المبحث السادس
لكل سؤال جواب في سورة «العاديات» (١)
إن قيل : لم قال الله تعالى : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١) مع أنه تعالى خبير بهم في كلّ زمان ، فما وجه تخصيص ذلك اليوم؟
قلنا : معناه أنّ ربهم سبحانه ، مجازيهم يومئذ على أعمالهم ، فالعلم مجاز عن المجازاة ، ونظيره قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ) [النساء : ٦٣] معناه يجازيهم على ما فيها ، لأن علمه شامل لما في قلوب كل العباد ، ويقرب منه قوله تعالى : (يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) [غافر : ١٦].
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
سورة القارعة
١٠١
المبحث الأول
أهداف سورة «القارعة» (١)
سورة القارعة سورة مكية ، آياتها إحدى عشرة آية ، نزلت بعد سورة قريش.
القارعة اسم من أسماء القيامة ، كالحاقّة والصّاخّة والطّامّة والغاشية ، وسمّيت قارعة لأنها تقرع القلوب بأهوالها. والسورة كلها عن هذه القارعة ، حقيقتها ، وما يقع فيها ، وما تنتهي إليه ، فهي تعرض مشهدا من مشاهد القيامة. والمشهد المفروض هنا مشهد هول ، تتناول آثاره الناس والجبال ، فيبدو الناس في ظله صغارا ضئالا على كثرتهم ، فهم كالفراش المبثوث ، مستطارون مستخفّون في حيرة الفراش ، الذي يتهافت على الهلاك ، وهو لا يملك لنفسه وجهة ، ولا يعرف له هدفا. وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة ، كالصوف المنفوش ، تتقاذفه الرياح ، وتعبث به حتى الأنسام.
عندئذ يرجح وزن المؤمن وتثقل درجته ، فيعيش عيشة راضية ، ويخفّ ميزان الكافر ، وتهوي منزلته ، فيصطلي بنار حامية.
معاني المفردات
(الْقارِعَةُ) يوم القيامة.
(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) استفهام عن حقيقتها قصد به تهويل أمرها.
(كَالْفَراشِ) الحشرات الصغيرة التي تندفع على غير هدى نحو الضوء.
__________________
(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.
(الْمَبْثُوثِ) المنتشر المتفرق ، وهو مثل في الحيرة والجهل بالعاقبة.
(كَالْعِهْنِ) الصوف.
(الْمَنْفُوشِ) الذي نفشته بيدك أو بالة اخرى ، ففرقت شعراته بعضها عن بعض.
(ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) بكثرة الحسنات.
(خَفَّتْ مَوازِينُهُ) بقلة الحسنات وكثرة السيئات.
(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) أي مرجعه الذي يأوي إليه هاوية ، أي مهواة سحيقة يهوي فيها.
مع آيات السورة
[الآيات ١ ـ ٣] : (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) (٣) القارعة : أي القيامة بدأ بها قرعا للأذهان بهولها.
(مَا الْقارِعَةُ) (٢) ، استفهام عن حقيقتها ، قصد به تهويل أمرها ، كأنها ، لشدة ما يكون فيها ، ممّا تفزع له النفوس وتدهش له العقول ، يصعب تصوّرها.
(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) (٣) : أي شيء يعرفك بها؟ زيادة في تعظيم تلك الحادثة العظيمة ، كأن لا شيء يحيط بها ، ويفيدك برسمها ، ثم أخذ يعرفها بزمانها وما يكون للناس فيه.
[الآية ٤] : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) (٤) أي يكون الناس من حيرتهم وذهولهم كالفراش الهائم على وجهه ، المنتشر في الفضاء لا يدري ما ذا يصنع ، قال تعالى في آية أخرى : (كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر : ٧].
[الآية ٥] : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥) أي تصبح في صور الصوف المنفوش ، فلا تلبث أن تذهب وتتطاير ، وفي سورة النبأ قال تعالى : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٢٠).
[الآيتان ٦ ـ ٧] : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٧) ، أي من ثقلت موازينه برجحان كفّة حسناته على سيئاته ، فهو في الجنة. ويقال ثقل ميزان فلان إذا كان له قدر ومنزلة رفيعة ، كأنه إذا وضع في ميزان كان له رجحان. وإنما يكون المقدار والقيامة لأهل الأعمال الصالحة ، والفضائل الراجحة ، فهؤلاء يجزون النعيم الدائم والعيشة الراضية.
[الآيتان ٨ ـ ٩] : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ
مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٩) يقال خفّ ميزان فلان ، أي سقطت قيمته ، فكأنّه ليس بشيء ، حتى لو وضع في كفّة ميزان لم يرجح بها على أختها ؛ ومن كان في الدنيا كثير الشر قليل فعل الخير ، يجترئ على المعاصي ، ويفسد في الأرض ، فإنه لا يكون شيئا في الاخرة ، ولا ترجح له كفّة ميزان لو وضع فيها.
ويرى بعض المفسرين أن الذي يوزن هو الصحف ، التي تكتب فيها الحسنات والسيئات. وأن الحسنات تمثّل وتقابل بالنور والخير ، وأنّ السيّئات تمثّل وتقابل بالظلام والشر. وأن من كثر خيره كان ناجيا ، ومن كثر شرّه كان هالكا.
وهذا الميزان نؤمن به ونفوض حقيقة المراد منه إلى الله تعالى ، فلا نسأل كيف يزن؟ ولا كيف يقدّر؟ فهو أعلم بغيبه ونحن لا نعلم.
قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧) [الأنبياء].
(فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٩) : مرجعه الذي يأوي اليه كما يأوي الولد الى أمه ، أي فمسكنه ومأواه النار.
١٠ ـ (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ) (١٠) أي ما الذي يخبرك بما هي تلك الهاوية ، وأي شيء تكون؟
١١ ـ (نارٌ حامِيَةٌ) (١١) هي نار ملتهبة بلغت النهاية في الحرارة ، يهوي فيها ليلقى جزاء ما قدم من عمل.
مقاصد السورة
١ ـ وصف أهوال يوم القيامة ومشاهده.
٢ ـ وزن الأعمال ، ورجحان كفة المؤمن ، وخفة كفة الفاجر.
٣ ـ السعداء يدخلون الجنّة ، والأشقياء يذهبون الى النار.
المبحث الثاني
ترابط الآيات في سورة «القارعة» (١)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة القارعة بعد سورة قريش ، ونزلت سورة قريش بعد سورة التين ، ونزلت سورة التين فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، فيكون نزول سورة القارعة في ذلك التاريخ أيضا.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ) (٢) وتبلغ آياتها إحدى عشرة آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة إثبات وزن الأعمال يوم القيامة ، فهي في سياق الترغيب والترهيب كسورة العاديات ، ولهذا ذكرت بعدها.
وزن الأعمال يوم القيامة
الآيات [١ ـ ١١]
قال الله تعالى : (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ) (٢) ، الآيات ... ، فذكر أن القارعة هي القارعة : لأنها تفوق كل القوارع في الهول والشدة ، وأنها تكون يوم ينتشر الناس بعد البعث من القبور ، فيجمعون لوزن أعمالهم ، فمن ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية ، ومن خفّت موازينه فأمّه هاوية (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ) (١١).
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «القارعة» (١)
قال الإمام : لما ختم الله سبحانه السورة السابقة بقوله : (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) (١١) فكأنه قيل : وما ذاك؟ فقال : هي القارعة. قال : وتقديره : ستأتيك القارعة على ما أخبرت عنه ، بقوله جلّ وعلا : (إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ) (٩) [العاديات].
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه : ١٩٧٨ م.
المبحث الرابع
لغة التنزيل في سورة «القارعة» (١)
قال تعالى : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٩).
من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة : هوت أمّه لأنه إذا هوى أي سقط وهلك فقد هوت أمه ثكلا وحزنا.
قال كعب :
هوت أمّه ما يبعث الصّبح غاديا وما ذا يردّ الليل حين يؤوب
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
المبحث الخامس
المعاني اللغوية في سورة «القارعة» (١)
قال تعالى : (كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) وواحدها : «العهنة» مثل : «الصوف» و «الصّوفة» وأما قوله : (ما هِيَهْ) (١٠) بالهاء ، فلأن السكت عليها بالهاء ، لأنها رأس آية.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.
المبحث السادس
لكل سؤال جواب في سورة «القارعة» (١)
إن قيل : لم قال تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ) (٨) أي رجحت سيّئاته على حسناته (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٩) أي فمسكنه النار ، وأكثر المؤمنين حسناتهم راجحة على سيّئاتهم؟ قلنا : (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) (٩) لا يدل على خلوده فيها ، فيسكن المؤمن بقدر ما تقتضيه ذنوبه ، ثم يخرج منها إلى الجنة : وقيل المراد بخفة الموازين خلوّها من الحسنات بالكلية ، وتلك موازين الكفّار.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
المبحث السابع
المعاني المجازية في سورة «القارعة» (١)
في قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ) (١١) استعارة. وهاوية هنا من أسماء النار ، كأنها تهوي بأهلها الى قعرها ؛ وإنّما جعلت أمّه لضمّها له واشتمالها عليه ؛ ويشبه ذلك قوله تعالى : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (١٥) [الحديد]. وقد فسّر ذلك سبحانه بقوله : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ) (١١). وقال بعضهم : بل سميت هاوية لهويّ المعذّبين في قعرها ، فكان ظاهر الفعل لها وحقيقته لغيرها. كما قال تعالى : (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) (٧). والمراد مرضيّة ؛ ونظائر ذلك كثيرة وقال بعضهم : إنّما خرج ذلك على مخرج كلام العرب ، لأنهم يقولون للواقع في المكروه ، والمرتكس في الأمر : هوت أمّ فلان. ويقولون : ويل أم فلان ، ويعنون : هوت أي سقطت في مهواة ، وهو مثل قولهم ظلّت وهلكت ، لأنّ هلاك ولدها كهلاكها. وقال كعب بن سعد الغنوي يرثي أخاه أبا المغوار :
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وما ذا يواري الليل حين يؤوب وقال بعضهم معنى ذلك هوت أمّ رأسه ، وإذا هوت أمّ رأسه وهي معظم دماغه ، فقد هوى سائره وهلك.
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.