الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الفجر» (١)

أقول : لم يظهر لي من وجه ارتباطها سوى أنّ أوّلها كالإقسام على صحّة ما ختم به السورة التي قبلها ، من قوله جل جلاله : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦) [الغاشية]. وعلى ما تضمّنه من الوعد والوعيد. كما أنّ أوّل «الذاريات» قسم على تحقيق ما في «ق» ، وأول «المرسلات» قسم على تحقيق ما في «عمّ». هذا ، مع أنّ جملة : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) (٦) هنا ، مشابهة لجملة (أَفَلا يَنْظُرُونَ) [الآية ١٧] في سورة الغاشية (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). بل هناك وجوه ارتباط أوضح ممّا ذكر المؤلّف. وذلك : أنه تعالى ذكر في «الغاشية» صفة النار والجنّة مفصلة على ترتيب ما ذكر في سورة الأعلى. ثمّ زاد الأمر تفصيلا في «الفجر» بذكر أسباب عذاب أهل النار ، فضرب لذلك مثلا بقوم عاد ، وقوم فرعون ، في قوله جلّ وعلا : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) (٦) إلى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) (١٤). ثمّ ذكر بعض عناصر طغيانهم في قوله سبحانه : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (١٧) وما بعدها. فكأنّ هذه السورة إقامة الحجّة عليهم.

وكذلك جاء في الغاشية : (إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢) [الغاشية].

ثم ذكر في «الفجر» مادة تذكير من كان قبلهم من الكفّار ، وأنّه سيعذبهم في الآخرة ، وأنّ الندم لن ينفعهم شيئا ، فقال تعالى : (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) (٢٤).

٢٤١
٢٤٢

المبحث الرابع

مكنونات سورة «الفجر» (١)

أخرج سعيد بن منصور عن ابن عبّاس قال :

١ ـ (وَالْفَجْرِ) (١).

المحرّم ، هو فجر السنة (٢).

٢ ـ (وَلَيالٍ عَشْرٍ) (٢).

هي عشر الأضحى. كما أخرجه أحمد والنّسائي عن جابر مرفوعا. وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عبّاس (٣).

وأخرج عنه أيضا أنّها العشر الأواخر (٤) من رمضان.

٣ ـ (فَأَمَّا الْإِنْسانُ) [الآية ١٥].

قال ابن جريح : نزلت في أمية بن خلف أخرجه ابن أبي حاتم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). ذكر الطبري في «تفسيره» ٣٠ / ١٠٧ أقوالا أخرى في معنى «الفجر» هنا ، فقيل : هو النهار ، وقيل : صلاة الصبح ، وقيل : فجر الصباح.

(٣). والطبري ٣٠ / ١٠٧.

(٤). وذكر الطبري في «تفسيره» أقوالا في بعض السلف قالوا : بأن «العشر» أوّل السنة من محرّم. قال أبو جعفر الطبري رحمه‌الله : «والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجّة من أهل التأويل عليه».

٢٤٣
٢٤٤

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «الفجر» (١)

١ ـ قال تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤).

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (٥).

حذفت الياء من (يَسْرِ) (٤) اكتفاء بالكسرة ، ذلك أمر يقتضيه تناسب الفواصل والفجر ، وليال عشر ، والشفع والوتر (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (٣) ...

وقوله تعالى : «حجر» أي : عقل. أقول : ومن المفيد أن نشير إلى أنّ «الحجر» و «الحصاة» من كلمات العقل. ألا يكون هذا لأن العقل وصف عندهم بالرزانة والرسوخ فاستعير له شيء من مادة صلبة قويّة هي الحجر والحصى! لعل شيئا من هذا!

وليس كما قالوا لأن العقل «يحجر» عن التهافت فيما لا ينبغي.

وعندي أن الفعل «حجر» ، بمعنى : منع ونهى «ولد» بعد استعارة كلمة «الحجر» للعقل ، والله أعلم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٤٥
٢٤٦

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «الفجر» (١)

قال تعالى : (بِعادٍ) (٦) (إِرَمَ) [الآية ٧] فجعل بعضهم (إِرَمَ) (٢) اسم عاد وبعضهم قرأ (بِعادٍ) (٦) فأضافه إلى (إِرَمَ) (٣) فإمّا أن يكون اسم أبيهم إضافة إليهم ، وإمّا بلدة ؛ والله أعلم. وقال تعالى : (فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) [الآية ١٦]. وقرأ بعضهم (قدّر) (٤) مثل (قتّر) ؛ وأمّا (قدر) فمعناه : يعطيه بالقدر.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نسبت في إعراب ابن خالويه ٧٦ إلى الضّحّاك ، وفي المحتسب ٢ / ٣٥٩ الى ابن الزّبير ، وفي الجامع ٢٠ / ٤٤ ، والبحر ٨ / ٤٦٩ إلى العامّة والجمهور.

(٣). في الشواذ ١٧٣ الى ابن الزّبير ، وكذلك في المحتسب ٢ / ٣٥٩ ، وفي الجامع ٢٠ / ٤٤ إلى الحسن وأبي العالية ، وفي البحر ٨ / ٤٦٩ إلى الحسن وحده.

(٤). نسبت في معاني القرآن ٣ / ٢٦١ إلى أبي جعفر ونافع ، وفي الطبري ٣٠ / ١٨٢ إلى أبي جعفر وأبي عمرو بن العلاء ، وفي الجامع ٢٠ / ٥١ إلى ابن عامر ، وفي البحر ٨ / ٤٧٠ إلى أبي جعفر وعيسى وخالد والحسن بخلاف عنه ، وابن عامر.

٢٤٧
٢٤٨

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «الفجر» (١)

إن قيل : لم نكّرت الليالي العشر دون سائر ما أقسم به الله تعالى ، ولم لم تعرّف بلام العهد وهي ليال معلومة ؛ فإنّها ليالي عشر ذي الحجّة في قول الجمهور؟

قلنا : لأنّها مخصوصة من بين جنس الليالي العشر بفضيلة ليست لغيرها ، فلم يجمع بينها وبين غيرها بلام الجنس ، وإنما لم تعرّف بلام العهد لأنّ التنكير أدلّ على التفخيم والتعظيم ، بدليل قوله تعالى : (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) [الحج / ٣٤] ونظيره قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (١) [البلد] بالتعريف ، ثم قال تعالى : (وَوالِدٍ) بالتنكير ، والمراد به آدم وإبراهيم أو محمد صلى الله عليهم أجمعين ، ولأنّ الأحسن أن تكون اللّامات كلّها متجانسة ، ليكون الكلام أبعد من الإلغاز والتعمية ، وهي في الباقي للجنس.

فإن قيل : لم ذم الله تعالى الإنسان على قوله : (رَبِّي أَكْرَمَنِ) [الآية ١٥] مع أنه صادق فيما قال ، لأن الله تعالى أكرمه بدليل قوله تعالى (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) [الآية ١٥] ثم إنّ هذا تحدّث بالنعمة ، وهو مأمور به؟

قلنا : المراد به أن يقول ذلك مفتخرا على غيره ، متطاولا به عليه ، معتقدا استحقاق ذلك على ربّه ، كما في قوله تعالى : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٤٩

[القصص / ٧٨] ، مستدلا به على علوّ منزلته في الدّار الآخرة ؛ وكل ذلك منهيّ عنه. وأمّا إذا قاله على وجه الشكر والتحدّث بنعمة الله ، فليس بمذموم ولا منهيّ عنه.

فإن قيل : لم قال الله تعالى في الجملة الأولى : (فَأَكْرَمَهُ) [الآية ١٥] ولم يقل في الجملة الثانية «فأهانه»؟

قلنا : لأنّ بسط الرزق إكرامه لأنّه إنعام وإفضال من غير سابقة ، وقبضه ليس بإهانة لأنّ ترك الإنعام لا يكون إهانة بل هو واسطة بين الإكرام والإهانة ، فإنّ المولى قد يكرم عبده وقد يهينه ، وقد لا يكرمه ولا يهينه ؛ وتضييق الرزق ليس إلّا عبارة عن ترك إعطاء القدر الزائد ، ألا ترى أنه يحسن أن تقول : زيد أكرمني إذا أهدى لك هدية ، ولا يحسن أن تقول : أهانني إذا لم يهد لك؟

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الآية ٢٢] والحركة والانتقال على الله محالان لأنهما من خواصّ الكائن في جهة؟

قلنا : قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : وجاء أمر ربك لأنّ في القيامة تظهر جلائل آيات الله تعالى ، ونظيره قوله تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) [النحل / ٣٣] وقيل معناه وجاء ظهور ربّك لضرورة معرفته يوم القيامة ؛ ومعرفة الشيء بالضرورة تقوم مقام ظهوره ورؤيته ؛ فمعناه : زالت الشكوك وارتفعت الشّبه كما ترتفع عند مجيء الشيء الذي كان يشكّ فيه.

٢٥٠

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «الفجر» (١)

في قوله سبحانه : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) استعارة. والمراد بسرى الليل دوران فلكه ، وسيران نجومه حتى يبلغ غايته ، ويسبق في قاصيته ، ويستخلف النهار موضعه.

وفي قوله سبحانه : (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) (١٠) استعارة. والمراد وفرعون ذي الملك المتقرّم (٢) والأمر المتوطّد ، والأسباب المتمهّدة التي استقرّ بها بنيانه ، وتمكّن سلطانه ، كما تثبت البيوت بالأوتاد المضروبة ، والدعائم المنصوبة. وقد مضى نظير ذلك. وقوله سبحانه : (فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) (١٣) هو من مكشوفات الاستعارة. والمراد بها العذاب المؤلم ، والنّكال المرمض. لأنّ السّوط في عرف عادة العرب يكون على الأغلب سببا للعقوبات الواقعة ، والآلام الموجعة.

وقال بعضهم : يجوز أن يكون معنى (سَوْطَ عَذابٍ) أي أوقع عذاب يخالط اللحوم والدماء ، فيسوطها سوطا ، إذا حرّك ما فيها وخلطه. فالسّوط على هذا القول هاهنا مصدر وليس باسم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). المتقرّم : المتأصّل بالسيادة والمجد.

٢٥١
٢٥٢

سورة البلد

٩٠

٢٥٣
٢٥٤

المبحث الأول

أهداف سورة «البلد» (١)

سورة «البلد» آياتها عشرون ، نزلت بعد سورة «ق».

وقد اشتملت على تعظيم البلد الحرام ، والرسول الأمين ، وتكريم آدم وذريته ، وبيان أن الإنسان خلق في معاناة ومشقة ، في حمله وولادته ورسالته في الحياة ، وحسابه في الآخرة.

وجابهت السورة أحد المشركين ، وكشفت سوء أفعاله ، ورسمت الطريق الأمثل للوصول إلى رضوان الله.

مع آيات السورة

[الآية ١] : (لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) (١) : أقسم الله عزوجل بمكّة ، وفيها البيت الحرام والكعبة ، وعندها قبلة المسلمين ، وفيها زمزم والمقام ، والأمن والأمان ، قال تعالى : (جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ) [المائدة / ٩٧]. معنى قياما : قواما ، أي يقوم عندها أمر الدين ، حيث يقدم الحجيج فيطوفون ويسعون ، ويؤدّون المناسك ، ويشاهدون مهبط الوحي ، ويصير الرجل آمنا بدخوله الحرم : (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) [آل عمران / ٩٧].

وقد ذكر القرآن تكريم مكّة في آيات كثيرة ، فقد ولد بها النبي (ص) ، وبدأ بها نزول الوحي ، ومنها انبثق فجر الإسلام ، وإليها يحجّ الناس ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٥٥

لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٧) [الشورى].

[الآية ٢] : (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) (٢) وأنت مقيم بهذا البلد ، يكرم الله تعالى نبيه محمدا (ص) ، الذي جعله خاتم المرسلين ، وأرسله هداية للعالمين ، وجعل مولده بمكّة ؛ وهذا الميلاد يزيد مكّة شرفا وتعظيما : لأن أفضل خلق الله يقيم بها ، ويحل بين شعابها ، ويتنقّل بين أماكنها داعيا الى دين الله ، حاملا وحي السماء ، وهداية الناس.

[الآية ٣] : (وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) (٣) أقسم الله بآدم وذريته لكرامتهم على الله ، قال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) [الإسراء / ٧٠] وقيل : كل والد ومولود ، «والأكثرون على أنّ الوالد إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام ، والولد محمد (ص) ، كأنه أقسم ببلده ثمّ بوالده ثمّ به».

[الآية ٤] : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) (٤) (الكبد) : المشقّة والتّعب ، أي أوجدت الإنسان في تعب ومعاناة في هذه الحياة ، فهو في مشقة متتابعة (من وقت احتباسه في الرحم إلى انفصاله ، ثمّ إلى زمان رضاعه ، ثم إلى بلوغه ، ثمّ ورود طوارق السّرّاء وبوارق الضّرّاء ، وعلائق التكاليف ، وعوائق التمدّن والتعيّش عليه إلى الموت ، ثم إلى البعث ، من المساءلة وظلمة القبر ووحشته ، ثم إلى الاستقرار في الجنة أو النار ، من الحساب والعتاب والحيرة والحسرة) ونظير الآية قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٦) [الانشقاق] وقوله سبحانه : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) [الملك / ٢].

[الآيات ٥ ـ ١٠] : (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠). (لبدا) : أي كثيرا ، (النجدين) : الطريقين ، وهما طريقا الخير والشر.

روي أن هذه الآيات نزلت في بعض صناديد قريش ، الذين كان رسول الله (ص) ، يكابد منهم ما يكابد ، وهو أبو الأشدّ أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان مغترّا بقوّته البدنيّة ، وقيل نزلت في الوليد بن المغيرة. وسواء أكانت هذه الآيات نزلت في أحدهما أم في غيرهما فإنّ معناها عام.

٢٥٦

والمعنى : أيظنّ ذلك الصنديد في قومه ، المفتون بما أنعمنا عليه ، أن لن يقدر أحد على الانتقام منه ، وأن لن يكون هناك حساب وجزاء ، فتراه يجحد القيامة ، ويتصرّف تصرّف القويّ القادر ، فيطغى ويبغي ، ويبطش ويظلم ، ويفسق ويفجر ، دون أن يتحرّج ، وهذه هي صفات الإنسان الذي يتعرّى قلبه من الايمان.

ثمّ إنه إذا دعي للخير والبذل يقول : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) (٦) وأنفقت شيئا كثيرا ، فحسبي ما أنفقت وما بذلت ، أيحسب أنّ عين الله لا تراه ، وتعلم أن ما أعطاه الله له أكثر ممّا أنفقه ، وتعلم أنه إنّما أنفق رياء وسمعة ، وطلبا للمحمدة بين الناس.

ثمّ بيّن الله ، سبحانه ، جلائل نعمه على هذا الإنسان ، وعلى كل إنسان فقال : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) (٨) يبصر بهما المرئيات ، (وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) (٩) ليعبّر عمّا في نفسه ، وليتمكّن من الأكل والشراب ، والنفخ والنطق. (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠) ليختار أيّهما شاء ، ففي طبيعته الاستعداد لسلوك طريق الخير أو طريق الشر ، لأن الله منحه العقل والتفكير ، والارادة والاختيار ، وميّزه على المخلوقات جميعها ، فالكون كله خاضع لله خضوع القهر والغلبة ، والإنسان هو المتميّز بالاختيار والحرية ، ليكون سلوكه متّسما بالمسؤولية.

مفردات الآيات ١١ ـ ٢٠ :

اقتحم الشيء : دخل فيه بشدة.

العقبة : هي الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها.

المسغبة : المجاعة.

مقربة : قرابة.

متربة : يقال ترب الرجل إذا افتقر.

المرحمة : الرحمة.

أصحاب الميمنة : السعداء.

أصحاب المشأمة : الأشقياء.

مؤصدة : مطبقة عليهم ، من أوصدت الباب إذا أغلقته.

[الآيات ١١ ـ ١٣] : (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ) (١٣) بعد أن بيّن السياق جليل نعم الله تعالى على الإنسان ، وبخاصة الأغنياء ، أخذ يحثّ أغنياء مكة على صلة الرحم ، والعطف على المساكين ، والمشاركة في عتق الرقاب ، والتخفيف عن العبيد والإماء.

٢٥٧

وقد بدأت الآيات بالحثّ والتحريض على اقتحام العقبة ، ثمّ استفهم عنها في أسلوب يراد به التفخيم والتهويل ، ثم أجاب بأنها فك رقبة ، وهي عتق العبد أو الإعانة على عتقه ، والمشاركة في نقله من عالم الأرقّاء الى عالم الأحرار.

[الآية ١٤] : (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) (١٤) أو إطعام في أيام عوز ومجاعة.

[الآية ١٥] : (يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) (١٥) : إطعام يتيم في يوم المجاعة.

[الآية ١٦] : (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) (١٦) أو إطعام مسكين عاجز عن الكسب ، لصقت بطنه بالتراب من شدة فقره.

[الآية ١٧] : (ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (١٧) ، أي جمع الى الصفات المتقدّمة الإيمان الصادق ، والصبر الجميل وحثّ الناس عليه والوصية به ، والتواصي بالرحمة والعطف.

ونلحظ أن التواصي بالصبر أمر زائد على الصبر ، ومعناه إشاعة الثبات واليقين والطمأنينة بين المؤمنين. وكذلك التواصي بالمرحمة ، فهو أمر زائد على المرحمة ، ويتمثّل في إشاعة الشعور بواجب التراحم ، في صفوف الجماعة ، من طريق التواصي به ، والتحاض عليه ، واتّخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته ، يتعارف عليه الجميع ، ويتعاون عليه الجميع. فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه ، لأنّ الإسلام دين جماعة ، ومنهج أمة ، مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا.

[الآية ١٨] : (أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) (١٨) أولئك الذين يقتحمون العقبة ، كما وصفها القرآن وحدّدها ، هم أصحاب الميمنة ، وأهل الحظ والسعادة ، وهم أصحاب اليمين الفائزون.

[الآية ١٩] : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا) وجحدوا دلائل قدرتنا ، وأنكروا آيات الله العظام ، من بعث وحساب ، ونشور وجزاء ، وكذّبوا بآيات القرآن (هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) (١٩) هم أصحاب الشمال ، أو هم أصحاب الشؤم والنحس والخسران.

[الآية ٢٠] : (عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) (٢٠) يصلون نارا مطبقة عليهم ، ومغلقة أبوابها لا يستطيعون الفرار منها ،

٢٥٨

وسيخلدون فيها.

هذه هي الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ، وفي التصوّر الإيماني ، تعرض في هذه السورة الصغيرة ، بهذه القوة وبهذا الوضوح ، وهذه هي خاصّيّة التعبير القرآني الفريد.

مقاصد السورة

١ ـ القسم بمكّة وبالنبيّ الكريم بيانا لفضله.

٢ ـ ما ابتلي به الإنسان في الدنيا من النّصب والتعب.

٣ ـ اغترار الإنسان بقوته.

٤ ـ تعداد أنعم الله على الإنسان ، كالعين واللسان والعقل والفكر.

٥ ـ بيان سبيل النجاة الموصلة إلى السعادة.

٦ ـ كفران الآيات سبيل الشقاء.

٢٥٩
٢٦٠