الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٢

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٢

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٧

أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١) : كانت الأرض في حاجة ماسّة إلى رسالة جديدة ، كان الفساد قد عمّ أرجاءها كلّها ، بحيث لا يرتجى لها صلاح ، إلا برسالة جديدة ، ومنهج جديد ، وحركة جديدة ، وكان الكفر قد تطرّق إلى عقائد أهلها جميعا ، سواء في ذلك أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماويّة من قبل ثم حرّفوها ، والمشركون في الجزيرة العربية ، وفي خارجها.

وما كانوا لينفكّوا ، ويتحوّلوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه ، إلّا بهذه الرسالة الجديدة ، وإلّا على يد رسول ، يكون هو ذاته بيّنة واضحة ، فارقة فاصلة.

[الآية ٢] : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) (٢) أي محمّد (ص) ، وهو بدل من البيّنة ، يقرأ عليهم من صفحات كتابه المطهّرة ، وآياته المقدّسة ، ما يشتمل على المضمون الصحيح لكتبهم المنزّلة على أنبيائهم ، موسى وعيسى وغيرهما ، عليهم جميعا الصلاة والسلام.

[الآية ٣] : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (٣) : يطلق الكتاب على الموضوع ، كما تقول كتاب الطهارة ، كتاب الصلاة ، كتاب الزكاة .. أي يشتمل القرآن على موضوعات وحقائق قيّمة تحتاج إليها البشرية ، ولا تصلح إلّا بها.

كان الفساد قد استشرى في الأرض ، وطمست معالم الحق ، وبهتت حقائق الأديان ، وانسحب رجال الدّين من ميدان الحياة ، واستبدّ الحكّام والملوك ، وعظمت نكايات اليهود بالنصارى ، واشتدّ تدبير الكيد من النصارى لليهود.

واختلف المسيحيون حول طبيعة المسيح (ع) ، وعذّب الحكام طوائف المخالفين.

[الآية ٤] : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٤) فلم يكن ينقصهم العلم والبيان ، وإنّما كان يجرفهم الهوى والانحراف.

[الآية ٥] : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥). وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق ، عبادة الله وحده ، وإخلاص الدين له ، والميل عن الشرك وأهله ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) (٥) وهذا هو الدين الذي جاء في الكتاب

٨١

القيّمة ، «وقصارى ما سلف أن أهل الكتاب افترقوا في أصول الدين وفروعه ، مع أنهم ما أمروا إلّا بأن يعبدوا الله ، ويخلصوا له في عقائدهم وأعمالهم ، وألّا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا ، وأن يردّوا إلى ربّهم وحده كلّ ما يعرض لهم من خلاف» (٢)

[الآية ٦] : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) (٦). لقد كانت الرسل تتوالى كلّما فسدت الأرض ، لتردّ الناس إلى الإصلاح. أما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة ، الشاملة الكاملة ، فقد تحدّد الموقف أمام الجميع بصفة قاطعة. فمن كفر بهذه الرسالة أو أشرك بالله ، فهو في نار جهنم يصلى نارها ، وهو من شرار الخلق ، جزاء إعراضه عن دعوة الحق ، وعن رسالة الله.

[الآية ٧] : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٧). أمّا من اهتدى قلبه للإيمان ، وكان إيمانه عن يقين وصدق ، فأتبع الإيمان بالأعمال الصالحات ، من عبادة وخلق ، وعمل وتعامل ، والتزام بشريعة الله والحفاظ عليها ، (أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) وهم صفوة الله من خلقه ، الذين منحهم الهدى ، ويسّر لهم العمل بأحكام هذا الدين. قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام : ٩٠].

[الآية ٨] : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨). لقد أحسن الله جزاءهم في جنّات إقامة دائمة تجري من تحتها الأنهار ، في جمال ونعمة ولذّة دائمة ؛ وأسمى من ذلك سعادتهم برضا الله عنهم ، ومحبّته لهم ، ثمّ اطمئنانهم ورضاهم العميق عن ربّهم ، وثوابه ونعيمه. وذلك كلّه متوقّف على خشية الله ، والخوف منه والالتزام بأمره.

ملخّص السورة

لمّا بعث الله سيدنا محمدا (ص) تغيّر حال اليهود والنصارى والمشركين ، فمنهم من آمن به ، ومنهم

__________________

(٢). تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي ، ٣٠ : ٢١٥ ، مطبعة مصطفى البابي الحلبي ، الطبعة الثالثة.

٨٢

من تردّد في صحة الدين ، ومنهم من عاند وتكبّر ، مع أن الله تعالى ما أمرهم إلّا ليعبدوه مخلصين له الدّين ، ولكنّ الفساد كان قد استشرى بين أتباع الدّيانات السابقة ، وكانت البيّنة الواضحة والنور الهادي هو بعثة محمد (ص) ، وقد أوضح الله تعالى أنّ من كفر به سيصلى نار جهنّم ، وأن من آمن به سيتمتّع برضوان الله في جنات النعيم.

٨٣
٨٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «البيّنة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة البيّنة بعد سورة الطلاق ؛ ونزلت سورة الطلاق ، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك ؛ فيكون نزول سورة البيّنة في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١) وتبلغ آياتها ثماني آيات.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة : بيان فضل القرآن. وقد كانت السورة السابقة في بيان فضل الليلة التي أنزل فيها ؛ فجاءت هذه السورة بعدها ، لبيان فضله في نفسه.

بيان فضل القرآن

الآيات [١ ـ ٨]

قال الله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) (١) ، فذكر سبحانه أن أهل الكتاب والمشركين لم يكونوا منفكّين عمّا هم عليه ، حتى تأتيهم البيّنة على فساده ، وأنّ هذه البيّنة قد جاءهم بها رسول يتلوها عليهم ، وهي صحف مطهّرة ، فيها سور قيّمة ، وأنّ أهل الكتاب لم يختلفوا في أمرها ، إلّا بعد أن قامت الحجّة بها عليهم ، لأنهم لم يؤمروا فيها إلّا بإخلاص العبادة له

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٨٥

سبحانه ، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، وذلك هو الدين القيّم ، الذي بعث الأنبياء به ؛ ثم أخذت السورة في الترهيب والترغيب فذكرت أنّ أولئك الكافرين في نار جهنم ، وأنهم شر البريّة ، وأن المؤمنين خير البريّة (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨).

٨٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «البيّنة» (١)

أقول : هذه السورة واقعة موقع العلّة لما قبلها ، كأنه لما قال سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) [القدر ١] ، قيل : لم أنزل؟ فقيل. لأنه لم يكن الذين كفروا منفكّين عن كفرهم ، حتى تأتيهم البيّنة ، وهو رسول من الله يتلو صحفا مطهّرة. وذلك هو المنزّل.

وبذلك تشتد المناسبة بين هذه السورة وبين ما قبلها.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

٨٧
٨٨

المبحث الرابع

لكل سؤال جواب في سورة «البيّنة» (١)

إن قيل : المراد بالرسول هنا محمد (ص) بلا خلاف ، فلم قال تعالى (يَتْلُوا صُحُفاً) [الآية ٢] وظاهره يدلّ على قراءة المكتوب من الكتاب ، وهو منتف في حقّه (ص) ، لأنّه كان أمّيا؟

قلنا : المراد يتلو ما في الصحف عن ظهر قلبه ، لأنه هو المنقول عنه بالتواتر.

فإن قيل : ما الفرق بين الصحف والكتاب ، حتّى قال تعالى : (صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ)؟

قلنا : الصحف القراطيس ، وقوله تعالى : (مُطَهَّرَةً) : أي من الشرك الباطل ، وقوله تعالى : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (٣) أي مكتوبة مستقيمة ، ناطقة بالعدل والحق ، يعني الآيات والأحكام.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) (٤). أي النبي (ص) أو القرآن ، والمراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى ، وهم ما زالوا متفرّقين يكفّر كلّ فريق منهم الاخر ، قبل مجيء البيّنة وبعدها؟

قلنا : المراد به تفرّقهم عن تصديق النبيّ (ص) والإيمان به قبل أن يبعث ، فإنّهم كانوا مجتمعين على ذلك ، متّفقين عليه بأخبار التوراة والإنجيل ؛ فلمّا بعث إليهم تفرّقوا ؛ فمنهم من

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٨٩

آمن ، ومنهم من كفر. وقال بعض العلماء : المراد بالبيّنة ما في التوراة والإنجيل من الإيمان بنبوّته (ص) ، ويؤيّد هذا القول ، أنّ أهل الكتاب أفردوا بالذكر في هذا التفرّق ، مع وجود التفرّق من المشركين أيضا ، بعد ما جمعوا مع المشركين في أوّل السورة ، فلا بد أن يكون مجيء البيّنة أمرا يخصّهم ؛ ومجيء النبيّ (ص) والقرآن العزيز لا يخصّهم.

٩٠

سورة الزّلزلة

٩٩

٩١
٩٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الزّلزلة» (١)

سورة الزلزلة سورة مدنية آياتها ٨ آيات ، نزلت بعد سورة النساء.

إنها سورة تهزّ القلب هزّا عنيفا ، يشترك في هذه الهزّة الموضوع والمشهد ، والإيقاع اللفظي ، وصيحة قويّة مزلزلة للأرض ومن عليها ، فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب ، والوزن ، والجزاء ، في بضع فقرات قصار ؛ وهذا هو طابع الجزء كلّه ، يتمثّل في هذه السورة تمثّلا قويا.

المفردات

(زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) [الآية ١] اهتزّت واضطربت بعنف وشدة.

(زِلْزالَها) (١) : المقدّر لها ، وذلك عند النفخة الثانية.

(أَثْقالَها) (٢) : ما في باطنها من الموتى.

(الْإِنْسانُ) [الآية ٣] : الكافر ، أو كلّ إنسان.

(ما لَها) (٣) : ما ذا أصابها من شدّة ما يرى.

(تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤) : ما كان فيها من أعمال العباد من خير أو شرّ.

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٥) : تحدّث بالأخبار بوحي من الله بما تقول.

(يَصْدُرُ النَّاسُ) [الآية ٦] : يرجعون إلى ربّهم.

(أَشْتاتاً) [الآية ٦] : جمع شتيت أي متفرقين.

(مِثْقالَ) [الآيتان ٧ و ٨] : المثقال ما

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٩٣

يوزن به ، ومثقال الشيء ميزانه من مثله.

(ذَرَّةٍ) [الآيتان ٧ و ٨] : مثل في تناهي الصّغر.

(يَرَهُ) [الآيتان ٧ و ٨] : المراد يجازى به.

مع آيات السورة

[الآيات ١ ـ ٥] : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٥).

تصف الآيات مشهد القيامة حينما تضطرب اضطرابا شديدا ؛ وترتجف الأرض الثابتة ارتجافا ؛ وتزلزل زلزالا ؛ وتنفض ما في جوفها نفضا ؛ وتخرج ما يثقلها من الكنوز ، والدّفائن ، والأموات ؛ وهو مشهد يخلع القلوب ، ويهزّ كلّ ثابت ، ويخيّل للسامعين أنّهم يترنّحون ويترجّحون ، والأرض من تحتهم تهتزّ وتمور. ومثال هذا ما نراه في حياتنا من جبال النار الثائرة (البراكين) ، كما حدث في إيطاليا سنة ١٩٠٩ م من ثوران بركان فيزوف ، وابتلاعه مدينة مسينا ، ولم يبق من أهلها أحدا.

فإذا شاهد الإنسان القيامة بأهوالها ، والأرض تتحرّك في زلزال عنيف ، وتخرج ما فيها ؛ فإنّه يتساءل من هول ما يرى : (وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها) (٣)؟ وهو سؤال المتحيّر الذي يرى ما لم يعهد ، وكأنّه يتمايل على ظهرها ويترنّح معها ؛ ويحاول أن يمسك بأي شيء يشدّه ويثبته ، وكلّ ما حوله يمور مورا شديدا.

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) (٤) في ذلك اليوم تنطق الأرض بلسان الحال ؛ أي أنّ حالها وما يقع فيها من الاضطراب والانقلاب ، وما لم يعهد له نظير من الخراب ، تعلّم السائل وتفهمه الخبر ، (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) (٥) وأمرها أن تمور مورا ، وأن تزلزل زلزالها ، وأن تخرج أثقالها ... تحدّث أخبارها ؛ فهذا الحال حديث واضح عمّا وراءه ، من أمر الله ووحيه إليها.

[الآية ٦] : (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) (٦) في ذلك اليوم ، الذي يحدث الله فيه الزّلزلة والهول ، يقوم الناس من القبور أشتاتا متفرّقين ، فالمحسنون فريق ، والمسيئون فريق ، وكل إنسان يرى جزاء عمله.

٩٤

[الآيتان ٧ ـ ٨] : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨) فمن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره فإنّه يجد جزاءه ؛ ومن يعمل من الشّرّ ، ولو قليلا ، فإنّه يجد جزاءه.

مقاصد السورة

اشتملت هذه السورة الكريمة على ثلاثة مقاصد :

١ ـ اضطراب الأرض يوم القيامة ، ودهشة الناس حينئذ.

٢ ـ ذهاب الناس لموقف العرض والحساب ، أشتاتا متفرّقين ليروا أعمالهم.

٣ ـ يكافأ الإنسان على عمله من خير ، وإن كان مثقال ذرة ، ومقدار نملة ؛ ويجازى على ما عمل من شرّ مهما كان صغيرا.

٩٥
٩٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الزّلزلة» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الزّلزلة بعد سورة النساء ، ونزلت سورة النساء ، فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك ؛ فيكون نزول سورة الزلزلة في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (١) وتبلغ آياتها ثماني آيات.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة الترغيب في الخير ، والتحذير من الشر ؛ وهذا يناسب ما ختمت به السورة السابقة ، من أنّ الكافرين هم شر البريّة ، والمؤمنين هم خير البرية ، فجاءت هذه السورة بعدها ، للترغيب في طريق المؤمنين من الخير ، والتحذير من طريق الكافرين من الشر.

الترغيب في الخير والتحذير

من الشر

الآيات [١ ـ ٨]

قال الله تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (١) فذكر سبحانه أنه إذا حصل زلزال الأرض ، وإخراجها دفائنها ، وسأل الإنسان عن حالها ، أجابته بأنه سبحانه أوحى لها بهذا ، لتؤذن بقيام

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٩٧

الاخرة ، فيصدر النّاس أشتاتا ليروا أعمالهم : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٨).

٩٨

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الزّلزلة» (١)

أقول : لمّا ذكر في آخر سورة «البيّنة» : أنّ جزاء الكافرين جهنّم ، وجزاء المؤمنين جنّات ، فكأنّه قيل : متى يكون ذلك؟ فقيل : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) (١). أي حين تكون زلزلة الأرض إلى آخره.

هكذا ظهر لي ، ثمّ لمّا راجعت تفسير الإمام الرازي ، ورأيته ذكر نحوه حمدت الله كثيرا. وعبارته : ذكروا في مناسبة هذه السورة لما قبلها ، وجوها منها : أنّه تعالى لمّا قال : (جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ) [البيّنة : ٨] فكأنّ المكلّف قال : ومتى يكون ذلك يا ربّ؟ فقال جلّ وعلا : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) [الآية ١].

ومنها : أنّه لمّا ذكر سبحانه فيها وعيد الكافرين ، ووعد المؤمنين ، أراد أن يزيد في وعيد الكافرين فقال تعالى : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ) [الآية ١]. ونظيره : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦]. ثمّ ذكر جلّ وعلا ما للطائفتين ، فقال : (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) [آل عمران : ١٠٦] إلى آخره. ثمّ جمع بينهما هنا في آخر السورة ، بذكر الذي يعمل الخير والشر.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

٩٩
١٠٠