المبحث الثاني
ترابط الآيات في سورة «العصر» (١)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة العصر ، بعد سورة الشّرح ، ونزلت سورة الشرح فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة ، فيكون نزول سورة العصر في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أولها : (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢) وتبلغ آياتها ثلاث آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة الترغيب في العمل الصالح ، وقد أتى هذا في مقابلة ما كان منهم من التّفاخر بالأموال والأولاد ، ولهذا ذكرت سورة العصر بعد سورة التكاثر.
الترغيب في العمل الصالح
[آيات السورة كلّها]
قال الله تعالى : (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢) والمراد بالعصر الدهر أو الليل والنهار ، أو وقت العصر أو صلاته ، ثم استثني من ذلك الحكم على الإنسان : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) (٣).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
المبحث الثالث
لكل سؤال جواب في سورة «العصر» (١)
إن قيل : الاستثناء الذي في السورة لا يدل على أن المؤمنين الموصوفين في ربح ، مع أن الاستثناء إنّما سيق لمدحهم ، بمضادّة حالهم لحال من لم يتناوله الاستثناء؟
قلنا : إن الاستثناء ، وإن لم يدلّ بصريحه على أنهم في أعظم ربح ، ولكن اتّصافهم بتلك الصفات الأربع الشريفة يدل على أنهم في أعظم ربح ، مع أنّا لو قدّرنا أنّهم ليسوا في ربح ، فالمضادّة حاصلة أيضا لأنهم ليسوا في خسر بمقتضى الاستثناء.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
سورة الهمزة
١٠٤
المبحث الأول
أهداف سورة «الهمزة» (١)
سورة «الهمزة» سورة مكية ، آياتها تسع آيات ، نزلت بعد سورة «القيامة».
المفردات
(وَيْلٌ) خزي وهلاك وعذاب ، وهو لفظ لا يستعمل الا في الذم والقدح.
(هُمَزَةٍ) من ينتقص الناس بالقول.
(لُمَزَةٍ) (١) : من يؤذي الناس بالفعل ، فكلاهما طعّان عيّاب.
(الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) (٢) : شغف بجمع المال وعدّه والتكاثر فيه ، ولا ينفقه ولا ينتفع به.
(يَحْسَبُ) : يظنّ.
(أَخْلَدَهُ) (٣) : حقّق له الخلود في الدنيا.
(لَيُنْبَذَنَ) : ليطرحنّ.
(الْحُطَمَةِ) (٤) : من أسماء النار لتحطيم المعذّبين فيها.
(الْمُوقَدَةُ) (٦) : المستعرة.
(تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٧) : القلوب التي استقرت فيها العقائد الفاسدة.
(مُؤْصَدَةٌ) (٨) : مغلقة مطبقة.
(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (٩) : قيل هي القيود والأثقال ، وقيل العمد التي تتخذ لإيصاد أبواب جهنم على من فيها.
فكرة السورة
تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية ، في حياة الدعوة في عهدها
__________________
(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.
الأول ، وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة ، صورة اللئيم الصغير النفس الذي يؤتى المال ، فتستطير نفسه به ، حتى ما يطيق نفسه ، ويروح يشعر أن المال هو القيامة العليا في الحياة ، القيامة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار : أقدار الناس ، وأقدار المعاني ، وأقدار الحقائق. كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء ، لا يعجز عن دفع شيء ، حتى دفع الموت وتخليد الحياة.
ومن ثمّ ينطلق في هوس بهذا المال ، يعدّده ويستلذّ تعداده ، وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة ، تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس ، وهمزهم ولمزهم ، وانتقاص قدرهم ، وتحقير شأنهم. وهي صورة لئيمة من صور النفوس البشرية ، حين تخلو من المروءة. والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة ، وقد نهى القرآن عن السخرية واللمز في مواضع شتى ، إلّا أن ذكرها هنا ، بهذا التشنيع ، يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله (ص) وتجاه المؤمنين ، فجاء الردّ عليها في صورة الردع والتهديد والوعيد.
أسباب النزول
قال عطاء والكلبي : نزلت هذه السورة في الأخنس بن شريق ، كان يلمز الناس ويغتابهم ، وبخاصة رسول الله (ص).
وقال مقاتل : نزلت في الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبي (ص) من ورائه ، ويطعن فيه في وجهه.
وقال محمد بن إسحاق صاحب السيرة : ما زلنا نسمع أنّ هذه السورة نزلت في أمية بن خلف.
مع آيات السورة
[الآية ١] : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١) : ويل وعذاب شديد لكل سبّاب عيّاب ، ينتقص الناس بالإشارة والحركة ، والقول والفعل ، وبناء الصفة على «فعلة» يفيد كثرة وقوع الفعل ، وجريانه مجرى العادة. وعن مجاهد وعطاء : الهمزة الذي يطعن الإنسان في وجهه ، واللّمزة : الذي يطعنه في غيابه.
[الآية ٢] : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) (٢) إن ما دعا هذا وأمثاله الى الحط
من أقدار الناس ظنّه الخاطئ بأنه ، إذ يجمع المال ، ويبالغ في عدّه والمحافظة عليه ، إنّما هو أمر يرفع قدره ، ويضمن له منزلة رفيعة ، يستطيع بها أن يطلق لسانه في أعراض الناس ، وأن يؤذيهم بالقول والفعل.
[الآية ٣] : (يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) (٣) : أنّ حبه للمال أنساه الموت والمال فهو يأنس بماله ، ويظن أن هذا المال الذي أجهد نفسه في جمعه ، وبخل به حتّى على نفسه ، إنّما يحميه من الموت ويورثه الخلود.
[الآية ٤] : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (٤) : لقد قابل القرآن بين كبريائه وتعاليه على الناس ، وبين جزائه في الحطمة ، التي تحطم كل ما يلقى إليها ، فتحطم كيانه وكبرياءه.
[الآية ٥] : (وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) (٥)؟ : سؤال للتهويل والتعظيم ، أي : أي شيء أعلمك بها ، فإنّ هذه الحطمة ممّا لا يحيط بها عقلك ، ولا يقف على كنهها علمك ، ولا يعرف حقيقتها إلّا خالقها ، سبحانه وتعالى.
[الآية ٦] : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) (٦) : إنّها النار التي تنسب الى الله الذي خلقها ، وهي موقدة لا تخمد أبدا ، ثمّ وصف هذه النار بعدة صفات فيها تناسق تصويري يتفق مع أفعال «الهمزة اللّمزة».
[الآية ٧] : (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (٧) : إنها تصل الى الفؤاد ، الذي ينبعث منه الهمز واللمز ، وهي تتغلّب على الأفئدة وتقهرها ، فتدخل في الأجواف حتّى تصل الى الصدور فتأكل الأفئدة ؛ والقلب أشدّ أجزاء الجسم تألّما ، فإذا استولت عليه النار فأحرقته فقد بلغ العذاب بالإنسان غايته.
والنار لا تصل إلى الفؤاد إلّا بعد أن تأكل الجلود واللحوم والعظام ، ثمّ تصل إلى القلوب ، والأفئدة موطن الإحساس والاعتقاد. ومن كلمات عمر بن الخطاب للكفار : «حرق الله قلوبكم» أي أصابكم بأشدّ ألوان المحن والألم.
[الآية ٨] : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) (٨) : إنّها مطبقة عليهم لا يخرجون منها ولا يستطيعون الفرار أو الهرب ، قال تعالى : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها) [الحج : ٢٢].
[الآية ٩] : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (٩) : العمد جمع عمود وهو معروف ، والممدّدة المطوّلة أي أنه أطبقها ، وأغلقها في عمد طويلة تمد على أبوابها بعد أن تؤصد ، وهو تصوير لشدة الإطباق وإحكامه ، وتأكيد لليأس من الخلاص.
قال مقاتل : إن الأبواب أطبقت عليهم ، ثمّ شدت بأوتاد من حديد ، فلا يفتح عليهم باب ، ولا يدخل عليهم روح.
اللهم أجرنا من النار ، ومن عذاب النار ، وأدخلنا الجنة مع الأبرار بفضلك يا عزيز يا غفّار.
أهداف السورة
١ ـ من الناس من يرى مثله الأعلى في جمع المال والتعالي على العباد ، وهو نموذج.
٢ ـ الويل والعذاب ينتظران كلّ عيّاب وسبّاب.
٣ ـ المال نعمة من الله ، ولكنّ العمل الصالح هو الوسيلة النافعة.
٤ ـ البخيل بالمال المتعالي على العباد له نار متّقدة تحرق جسمه وتصل إلى فؤاده.
٥ ـ هذه النار مغلقة عليه ، يظلّ حبيسا فيها أبد الآبدين.
المبحث الثاني
ترابط الآيات في سورة «الهمزة» (١)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة الهمزة بعد سورة القيامة ، ونزلت سورة القيامة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، فيكون نزول سورة الهمزة في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١). وتبلغ آياتها تسع آيات.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تحريم الاغترار بالمال وما يجرّه من تنقيص الناس ، وهي ، في هذا ، تشبه السورتين المذكورتين قبلها ؛ ولهذا ذكرت بعد السورة السابقة لمناسبتها لها في سياقها.
تحريم الاغترار بالمال
الآيات [١ ـ ٩]
قال الله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١) ، فذكر أن الويل لكل عيّاب في النّاس بأفعاله أو أقواله ، لأنه جمع من المال ما لم يجمعه غيره فتعالى به عليه ، ثمّ هدّده بالنّبذ أي الطرح في الحطمة ، وذكر أنها ناره الموقدة ، وأنها تطّلع على الأفئدة ، أي يبلغ ألمها إليها ، وأنّها عليهم مؤصدة ، أي مطبقة مغلقة (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) (٩).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
المبحث الثالث
مكنونات سورة «الهمزة» (١)
أخرج ابن أبي حاتم عن عثمان بن عمر قال : ما زلنا نسمع أن :
١ ـ (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ).
نزلت في أبيّ بن خلف.
وأخرج عن السّدّي قال : نزلت في الأخنس بن شريق.
وأخرج عن مجاهد : في جميل بن فلان (٢).
وعن ابن جريج قال : قال ناس إنه الوليد بن المغيرة (٣).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
(٢). في رواية «الطبري» ٣٠ : ١٨٩ : «عن ابن أبي نجيح ، عن رجل من أهل الرقة ، قال : نزلت في جميل بن عامر الجمحي».
(٣). وأخرج ابن المنذر عن ابن إسحاق قال : «كان أمية بن خلف إذا رأى رسول الله (ص) همزة ولمزه ، فأنزل الله تعالى (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١) السورة كلها» نقله السّيوطي في «لباب النقول في أسباب النزول» ص ٨١٢ (بهامش الجلالين).
المبحث الرابع
لغة التنزيل في سورة «الهمزة» (١)
١ ـ قال تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) (١).
أقول : أصل الهمز الكسر كالهزم ، واللمز : الطعن.
والمراد الكسر من أعراض الناس والغضّ منهم.
وبناء «فعلة» كهمزة ولمزة ، يدل على أن ذلك عادة منه ، فهو يهمز ويلمز الناس على دأبه وعادته.
ومثله يقال : ضحكة أي : كثير الضحك على الناس.
وقرئ : همزة ولمزة بسكون الميم ، أي : يأتي بالأوابد والأضاحيك فيضحك منه.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
المبحث الخامس
المعاني اللغوية في سورة «الهمزة» (١)
قال تعالى : (الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) (٢) من «العدّة».
وقال : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) (٤) أي : هو وماله.
وقال (مُؤْصَدَةٌ) من «أأصد» «يؤصد» وبعضهم يقول : «أوصد» فذلك لا يهمزها مثل «أوجع» فهو «موجع» ومثله «أأكف» و «أوكف» يقالان جميعا.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.
المبحث السادس
لكل سؤال جواب في سورة «الهمزة» (١)
إن قيل : ما الفرق بين الهمزة واللّمزة؟
قلنا : قيل إنّهما بمعنى واحد لا فرق بينهما ، وإنما الثاني تأكيد للأول. وقيل إنهما مختلفان ، فقيل الهمزة المغتاب ، واللّمزة العيّاب. وقيل الهمزة العيّاب في الوجه ، واللّمزة في القفا ، وقيل الهمزة الطعّان في الناس ، واللمزة الطعّان في أنساب الناس. وقيل الهمزة يكون بالعين ، واللمزة باللسان. وقيل عكسه ، فهذه ستة أقوال.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.