الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

وهديه يعبّران عن اختيار اليسر ، وقلة التكلف في اللباس والطعام والفراش وكل أمور الحياة ، فكان (ص) يلبس لكل موطن ما يناسبه ، فلبس العمامة والقلنسوة في السلم ، ولبس المغفر وغطى رأسه ووجهه بحلقات الحديد في الحرب. جاء في «زاد المعاد» لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزيه عن هديه (ص) في ملابسه : «والصواب أنّ أفضل الطرق طريق رسول الله (ص) ، التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها ، وهي أنّ هديه في اللباس أن يلبس ما تيسّر من اللباس من الصوف تارة ، والقطن تارة ، والكتّان تارة ، ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر ، ولبس الجبة والقباء ، والقميص والسراويل ، والإزار والرداء ، والخف والنعل ، وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة ... إلخ».

وقال عن هديه (ص) في نومه وانتباهه : «كان ينام على فراشه تارة ، وعلى النطع (١) تارة ، وعلى الحصير تارة ، وعلى الأرض تارة ، وعلى السرير تارة بين رماله ، وتارة على كساء أسود».

وقال في هديه في الطعام : «وكذلك كان هديه (ص) وسيرته في الطعام ، لا يردّ موجودا ، ولا يتكلّف مفقودا ، فما قرّب إليه شيء من الطيّبات إلّا أكله ، وما عاب طعاما قط : إن اشتهاه أكله ، وإلّا تركه.

فقد أكل الحلوى والعسل ـ وكان يحبّهما ـ وأكل الرّطب والتمر ، وأكل الثريد بالسمن وأكل الجبن ، وأكل الخبز بالزيت ، وأكل البطيخ بالرطب ، وأكل التمر بالزبد ـ وكان يحبه ـ ، ولم يكن يردّ طيّبا ولا يتكلّفه ، بل كان هديه أكل ما تيسّر ، فإن أعوزه صبر ... إلخ».

والأحاديث النبوية التي تحضّ على اليسر والسماحة ، والرفق في تناول الأمور كثيرة جدا يصعب تقصيها ، منها قوله (ص) : «إنّ هذا الدين يسر ، ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه» ، أخرجه البخاري. «لا تشدّدوا على أنفسكم فيشدّد عليكم فإن قوما شدّدوا على أنفسهم فشدّد عليهم» أخرجه أبو داود.

__________________

(١) النطع : البساط.

٢٠١

«إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإنّ المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» أخرجه البخاري. وفي التعامل يقول (ص) : «رحم الله رجلا سمحا إذا باع ، وإذا اشترى وإذا اقتضى» أخرجه البخاري. «المؤمن يألف ويؤلف» ، أخرجه الدارقطني. «إن أبغض الرجال الى الله الألدّ الخصم» ، أخرجه الشيخان.

وسيرة الرسول (ص) كلّها صفحات من السماحة واليسر ، والهوادة واللين ، والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعا.

«اختلف معه أعرابيّ ، فأخذ النبيّ الأعرابيّ إلى بيته وزاده في العطاء حتّى رضي ، وأعلن عن رضاه أمام الصحابة أجمعين».

ولقد كان النبيّ كريم النفس ، ميسّرا لحمل الرسالة في أمانة ويسر ، ومودّة ورحمة ، وعطف على الناس وحكمة ، قال تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١٠٧) [الأنبياء] ؛ وقال سبحانه : (لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١٢٨) [التوبة].

وكان عليه الصلاة والسلام رحمة مهداة ، فقد حارب لصدّ العدوان ، وتبليغ الدعوة ، ومنع الاضطهاد والفتنة عن الضعفاء والمستضعفين ؛ ومع ذلك كان آية في الإنسانية ، فكان ينهى عن قتل النساء والأطفال ، وينهى عن الغدر والخيانة ، ويحثّ على الوفاء بالعهد في السلم والحرب ، ولا عجب فقد جمع المكارم والمحامد ، وصدق الله العظيم إذ قال : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤) [القلم].

[الآية ٩] : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (٩) لقد يسّره الله لليسرى ، لينهض بالأمانة الكبرى ، ليذكّر الناس فلهذا أعدّ ، ولهذا بشّر ، فذكّر حيثما وجدت فرصة للتذكير ، ومنفذا للقلوب ووسيلة للبلاغ.

قال النيسابوري في تفسير الآية : إن تذكير العالم واجب في أوّل الأمر ، وأمّا التكرير فالضابط فيه هو العرف ، فلعلّه إنّما يجب عند رجاء حصول المقصود ، فلهذا أردف بالشرط حيث قال تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (٩).

وقال الإمام محمد عبده : «وليس الشرط قيدا في الأمر فقد أجمع أهل الدين ـ سلفهم وخلفهم ـ على أنّ

٢٠٢

الأمر بالتذكير عامّ ، نفعت الذكرى أم لم تنفع ، وعمله (ص) شاهد على ذلك».

[الآية ١٠] : (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) (١٠) ، ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى فيخشى غضب الله وعذابه ، فإذا ذكّر ذكر ، وإذا بصّر أبصر ، وإذا وعظ اعتبر.

[الآيتان ١١ و ١٢] : (وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) (١٢) أي ويبتعد عن هذه التذكرة ، المعاند المصرّ على الجحود عنادا واستكبارا ، حتى مات قلبه وشقيت روحه ، فسيلقى النار الكبرى ، وهي نار جهنم ، وهي كبرى إذا قيست بنار الدنيا ، أي هي كبرى لشدّتها ومدّتها وضخامتها ، حيث يمتد بقاؤه فيها ، فلا هو ميت يجد طعم الراحة ، ولا هو حي فيحيا حياة السعادة. تقول العرب : لمن ابتلي بمرض أقعده : لا هو حيّ فيرجى ، ولا ميت فينعى.

[الآيتان ١٤ و ١٥] : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (١٥) ، قد أدرك الفلاح من تطهّر من كلّ رجس ودنس ، وأيقن بالحقّ وسعد بالإيمان ، فهو في فلاح وسعادة بذكره اسم الله ، وبصلاته وخشوعه لله ، واعتماده عليه ؛ فهو في فلاح في الدنيا لأنّه عاش موصولا بالله ، مؤدّيا للصلاة ، مراقبا مولاه ، وهو في فلاح في الآخرة ، بنجاته من النار الكبرى ، وفوزه بالنعيم والرضا.

[الآيتان ١٦ و ١٧] : (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١٧) ، بل أنتم ، لقصر أنظاركم ، تؤثرون الفانية على الباقية. والحال أنّ الآخرة أفضل من الدنيا في نوعها ، وأبقى في أمدها ، ولو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من خزف يبقى ، لوجب إيثار ما يبقى على ما يفنى ؛ فكيف الحال والدنيا من خزف يفنى ، والآخرة من ذهب يبقى.

[الآيتان ١٨ و ١٩] : (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩) ، أصول هذه الشريعة العادلة ، وقواعد المؤاخذة والحساب ، وما ورد في هذه السورة من أصول العقيدة الكبرى ، هو الذي في الصحف الأولى ، صحف إبراهيم وموسى ، فدين الله واحد ، وإنّما تتعدّد صوره ومظاهره.

ومجمل ذلك أنّ الرسول (ص) ما

٢٠٣

جاء إلّا مذكّرا بما نسيته الأجيال من شرائع المرسلين ، وداعيا إلى وجهها الصحيح ، الذي أفسده كرّ الغداة ومرّ العشيّ ، كما طمس معالمه اتّباع الأهواء ، واقتفاء سنن الآباء والأجداد.

مقاصد سورة الأعلى

١ ـ تسبيح الله وتنزيهه وبيان قدرته.

٢ ـ وعد الرسول بحفظ القرآن وعدم نسيانه.

٣ ـ وعده بالتوفيق الى الطريقة السهلة الميسرة في الدعوة.

٤ ـ تكليفه أن يذكر الناس.

٥ ـ الناس صنفان امام الدعوة :

(أ) مستجيب ناج.

(ب) ومعرض هالك.

٦ ـ قواعد العدل وأصول الشريعة متشابهة في القرآن وفي الكتب السماوية السابقة.

٢٠٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الأعلى» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الأعلى بعد سورة التكوير ، وكان نزول سورة التكوير فيما بين ابتداء الوحي والهجرة إلى الحبشة ، فيكون نزول سورة الأعلى في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) وتبلغ آياتها تسع عشرة آية.

الغرض منها وترتيبها

نزلت هذه السورة في أوائل ما نزل من السّور بمكة ، والغرض منها بيان منهاج الدعوة ، ليرغّب الناس في الإيمان بها ويحذّرهم من مخالفتها ، فسلكت بهذا مسلك الإنذار والترغيب والترهيب كما سلكته السورة السابقة ، وهذا هو وجه المناسبة في ذكرها بعدها.

منهاج الدعوة

الآيات [١ ـ ١٩]

قال الله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) فأجمل منهاج الدعوة في ثلاثة أمور : تنزيهه عمّا لا يليق به من الشرك ونحوه ، وإنزال القرآن ليكون أصلا لتلك الدعوة ، والهداية للشريعة اليسرى الصالحة للناس جميعا. ثمّ أمر النبي (ص) أن يعظ بهذا من تنفعه العظة ، وذكر أنّه سيتّعظ بها من يخشاه ، ويتجنّبها الأشقى الذي يصلى

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٠٥

النار الكبرى ، ثمّ ذكر أن من يعرض عنها يؤثر الحياة الدنيا عليها مع أن الآخرة خير وأبقى ، وأن ما ذكره من هذا موجود في الصحف الأولى : (صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) (١٩).

٢٠٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الأعلى» (١)

أقول : في سورة الطارق ذكر خلق النبات والإنسان في قوله تعالى : (وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (١٢) ، وقوله : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ) (٥) إلى (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) (٨). وذكره في هذه السورة في قوله سبحانه : (خَلَقَ فَسَوَّى) (٢).

وقوله في النبات : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥).

وقصة النبات في هذه السورة أبسط ، كما أنّ قصة الإنسان هناك أبسط. نعم ، ما في هذه السورة أعمّ ، من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

٢٠٧
٢٠٨

المبحث الرابع

لكل سؤال جواب في سورة «الأعلى» (١)

إن قيل : لم قال الله تعالى : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) (٩) مع أنه كان (ص) مأمورا بالذكرى ، نفعت أو لم تنفع؟

قلنا : معناه إذ نفعت. وقيل : معناه قد نفعت. وقيل : إن نفعت وإن لم تنفع ، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه. وذكر الماوردي أنّها بمعنى «ما» ، وكأنه أراد معنى ما الظرفية ؛ و «إن» بمعنى «ما» الظرفية ليس بمعروف. وإن قيل : لم قال الله تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) (١٣). مع أن الحيوان لا يخلو عن الاتصاف بأحد هذين الوصفين؟

قلنا : معناه لا يموت موتا يستريح به ، ولا يحيا حياة ينتفع بها. وقال ابن جرير رحمة الله تعالى عليه : تصعد نفسه إلى حلقومه ثم لا تفارقه فيموت ، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٠٩
٢١٠

سورة الغاشية

٨٨

٢١١
٢١٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الغاشية» (١)

سورة «الغاشية» سورة مكّيّة ، وآياتها ٢٦ آية نزلت بعد سورة الذاريات ، وهي سورة قصيرة الآيات ، متناسقة الفواصل ، تطوف بالقلب البشري أمام الآخرة وأحوالها ، فأصحاب الجحيم يلقون أشدّ ألوان الألم والعذاب ، وأهل الجنة يتمتّعون بألوان النعيم ، وصنوف التكريم ، ثم تعرض أمام الناظرين مشاهد الكون ، وآيات الله المبثوثة في خلائقه ، المعروضة للجميع.

ثم تذكّر الناس بحساب الآخرة ، وسيطرة الله ، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف ، ذلك كله بأسلوب عميق الإيقاع ، هادئ ، ولكنه نافذ ؛ رصين ، ولكنه رهيب.

مع آيات السورة

[الآية ١] : الغاشية هي الداهية التي تغشى الناس بشدائدها ، وتغمرهم بأهوالها ، والمراد منها هنا يوم القيامة ، وقد سبق في هذا الجزء وصف القيامة بالطّامة والصّاخّة ، وسيأتي وصفها بالقارعة ، بما يناسب طبيعة التذكير والتهديد للمعاندين. والاستفهام هنا لتعظيم الأمر وتقريره ، أي هل سمعت قصة يوم القيامة وما يقع فيه؟

وعن عمر بن ميمون ، قال : مر النبي (ص) على امرأة تقرأ : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (١) فقام يستمع ويقول : «نعم قد جاءني».

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢١٣

والخطاب مع ذلك عام لكل من يسمع القرآن.

[الآيات ٢ ـ ٧] : إن وجوه الكفّار في هذا اليوم تكون ذليلة ، لما يظهر عليها من الحزن والكآبة ، وسوف يلقون تعبا وإرهاقا في النار ، بسبب أعمالهم السيّئة ، وسيدخلون النار المتأجّجة التي تلتهمهم ، وإذا عطشوا من شدة حرّها ، وطلبوا ما يطفئ ظمأهم ، سقوا (مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) : أي من ينبوع شديد الحرارة ، (وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً) (٢٩) [الكهف]. وليس لهم طعام في النار إلّا من ضريع ، والضريع : شجر ذو شوك لائط بالأرض ، فإذا كان رطبا سمّي بالشّبرق ، وإذا جني صار اسمه الضريع. ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سامّ ، والأكل منه لون من ألوان العذاب الشديد ، يضاف الى ذلك الغسلين والغسّاق ، وباقي الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

[الآيات ٨ ـ ١١] : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) (١١).

هنا وجوه يبدو عليها النعيم ، ويفيض منها الرضى ، وجوه تنعم بما تجد ، وتشعر بالرضى عن عملها ، حينما ترى رضى الله عنها ، وهذا النعيم في جنة عالية المقام ، مرتفعة على غيرها من الأماكن ، لأنّ الجنّة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض ، كما أن النّار دركات بعضها أسفل من بعض.

لا يسمع أهل الجنة لغوا ولا باطلا ، وإنّما يعيشون في جو من السكون والهدوء ، والسلام والاطمئنان ، والودّ والرضى ، والنجاء والسمر بين الأحبّاء ، والتنزّه والارتفاع عن كل كلمة لاغية ، لا خير فيها ولا عافية ، وهذه وحدها نعيم وسعادة ؛ وتوحي الجملة بأن المؤمنين في الأرض حينما ينأوون عن اللغو والباطل ، إنّما ينعمون بطرف من حياة الجنة ، ويتشبّهون بأهلها.

[الآية ١٢] : (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) (١٢) ، والعين الجارية : الينبوع المتدفّق ، والمياه الجارية متعة للنفس وللنظر ، وقد افتخر بمثلها فرعون فقال : (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ) (٥١) [الزخرف].

[الآية ١٣] : (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) (١٣) وفيها سرر عالية المكان والمقدار ،

٢١٤

ليرى المؤمن وهو عليها ما خوّله الله من النعم.

[الآية ١٤] : (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) (١٤) مصفوفة مهيّأة للشرب ، لا تحتاج الى طلب ولا إعداد.

[الآية ١٥] : (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) (١٥). والنمارق الوسائد والحشايا ، قد صفّت بعضها الى بعض ، للاتّكاء في ارتياح.

[الآية ١٦] : (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) (١٦) و (الزرابيّ) البسط (أي السّجاجيد) (مبثوثة) أي مبسوطة أو مفرقة هنا وهناك ، كما تراه في بيوت أهل النعمة. ذلك كلّه لتصوير النعمة والرفاهية واللذة ، وتقريبها لتصوّر الناس في الدنيا ، وإلّا فنعيم تلك الدار نعيم لا يشبهه في هذه الدار نعيم ، فمتاع الدنيا قليل ، ومتاع الآخرة لا شبيه له ولا مثيل ، (وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ) (٧١) [الزخرف].

فيها النعيم والرضى ؛ فيها السرور بالنجاة ، والأنس برضوان الله ؛ فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

[الآية ١٧] : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) (١٧).

يلفت القرآن الأنظار الى دلائل قدرة الله سبحانه ، وبديع صنعته ، فلينظر الإنسان إلى الجمال كيف خلقت؟ وليتدبّر كيف وجدت على هذا النحو المناسب لوظيفتها ، المحقّق لغاية خلقها ، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا. إنّ الناس لم يخلقوها ، وهي لم تخلق نفسها ، فلا يبقى إلّا أن تكون من إبداع المتفرّد بصنعته ، التي تدل عليه وتقطع بوجوده ، كما تشي بتدبيره وتقديره.

[الآية ١٨] : (وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) (١٨) أفلا ينظرون إليها كيف رفعت؟ من ذا رفعها بلا عمد ، ونثر فيها النجوم بلا عدد ، وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال؟

[الآية ١٩] : (وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) (١٩) والجبل ملجأ وملاذ ، وأنيس وصاحب ، ومشهد يوحي إلى النفس الإنسانية جلالا واستهوالا ، حيث يتضاءل الإنسان إلى جواره ويستكين ، ويخشع للجلال السّامق الرّزين ، «ونصب الجبال إقامتها علما للسّائر ، وملجأ من الجائر ، وهي في

٢١٥

الأغلب نزهة للناظر» ، وأمان وحفظ لتوازن الأرض ، قال تعالى : (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) [الأنبياء / ٣١] وقال سبحانه : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧) [النبأ] أي وسيلة لحفظ نظام الأرض من الزلازل والبراكين وغيرها.

[الآية ٢٠] : (وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) (٢٠) والأرض مسطوحة أمام النظر ، ممهّدة للحياة والسير والعمل ، والناس لم يسطحوها كذلك ، فقد سطحت قبل أن يكونوا هم ، أفلا ينظرون إليها؟ ويتدبّرون ما وراءها ، ويسألون من سطحها ومهّدها هكذا للحياة تمهيدا؟

«وقد أيقظ القرآن الحس ، ولفت النظر ، إلى مشهد كلّي يضم منظر السماء المرفوعة ، والأرض المبسوطة ، وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال منصوبة السّنان ، لا رأسية ولا ملقاة ، وتبرز الجمال منصوبة السّنام : خطّان أفقيان ، وخطان رأسيّان ، في المشهد الهائل ، في المساحة الشاسعة ، وهي لوحة متناسقة الأبعاد والاتّجاهات ، على طريقة القرآن في عرض المشاهد ، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال».

والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة ، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة ، يخاطب القرآن النبيّ الكريم ، بقول الله تعالى :

[الآيات ٢١ ـ ٢٤] : (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) (٢٤).

فعظهم يا محمّد بآيات القرآن ، وذكّرهم بالدعوة إلى الإله الواحد القهّار ؛ فالإنسان بفطرته ميسّر للإذعان بقدرة الله جلّ جلاله وبديع صنعته ؛ وإنّما قد تتحكّم الغفلات ، فتحتاج النفوس إلى مذكّر يردّها إلى الحقّ والصواب.

(إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) (٢١) أي إنما بعثت للتذكير فحسب ، وليس عليك هداهم ؛ إن عليك إلا البلاغ ، وتبليغ الدعوة وترك الناس أحرارا في اعتقادهم ، فلا إكراه في الدين ، (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢٢) والمسيطر : المتسلّط ، فأنت لا تجبرهم على الايمان. قال تعالى : (وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ) (٤٥) [ق].

فمن تولّى عن الحق ، وكفر بآيات

٢١٦

الله ، وأنكر الدعوة ، فإنّ حسابه ، إلى الله المطّلع على القلوب ، وصاحب السلطان على السرائر ، وسوف يعذّبه الله العذاب الأكبر في الآخرة ، وقد يضمّ إلى عذاب الآخرة عذاب الدنيا.

[الآيتان ٢٥ و ٢٦] : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦) ؛ وتختم السورة بهذا الإيقاع المناسب ، لتؤكّد دور الرسول في البلاغ. أمّا الجزاء والحساب فسيكون في يوم الدين ، يوم يقوم النّاس لربّ العالمين ، إن إلينا إيابهم ورجوعهم ، ثمّ إنّ علينا وحدنا حسابهم وجزاءهم ، (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٩٩) [آل عمران]. قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ) (٤٧) [الأنبياء].

مقاصد السورة

١ ـ وصف أهل النار وأهل الجنة.

٢ ـ وصف مشاهد الكون وبدائع الصنعة الإلهية.

٣ ـ تحديد مهمّة الرسول (ص) بالبلاغ والدعوة إلى الهداية.

٢١٧
٢١٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الغاشية» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الغاشية بعد سورة الذاريات ، ونزلت سورة الذاريات بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة الغاشية في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أولها : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (١) ، وتبلغ آياتها ستا وعشرين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة تفصيل الثواب والعقاب في يوم القيامة ، وهذا هو سياق الإنذار والترهيب والترغيب ، وبهذا تشبه هذه السورة سورة الأعلى في سياقها ، وتكون هناك مناسبة في ذكرها بعدها.

تفصيل الثواب والعقاب

الآيات [١ ـ ٢٦]

قال الله تعالى : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) (٢) فسأل سؤال تهويل عما يكون في يوم القيامة ، وأجاب عنه بأنه يكون فيها وجوه خاشعة عاملة ناصبة ، تصلى نارا حامية إلخ إلخ ؛ ووجوه ناعمة ، لسعيها راضية ، في جنة عالية إلخ ؛ ثمّ أمرهم سبحانه أن ينظروا كيف خلق الإبل ورفع السماء ، إلى غير هذا مما ذكره ليستدل به على قدرته على بعثهم ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢١٩

ليلقوا ما ذكره من عقابهم وثوابهم ؛ ثمّ أمر النبي (ص) أن يقتصر على تذكيرهم بهذا ، ولا يهمّه أن يؤمنوا أو يكفروا لأنه ليس بمسيطر عليهم ، ولكن من كفر منهم فيعذّبهم العذاب الأكبر : (إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) (٢٦).

٢٢٠