المبحث السادس
لكل سؤال جواب في سورة «الإخلاص» (١)
إن قيل : فالمشهور في كلام العرب أنّ الأحد يستعمل بعد النفي ، والواحد يستعمل بعد الإثبات ، يقال : في الدار واحد ، وما في الدار أحد. وجاءني واحد وما جاءني أحد ، ومنه قوله تعالى : (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [البقرة : ١٦٣] ، وقوله تعالى : (الْواحِدُ الْقَهَّارُ*) (٣٩) [يوسف] ، (وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ) [التوبة : ٨٤] ، (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ*) [البقرة : ١٣٦] ، (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ) [الأحزاب : ٣٢] ، (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ) [الحاقة : ٤٧] ، فكيف جاء هنا أحد في الإثبات؟
قلنا : قال ابن عباس رضي الله عنهما : لا فرق بين الواحد والأحد ، في المعنى ؛ واختاره أبو عبيدة ، ويؤيده قوله تعالى : (فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ) [الكهف : ١٩] وقولهم أحد وعشرون وما أشبهه. وإذا كانا بمعنى واحد ، لا يختصّ أحدهما بمكان دون مكان ، وإن غلب استعمال أحدهما في النفي ، والاخر في الإثبات ، ويجوز أن يكون العدول عن الغالب هنا رعاية لمقابلة الصمد.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
سورة الفلق
١١٣
المبحث الأول
أهداف سورة «الفلق» (١)
سورة الفلق سورة مكّيّة ، وآياتها خمس ، نزلت بعد سورة الفيل.
وسورة الفلق توجيه من الله سبحانه لنبيّه (ص) وللمؤمنين جميعا ، للعياذ بكنفه ، واللياذ بجاهه من كل سوء ، والاعتصام بقدرته والاحتماء بجلاله ، من شرور مخلوقاته ، وما عسى أن يصدر عنهم من إفك وحسد.
المفردات
(أَعُوذُ) [الآية ١] : ألجأ وأتحصن.
(الْفَلَقِ) (١) : الصبح.
(ما خَلَقَ) (٢) : من الشر أو الأشرار.
(غاسِقٍ) [الآية ٣] : هو الليل المظلم.
(وَقَبَ) (٣) : دخل ، شمل ، غمر.
(النَّفَّاثاتِ) [الآية ٤] : النفث : النفخ مع شيء من الريق.
(الْعُقَدِ) (٤) : ما أحكم ربطه حسّا ، كعقدة الحبل ، أو معنى كعقد البيع والنّكاح ، والمراد عقد السحر أو النميمة ، والفتنة بين الناس التي تقطع روابط الالفة.
مع آيات السورة
[الآيتان ١ ـ ٢] : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (١) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) (٢).
الفلق هو الصبح ، وقال جمع من المفسّرين : إن الفلق هو الموجود
__________________
(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.
الممكن كلّه ، أي قل أستعيذ برب المخلوقات وبفالق الإصباح ، من كلّ أذى وشرّ يصيبني من مخلوق من مخلوقاته طرّا.
ثمّ خصّص من بعض ما خلق أصنافا ، يكثر وقوع الأذى منهم :
[الآية ٣] : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) (٣) أصل المعنى في مادة غسق : السّيلان والانصباب ، وأصل الوقب : النّقرة في الجبل ونحوه ، ووقب بمعنى دخل دخولا لم يترك شيئا إلّا مرّ به.
والمراد من الغاسق هنا : الليل ، ووقب : أي دخل وغمر كلّ شيء ، كأنّما انصبّ عليه ، واشتدّت ظلمته. أي أستعيذ بالله من شرّ الليل إذا دخل ، وغمر كلّ شيء بظلامه. أستعيذ بالله من الظلام الحالك ، وما يختبئ فيه من حشرة مؤذية ، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء ، أو من ظلمات النفس وغلبة الشكّ والحيرة. وعن ابن عبّاس : «هو ظلمة الشهوة البهيمية إذا غلبت واعية العقل» (١).
[الآية ٤] : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) (٤) ، أي ومن شرّ النّمّامين الذين يقطعون روابط المحبة ، ويبدّدون شمل المودّة ، «والنميمة تشبه أن تكون ضربا من السحر ، لأنها تحوّل ما بين الصديقين من محبة الى عداوة ، بوسيلة خفيّة كاذبة ، والنميمة تضلّل وجدان الصديقين ، كما يضلّل الليل من يسير فيه بظلمته ، ولهذا ذكرها عقب ذكر الغاسق إذا وقب ؛ ولا يسهل على أحد أن يحتاط للتحفّظ من النّمّام ، فربما دخل عليك بما يشبه الصدق ، حتى لا يكاد يمكنك تكذيبه ، فلا بد لك من قوّة أعظم من قوّتك ، تستعين بها عليه» (٢).
والنفاثات في العقد : الساحرات الساعيات بالأذى ، عن طريق خداع الحواس ، وخداع الأعصاب ، والإيحاء إلى النفوس ، والتأثير والمشاعر ؛ وهنّ يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل ، وينفثن فيها ، كتقليد من تقاليد السّحر والإيحاء.
ويصح أن يراد بالنفّاثات في العقد ، النساء الكيّادات اللواتي يفسدن عقد
__________________
(١). تفسير النيسابوري بهامش تفسير الطبري ، ٣٠ : ٢١٤.
(٢). تفسير جزء عم للإمام محمد عبده ، ص ١٣٨.
الزوجية ، بصرف الزوج عن زوجته ، واستمالته حتّى يهجر زوجته الأولى. فكأنّ الثانية أفسدت عقد الزوجية بين الزوج ، وزوجته الأولى (١).
[الآية ٥] : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) (٥) والحسد انفعال نفسي ، إزاء نعمة الله ، على بعض عباده ، مع تمنّي زوالها ، وسواء أأتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة ، تحت تأثير الحقد والغيظ ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي ؛ فإنّ شرّا يمكن أن يعقب هذا الانفعال.
فإذا حسد الحاسد ، ووجّه انفعالا نفسيا معيّنا إلى المحسود ، فإنّ شرّا يمكن أن ينفذ إلى المحسود ، من طريق العين أو النفس ؛ ونحن نستجير بالله ونستعيذ به ، ونلجأ إلى رحمته وفضله ، ليعيذنا من هذه الشرور ، إجمالا وتفصيلا.
وقد روى البخاري بإسناده عن عائشة رضي الله عنها أن النبي (ص) ، كان إذا آوى إلى فراشه ، كل ليلة ، جمع كفّيه ، ثم نفث فيهما ، وقرأ فيهما (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (١) و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (١) ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات. وهكذا رواه أصحاب السنن.
مقصود سورة الفلق
١ ـ الالتجاء إلى الله ، والتحصّن بقدرته من شرّ الخلق.
٢ ـ ومن شرّ الظلام إذا انتشر ، وغطّى الكون.
٣ ـ ومن شرّ النساء الكيّادات ، صاحبات الحيل ، ومن شرّ أهل الفتنة والنميمة.
٤ ـ ومن شرّ الحسود إذا وجّه كيده للحسد.
__________________
(١). وفي الحديث : «لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صفحتها». أي ينبغي على المرأة ألّا تطلب من الزوج طلاق زوجته لتحلّ محلها ، وتأكل في إنائها ، وتحتل مكانتها. ومن النساء من يحلو لهنّ إفساد ما بين الزوج وزوجته ، أو خطف الرجل من امرأته ، وهو كيد ، نستعيذ بالله منه.
المبحث الثاني
ترابط الآيات في سورة «الفلق» (١)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الفلق بعد سورة الفيل ، ونزلت سورة الفيل فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة ، فيكون نزول سورة الفلق في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (١) والفلق الصبح ، لأن الليل ينفلق عنه ، وتبلغ آياتها خمس آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة ، تخصيص الله تعالى بالاستعاذة من شرّ الخلق ، وهذا يدخل فيما سيقت له سورة الإخلاص ، من إخلاص الدين لله تعالى ، وبهذا يدخل سياق هذه السورة في سياقها ، ويكون ذكرها بعدها لهذه المناسبة.
تخصيص الله بالاستعاذة
من شر الخلق
الآيات [١ ـ ٥]
قال الله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (١) فأمر النبي (ص) أن يخصّه بالاستعاذة من شرّ ما خلق ، وخصّ من هذا ثلاثة أشياء : الليل إذا أقبل ، والسواحر اللاتي ينفثن في عقد الخيط عند الرّقية ، والحاسد الذي
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
يتمنّى زوال نعمة غيره ، فقال سبحانه : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) (٥).
المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «الفلق» (١)
أقول : هاتان السورتان نزلتا معا ، كما في الدلائل للبيهقي. فلذلك قرنتا ، مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوّذتين ، ومن الافتتاح بقل أعوذ ، وعقّب بهما سورة الإخلاص ، لأن الثلاث سميت في الحديث بالمعوّذات ، وبالقوارع (٢).
وقدّمت «الفلق» على «الناس» ، وإن كانت أقصر منها ، لمناسبة مقطعها في الأوزان لفواصل «الإخلاص» مع مقطع «تبّت».
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
(٢). الذي عثرت عليه حديث عبد الله بن خبيب ، عن أبيه ، قال : أصابنا طشّ [أي مطر ضعيف] وظلمة ، فانتظرنا رسول الله (ص) ، فأخذ بيدي فقال : «قل. فسكت. فقال : قل. فقلت : ما أقول؟ قال : قل هو الله أحد ، والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثا تكفك ، كل يوم مرتين» مسند الإمام أحمد : ٥ : ٣١٢ ، وأبو داود في الأدب ما يقول إذا أصبح : ٢ : ١٧٦ ، والنّسائي في الاستعاذة : ٨ : ٢٥٠ والتّرمذي في الدعوات : ٩ : ٣٤٧ ، وحديث أن النبي (ص) كان يتعوّذ بهن كل ليلة ثلاث مرات (البخاري في فضائل القرآن : ٦ : ٢٣٣).
ونقل السيوطي عن السّخاوي قوله : (وقوارع القرآن الآيات التي يتعوّذ بها ويتحصّن ، سمّيت بذلك لأنها تقرع الشيطان ، وتقمعه ، كآية الكرسي والمعوّذتين) الإتقان : ١ : ٢٠١.
المبحث الرابع
مكنونات سورة «الفلق» (١)
١ ـ (غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) (٣).
فسّر في حديث مرفوع بالقمر إذا طلع. أخرجه الترمذي من حديث عائشة رضي الله عنها (٢).
وقال ابن شهاب : هو الشمس إذا غربت.
وقال ابن زيد : الثّريا (٣).
أخرجهما ابن أبي حاتم.
٢ ـ (النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ) (٤).
بنات لبيد بن الأعصم.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.
(٢). «سنن الترمذي» (٣٣٦٣) في التفسير. قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح.
ونص الحديث : عن عائشة رضي الله عنها : أن النبي (ص) نظر إلى القمر فقال : «يا عائشة استعيذي بالله من شرّ هذا ، فإن هذا هو الغاسق إذا وقب».
قال البغوي فعلى هذا المراد بالقمر إذا خسف واسودّ ، (وقب) أي دخل في الخسوف ، أو أخذ في الغيبوبة. وقال ابن عباس : (الغاسق) : الليل إذا أقبل بظلمته من المشرق ، و (الغسق) : الظلمة.
(٣). وأخرجه ابن جرير في «تفسيره» ٣٠ : ٢٢٦ ـ ٢٢٧.
المبحث الخامس
لغة التنزيل في سورة «الفلق» (١)
١ ـ قال تعالى : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) (٣).
الغاسق القمر ، ووقوبه : دخوله في الكسوف ، وهذا من كلم القرآن.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
المبحث السادس
المعاني اللغوية في سورة «الفلق» (١)
قال تعالى : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) (٣). تقول : «غسق» «يغسق» «غسوقا» وهي الظّلمة. و «وقب» «يقب» «وقوبا» وهو الدخول في الشيء.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.
المبحث السابع
لكل سؤال جواب في سورة «الفلق» (١)
إن قيل : قوله تعالى : (مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) (٢) يتناول كل ما بعده ، فما الحكمة في الإعادة؟
قلنا : خص شرّ هذه الأشياء الثلاثة بالذكر ، تعظيما لشرّها ؛ كما في عطف الخاصّ على العام ، تعظيما لشرفه وفضله ؛ أو خصّها بالذكر لخفاء شرّها ، وأنّه يلحق الإنسان من حيث لا يشعر به ، ولهذا قيل : شر الأعداء المداجي ، وهو الذي يكيد الإنسان من حيث لا يعلم.
فإن قيل : لم عرّف سبحانه النّفّاثات ، ونكّر ما قبلها وما بعدها؟
قلنا : لأن كلّ نفّاثة لها شرّ ، وليس كل غاسق وهو الليل له شرّ ، وكذا ليس كل حاسد له شرّ ، بل رب حسد كان محمودا وهو الحسد في الخيرات ، ومنه قوله (ص) «لا حسد إلا في اثنتين» الحديث. وقال أبو تمام :
وما حاسد في المكرّمات بحاسد إنّ العلى حسن في مثلها الحسد
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.