وإنّما يثبت بالاستصحاب الحرمة (لثبوتها) أي : الحرمة (سابقا) فالشرب منهي عنه (ولو بواسطة الحكم العقلي) فانه حين كان هذا الماء مسموما ومضرّا كان العقل يحكم بقبح شربه لتحقق موضوع الحكم العقلي الذي هو القطع بالضرر أو الظن به فرضا ، ولأجل هذا الحكم العقلي حكم الشرع بالحرمة من باب كلما حكم به العقل حكم به الشرع ، امّا عند الشك فالشارع يتعبّدنا بابقاء الضرر ،

٧

وثبوت الحكم الشرعي لأنّ عدم حكم العقل مع الشك ، إنّما هو لاشتباه الموضوع عنده ، وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعي الواقعي أيضا ، إلّا أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعي بحكم ظاهريّ هي الحرمة.

وممّا ذكرنا : من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ، يظهر ما في تمسك بعضهم لاجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها

______________________________________________________

بينما لا يحكم العقل بالقبح.

(و) ان قلت : انه إذا ارتفع الحكم العقلي الذي كان هو سبب الحكم الشرعي يلزم ان يرتفع الحكم الشرعي أيضا.

قلت : (لا منافاة بين انتفاء الحكم العقلي) لعدم موضوعه في الآن الثاني (وثبوت الحكم الشرعي) بالاستصحاب.

وإنّما لا منافاة بينهما (لأنّ عدم حكم العقل مع الشك ، إنّما هو لاشتباه الموضوع عنده) أي : عند العقل ، فحيث لا يتم الموضوع عند العقل لا يحكم بالقبح (وباشتباهه يشتبه الحكم الشرعي الواقعي أيضا) لأن الأحكام الشرعية تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية ، ومع اشتباه الموضوع يشك في ان الحكم الشرعي باق بعد انتفاء القطع أو الظن بالضرر أو ليس بباق؟ (إلّا أنّ الشارع حكم على هذا المشتبه الحكم الواقعي) لاشتباه موضوعه (بحكم ظاهريّ) تعبدا بواسطة الاستصحاب و (هي الحرمة) المستصحبة.

(وممّا ذكرنا : من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي) بعد الشك في موضوعه (يظهر ما في تمسك بعضهم لاجزاء ما فعله الناسي لجزء من العبادة أو شرطها) كما إذا نسي جزءا كالحمد ، أو شرطا كالستر ، ثم بعد الصلاة تذكر ذلك ، فانه قال بكفاية هذه الصلاة وعدم إعادتها.

٨

باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان ، وما في اعتراض بعض المعاصرين على من خصّ من القدماء والمتأخرين استصحاب حال العقل باستصحاب العدم ، بانّه لا وجه للتخصيص ، فانّ حكم العقل المستصحب

______________________________________________________

وإنّما قال هذا البعض ذلك ، تمسّكا منه (باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان) فانه كان في حال النسيان غير مكلف ، لقبح توجّه التكليف إلى العاجز عن الامتثال ، والناسي عاجز عن الامتثال ، ولذلك فانه إذا تذكر بعد ذلك قال : لا يجب عليه الاعادة ، لاستصحاب عدم التكليف الذي كان حال النسيان.

وإنّما ظهر ما في هذا الكلام ، لأن عدم التكليف حال النسيان كان حكما عقليا ، والحكم العقلي يرتفع بارتفاع موضوعه وهو النسيان ، فأدلة وجوب الصلاة مع السورة أو مع الستر تشمل هذا الشخص أيضا فيجب عليه الاعادة.

نعم ، إذا كان المنسي غير الامور الخمسة المرتفعة بالنص : من القبلة ، والطهور ، والوقت ، والركوع ، والسجود ، فانه لا تجب فيه الاعادة للدليل الخاص لا للاستصحاب.

(و) ظهر أيضا (ما في اعتراض بعض المعاصرين) وهو صاحب الفصول (على من خصّ من القدماء والمتأخرين استصحاب حال العقل باستصحاب العدم) فان جماعة من المتأخرين وذلك تبعا لجماعة من المتقدمين قالوا : ان استصحاب حال العقل خاص باستصحاب العدم فقط ، فاعترض عليهم الفصول قائلا : (بانّه لا وجه للتخصيص) باستصحاب العدم فقط.

وإنّما لا وجه للتخصيص به لأنه كما قال : (فانّ حكم العقل المستصحب

٩

قد يكون وجوديّا تكليفيا ، كاستصحاب تحريم التصرف في مال الغير ، ووجوب ردّ الأمانة إذا عرض هناك ما يحتمل معه زوالهما ، كالاضطرار والخوف ، أو وضعيا ، كشرطيّة العلم للتكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها.

______________________________________________________

قد يكون وجوديا تكليفيا ، كاستصحاب تحريم التصرف في مال الغير ، و) استصحاب (وجوب ردّ الأمانة إذا) شك في بقاء التحريم أو الوجوب فيما إذا (عرض هناك ما يحتمل معه زوالهما) أي : زوال الوجوب والتحريم (كالاضطرار) إلى التصرف في مال الغير لأجل بقاء حياته كما في المخمصة ، أو بقاء حياة غيره كما في إنقاذ الغريق (والخوف) من السارق أو الغاصب في ردّ الأمانة.

(أو وضعيا) وهذا عطف على قوله «تكليفيا» (كشرطيّة العلم للتكليف إذا عرض ما يوجب الشك في بقائها) أي : بقاء الشرطية ، فان صاحب الفصول قال :

بأن الأحكام العقلية هي : وجودية وعدمية ، فلا وجه لانحصار استصحاب حال العقل في استصحاب العدم فقط ، ثم مثّل لاثبات قوله بهذه الأمثلة الثلاثة التي عرفتها في التكليفية والوضعية الوجودية.

وإنّما ظهر من كلام المصنّف ما في اعتراض الفصول ، لأن الاستصحاب لا يجري في نفس حكم العقل إطلاقا ، وذلك لما عرفت : من ان الموضوع ان كان باقيا فالحكم باق ، وان لم يكن باقيا أو شك في بقائه وعدم بقائه فلا يجري الاستصحاب ، ومراد الأصحاب من استصحاب حال العقل : استصحاب الحال التي يحكم العقل على طبقها وهو : عدم التكليف ، لا الحال المستندة إلى العقل ، وذلك على ما ذكرناه مفصّلا في أوائل بحث الاستصحاب.

١٠

ويظهر حال المثالين الأوّلين ممّا ذكرنا سابقا ، وأمّا المثال الثالث فلم يتصوّر فيه الشك في بقاء شرطية العلم للتكليف في زمان.

نعم ، ربما يستصحب التكليف فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل

______________________________________________________

وعليه : فاستصحاب العدم أيضا ليس استصحابا عقليا بل هو استصحاب يطابق العقل ، فان العقل إذا لم يجد الدليل يقول بعدم الحكم ، لا انه يستصحب العدم.

(و) اما الأمثلة الثلاثة التي ذكرها الفصول فهي غير تامة ، إذ (يظهر حال المثالين الأوّلين) أي : تحريم التصرّف في مال الغير ، ووجوب ردّ الأمانة (ممّا ذكرنا سابقا) : من ان موضوع حكم العقل واضح ، فامّا ان يحكم بوجوب ردّ الامانة بشرط عدم الاضطرار والخوف ، فيرتفع وجوبه قطعا بعروض الاضطرار والخوف ، وامّا ان يحكم بوجوب ردّ الامانة مطلقا ، فيبقى الحكم قطعا بعد عروضهما ، فلا استصحاب.

وكذلك الحال في التصرّف في ملك الغير ، فانه ان بقي موضوعه بقي ، وان شك في موضوعه ارتفع ، فلا مجال للاستصحاب.

(وأمّا المثال الثالث) وهو الحكم الوضعي كشرطية العلم للتكليف فيما إذا عرض ما يوجب الشك في بقاء العلم شرطا للتكليف (فلم يتصوّر فيه الشك في بقاء شرطية العلم للتكليف في زمان) من الأزمنة ، لوضوح ان العلم شرط للتكليف في كل حال ، ويكفي وجود العلم آناً ما في اشتغال الذمة بالتكليف يقينا ولزوم تحصيل البراءة اليقينية منه.

(نعم ، ربما يستصحب التكليف فيما كان المكلّف به معلوما بالتفصيل) كما

١١

ثم اشتبه وصار معلوما بالاجمال.

لكنّه خارج عمّا نحن فيه مع عدم جريان الاستصحاب فيه كما سننبّه عليه.

ويظهر أيضا فساد التمسك باستصحاب البراءة والاشتغال الثابتين بقاعدتي البراءة والاشتغال.

______________________________________________________

إذا علم بوجوب الصلاة تفصيلا إلى جهة القبلة (ثم اشتبه وصار معلوما بالاجمال) بأن جهل القبلة في أيّ طرف هي ، فانه إذا صلّى صلاة واحدة إلى جهة وشك في بقاء التكليف ، وجب عليه الاتيان بالصلاة إلى بقية الجهات أيضا للاستصحاب.

(لكنّه) أي : هذا الاستصحاب (خارج عمّا نحن فيه) لأمرين :

أولا : لأنه ليس من استصحاب حكم العقل ، بل هو من استصحاب وجود التكليف ، إذ بالاجمال لا يرتفع التكليف الذي قد تنجّز على المكلّف.

ثانيا : (مع عدم جريان الاستصحاب فيه) أيضا ، لأنه أصل مثبت (كما سننبّه عليه) أي : على انه أصل مثبت بعد أسطر من كلام المصنّف حيث يقول : لكنه لا يقضي بوجوب الاتيان بالصلاة إلى الجهة الباقية ، بل يقضي بوجوب تحصيل البراءة من الواقع ، لكن مجرد ذلك لا يثبت وجوب الاتيان بما يقتضي اليقين بالبراءة إلّا على القول المثبت.

(ويظهر أيضا) أي : ممّا ذكرنا : من عدم استصحاب حكم العقل يظهر (فساد التمسك باستصحاب البراءة والاشتغال ، الثابتين بقاعدتي البراءة والاشتغال) فانه لا تستصحب البراءة ، ولا يستصحب الاشتغال.

١٢

مثال الأوّل : ما إذا قطع بالبراءة عن وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع أو العثور عليه.

فانّ مجرد الشك في حصول الاشتغال كاف في حكم العقل بالبراءة ، ولا حاجة إلى إبقاء البراءة السابقة والحكم بعدم ارتفاعها ظاهرا.

______________________________________________________

(مثال الأوّل) وهو استصحاب البراءة : (ما إذا قطع بالبراءة عن) حرمة شرب التتن قبل الشرع ، فان قبل الشرع لم يكن شرب التتن حراما ، وعن (وجوب غسل الجمعة والدعاء عند رؤية الهلال قبل الشرع) فانه لم يكن الغسل والدعاء قبل الشرع واجبا ، إذا لم يكن قبل الشرع حكم وجوبي أو تحريمي إطلاقا.

(أو العثور عليه) وهذا عطف على قبل الشرع يعني : انه إذا جاء الشرع وفحص المجتهد بالقدر اللازم عن حرمة شرب التتن ، وعن وجوب غسل الجمعة ، وعن وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، ولم يظفر بدليل ، فانه يجري البراءة في الأحكام الثلاثة ، وذلك لأن العقل كما كان يحكم بالبراءة قبل الشرع ، فكذلك يحكم بالبراءة بعد الشرع ما لم يظفر بدليله أيضا لبقاء موضوع حكمه الذي هو عدم البيان ، فلا شك في حكم العقل حتى نجري حكم العقل بسبب الاستصحاب.

وإنّما ظهر فساد ذلك لأنه كما قال : (فانّ مجرد الشك في حصول الاشتغال) بسبب مجيء الشرع (كاف في حكم العقل بالبراءة ، ولا حاجة إلى إبقاء البراءة السابقة) قبل الشرع (و) لا إلى (الحكم بعدم ارتفاعها) أي : ارتفاع البراءة (ظاهرا) بالاستصحاب ، إذا الاستصحاب يفيد الحكم الظاهري ولا حاجة لنا إلى مثل هذا الاستصحاب.

١٣

فلا فرق بين الحالة السابقة واللاحقة في استقلال العقل بقبح التكليف فيهما ، لكون المناط في القبح عدم العلم.

نعم ، لو اريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب عدمه ، لكنّ المقصود من استصحابه ليس إلّا ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس إلّا عدم الاشتغال الذي يحكم به العقل في زمان الشك ،

______________________________________________________

إذن : (فلا فرق بين الحالة السابقة) قبل الشرع (واللاحقة) بعد الشرع (في استقلال العقل بقبح التكليف فيهما) أي في الحالة السابقة وفي الحالة اللاحقة ، وذلك (لكون المناط في القبح عدم العلم) وهو حاصل في الحالتين معا : الحالة السابقة والحالة اللاحقة أيضا ، ومعه لا حاجة إلى الاستصحاب.

(نعم ، لو اريد إثبات عدم الحكم) لا عدم العلم بالحكم (أمكن إثباته باستصحاب عدمه) أي : أمكن إثبات عدم الحكم بالاستصحاب.

إذن : فبالنسبة إلى حكم العقل بقبح العقاب من غير بيان ، فانه حاصل قبل الشرع وبعد الشرع على حد سواء ، فلا حاجة فيه إلى الاستصحاب ، وبالنسبة إلى انه لم يكن قبل الشرع حكم واريد إثبات انه لم يكن بعد الشرع حكم أيضا فانه بحاجة إلى الاستصحاب.

(لكنّ) هذا الاستصحاب أيضا نحن في غنى عنه ، لأن (المقصود من استصحابه) أي : استصحاب عدم الحكم (ليس إلّا ترتيب آثار عدم الحكم ، وليس) آثار عدم الحكم (إلّا عدم الاشتغال الذي يحكم به) أي : يحكم بعدم الاشتغال (العقل في زمان الشك) بمجرّد الشك ، فلا حاجة إلى الاستصحاب ، إذ لا نفع في هذا الاستصحاب ، فان أثر هذا الاستصحاب الذي هو نفي التكليف حاصل بحكم العقل المستقل بقبح العقاب ، بلا بيان.

١٤

فهو من آثار الشك ، لا المشكوك.

ومثال الثاني : إذا حكم العقل عند اشتباه المكلّف به بوجوب السورة في الصلاة ووجوب الصلاة إلى أربع جهات ووجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة ، ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعي وسقوطه ، كأن صلّى بلا سورة

______________________________________________________

إذن : (فهو) أي : عدم الاشتغال (من آثار الشك ، لا المشكوك) فانه بمجرد الشك في التكليف يترتب عدم التكليف ، بلا حاجة إلى سحب الحالة السابقة أعني : بقاء عدم الاشتغال وهو المشكوك إلى الحال اللاحقة حتى يثبت بذلك عدم التكليف.

هذا كله بالنسبة إلى مثال الأوّل وهو : استصحاب البراءة.

(و) اما بالنسبة (مثال الثاني) وهو استصحاب الاشتغال فهو : ما (إذا حكم العقل عند اشتباه المكلّف به بوجوب السورة في الصلاة) وذلك فيما إذا لم يعلم بأن السورة في الصلاة واجبة أيضا كالفاتحة ، أم لا؟.

(و) كذا ما إذا حكم العقل على (وجوب الصلاة إلى أربع جهات) وذلك في صورة اشتباه القبلة إلى جهات أربع.

(و) كذا ما إذا حكم العقل على (وجوب الاجتناب عن كلا المشتبهين في الشبهة المحصورة) الجامعة للشرائط بأن كان أطرافها محل الابتلاء ، وما إلى ذلك من شرائط وجوب الاجتناب.

وعليه : فإذا حكم العقل عند اشتباه المكلّف به بالتكليف فعلا أو تركا (ففعل ما يحتمل معه بقاء التكليف الواقعي وسقوطه ، كأن صلّى بلا سورة) فانه إذا كانت السورة واجبة لم يسقط التكليف ، وإذا لم تكن واجبة سقط التكليف.

١٥

أو إلى بعض الجهات أو اجتنب أحدهما ، فربما يتمسك حينئذ باستصحاب الاشتغال المتيقن سابقا.

وفيه : أنّ الحكم السابق لم يكن إلّا بحكم العقل ، الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف المعلوم في زمان هو بعينه موجود في هذا الزمان.

نعم ، الفرق بين هذا الزمان والزمان السابق : حصول العلم

______________________________________________________

(أو) صلّى (إلى بعض الجهات) الأربع دون بعضها الآخر فكذلك.

(أو اجتنب أحدهما) أي : أحد الإناءين المشتبهين بالنجس دون الآخر ، فيشك حينئذ في انه هل بقي التكليف الوجوبي أو التحريمي أم لا؟.

(فربما يتمسك حينئذ) أي : حين الشك في بقاء التكليف (باستصحاب الاشتغال المتيقن سابقا) إذا التكليف كان سابقا متيقنا ، فيشك في انه أتى به أم لا ، فيستصحب بقائه.

(وفيه : أنّ الحكم السابق لم يكن إلّا بحكم العقل ، الحاكم بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة عن التكليف المعلوم في زمان) وهو الزمان الأوّل الذي لم يأت فيه بشيء من المحتملات (هو) أي : هذا الحكم العقلي (بعينه موجود في هذا الزمان) الثاني الذي أتى فيه ببعض المحتملات ، ومع وجوده لا حاجة إلى الاستصحاب.

وعليه : فان قاعدة الاشتغال الموجودة في الزمان السابق قبل الاتيان بشيء من المحتملات ، موجودة بنفسها في الزمان اللاحق بعد الاتيان ببعض المحتملات ، فاللازم الاتيان ببقية المحتملات لقاعدة الاشتغال لا للاستصحاب.

(نعم ، الفرق بين هذا الزمان) وهو اللاحق (والزمان السابق : حصول العلم

١٦

بوجود التكليف فعلا بالواقع في السابق وعدم العلم به في هذا الزمان. وهذا لا يؤثر في حكم العقل المذكور ، إذ يكفي فيه العلم بالتكليف الواقعي آناً ما.

نعم ، يجري استصحاب عدم فعل الواجب الواقعي ، وعدم سقوطه عنه ، لكنّه لا يقضي بوجوب الاتيان بالصلاة مع السورة ، والصلاة إلى الجهة الباقية ، واجتناب المشتبه الباقي ،

______________________________________________________

بوجود التكليف فعلا بالواقع في السابق) لأنه قبل الاتيان بشيء من المحتملات يقطع بالتكليف (وعدم العلم به) أي : بوجود التكليف فعلا بالواقع (في هذا الزمان) الثاني ، لاحتمال ان يكون الواجب هو ما أتى به ، وان يكون المحرّم هو ما تركه.

(و) لكن (هذا) الفرق (لا يؤثر في حكم العقل المذكور) الذي يقول بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة ، لأنه لم يحصل اليقين بالبراءة في الزمانين لا في الزمان السابق ولا في الزمان اللاحق.

وإنّما لا يؤثر الفرق المذكور في حكم العقل بالاشتغال في الزمانين (إذ يكفي فيه) أي : في حكم العقل بالاشتغال (العلم بالتكليف الواقعي آناً ما) مع عدم علمه باتيان ذلك التكليف ، وهذا حاصل في الزمان السابق وفي الزمان اللاحق معا.

(نعم ، يجري استصحاب عدم فعل الواجب الواقعي ، وعدم سقوطه عنه) في الزمان الثاني (لكنّه لا يقضي بوجوب الاتيان بالصلاة مع السورة ، والصلاة إلى الجهة الباقية ، واجتناب المشتبه الباقي).

وإنّما لا يقضي الاستصحاب المذكور بذلك ، لانه من الأصل المثبت ، والأصل

١٧

بل يقضي بوجوب تحصيل البراءة من الواقع ، لكن مجرّد ذلك لا يثبت وجوب الاتيان بما يقتضي اليقين بالبراءة ، إلّا على القول بالأصل المثبت أو بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين ، والأوّل لا نقول به ، والثاني

______________________________________________________

المثبت ليس بحجة فلا ينفع مثل هذا الاستصحاب إلّا لمن يرى حجية الاستصحاب المثبت أيضا.

(بل يقضي بوجوب تحصيل البراءة من الواقع) فان استصحاب عدم فعل الواجب الواقعي أثره الشرعي : بقاء الوجوب الواقعي ، فيحكم العقل بوجوب طاعته وتحصيل البراءة منه ، وليس أثره الشرعي : وجوب المحتمل الآخر ، لأن الملازمة بين عدم فعل الواجب الواقعي ، وبين وجوب المحتمل الآخر يكون عقليا لا شرعيا ، فإذا أردنا ان نثبت بالاستصحاب وجوب إتيان المحتمل الآخر كان من الأصل المثبت.

وإلى هذا المعنى أشار المصنّف حيث قال : (لكن مجرّد ذلك) أي : الاستصحاب المذكور (لا يثبت وجوب الاتيان بما) أي : بالمحتمل الآخر فعلا أو تركا بحيث (يقتضي اليقين بالبراءة ، إلّا على) أحد وجهين :

الوجه الأوّل : (القول بالأصل المثبت) والأصل المثبت ليس بحجة على ما عرفت.

الوجه الثاني : (أو بضميمة حكم العقل بوجوب تحصيل اليقين) أي : بضم قاعدة الاشتغال إلى الاستصحاب المذكور ، فيثبت بهاتين القاعدتين معا وجوب المحتمل الآخر.

هذا (و) لكن كلا الوجهين غير تامين لما يلي :

اما الوجه (الأوّل) : وهو الأصل المثبت فلأنا (لا نقول به ، و) لا بحجيته.

واما الوجه (الثاني) : وهو ضم الاشتغال إلى الاستصحاب المذكور ، فلأن

١٨

بعينه موجود في محلّ الشك من دون الاستصحاب.

الأمر الرابع :

قد يطلق على بعض الاستصحابات : الاستصحاب التقديري تارة والتعليقي اخرى باعتبار كون القضية المستصحبة قضية تعليقيّة حكم فيها

______________________________________________________

الاشتغال (بعينه موجود في محلّ الشك) على ما عرفت ، فلا حاجة في ضمه إلى الاستصحاب ، إذ العقل يحكم بالاشتغال (من دون) حاجة إلى (الاستصحاب) فلا مجال إذن للاستصحاب في المقام.

(الأمر الرابع) ممّا ينبغي التنبيه عليه في الاستصحاب هو : الكلام حول الاستصحاب التقديري أو التعليقي ، علما بان الاستصحاب على قسمين :

الأوّل : التنجيزي.

الثاني : التعليقي ، ويسمّى بالتقديري أيضا.

ذكر بعضهم : ان الاستصحاب التعليقي ليس بحجة ، فأراد المصنّف هنا الاشارة إلى انه لا فرق بين قسمي الاستصحاب ، فقال : (قد يطلق على بعض الاستصحابات : الاستصحاب التقديري تارة والتعليقي اخرى) وذلك كما إذا غلا الزبيب ، فانه هل يحرم كما كان يحرم إذا غلا العنب ولم يذهب ثلثاه ، أم لا يحرم؟.

وإنّما يسمّى تعليقيا ، لأنه يقال : لو كان عنبا وغلا لحرم ، ويسمّى تقديريا ، لأنه يقال : على تقدير انه كان عنبا وغلا لكان حراما.

إذن : فالتسمية (باعتبار كون القضية المستصحبة قضية تعليقيّة حكم فيها)

١٩

بوجود حكم على تقدير وجود آخر ، فربما يتوهّم لأجل ذلك الاشكال في اعتباره بل منعه والرجوع فيه إلى استصحاب مخالف له.

توضيح ذلك : أنّ المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق بالفعل ، كما إذا وجبت الصلاة فعلا ، أو حرم العصير العنبي بالفعل في زمان ثم شك في بقائه وارتفاعه ،

______________________________________________________

أي : في تلك القضية (بوجود حكم) كالحرمة (على تقدير وجود آخر) أي : على تقدير كونه عنبا.

وعليه : (فربما يتوهّم لأجل ذلك) التعليق (الاشكال في اعتباره) أي : اعتبار الاستصحاب التعليقي (بل منعه) لأن الوجود التعليقي كالعدم ، فلم يكن له حالة سابقة حتى يستصحب (والرجوع فيه) فيما إذا غلا الزبيب ـ مثلا ـ (إلى استصحاب مخالف له) أي : للاستصحاب التعليقي مثل : استصحاب الحلّية المتحققة قبل الغليان ، فان الزبيب قبل الغليان حلال ، فكذلك بعده.

(توضيح ذلك) أي : توضيح الاستصحاب التعليقي حتى نرى انه يصح الاستصحاب فيه أو لا يصح ، فنقول : (أنّ المستصحب قد يكون أمرا موجودا في السابق بالفعل) أي : متحقق خارجا (كما إذا وجبت الصلاة فعلا ، أو حرم العصير العنبي بالفعل في زمان) سابق (ثم شك في بقائه وارتفاعه).

مثلا : صلاة الجمعة ـ كانت واجبة زمان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأيام خلافة أمير المؤمنين عليه‌السلام الظاهرية ، فنشك هل انها بقيت على وجوبها زمان خروج الخلافة الظاهرية عن يد المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين كزماننا هذا ، أم لا؟ أو انّ العصير العنبي كان حراما لأنه غلا في زمان سابق ولم يذهب ثلثاه ، ثم طبخناه بمقدار شككنا في هذا الزمان اللاحق بانه هل بقيت حرمته أم لا؟.

٢٠