الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الغاشية» (١)

أقول : لما أشار سبحانه في سورة الأعلى بقوله تعالى : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) (١٢) إلى قوله : (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) ، إلى المؤمن والكافر ، والنار والجنة إجمالا ، فصّل ذلك في هذه السّورة ، فبسط صفة النار والجنة مستندة إلى أهل كلّ منهما ، على نمط ما هنالك ، ولذا قال هنا : (عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٣) ، في مقابل : (الْأَشْقَى) (١١) هناك وقال هنا : (تَصْلى ناراً حامِيَةً) (٤) إلى : (لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) (٧) ، في مقابل : (يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) (١٢) هناك. ولما قال هناك في الآخرة : (خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) ؛ وبسط هنا صفة الجنة أكثر مما بسط صفة النار ، تحقيقا لمعنى الخيرية.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

٢٢١
٢٢٢

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «الغاشية» (١)

قال تعالى : (لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) (٦).

والضّريع : نبات أخضر منتن. أقول : وما زال القرويّون في العراق يصفون طعامهم كالتمر والسمك بأنه «مضرّع» أي : منتن فاسد.

__________________

(١) انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، يروت ، غير مؤرّخ.

٢٢٣
٢٢٤

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «الغاشية» (١)

واحد «نمارق» في الآية ١٥ : النمرقة.

وقال تعالى : (لاغِيَةً / ١١) [الآية ١١] أي : لا تسمع كلمة لغو ، وجعلها (لاغية). والحجة في هذا أنّك تقول : «فارس» لصاحب الفرس ، و «دارع» لصاحب الدّرع ، و «شاعر» لصاحب الشّعر. وقال الشاعر (٢) [من مجزوء الكامل وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائتين] :

أغررتني وزعمت أنّك

لابن بالصّيف تامر (٣)

أي : صاحب لبن ، وصاحب تمر.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو الحطيئة. ديوانه ١٦٨ ، والكتاب وتحصيل عين الذهب ٢ / ٩٠ ، وإعراب القرآن ٣ / ١٤٧٩.

(٣). في إعراب القرآن والخصائص ب «غررتني» وفي الكتاب وتحصيل عين الذهب ب «فغررتني».

٢٢٥
٢٢٦

المبحث السادس

لكل سؤال جواب في سورة «الغاشية» (١)

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً) (٤) مع أن جميع أبدانهم أيضا تصلى النار؟

قلنا : الوجه يطلق ويراد به جميع البدن ، كما في قوله تعالى (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) [طه / ١١١] وقيل : إنّ المراد بالوجوه هنا الأعيان والرؤساء ، كما يقال : هؤلاء وجوه القوم ، ويا وجه العرب : أي ويا وجيههم ، ويؤيّد هذا القول ما روي عن ابن عبّاس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إن المراد به الرهبان وأصحاب الصوامع.

فإن قيل : كيف ارتبط قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧) بما قبله ، وأيّ مناسبة بين السماء والإبل والجبال والأرض حتّى جمع بينهما؟

قلنا : لما وصف الله تعالى الجنّة بما وصف ، عجب من ذلك الكفار ، فذكّرهم بعجائب صنعه. وقال قتادة : لمّا ذكر ارتفاع سرر الجنة قالوا : كيف نصعدها؟ فنزلت هذه الآية : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ) [الآية ١٧] اعتبار كيف (خلقت) للنهوض بالأثقال وحملها إلى البلاد البعيدة ، وجعلت تبرك حتّى تحمل وتركب عن قرب ويسر ، ثمّ تنهض بما حملت ، فليس في الدّواب ما يحمل عليه وهو بارك ويطيق النهوض إلا هي ، وسخّرت لكل من قادها حتّى الصبيّ الصغير ، ولمّا

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٢٧

جعلت سفائن البر أعطيت الصبر على احتمال العطش عشرة أيام فصاعدا ، وجعلت ترعى كلّ نبات في البراري والمفاوز ممّا لا يرعاه سائر البهائم ، وإنّما لم يذكر الفيل والزّرافة وغيرهما ممّا هو أعظم من الجمل لأن العرب لم يروا شيئا من ذلك ولا كانوا يعرفونه ، ولأنّ الإبل كانت أنفس أموالهم وأكثرها لا تفارقهم ولا يفارقونها ؛ وإنما جمع بينها وبين ما بعدها لأن نظر العرب قد انتظم هذه الأشياء في أوديتهم وبواديهم ، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم وكثرة ملابستهم ومخالفتهم ؛ ومن فسّر الإبل بالسحاب والماء ، قصد بذلك طلب المناسبة بطريق تشبيه الإبل بالسحاب في السير وفي النّشط أيضا في بعض الأوقات ، لا أنه أراد أن المراد من الإبل السحاب حقيقة ؛ وقد جاء في أشعار العرب تشبيه السحاب بالإبل كثيرا ، وقد شبّهه ابن دريد أيضا بالسحاب في قصيدته. وقرأ أبيّ بن كعب وعائشة رضي الله عنهما الإبل بتشديد اللام. قال أبو عمرو وهو اسم للسحاب الذي يحمل الماء ، والله أعلم.

٢٢٨

المبحث السابع

المعاني المجازية في سورة «الغاشية» (١)

في قوله سبحانه : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) (٣) استعارة.

والمراد بالوجوه هاهنا أرباب الوجوه. ومثل ذلك قوله تعالى : في السورة التي يذكر فيها القيامة : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (٢٢) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٢٣) [القيامة]. والدليل على ما قلنا إضافته سبحانه النظر إليها ، والنّظر إنما يصح من أربابها لا منها : لأنه تعالى قال عقب ذلك : (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ) (٢٥) [القيامة] وكذلك قوله تعالى هاهنا : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ) (٩) ، والرّضا والسّخط إنما يوصف به أصحاب الوجوه. فانكشف الكلام على الغرض المقصود.

وقوله تعالى : (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) (١١) استعارة. وقد مضت لها نظائر كثيرة جدّا فيما تقدّم من كلامنا. أي لا تسمع فيها كلمة ذات لغو. فلمّا كان صاحب تلك الكلمة يسمّى لاغيا بقولها ، سمّيت هي لاغية ، على المبالغة في وصف اللّغو الذي فيها.

وقال بعضهم : معنى ذلك : لا يسمع فيها نفس حالفة على كذب ، ولا ناطقة برفث. لأنّ الجنة لا لغو فيها ولا رفث ، ولا فحش ولا كذب.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٢٢٩
٢٣٠

سورة الفجر

٨٩

٢٣١
٢٣٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الفجر» (١)

سورة «الفجر» سورة مكّيّة ، آياتها ٣٠ آية ، نزلت بعد سورة «الليل». تبدأ السورة بالقسم ، فتقسم بالفجر ، والليالي العشر ، والشفع والوتر ، على أن الإسلام حقّ ، وأنّ البعث والحساب حق. وقد ضربت أمثلة بمن أهلكه الله تعالى من المعاندين كعاد وثمود ، وذكرت تصوّرات الإنسان غير الإيمانيّة ، وسوء فهمه لاختبار الله له بهذه النعم. ثم ردّت على هذه التصوّرات ، ببيان الحقيقة التي تنبع منها هذه التصورات الخاطئة ، وهي الجحود والأثرة وحبّ المال والمتعة.

ثمّ وصفت مشهدا عنيفا مخيفا من مشاهد الآخرة ، ويظهر فيها جلال الله سبحانه ، وتظهر الملائكة للحساب ، وتظهر جهنّم أمام العصاة ؛ وفي الختام نداء نديّ رخيّ للنفس المطمئنة ، بأن تعود الى رضوان الله وجنته.

ومن هذا الاستعراض السريع ، تبدو الألوان المتعدّدة في مشاهد السورة ، كما يبدو تعدّد نظام الفواصل ، وتغيّر حروف القوافي ، بحسب تنوّع المعاني والمشاهد.

[فالآيات ١ ـ ٥] تنتهي بالراء مثل (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ) (٢) والآيات [٦ ـ ١٤] تنتهي بحرف الدال مثل (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) (٦).

[والآيتان ١٥ و ١٦] : تنتهيان بحرف النون ، والآيات الباقية متنوّعة فيها الميم والتاء والهاء.

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢٣٣

والقسم الأول من السورة فيه نداوة الفجر وجماله. وفضل الليالي العشر ، وثواب الشفع والوتر من الصلاة.

والقسم الثاني ينتهي بالدال ، وفيه بيان القوة في الانتقام من الظالمين.

وقد ذكر الفيروزآبادي أن معظم مقصود السورة ما يأتي : «تشريف العيد وعرفة ، وعشر المحرّم ، والإشارة الى هلاك عاد وثمود وأضرابهم ، وتفاوت حال الإنسان في النعمة ، وحرصه على جمع الدنيا والمال الكثير ، وبيان حال الأرض في القيامة ، ومجيء الملائكة ، وتأسّف الإنسان يومئذ على التقصير والعصيان ؛ وأنّ مرجع العبد المؤمن عند الموت إلى الرحمن والرّضوان ونعيم الجنان».

مع آيات السورة

[الآية ١] : أقسم الله سبحانه وتعالى بالفجر ، وهو الوقت الذي يدبر فيه الليل ، ويتنفّس الصباح في يسر وفرح وابتسام ، وإيناس ودود نديّ ، ويستيقظ الوجود رويدا رويدا.

[الآية ٢] : (وَلَيالٍ عَشْرٍ) (٢) قيل هن العشر الأوائل من المحرّم ، وقيل العشر الأواخر من رمضان ، وفيها ليلة القدر ، وقيل هي العشر الأوائل من ذي الحجة وفيها يوم عرفة وعيد الأضحى.

[الآية ٣] : (وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) (٣) أي الزوج والفرد من الأعداد ، والشفع والوتر من الصلاة ، أو أيّام التشريق وفيها رمي الجمار بمنى ، فمن شاء رمى في يومين ومن شاء مكث ثلاثة أيام.

واليومان : شفع ، والثلاثة : وتر ، قال تعالى : (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة / ٢٠٣].

[الآية ٤] : (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) أي يسرى فيه ، كما يقال ليل نائم ، أي ينام فيه. وقيل معنى (وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) (٤) أي ينصرم وينقضي مسافرا بعيدا ، ويسري راحلا ، وأصله يسري فحذفت الياء لدلالة الكسرة عليها في الوصل ، وحذفت الياء ، مع الكسرة في الوقف.

[الآية ٥] : (هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (٥) : أي هل في ما أقسمت به ، من جمال الفجر ، وجلال الأيّام العشر ، وثواب الشفع والوتر ، ولطف الليل إذا يسر ، مقنع لذي لبّ وعقل. وسمّي العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه عن الشر ، ويحجره عمّا لا يليق.

٢٣٤

[الآيات ٦ ـ ٨] : ألم تعلم يا محمّد ، أو ألم تعلم أيّها المخاطب ، كيف فعل ربّك بعاد ، وهم الذين أرسل إليهم هود عليه‌السلام فكذّبوه ، ومن قبيلة عاد «إرم» وكانوا طوال الأجسام ، أقوياء الشكيمة ، يقطنون ما بين عمان وحضرموت واليمن ، وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد ، وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش ، فقد كانت قبيلة عاد أقوى قبيلة في وقتها وأميزها : (الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) (٨) في ذلك الأوان.

[الآية ٩] : (وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) (٩) وكانت ثمود تسكن بالحجر ، في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام ، وقد قطعت الصخر وشيّدته قصورا ، كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات.

[الآية ١٠] : (وَفِرْعَوْنَ) [الآية ١٠] وهو حاكم مصر في عهد موسى عليه‌السلام ، وهو صاحب المباني العظيمة والهياكل الضخمة ، التي تمثّل شكل الأوتاد المقلوبة. وقيل الأوتاد تعني القوّة والملك الثابت ، لأنّ الوتد هو ما تشدّ إليه الخيام لتثبيتها ، واستعمل هنا مجازا إشارة إلى بطشه ، وحكمه الوطيد الأركان.

وقد جمع الله ، سبحانه ، في هذه الآيات القصار ، مصارع أقوى الجبارين ، الذين عرفهم التاريخ.

[الآيات ١١ ـ ١٤] : (الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) (١٢) أي هؤلاء الذين سلف ذكرهم ، من عاد وثمود وفرعون وجنده ، جميعا تجاوزوا الحدّ وكفروا بنعمة الله عليهم ، وأكثروا في البلاد الفساد ، وارتكاب المعاصي ، فكفروا وقتلوا وظلموا ، فأنزل الله عليهم العذاب بشدّة مع توالي ضرباته.

وقد شبه الله تعالى ما يصبّه عليهم من ضروب العذاب بالسّوط ، من قبل أنّ السّوط يضرب به في العقوبات ، وما وقع بهم من ألوان العذاب ، كان عقوبة لأنواع الظلم والفساد. إنّ الله سبحانه وتعالى يرى ويحسب ويحاسب ، ويجازي وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ، وقد سجّل الله عليهم أعمالهم كما يسجّل الراصد الذي يرقب فلا يفوته شيء.

[الآيتان ١٥ و ١٦] : إنّ الإنسان إذا اختبره الله سبحانه وتعالى : فوسّع عليه في الرزق ، وبسط له في النعمة ، ظنّ

٢٣٥

غرورا أنّ الله راض عنه ، وتخيّل أنه لن يحاسبه على ظلمه وأفعاله.

وإذا امتحنه بالفقر فضيّق عليه رزقه وقتره ، فلم يوسع عليه ، فيقول إنّ ربي أذلّني بالفقر ، ولم يشكر الله على ما وهبه له ، من سلامة الجوارح ، وما رزقه من الصّحة والعافية.

قال الإمام محمد عبده : «وأنت ترى أنّ أحوال الناس إلى اليوم لا تزال كما ذكر الله في هذه الآية الكريمة ، فإنّ أرباب السلطة والقوة يظنون أنهم في أمن من عقاب الله ، ولا يعرفون شيئا من شرعه يمنعهم عن عمل ممّا تسوق إليه شهواتهم ، وإنّما يذكرون الله بألسنتهم ، ولا تتأثّر قلوبهم بهذا الذكر. وقريب من هذه المعاني قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (١٩) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (٢٠) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (٢١) إِلَّا الْمُصَلِّينَ) (٢٢) [المعارج].

«تعلم أن المخاطبين بهذه الآيات كانوا يزعمون أنهم على شيء من دين إبراهيم (ع) ، أو أنهم كانوا يدّعون أنّ لهم دينا يأمرهم وينهاهم ، ويقرّبهم إلى الله زلفى ، فإذا سمعوا هذا التهديد وذلك الوعيد ، وسوست لهم نفوسهم بأن هذا الكلام إنّما ينطبق على أناس ممّن سواهم ؛ أمّا هم ، فلم يزالوا من الشاكرين الذاكرين غير الغافلين» ، فالله جلّ جلاله يردّ عليهم زعمهم ويقيم لهم دليلا واضحا على كذب ما تحدّثهم به أنفسهم ، ويقول :

[الآية ١٧] : (كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) (١٧) أي لو كان غنيّكم لم يعمه الطّغيان ، وفقيركم لم يطمس بصيرته الهوان ، لشاطرتم اليتيم إحساسه ، فواسيتموه وعطفتم عليه ، حتّى ينشأ كريم النفس.

[الآية ١٨] : (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) (١٨) وقد كان مجتمع مكّة مجتمع التكالب على جمع المال بكافّة الطرق ، فورثت القلوب القسوة والبخل ، وانصرفت عن رحمة اليتيم ، وعن التعاون على رحمة المسكين.

[الآية ١٩] : (وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) (١٩) والتراث هو الميراث الذي يتركه من يتوفّى ، أي إنّكم تشتدّون في أكل الميراث حتّى تحرموا صاحب الحقّ حقّه.

[الآية ٢٠] : (وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠) وتميلون إلى جمع المال ميلا شديدا ، يصل الى حدّ الشراهة.

٢٣٦

«وخلاصة ذلك : أنتم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، إذ لو كنتم ممّن غلب عليهم حب الآخرة لانصرفتم عمّا يترك الموتى ميراثا لأيتامهم ، ولكنّكم تشاركونهم فيه ، وتأخذون شيئا لا كسب لكم فيه ، ولا مدخل لكم في تحصيله وجمعه ؛ ولو كنتم ممّن استحبّوا الآخرة ، لما ضربت نفوسكم على المال ، تأخذونه من حيث وجدتموه من حلال أو من حرام. فهذه أدلّة ترشد إلى أنّكم لستم على ما ادّعيتم من صلاح وإصلاح ، وأنكم على ملّة إبراهيم خليل الرحمن».

[الآيات ٢١ ـ ٢٤] : (كَلَّا إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) (٢١) ، ودكّ الأرض تحطيم معالمها وتسويتها ، وهو أحد الانقلابات الكونيّة ، التي تقع في يوم القيامة.

يرد الله سبحانه وتعالى عن مقالتهم وفعلهم ، وينذرهم أهوال القيامة ، إذا دكّت الأرض وأصبحت هباء منبثّا ، وزلزلت زلزالا شديدا ، وتجلّت عظمة الله سبحانه ، ونزلت ملائكة كلّ سماء فيصطفّون صفّا بعد صفّ ، بحسب منازلهم ومراتبهم ، وكشفت جهنّم للناظرين ، بعد أن كانت غائبة عنهم ، قال تعالى : (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) (٣٦) [النازعات].

حينئذ تذهب الغفلة ، ويندم الإنسان على ما فرّط في حياته الدنيا ، ويتذكّر معاصيه ، ويتمنّى أن يكون قد عمل صالحا في دنياه ، لينفعه في حياته الآخرة ، التي هي الحياة الحقيقية.

«وترى من خلال هذه الآيات ، مشهدا ترتجف له القلوب وتخشع له الأبصار ، والأرض تدكّ دكّا ، والجبّار المتكبّر يتجلّى ويتولّى الحكم والفصل ، وتقف الملائكة صفّا صفّا ، ثمّ يجاء بجهنّم فتقف متأهّبة هي الأخرى» (١).

وتتبع الحسرة والذكرى الأليمة من فرّط في حقوق الله ، فيتذكّر بعد فوات الأوان ، ويتمنّى أن يكون قد عمل الصالحات.

[الآيتان ٢٥ و ٢٦] : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) (٢٦) الوثاق : الشّدّ بالأغلال.

في هذا اليوم العصيب نرى لونا متفردا من ألوان العذاب ، لقد كان

__________________

(١). في ظلال القرآن للأستاذ سيّد قطب ، ٣٠ / ١٥٧ ، بتصرّف.

٢٣٧

الجبّارون يملكون أن يعذّبوا من خالفهم في الدنيا ، لكن العذاب اليوم في الآخرة لا يملكه إلا الله ، وهو سبحانه القهّار الجبّار. الذي يعذّب يومئذ عذابه الفذّ الذي لا يملك مثله أحد ، والذي يوثق وثاقه الفذّ ، ويشدّ المجرمين بالأغلال شدا لا يملك مثله أحد.

وعذاب الله ووثاقه يفصّلهما القرآن في مواضع أخرى ، وفي مشاهد كثيرة ، ولكنّه يجملهما هنا ، حيث يصفهما بالتفرّد بلا شبيه من عذاب الخلق جميعا ووثاقهم ، وكأنّ الآية تشير إلى ظلم عاد وثمود وفرعون ذي الأوتاد ، وتنبّه إلى أنّ عذاب الطغاة ووثاقهم للنّاس مهما اشتدّ في الدنيا ، فسوف يعذّب الطغاة ويوثّقون ، عذابا ووثاقا وراء التصوّرات والظنون.

وفي وسط هذا الهول المروّع ، وهذا العذاب ، والوثاق الذي يتجاوز كل تصوّر ، تنادى النفس المؤمنة من الملأ الأعلى :

[الآيات ٢٧ ـ ٣٠] : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠) ، ينادي الله ، عزوجل ، النفس الثابتة على الحق ، أن تعود الى جوار الله ، راضية عن سعيها ، مرضيّا عنها ، فتدخل مع العباد الصالحين ، ومع الرفقة المؤمنين ، حيث يدخلون جميعا جنة الله ، في تكريم ورضوان.

وفي هذا النداء الرّضيّ ما يمسح آلام هذه النفس ، وما يشعرها بالغبطة مع عباد الله ، وجنة الله ورضوانه ، فنعم الجزاء ، ونعم الثواب ، وحسنت مرتفقا.

خلاصة أهداف السورة

تشتمل سورة الفجر على الأهداف والمقاصد الآتية :

١ ـ القسم على أنّ عذاب الكافرين واقع لا محالة.

٢ ـ ضرب المثل بالأمم البائدة كعاد وثمود.

٣ ـ كثرة النّعم على إنسان ليست دليلا على إكرام الله له ، ولا البلاء دليلا على إهانته وخذلانه.

٤ ـ وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال.

٥ ـ تمنّي الأشقياء العودة إلى الدنيا.

٦ ـ كرامة النفوس الراضية المرضيّة ، وما تلقاه من النعيم بجوار ربّه.

٢٣٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الفجر» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الفجر بعد سورة الليل ، ونزلت سورة الليل بعد سورة الأعلى ، ونزلت سورة الأعلى فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة ، فيكون نزول سورة الفجر في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ) (٢) وتبلغ آياتها ثلاثين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إثبات عذاب الكافرين ، وقد جاء أكثرها في إنذارهم وتهديدهم ، إلى أن ختمت بشيء من الترغيب لتجمعهما معا ، وبهذا يشبه سياقها سياق سورة الغاشية ، ويكون ذكرها بعدها مناسبا لها.

إثبات العذاب

الآيات [١ ـ ٣٠]

أقسم تعالى بالفجر وما ذكر بعده على أنهم سيعذبون ، وانتقل من إثباته بالقسم إلى إثباته بما حصل لأسلافهم من عاد وثمود وفرعون ؛ ثمّ ذكر سبحانه أنه لهم بالمرصاد ، فلا يريد منهم إلّا السعي للمصلحة العامّة في الدّنيا والآخرة ؛ وأمّا هم ، فلا يريد الواحد منهم إلّا مصلحته الخاصّة ، فإذا أكرمه ونعّمه رضي ، وإذا أقتر عليه سخط ، ثمّ يبلغ في الحرص إلى حدّ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٣٩

أنّه لا يكرم اليتيم ، ولا يحضّ على طعام المسكين ، ويجمع المال من حيث يتهيّأ له من حلال أو حرام ؛ وسيعرف عاقبة ذلك إذا جاء يوم القيامة ، فيومئذ يندم على ما فعل ، ويرى عذابا لا يعذّبه أحد ، ووثاقا لا يوثقه أحد ؛ أمّا النفس المطمئنة ، فيقال لها : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠).

٢٤٠