الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٢

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٢

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٧٧

عمرو الشيباني عن أبيه ، أنّ المسد محور البكرة ، إذا كان من حديد ، فهذا مفسّر لقول من ذهب إلى هذا الوجه ، وإذا كان الحبل الذي في جيدها من حديد ، فهو السلسلة ، فقد قال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ) (٧١) [غافر].

٣٠١
٣٠٢

سورة الإخلاص

١١٢

٣٠٣
٣٠٤

المبحث الأول

أهداف سورة «الإخلاص» (١)

سورة الإخلاص سورة مكية ، آياتها أربع آيات نزلت بعد سورة الناس.

وتشتمل هذه السورة على أهم أركان الإسلام التي قامت عليها رسالة النبي (ص) ؛ وهذه الأركان ثلاثة :

الأول : توحيد الله وتنزيهه.

والثاني : بيان الأحكام الشرعية في العبادات والمعاملات.

والثالث : أحوال النفس بعد الموت ، وملاقاة الجزاء من ثواب وعقاب ، وصفة اليوم الاخر وما فيه من بعث ، وحشر ، وحساب ، وجزاء ، وصراط ، وميزان ، وجنة ، ونار.

وأول هذه الأركان هو التوحيد والتنزيه لإخراج العرب وغيرهم من الشرك والتشبيه ، ولهذا ورد في الحديث أن هذه السورة تعدل ثلث القرآن ، لاشتمالها على التوحيد وهو أصل أصول الإسلام.

وفي كتب التفسير : أن هذه السورة نزلت جوابا للمشركين ؛ حينما سألوا رسول الله (ص) ، أن يصف لهم ربّه ، ويبيّن لهم نسبه ، فوصفه لهم ونزّهه عن النسب ، إذ نفى عنه أن يكون والدا ، أو مولودا ، أو يكون له شبيه ، ومثيل.

(الرَّحِيمِ) [الآية ١] ضمير تفسّره الجملة التالية (اللهُ أَحَدٌ) (١) ، وهو يدلّ على فخامة ما يليه ، بإبهامه ، ثم تفسيره ، ممّا يزيده تقريرا.

(اللهُ أَحَدٌ) (١) : (الله) علم : دالّ على الذات العليّة دلالة مطلقة ،

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٣٠٥

تجمع معاني أسمائه الحسنى كلّها ، وما تصوّره من التقديس ، والتمجيد ، والتعظيم ، والربوبية ، والجلال ، والكمال.

(أَحَدٌ) (١) صفة تقرّر وحدانية الله من كل الوجود ، فهو واحد في ذاته ، وفي صفاته ، وفي أفعاله ، وفي عبادته ؛ أمّا أحديّته أو وحدانيّته في ذاته ، فمعناها أنّه يستقل بوجوده عن وجود الكائنات والمخلوقات ؛ فوجودها حادث بعد عدم ، وهي محتاجة إلى علّة توجدها ، وتظل قائمة عليها ، حافظة وجودها ، طوال ما كتب لها من بقاء. أما وجود الله سبحانه ، فوجود أزلي ، وجود لذاته ، ومنه انبثق كل الوجود ، إنّه واجب الوجود الذي لا أوّل لوجوده ، ولا آخر ، والفرد الذي لا تركيب في ذاته.

(اللهُ أَحَدٌ) (١) فلا إله سواه ، ولا شريك معه ؛ وكانوا قد عبدوا آلهة متعدّدة مثل الشمس ، والقمر ، واللّات ، والعزّى ، ومناة ، ونسر. وكان منهم من اتّخذ إلهين : إلها للنور وإلها للظلمة ، ومن قال إن الله ثالث ثلاثة من الالهة. أعلن القرآن الكريم النكير على من اتخذ إلها غير الله تعالى ، وقرر القرآن أنه سبحانه ، لا شريك له ، ولا مثيل (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً) (١١٦) [النساء].

ووحدانيّة الصّفات تعني تنزيه الله سبحانه فيها عن صفات المخلوقين من البشر ، وغير البشر ؛ فهو جلّ جلاله ، متفرّد بصفاته تفرده بذاته (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى ١١] ، لا في الذات ولا في الصفات. وقد تعدّدت صفات الله في القرآن ، ولأنها ذاتية دعاها أسماء ، إذ يقول جلّ شأنه : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الأعراف : ١٨٠].

ويقول : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) [الحشر : ٢٤]. وهذه الصفات ، منها ما يصوّر عظمة الله وجلاله مثل : العظيم ، المتعال ، الحميد ، المجيد ، القدّوس ، ذي الجلال والإكرام. ومنها ما يصوّر خلق الكون وصنع الوجود مثل : البارئ ، المصوّر ، الخالق ، البديع. ومنها ما يصوّر القدرة الإلهية مثل : القوي ، القادر ، القهّار ، المهيمن. ومنها ما يصوّر العلم الرباني مثل : العليم الحكيم ، الخبير. ومنها ما يصوّر

٣٠٦

رحمة الله بعباده مثل : الرؤوف ، الرحمن ، الرحيم ... إلى غير ذلك من صفات قد تلتقي بصفات البشر ، ولكنّها تختلف عنها في الجنس والنوع ، هي وكل ما يتّصل بالذات الإلهية.

ووحدانيّة الله في أفعاله : هي التفرّد في خلق الكون ، والقيام عليه ، وتدبير نظامه المحكم ، بقوانين ماثلة في جميع الأشياء ، يقول الحق سبحانه : (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) (١١) [ق].

وهذا الكون العظيم ، بنظامه البديع ، وناموسه الرائع ، يدلّ دلالة واضحة على وحدانية الله ، وتفرّده بالألوهية. قال تعالى : (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) [الأنبياء : ٢٢]. وقال سبحانه : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (٩١) [المؤمنون].

ومضمون هذه الآيات ، أنه لو تعددت الالهة في الكون ، لفسد نظام السماوات والأرض ، ولاختلّ تماسكها القائم على وحدة نظام ، ووحدة تسيير ؛ وبما أن الكون ، لم يفقد نظامه ، ولا تماسكه ، فدل ذلك على نفي تعدّد الالهة ، وثبتت وحدانية الحقّ ، سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١).

(اللهُ الصَّمَدُ) (٢).

(الصمد) : المقصود في الحوائج وحده ، فهو الملاذ ، وهو الملجأ ، وهو المستعان ، وهو المستغاث ، ولا حول ولا طول لسواه ، إنّه الخالق ، الصانع ، الحافظ ، الوهّاب ، النافع ، الضارّ ؛ كلّ شيء بيده جلّت قدرته ، وفي قبضته ؛ يعطي ، ويمنع ؛ يبسط ويقبض ؛ يثيب ويعاقب ؛ وكل شيء في الكون متّجه إليه ، يتلقّى منه الوجود ؛ إنه المحيي المميت ، الذي يهب كل حي حياته ؛ وكلّ حيّ بل كلّ كائن ، ينقاد إليه شاعرا بضعفه وعجزه ؛ وأنه محتاج إلى برّه وتفقّده له ؛ فهو الكالئ ، الحافظ ، بالليل والنهار ، وعلى مر الزمان. وهو

٣٠٧

الراعي المربّي الذي يفتقر إليه كل شيء في الوجود ، وينقاد بأزمّته. وفي ذلك يقول جل ذكره : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٤٩) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٥٠) [النحل].

قال الإمام محمد عبده : «وقوله تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ) (٢) : يشعر بأنه [سبحانه هو] الذي ينتهي إليه الطلب مباشرة ، بدون واسطة ولا شفيع ، وهو في ذلك يخالف عقيدة مشركي العرب ، الذين يعتقدون بالوسائط والشفعاء ، وكثير من أهل الأديان الأخرى ، يعتقدون بأنّ لرؤسائهم منزلة عند الله ، ينالون بها التوسّط لغيرهم في نيل مبتغاهم ، فيلجئون إليهم أحياء وأمواتا ، ويقومون بين أيديهم ، أو عند قبورهم ، خاشعين خاضعين ، كما يخشعون لله بل أشدّ خشية» (١).

وقد نفى القرآن كل وساطة بين العبد وربه ، وبيّن أن باب الله مفتوح على مصراعيه ، للضارعين والتائبين والسائلين ، فهو سبحانه قريب من عباده ، لا يحتاج إلى وساطة أو شفاعة ، قال تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (١٨٦) [البقرة]. وبذلك نرى ، أن الله سبحانه يرفع كلّ حجاب بينه وبين عباده ، ليتجهوا إليه بالمسألة حينما تنزل بهم بعض الخطوب ، أو حينما تصيبهم بعض الفواجع ، أو حينما يلتمسون أي مقصد من مقاصد الدنيا ، أو مقاصد الاخرة. قال تعالى : (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر : ٦٠] وقال سبحانه : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٥٥) [الأعراف]. وعلى ذلك ، فالإسلام ينكر بيع صكوك الغفران ، لأن المغفرة بيد الله وحده. وينكر الإسلام الاعتراف بالذنب لرجل الدين ، حتى تصحّ التوبة ، ويمحي الذنب ، إذ أساس الإسلام ، أن الله وحده هو المقصود في كلّ شيء : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (٢٥) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) [الشورى : ٢٥ ـ ٢٦].

__________________

(١). تفسير جزء عم ، للأستاذ الإمام محمد عبده ، ص ١٢٥ ، مطابع الشعب.

٣٠٨

وقد جعل الدّين الدعاء مخّ العبادة ، لأن الدّعاء اعتراف ضمني بقدرة الله تعالى وعظمته ، وأنه سبحانه الخالق ، البارئ ، الرازق ، الفعّال لما يريد ؛ وأن بيده الخير ، والأمر ، والنفع ، والضرّ ، وأنه مسبب الأسباب. وللدعاء آداب منها :

التوبة النصوح ، وأكل الحلال ، وأداء الفرائض ، واجتناب الحرمات ، والتزام التضرّع ، والخضوع في مناجاة الله ودعائه ، واليقين الكامل بأن الله تعالى هو النافع الضار ، لا رادّ لقضائه ولا معقّب لأمره : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢) [يس].

وتمكينا لهذه العقيدة الإسلامية في النفوس ، علّم رسول الله (ص) ابن عمه عبد الله بن عبّاس ـ وهو غلام صغير ، وقد كان راكبا خلفه ـ كلمات ينفعه الله بهنّ في الدنيا والاخرة :

«فعن عبد الله بن عباس قال : كنت رديف النبي (ص) على بغلته فقال لي :يا غلام ، هل أعلّمك كلمات ينفعك الله بهنّ في الدنيا والاخرة؟ قلت : نعم يا رسول الله علّمني. فقال لي : يا غلام : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء ما نفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك ، واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن يضرّوك بشيء ما ضرّوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك. رفعت الأقلام وجفّت الصحف» رواه أحمد والتّرمذي ، وهو حديث صحيح.

وحيث يعلم المؤمن هذه الحقيقة ، ويحيى في فكره وقلبه صمدية الله تعالى ، فإنه لا يرجع في أمر من أموره إلّا إليه سبحانه ، ولا يتقرّب بأيّ قربى إلّا قربى تدنيه من طاعة ربّه ومرضاته ؛ وتثبيتا لحقيقة صمديّة الخالق ، من حقائق صفات الألوهية ، قال سبحانه : (اللهُ الصَّمَدُ) (٢) ، أي الله هو الغني في ذاته ، وفي صفاته ، غنى تامّا ، وهو الذي يصمد إليه أي : يرجع إليه في كل أمر صغر أو كبر.

قال أبو هريرة في تفسير كلمة الصمد : هو المستغني عن كلّ أحد ، المحتاج إليه كلّ أحد.

(لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (٣) : (لَمْ يَلِدْ) لم يتخذ ولدا (وَلَمْ

٣٠٩

يُولَدْ) (٣) ليس له والد يكنى به. والقرآن بهذا ينزّه الله العلي العظيم ، عن شبهه بالآدميين الفانين ، الذين يوجدون بعد عدم ، ويعيشون وينجبون الولد والأولاد ، ثم تشتعل رؤوسهم شيبا ، ويبلغون من الكبر عتيّا ، ثمّ يموتون. وبذلك يكون الإنسان والدا ومولودا في آن واحد. أما الله سبحانه ، فتعالى علوّا كبيرا ، عن أن يلد أو يولد ، فهو منزّه عن مجانسة الآدميين ، في اتخاذ الصاحبة ، أو الزوجة ، واتّخاذ الأولاد. قال تعالى : (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٠١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (١٠٢) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣) [الأنعام].

(وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) :

الكفو (أو الكفؤ) معناه المكافئ ، والمماثل في العمل والقدرة ، وهو نفي لما يعتقده بعض المبطلين ، من أنّ لله ندّا في أفعاله يعاكسه في أعماله ، على نحو ما يعتقده بعض الوثنيين في الشيطان مثلا ، فقد نفى سبحانه بهذه السورة ، جميع أنواع الشرك ، وقرّر جميع أصول التوحيد والتنزيه.

«وقد جعل الله سبحانه الآية الأخيرة خاتمة للايات قبلها ، فبعد أن قرر جلّ وعلا وحدانيته ، وعظيم سلطانه ، وأنّه ملاذ الكون ومخلوقاته ، وأنّه منزه عن مشابهة الإنسان ، ومماثلته ؛ لتفرّده بقدمه وأزليّته ، قال في صيغة عامّة إنّه ليس له مثيل ، ولا نظير من الخلق ، في أيّ صفة ، ولا في أيّ فعل ، ولا في أيّ شيء من الأشياء» (٢).

وقد سفّه القرآن في مواطن كثيرة ، من جعلوا لله أندادا من المخلوقات ، وبيّن أنه سبحانه الصانع الأعظم ، وما من كائن إلّا ويفتقر إليه في وجوده ، وفي معنى سورة الإخلاص يقول الله سبحانه : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (٨٨) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (٨٩) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (٩٠) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (٩١) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (٩٢) إِنْ

__________________

(٢). دكتور شوقي ضيف ، سورة الرحمن وسور قصار ص ٣٨٠ ، مطابع دار المعارف.

٣١٠

كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (٩٣) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (٩٤) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) (٩٥) [مريم].

وقال سبحانه : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (٢٧) [الأنبياء].

٣١١
٣١٢

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الإخلاص» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الإخلاص ، بعد سورة الناس ، ونزلت سورة الناس ، بعد سورة الفلق ، ونزلت سورة الفلق ، بعد سورة الفيل ، وكان نزول سورة الفيل ، فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة ، فيكون نزول سورة الإخلاص ، في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لما فيها من طلب إخلاص الدين لله تعالى : وتبلغ آياتها أربع آيات.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إخلاص الدين لله سبحانه ، بعد ما وعد من نصر المؤمنين ، وهلاك الكافرين ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكر سورة الإخلاص ، بعد سورتي النصر والمسد.

طلب إخلاص الدين لله

الآيات [١ ـ ٤]

قال الله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) فأمر نبيه (ص) بأن يخلص الدين له ، فيعلن في الناس أنّه جلّ جلاله واحد في ذاته. صمد لا يشبهه أحد من خلقه ، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٣١٣
٣١٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الإخلاص» (١)

قال بعضهم : وضعت هاهنا للوزان في اللفظ بين فواصلها ، ومقطع سورة تبّت.

وأقول : ظهر لي هنا غير الوزان في اللفظ : أن هذه السورة متّصلة ب (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) (١) في المعنى. ولهذا قيل : من أسمائها أيضا الإخلاص. وقد قالوا : إنّها اشتملت على التوحيد ، وهذه أيضا مشتملة عليه. ولهذا قرن بينهما في القراءة في الفجر ، والطواف ، والضحى ، وسنّة المغرب ، وصبح المسافر ، ومغرب ليلة الجمعة (٢).

وذلك أنه ، لما نفى سبحانه عبادة ما يعبدون ، صرّح هنا بلازم ذلك ، وهو أن المعبود الله الأحد ، وأقام الدليل عليه جلّ وعلا بأنه صمد (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) ولا يستحق العبادة إلا من كان كذلك ، وليس في معبوداتهم ما هو كذلك.

وإنّما فصل بين النظيرتين بالسورتين (٣) لما تقدم من الحكمة ، وكأن إيلاءها سورة تبت ، ورد عليه بخصوصه.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

(٢). أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عمر : ٢ : ١٢٠ أنّ النبي (ص) ، قرأ في الفجر ، سفرا ، بالكافرين والإخلاص. وأخرج ابن حجر في المطالب العالية : ٣ : ٣٩٩ عن النبي (ص) ، يقول بضعا وعشرين مرة : «نعم السورتان يقرأ في الركعتين : الأحد الصمد ، وقل يا أيها الكافرون» وأخرج عن أبي يعلى من حديث جبير بن مطعم ، أنّه (ص) أمره أن يقرأ : الكافرون ، والنصر ، والإخلاص ، والمعوّذتين (المصدر السابق ٣ : ٣٩٨).

(٣). أي : بين سورتي الكافرون والإخلاص ، بسورتي النصر وتبّت.

٣١٥
٣١٦

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «الإخلاص» (١)

١ ـ قال تعالى : (اللهُ الصَّمَدُ) (٢) [الآية : ٢].

الصّمد : هو المقصود ، أي : المصمود ، وهذا باب «فعل» الذي يفيد اسم المفعول كالحلب والجلب وغيرهما.

أقول : وليس من وجه لقول المعاصرين : صمد في وجه الأعداء أي : ثبت ذلك إن (صمد) تعني قصد ؛ والآية شاهد.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٣١٧
٣١٨

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «الإخلاص» (١)

في قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١) ، فان قوله (أَحَدٌ) (١) بدل من قوله (اللهُ) (٢) كأنّ السياق : «هو أحد» ، ومن العرب من لا ينوّن (٣) فيحذف لاجتماع الساكنين.

وفي قوله تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) (أَحَدٌ) (٤) هو الاسم و (كُفُواً) هو الخبر.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نقله في إعراب القرآن ٣ : ١٥٥١ ، والمشكل ٢ : ٨٥٣.

(٣). نسبت قراءة عدم التنوين في معاني القرآن ١ : ٤٣٢ الى كثير من القراء الفصحاء ؛ وفي الطبري ٣٠ : ٣٤٤ إلى نصر بن عاصم ، وعبد الله بن أبي إسحاق ؛ وفي السبعة ٧٠١ إلى أبي عمرو ؛ وفي الشواذ الى نصر بن عاصم ، وأبي عمرو ، وعمر بن الخطاب ؛ وفي البحر ٨ : ٥٢٨ إلى أبان بن عثمان ، وزيد بن علي ، ونصر بن عاصم ، وابن سيرين ، والحسن ، وابن أبي إسحاق ، وأبي السمال ، وأبي عمرو في رواية يونس ، ومحبوب والأصمعي ، واللؤلؤي ، وهارون عنه.

أمّا قراءة التنوين فنسبت في الطبري ٣٠ : ٣٤٤ إلى عامّة قرّاء الأمصار إلّا نصر بن عاصم ، وعبد الله بن أبي إسحاق ، والحضرمي ، وفي السبعة ٧٠١ إلى ابن كثير ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ، والكسائي.

٣١٩
٣٢٠