الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

المبحث السادس

لكل سؤال جواب في سورة «النبأ» (١)

إن قيل : كيف اتصل قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً) (٦) بما قبله؟

قلنا : لمّا كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه هو البعث والنشور ، وكانوا ينكرونه ، قيل لهم : ألم يخلق من وعد بالبعث والنشور هذه المخلوقات العظيمة العجيبة الدّالّة على كمال قدرته على البعث؟

فإن قيل : لو كان النبأ العظيم الذي يتساءلون عنه ما ذكرتم لما قال الله تعالى : (الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ) (٣) : لأنّ كفّار مكّة لم يختلفوا في أمر البعث ، بل اتّفقوا على إنكاره؟

قلنا : كان فيهم من يقطع القول بإنكاره ، وفيهم من يشكّ فيه ويتردّد ؛ فثبت الاختلاف لأنّ جهة الاختلاف لا تنحصر في الجزم بإثباته والجزم بنفيه. الثاني : أنّ بعضهم صدّق به فآمن ، وبعضهم كذّب به فبقي على كفره ، فثبت الاختلاف بالنفي والإثبات. الثالث : أن الضمير في (يَتَساءَلُونَ) وفي (هُمْ) عائد إلى الفريقين من المسلمين والمشركين ؛ وكلّهم كانوا يتساءلون عنه لعظم شأنه عندهم ، فصدّق به المسلمون فأثبتوه ، وكذّب به المشركون فنفوه.

فإن قيل : قوله تعالى : (ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) (٣٩) هو جزاء الشرط فأين الشرط ؛ و «شاء» وحده لا يصلح شرطا لأنه لا يفيد

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٤١

بدون ذكر مفعوله ؛ وإن كان المذكور هو الشرط ، فأين الجزاء؟

قلنا : معناه فمن شاء النجاة من اليوم الموصوف ، اتّخذ إلى ربّه مرجعا بطاعته. الثاني : أنّ معناه : فمن شاء أن يتّخذ إلى ربّه مآبا ، كقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف / ٢٩] أي فمن شاء الإيمان فليؤمن ، ومن شاء الكفر فليكفر.

٤٢

المبحث السابع

المعاني المجازية في سورة «النبأ» (١)

في قوله تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧) استعارتان. وقد مضى الكلام على الأولى منهما. أما معنى كون الجبال أوتادا ، فلأنّ بها مساك الأرض وقوامها ، واعتدالها وثباتها ، كما يثبت البيت بأوتاده ، والخباء على أعماده.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٤٣
٤٤

سورة النّازعات

٧٩

٤٥
٤٦

المبحث الأوّل

أهداف سورة «النازعات» (١)

سورة النازعات سورة مكيّة ، آياتها ٤٦ آية ، نزلت بعد سورة النبأ.

وهي نموذج من نماذج هذا الجزء ، لإشعار القلب البشريّ بحقيقة الآخرة ، بهولها وضخامتها. وفي الطريق إلى ذلك تمهيد بمطلع غامض مثير ، في إيقاع سريع [الآيات ١ ـ ٥]. وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف ، يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم في الآيات [٦ ـ ١٤]. ثم يجري السياق في عرض حلقة من قصّة موسى (ع) مع فرعون ، فيهدأ الإيقاع ، ويسترخي شيئا مّا ليناسب جو الحكاية والعرض ، وذلك في الآيات [١٥ ـ ٢٦].

ثمّ ينتقل الكلام من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح ، ومشاهد الكون الهائلة ، الشاهدة بالقوّة والتدبير ، والتقدير للألوهيّة المنشئة للكون ، المهيمنة على مصائره في الدنيا والآخرة ، في تعبيرات قويّة الأثر ، تأخذ بالألباب ، وذلك في الآيات [٢٧ ـ ٣٣].

ثمّ يجيء مشهد الطّامّة الكبرى ، وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا ، [الآيات ٣٤ ـ ٤١].

ثمّ يرتدّ الكلام إلى المكذّبين بهذه الساعة ، الذين يسألون الرسول (ص) ، عن موعدها ، يرتدّ إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها وضخامتها ، [الآيات ٤٢ ـ ٤٦].

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٤٧

مع آيات السورة

[الآيات ١ ـ ٥] : أقسم الله تعالى بالملائكة ، الذين ينزعون أرواح الكفار إغراقا ، أي مبالغة في النزع ؛ وبالملائكة الذين يخرجون أرواح المؤمنين برفق ، فيسبحون في إخراجها سبح الغواص ، الذي يخرج الشيء من أعماق البحر ، فيسبقون بأرواح الكفّار إلى النار ، وبأرواح المؤمنين إلى الجنة ، أو يسبقون للإيمان أو للطاعة لأمر الله ، فيدبّرون ما يوكل إليهم من الأمور.

وقيل : أقسم الله تعالى بالنجوم ، تنزع في مداراتها وتتحرّك ، وتنشط منتقلة من منزل إلى منزل ، وتسبح سبحا في فضاء الله وهي معلّقة بهذا الفضاء ، وتسبق سبقا في جريانها ودورانها ، وتدبّر من النتائج والظواهر ما أوكله الله إليها ، ممّا يؤثّر في حياة الأرض ومن عليها.

وقيل : النّازعات والنّاشطات والسّابحات والسّابقات هي النجوم ؛ والمدبّرات هي الملائكة. وجملة القول : أن هذه أوصاف لموصوفات ، أقسم الله بها ، لعظم شأنها ؛ وكل ما يصدق عليه الوصف ، يصحّ أن يكون تفسيرا للآيات ، وهذا من إعجاز القرآن الكريم.

[الآيات ٦ ـ ٩] : اذكر يا محمّد يوم تضطرب الأرض ، ويرتجف كل من عليها ؛ وتنشقّ السماء ؛ ويصعق كل من في السماوات ومن في الأرض إلّا من شاء الله ؛ وهذه هي الرّاجفة أو النفخة الأولى في الصور ؛ يتبع ذلك النفخة الثانية ، التي يصحون عليها ويحشرون ؛ وهذه هي الرادفة (١).

قلوب الكافرين تكون يوم القيامة شديدة الاضطراب ، بادية الذّلّ ، يجتمع عليها الخوف والانكسار ، والرجفة والانهيار.

[الآيات ١٠ ـ ١٤] : يقول الكافرون المنكرون للبعث : أصحيح أننا إذا متنا راجعون إلى الأرض أحياء كما كنّا؟ أنعود للحياة بعد تحلّل أجسادنا في التراب؟ إن صح هذا فهو الخسران

__________________

(١). ورد هذا المعنى في سورة الزمر قوله تعالى ، في : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (٦٨).

٤٨

الخالص ، والرجعة الخاسرة ، التي لم نحسب حسابها.

لا تستبعدوا ذلك أيّها الكافرون ، فإنّما هي صحيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل (ع) في الصور ، فإذا الناس جميعا أحياء على سطح أرض القيامة.

[الآيات ١٥ ـ ٢٦] : تحكي هذه الآيات قصة موسى عليه‌السلام ، وهي قصة تكررت في القرآن الكريم ، لما لقيه موسى من شدّة المعاناة مع قومه ، فأصبح نموذجا للصّبر والثبات. وفي الحديث الصحيح يقول النبي (ص) : «يرحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا ، فصبر».

تقول الآيات :

وهل جاءك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة؟ حيث تفضّل الله عليه فناداه ، وكلّمه من وراء حجاب ، بالوادي المبارك من طور سيناء (طوى) (١) ، فقال له ما معناه : اذهب إلى فرعون فإنّه طغى وتجاوز الحد ، فتلطّف معه في القول ، وقل له : هل ترغب في أن تطهّر نفسك من الآثام التي انغمست فيها ، وهل لك في الإيمان بالله ، واستشعار الجلالة والجبروت وخشية عقاب الله وحسابه.

بيد أنّ هذا القول لم يفلح في هداية قلب الطاغية الجبار ، فأظهر له موسى المعجزة الكبرى ، وهي انقلاب العصا حية ، وإخراج يده بيضاء بياضا ساطعا ، يغلب ضوء الشمس. فأنكر فرعون رسالة موسى (ع) ، وعصى أمر ربّه ، ثم أعرض عن موسى ، وسعى في إيذائه ، وحثّ الناس على مقاومة دعوته ، ثم جمع السحرة الذين هم تحت إمرته وسلطانه ، فقام فيهم يقول ، كما ورد في التنزيل : (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢٤) الذي لا يدانيه أحد في القوّة والعظمة ، وما زال في عتوّه وتطاوله ، حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر (بحر القلزم) عند خروجهم من مصر ، فأغرق فيه هو وجنوده ، تنكيلا به على ما صنع ، وله في الآخرة عذاب السعير ، وسيكون مثلا للأوّلين والآخرين. وفي قصة فرعون عبرة لمن له عقل يتدبّر به في عواقب الأمور ، فيثوب إلى رشده ويتّقي ربه.

__________________

(١). طوى علم للوادي ، وهو واد بأسفل جبل طور سيناء.

٤٩

[الآيات ٢٧ ـ ٣٣] : يخاطب الله سبحانه منكري البعث ، ويرشدهم إلى أنّ بعثهم هيّن على الله ، بدليل ما يشاهدون من آثار قدرته في هذا الكون ؛ فيقول لهم ما معناه : هل أنتم أشدّ خلقا أم خلق السماء أصعب وأشقّ؟. إنكم لا تنازعون في أنّها أشدّ منكم خلقا ، ومع ذلك لم نعجز عن إبداعها ، فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم؟ والذي بنى السماء وأبدعها قادر على إعادتكم. قال تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (٥٧) [غافر].

لقد رفع الله (سمك) السماء أي بناءها ؛ وسمك كلّ شيء قامته وارتفاعه. والسماء مرفوعة في تناسق كامل ، وتنسيق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها ، وقد جعل الله ، سبحانه ، ليلها مظلما بمغيب كواكبها ، وأنار نهارها بظهور الضحى.

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) (٣٠) ، ودحو الأرض تميهدها ، وبسط قشرتها ؛ بحيث تصبح صالحة للسير عليها ، وتكوين تربة تصلح للإنبات : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) (٣١) ، أي فجّر منها العيون والينابيع والأنهار ، وأنبت فيها النبات ، وثبّت الجبال في أماكنها وجعلها كالأوتاد ، لئلّا تميد بأهلها ، وتضطرب بهم : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣) ، أي إنّما جعلنا ذلك كله ليتمتّع به الناس والأنعام. وليتنبّه الإنسان على عظمة التدبير والتقدير ، فإنّ بناء السماء على هذا النحو ، وإظلام الليل ، وإضاءة النهار ، وتمهيد الأرض ، وإخراج النبات والماء ، وإرساء الجبال ؛ لم يكن كلّ ذلك سدّى ، وإنّما كان متاعا لكم ولأنعامكم.

وهذا المدبّر الحكيم سبحانه ، وفّر لكم هذا الخير الكثير ، لتتمتّعوا به ؛ ومن الحكمة والتدبير أن يكون هناك بعث وجزاء ، لإثابة الطائع ، ومعاقبة الطّغاة والعصاة.

[الآيات ٣٤ ـ ٤١] : فإذا جاءت الداهية العظمى ، التي تعلو على سائر الدواهي ، وتشغل الإنسان عن ولده ونفسه ، غطّت على كل شيء ، وطمت على كل شيء. عندئذ يتذكّر الإنسان سعيه ويستحضره أمامه ، حينما يرى

٥٠

أعماله مدوّنة في كتابه. وظهرت النار إلى مكان بارز ، حتّى يراها كلّ ذي نظر ، عندئذ تختلف المصائر والعواقب ، فأمّا من تكبّر وعصى ربّه وجاوز حدّه ، وآثر شهوات الحياة الدنيا على ثواب الآخرة ، فالنّار مثواه ومستقرّه.

وأمّا من استحضر في قلبه دائما عظمة الله تعالى ، ونهى النفس عمّا تهواه ، وتميل إليه بحسب طبيعتها ، فإنّ الجنّة ستكون له مستقرا ومقاما.

[الآيات ٤٢ ـ ٤٦] : يسألك كفّار قريش والمتعنّتون من المشركين عن القيامة (يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) (٤٢) : متى قيامها وظهورها؟ وأين موعدها؟

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) (٤٣) : إنّها لأعظم من أن تسأل أو تسأل عن موعدها ، فأمرها إلى ربّك ، وهي من خاصّة شأنه ، وليست من شأنك ، إلى ربك ينتهي علم الساعة ، فلا يعلم وقت قيامها غيره سبحانه ، ولم يعط علمها لملك مكرّم ، ولا لنبيّ مرسل. إنما أنت رسول مبعوث لتنذر من ينفعه الإنذار ، وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ، ويعمل لها ويتوقعها.

وإذا جاءت الساعة ، ورأوا أهوالها وحسابها وجزاءها ، استهانوا بالدنيا ومتاعها وأعمارها ، ورأوا الدنيا بالنسبة للآخرة قصيرة عاجلة ، هزيلة ذاهبة ، زهيدة تافهة.

وتنطوي الدنيا في نفوس أصحابها ، فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها ؛ فكأنما الدنيا ساعة من نهار ، أفمن أجل ساعة من نهار ، يضيّع الإنسان الجنّة والخلود في رضوانها؟

قال تعالى : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ) (٥٥) [الروم] أي أنّ الدنيا أو الحياة الفانية ، ليست إلّا وقتا قصيرا بالنسبة للآخرة. قال تعالى (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) [الأعلى].

موضوعات سورة النازعات

١ ـ إثبات البعث.

٢ ـ مقالة المشركين في إنكاره ، والردّ عليهم.

٥١

٣ ـ قصة موسى (ع) مع فرعون ، وفيها عاقبة الطغاة.

٤ ـ آيات الله في الآفاق.

٥ ـ أهوال يوم القيامة.

٦ ـ الناس في هذا اليوم فريقان :

سعداء وأشقياء.

٧ ـ تساؤل المشركين عن الساعة وميقاتها.

٨ ـ نهي الرسول (ص) عن البحث عنها.

٩ ـ ذهول المشركين من شدّة الهول ، والاستهانة بالدنيا حينما يرون الآخرة.

٥٢

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «النازعات» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة النازعات بعد سورة النبأ ، ونزلت سورة النبأ بعد الإسراء وقبيل الهجرة ؛ فيكون نزول سورة النازعات في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (١) وتبلغ آياتها ستا وأربعين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إثبات البعث أيضا ، فهي توافق سورة النبأ في الغرض المقصود منها ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.

إثبات البعث

الآيات [١ ـ ٤٦]

قال الله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) (٨) فأقسم سبحانه ، بما ذكره على أنهم سيبعثون ؛ وذكر جلّ شأنه أنه يوم ترجف الراجفة بعد بعثهم ، تجفّ قلوبهم وتخشع أبصارهم ؛ ثم ذكر استبعادهم لبعثهم ، وقولهم على سبيل الاستهزاء : إنه لو صح لكانت كرّتهم خاسرة ، وأجاب بأنّ أمره لا يقتضي إلّا زجرة واحدة ، فإذا هم بالساهرة أي (القيامة) ؛ ثم ذكر أن فرعون كذّب بهذا قبلهم ، وكان أشدّ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٥٣

منهم ، فأخذه بنكال الآخرة والأولى ؛ ثم ذكر أنهم ليسوا أشدّ خلقا من السماء وغيرها من خلقه حتى يعجز عن إعادتهم ؛ وأنه إذا جاء يوم القيامة يتذكّر كلّ إنسان ما عمله ، وتكون الجحيم مأوى الطاغين ، وتكون الجنة مأوى المتّقين ؛ ثم ذكر تعالى أنهم يسألون عن الساعة أيّان مرساها استهزاء بها ، وأجاب بأنه لا يعلمها إلّا هو ، وإنّما ينذر النبي (ص) بها من يخشاها : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦).

٥٤

المبحث الثالث

مكنونات سورة «النازعات» (١)

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي صالح أنّه ، بقوله :

١ ـ (وَالنَّازِعاتِ) [الآية ١] ،

٢ ـ و (وَالنَّاشِطاتِ) [الآية ٢] ،

٣ ـ و (وَالسَّابِحاتِ) [الآية ٣] ،

٤ ـ و (فَالسَّابِقاتِ) [الآية ٤] ،

٥ ـ و (فَالْمُدَبِّراتِ) [الآية ٥] ،

عنى الملائكة

٦ ـ أما بقوله (بِالسَّاهِرَةِ) (١٤) ، فإن عثمان بن أبي العاتكة قال : إنه يعني بالسفح الذي بين جبل أريحا ، وجبل حسان (٢). أخرجه ابن أبي حاتم (٣).

وقال وهب بن منبّه : هي بيت المقدس. أخرجه البيهقي في «البعث» (٤).

وقال ابن عسكر :

قيل : هي أرض الشام (٥).

وقيل : جبل بيت المقدس (٦).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). كذا في «تفسير الطبري» ٣٠ / ٢٤ ووقع اسم هذا الجبل : «حسان» في موضع آخر من «تفسير الطبري» ٩ / ٨٦ عند قوله تعالى : (وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْم ِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١٧٦) [الأعراف].

(٣). والطبري ٣٠ / ٢٤.

(٤). والطبري في «تفسيره» ٣٠ / ٢٤ ، بلفظ : جبل إلى جنب بيت المقدس.

(٥). أخرجه الطبري في «تفسيره» ٣٠ / ٢٤ عن سفيان قال : أرض بالشام.

(٦). راجع التعليق رقم (٣) السابق.

٥٥

وقيل : هي جهنّم (١).

٧ ـ (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) (٢٥).

هي قوله ، كما ورد في التنزيل : (وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) (٣٨) [القصص].

قال عكرمة ، وعبد الله بن عمرو : قال ، وكان بين الكلمتين (٢) أربعون سنة. أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). أخرجه الطبري في «تفسيره» ٣٠ / ٢٥ عن قتادة.

(٢). المراد بالكلمتين قوله جلّ ثناؤه : (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) [القصص / ٣٨] ، الأولى ، والثانية قوله سبحانه ، حكاية عن فرعون : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (٢٤) ، انظر «تفسير الطبري» ٣٠ / ٤١ ط الحلبي ، وذكر فيه تفسيرا آخر.

٥٦

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «النازعات» (١)

١ ـ وقال تعالى : (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١٤).

والسّاهرة : الأرض البيضاء المستوية ، سمّيت بذلك لأن السّراب يجري فيها.

وهذا من قولهم : عين ساهرة ، جارية الماء ، وفي ضدّها نائمة ، قال الأشعث بن قيس : وساهرة يضحي السراب مجلّلا لأقطارها قد جبتها متلثّما

٢ ـ وقال تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) (٣٤).

وقوله تعالى : (الطَّامَّةُ الْكُبْرى) (٣٤) أي : الداهية التي تطمّ الدواهي ، أي : تعلو وتغلب.

أقول : والعبارة في الآية ممّا ورثناه في العربية المعاصرة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٥٧
٥٨

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «النازعات» (١)

قال تعالى : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً) (١) فأقسم ، والله أعلم ، على (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢٦) أو على : (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (٦) ، (قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) (٨) ، (وَالنَّازِعاتِ) [الآية ١] ، أو على (وَالنَّازِعاتِ) ل (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) (٦) (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) (٧) فحذفت اللام وهو كما قال جل ذكره ، وشاء أن يكون في هذا ، وفي كلّ الأمور.

وقال تعالى : (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً) كأنه سبحانه أراد : «أنردّ إذا كنّا عظاما».

وقال تعالى : (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١٦). فمن لم يصرفه (٢) جعله بلدة أو بقعة ؛ ومن صرفه (٣) جعله اسم واد أو مكان. وقال بعضهم : «لا بل هو مصروف وإنما يراد ب (طُوىً) (١٦) : طوى من الليل ، لأنّك تقول : «جئتك بعد طوى من الليل» ويقال «طوى» منوّنة مثل «الثّنى» وقال الشاعر (٤) [من

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نسبها الطبري ٣٠ / ٣٩ إلى عامّة قرّاء المدينة والبصرة ؛ وفي السبعة ٦٧١ إلى ابن كثير ، ونافع ، وأبي عمرو ؛ وفي الجامع ١٩ / ٢٠١ إلى غير ابن محيصن ، وابن عامر ، والكوفيين ، والحسن ، وعكرمة ؛ وبكسر الطاء إلى الحسن ، وعكرمة ؛ وروي عن أبي عمرو.

(٣). هي قراءة نسبها الطبري ٣٠ / ٣٩ إلى بعض أهل الشام ، والكوفة ؛ وفي السبعة ٦٧١ إلى ابن عامر ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ؛ وفي الجامع ١٩ / ٢٠١ إلى ابن محيصن ، وابن عامر ، والكوفيين.

(٤). هو أوس بن مفواء القرفعي ، الصحاح واللسان «ثنى» ؛ والمخصص ١٥ / ١٣٨ ؛ وطبقات فحول الشعراء ١ / ٧٩.

٥٩

البسيط وهو الشاهد السابع والسبعون بعد المائتين] :

ترى ثنانا إذا ما جاء بدأهم وبدأهم إن أتانا كان ثنيانا (٤) والثّنى : هو الشيء المثنيّ. وقال تعالى : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) (٢٥). لأنّه حينما قال (أخذه) كأنه قال «نكّل له» فأخرج المصدر على ذلك. وتقول «والله لأصرمنّك تركا بيّنا».

__________________

(٤). في المصادر السابقة ، والمخصص ٢ / ١٥٩ ، والمقاييس ١ / ٢١٣ و ٣٩١ ب «بدوهم» ؛ وفي طبقات فحول الشعراء ١ / ٧٩ كذلك ، وصدره فيها : ثنياننا إن أتاهم كان بدأهم.

٦٠