الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

سورة الطّارق

٨٦

١٨١
١٨٢

المبحث الأول

أهداف سورة «الطارق» (١)

سورة الطارق سورة مكية ، آياتها ١٧ آية ، نزلت بعد سورة البلد.

وهي سورة تشترك في خصائص سور هذا الجزء ، التي تمثل طرقات متوالية على الحس ، طرقات عنيفة قويّة عالية ، وصيحات بقوم غارقين في النوم ، تتوالى على حسّهم تلك الطرقات تناديهم : تيقظوا ، تنبّهوا ، انظروا ، تفكّروا ، تدبّروا : إن هناك إلها وحسابا وجزاء ، وعذابا شديدا ، ونعيما كبيرا.

وبين المشاهد الكونية ، والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق ، دقيق ملحوظ ، يتّضح من استعراض السورة في سياقها القرآني الجميل.

مع آيات السورة

[الآيات ١ ـ ٤] : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤) : أي السماء ونجومها الثاقبة للظلام ، النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء.

وقد كثر في القرآن الحلف بالسماء وبالشمس وبالقمر وبالليل ، لأنّ في أحوالها وأشكالها ومسيرها ومطالعها ومغاربها ، سمات القدرة وآيات الإبداع والحكمة.

و (الطَّارِقِ) : الذي يطرق ليلا ، و (النَّجْمُ الثَّاقِبُ) (٣) هو النجم المضيء الذي يثقب الظلام ، ويهتدى به في ظلمات البر والبحر ، وهو الثريّا عند

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٨٣

جمهرة العلماء ، أو جنس الشهب التي يرجم بها الشياطين ؛ ويرى الحسن أنّ المراد كلّ كوكب ، لأنّ له ضوءا ثاقبا لا محالة.

يقسم بالسماء ونجمها الثاقب ، أنّ كلّ نفس عليها من أمر الله رقيب (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤) وفي هذا التعبير بهذه الصيغة معنى التوكيد ، ما من نفس إلّا عليها حافظ يراقبها ويحصي عليها ، ويحفظ عنها ، وهو موكل بها بأمر الله. وقد خصّ النفس هنا لأنها مستودع الأسرار والأفكار ، وهي التي يناط بها العمل والجزاء.

[الآيات ٥ ـ ٧] : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٧).

فلينظر الإنسان من أيّ شيء خلق ، والى أيّ شيء صار ، إنّه (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٧) خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل ، وهو عظام ظهره الفقارية ، ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلويّة. ولقد كان هذا سرّا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر ، حتّى كان القرن العشرون ، حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته ، وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكوّن ماء الرجل ، وفي عظام الصدر العلويّة يتكوّن ماء المرأة ، حيث يلتقيان في قرار مكين ، فينشأ منهما الإنسان.

«وقد ثبت في علم الأجنّة أنّ البويضة ذات الخليّة الواحدة تصير علقة ذات خلايا عدّة ، ثمّ تصير العلقة مضغة ذات خلايا أكثر عددا ، ثمّ تصير المضغة جنينا صغيرا وزّعت خلاياه الى طبقات ثلاث ، يخرج من كل طبقة منها مجموعة من الأنسجة المتشابهة في أوّل الأمر ، فإذا تمّ نموّها كوّنت جسم الإنسان.

«وما وراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق ، حشود لا تحصى من العجائب والغرائب ، في خصائص الأجهزة والأعضاء ، تشهد كلها بالتقدير والتدبير ، وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة ، وتؤكّد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها سبحانه وتعالى بالسماء والطارق ، كما تمهّد للحقيقة التالية ، حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدّقها المشركون ، المخاطبون أوّل مرة بهذه السورة».

١٨٤

[الآيات ٨ ـ ١٠] : (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) (٨) : إنّ الذي قدر على خلق الإنسان وأنشأه ورعاه ، لقادر على رجعه إلى الحياة بعد الموت ، وإلى التجدّد بعد البلى ؛ فالنشأة الأولى تشهد بقدرته وحكمته ، هذه النشأة البالغة الدقة والحكمة ، تذهب كلّها عبثا إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر ، وتجزى جزاءها العادل.

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) (٩) تبلى : أي تختبر وتمتحن ، والمراد تظهر. و (السَّرائِرُ) (٩) ما يسرّ في القلوب من العقائد والنّيّات ، وما خفي من الأعمال ، واحدها سريرة.

وقال الأحوص :

سيبقى لها في مضمر القلب والحشا سريرة ودّ يوم تبلى السرائر إنّ الله سبحانه قادر على إعادة الإنسان للحياة يوم تتكشّف السرائر ، وتظهر الخفايا ، ويتجرّد الإنسان من كل قوة ومن كل عون.

(فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) (١٠) فلا يكون للإنسان قوّة ذاتيّة أو منعة من نفسه يمتنع بها ، وما له من ناصر خارج ذاته ينصره ويحميه ممّا حتّم أن يقع عليه.

والخلاصة : أنّ القوة التي بها يدافع الإنسان عن نفسه ، إمّا من ذاته ، وقد نفاها بقوله تعالى : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ) [الآية ١٠] ، وإمّا من غيره وقد نفاها بقوله : (وَلا ناصِرٍ) (١٠). وبذلك يحشر الإنسان منفردا ، مكشوف السرائر ، متجرّدا من القوة والنصير.

[الآيات ١١ ـ ١٤] : يقسم الله سبحانه وتعالى بالسماء ذات المطر الذي ينزل منها ، وقد كان أصله ماء الأرض فتبخّر وصعد إلى السماء ، ثم رجع منها مطرا إلى الأرض ، ليحييها بعد موتها ؛ ويقسم بالأرض التي تتشقّق عن النبات والعيون ، يقسم بذلك على أنّ القرآن تنزيل من رب العالمين ، وهو القول الفاصل بين الحق والباطل ، وليس بالهزل ولا باللهو واللعب.

أخرج التّرمذي والدارمي عن عليّ كرم الله وجهه قال : سمعت رسول الله (ص) يقول : «إنّها ستكون فتن. قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال كتاب الله ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من

١٨٥

جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الرّدّ ، ولا تنقضي عجائبه ، هو الذي قال فيه الجن لمّا سمعوه : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ) [الجن]. من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن اعتصم به هدي الى صراط مستقيم».

[الآيات ١٥ ـ ١٧] : (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧). إنهم هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق ، يمكرون مكرا شديدا ، ويتآمرون على إطفاء نور القرآن ، والله سبحانه يقابل كيدهم وتآمرهم بما يحبطه ويبطله ، وشتّان ما بين عمل الإنسان وعمل الواحد الدّيّان ؛ فالمعركة ذات طرف واحد ، وإن صوّرت ذات طرفين لمجرّد المشاكلة ، انهم يكيدون ... وانا الله أكيد كيدا. أنا المنشئ المبدئ الهادي الحافظ الموجّه المعيد المبتلي القادر القاهر ، خالق السماء ذات الرجع ، والأرض ذات الصدع ، أنا الله أكيد كيدا ، وفي هذا تهديد ووعيد للكافرين ، وبشارة للمؤمنين بأن الله معهم يدبّر أمرهم ؛ وإذا كان الله معنا فمن علينا؟

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧) لا تستعجل نزول العذاب بهم ، ولا تستبطئ نهايتهم ، بل أمهلهم قليلا ، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال.

وفي الآيات إيناس للنبيّ (ص) وللمؤمنين ، وبعث للطمأنينة في قلوبهم ، وتأكيد لهم بأنّ عناية الله ترعاهم ، وأنّ كيد الكافرين ضعيف ، وأنّ العاقبة للمتقين : قال تعالى : (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ) (٢٤) [لقمان].

مقاصد السورة

١ ـ إثبات حفظ الله للإنسان ورعايته له.

٢ ـ إقامة الأدلّة على أنّ الله قادر على بعث الخلق كرّة أخرى.

٣ ـ أن القرآن منزل من عند الله سبحانه ، وأن محمدا (ص) رسول الله.

٤ ـ تهديد الكافرين بالعذاب والنّكال.

١٨٦

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الطارق» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الطارق بعد سورة البلد ، ونزلت سورة البلد بعد سورة ق ، وكان نزول سورة ق فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، فيكون نزول سورة الطارق في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ) (١) وتبلغ آياتها سبع عشرة آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إثبات حفظ الأعمال على كلّ نفس ، وما يتبع هذا من حساب وعقاب ، وبهذا توافق السورة السابقة في أنّها في سياق الإنذار أيضا ، وقد ذكرت بعدها لهذه المناسبة.

إثبات حفظ الأعمال

الآيات [١ ـ ١٧]

قال الله تعالى : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) (٤) فأقسم بهذا على أن كل نفس عليها حافظ من الملائكة يحفظ أعمالها ؛ ثمّ أمر الإنسان أن ينظر في بدء خلقه ليعرف أنّه (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٧) ، يعني صلب الرجل وترائب المرأة ، وهي عظام الصدر والنّحر ، وليعرف أيضا أنه قادر على

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٨٧

رجعه ليحاسبه على أعماله ؛ ثم أقسم جلّ وعلا بالسماء ذات الرّجع أي المطر ، والأرض ذات الصّدع أي الانشقاق عن النبات ، أن ما أنذر به من هذا لقول فصل لا هزل فيه ؛ ثم ذكر سبحانه أنّهم يكيدون لدينه وأنه يكيد لهم كيدا : (فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) (١٧).

١٨٨

المبحث الثالث

مكنونات سورة «الطارق» (١)

١ ـ (النَّجْمُ) [الآية ٣].

قيل : زحل. وقيل : الثّريّا.

حكاه ابن عسكر (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). انظر «تفسير الطبري» ٣٠ / ٩١.

١٨٩
١٩٠

المبحث الرابع

لكل سؤال جواب في سورة «الطارق» (١)

إن قيل : أين جواب القسم؟

قلنا (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ) [الآية ٤]. فإن بمعنى ما. ولمّا بالتشديد بمعنى : إلا فيكون المعنى ما كل نفس إلّا عليها حافظ ؛ ولما بالتخفيف ما فيه زائدة ، وإن هي المخففة من الثقيلة ، فيكون المعنى إن كل نفس لعليها حافظ.

فإن قيل : ما وجه ارتباط قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ) [الآية ٥] بما قبله؟

قلنا : وجهه أنه لما ذكر سبحانه أنّ على كل نفس حافظا أتبعه بوصية الإنسان بالنظر في أوّل أمره ونشأته الأولى ، ليعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته ومجازاته ، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء ، فلا يملى على حافظه إلّا ما يسرّه في عاقبته.

فإن قيل : ما الحكمة في الجمع بين مهّل و «أمهل» ومعناهما واحد؟

قلنا : التأكيد ، وإنما خولف بين اللفظين طلبا للخفّة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٩١
١٩٢

المبحث الخامس

المعاني المجازية في سورة «الطارق» (١)

في قوله سبحانه : (وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ) (٢) استعارة. لأنّ الطارق هاهنا كناية عن النجم. فحقيقة الطارق : الإنسان الذي يطرق ليلا. فلمّا كان النجم لا يظهر إلّا في حال الليل حسن أن يسمّى طارقا. وأصل الطّرق : الدقّ. ومنه المطرقة. قالوا : وإنّما سمّي الآتي بالليل طارقا ، لأنّه يأتي في وقت يحتاج فيه إلى الدّقّ أو ما يقوم مقامه للتنبيه على طروقه ، والإيذان بوروده.

وفي قوله سبحانه : (خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) (٧) استعارة. وحقيقة هذا الماء أنه مدفوق لا دافق. ولكنه خرج على مثل قولهم : سرّ كاتم ، وليل نائم. وقد مضت لهذه الآية نظائر كثيرة.

وعندي في ذلك وجه آخر ، وهو أنّ هذا الماء لمّا كان في العاقبة يؤول إلى أن يخرج منه الإنسان المتصرّف ، والقادر المميز ، جاز أن يقوى أمره فيوصف ، بصفة الفاعل لا صفة المفعول ، تمييزا له عن غيره من المياه المهراقة ، والمائعات المدفوقة. وهذا واضح لمن تأمّله.

وقوله سبحانه : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) (١٢) استعارة. والمراد بها صفة السماء بأنها ترجع بدرور (٢) الأمطار ، وتعاقب الأنواء ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). درت الأمطار درورا : هطلت.

١٩٣

مرّة بعد مرة وتعطي الخير حالة بعد حالة.

وقد قيل : إنّ الرّجع الماء نفسه. وأنشدوا للمتنخل (١) الهذلي يصف السيف :

أبيض كالرّجع رسوب إذا ما ثاخ في محتفل يختلي والمراد بالأرض ذات الصّدع : انصداعها عن النبات ، وتشقّقها عن الأعشاب ؛ وأنشد صاحب «العين» (٢) لبعض العرب :

وجاءت سلتم لا رجع فيها ولا صدع فتحتلب الرّعاء فالرجع : المطر والصّدع : العشب ، والسّلتم : السنة المجدبة.

__________________

(١). هو مالك بن عويمر الهذلي ، من أشهر شعراء بني هذيل. والبيت في «ديوان الهذليين» ج ٢ ص ١٢٠ والرجع الغدير فيه ماء المطر. وثاخ مثل ساخ : أي غاب. والمحتفل : معظم الشيء ويختلي : يقطع. والرسوب : الذي إذا وقع غمض مكانه لسرعة قطعه.

(٢). هو الخليل بن أحمد الفراهيدي إمام اللغة والأدب وواضع علم العروض ، وكان أستاذا لسيبويه النحوي المشهور ، ولد في البصرة ومات بها سنة ١٧٠ ه‍. وعاش حياته فقيرا صابرا. قال فيه النضر بن شميل : ما رأى الراؤون مثل الخليل ، ولا رأى الخليل مثل نفسه. واشتهر بكتاب «العين» في اللغة.

١٩٤

سورة الأعلى

٨٧

١٩٥
١٩٦

المبحث الأول

أهداف سورة «الأعلى» (١)

سورة الأعلى سورة مكّيّة ، آياتها ١٩ آية ، نزلت بعد سورة التكوير. وهي أنشودة سماوية فيها تسبيح بحمد الله ، وبيان دلائل قدرته ، وإثبات الوحي الإلهي ، وتقرير الجزاء في الآخرة ، وبيان الوحدة بين الرسالات السماوية ، واشتمال الرسالة المحمدية على اليسر والسماحة ، وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتّى ، ووراءها مجالات بعيدة المدى.

وفي صحيح مسلم : أنّ رسول الله (ص) كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) ، و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) (١) [الغاشية] ، وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما. وفي رواية للإمام أحمد عن الإمام علي كرم الله وجهه : «أن رسول الله (ص) كان يحبّ هذه السورة ، (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١).

مع آيات السورة

[الآيات ١ ـ ٥] : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥).

التسبيح هو التمجيد والتنزيه ، واستحضار معاني الصّفات الحسنى لله ، والحياة بين إشعاعاتها وفيوضها ، وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور.

يقول الامام محمد عبده : «واسم الله

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٩٧

هو ما يمكن لأذهاننا أن تتوجّه إليه به ، والله يأمرنا بتسبيح هذا الاسم ، أي تنزيهه عن أن يكون فيه ما لا يليق به من شبه المخلوقات أو ظهوره في واحد منها بعينه ، أو اتّخاذه شريكا أو ولدا أو ما ينحو هذا النحو ، فلا نوجه عقولنا إليه إلّا بأنه خالق كل شيء ، المحيط علمه بدقائق الموجودات».

والخطاب في السورة موجّه إلى رسول الله (ص) ، وفيه من التلطّف والإيناس ما يجلّ عن التعبير ، وقد كان (ص) ينفّذ هذا الأمر فور صدوره.

وحينما نزل قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) [الواقعة] قال النبي (ص) : اجعلوها في ركوعكم ، أي قولوا في الركوع : سبحان ربي العظيم ، ولما نزل قوله تعالى : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) قال النبي (ص) : اجعلوها في سجودكم ، أي قولوا في السجود : سبحان ربي الأعلى.

(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٢) الذي خلق كلّ شيء فسوّاه وأكمل صنعته ، وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه بلا تفاوت ولا اضطراب ، كما تراه يظهر لك من خلق السماوات والأرض.

(وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣) أي قدّر لكلّ حيّ ما يصلحه مدة بقائه ، وهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع بما فيه منفعة له ، ووجه الهرب بما يخشى غائلته.

«وكلّ شيء في الوجود سويّ في صنعته ، كامل في خلقته ، معدّ لأداء وظيفته ، مقدّر له غاية وجوده ، وهو ميسّر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق. والأشياء جميعها مجتمعة كاملة التنسيق ، ميسّرة لكي تؤدّي في تجمّعها دورها الجماعي ، مثلما هي ميسّرة فرادى لكي تؤدّي دورها الفردي».

جاء في كتاب «العلم يدعو إلى الايمان» ما يأتي : «إنّ الطيور لها غريزة العودة إلى الوطن ، فعصفور الهزار الذي عشّش ببابك يهاجر جنوبا في الخريف ، ولكنّه يعود إلى عشّه في الربيع التالي ، وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم الطيور إلى الجنوب ، وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار ، ولكنّها لا تضل طريقها ؛ والنحلة تجد خليّتها مهما طمست الريح في هبوبها على الأعشاب والأشجار كل دليل يرى ؛ وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل ، وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح ؛

١٩٨

والبومة تستطيع أن ترى الفأر الدافئ اللطيف ، وهو يجري على العشب البارد مهما تكن ظلمة الليل ، ونحن نقلب الليل نهارا بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسمّيها الضوء».

«والكلب بما أوتي من أنف فضولي ، يستطيع أن يحس الحيوان الذي مرّ».

«وسمك (السلمون) يمضي سنوات في البحر ، ثم يعود إلى نهره الخاص به ، والأكثر من ذلك أنّه يصعد إلى جانب النهر الذي يصبّ عنده النّهير الذي ولد فيه. فما الذي يجعل السمك يرجع الى مكان مولده بهذا التحديد؟».

إنه الله (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) (٣).

وقد سجل البشر كثيرا من إبداع الخلقة ، في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان ، في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقلّ القليل ، ووراءه عالم الغيب بما فيه من كمال وجلال ؛ فسبحان الله الخلاق العظيم.

(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) (٤) والمرعى كلّ نبات ، وما من نبات إلّا وهو صالح لخلق من خلق الله. فهو هنا أشمل ممّا نعهده من مرعى أنعامنا ، فالله خلق هذه الأرض ، وقدّر فيها أقواتها لكلّ حيّ يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها ، أو يطير في جوّها ، والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده ، دونما رغبة من جانبهم ، كالحشرات التي تحمل اللّقاح من زهرة الى أخرى ، والرياح ، وكل شيء يطير أو يمشي ، ليوزّع بدوره.

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) (٥) والغثاء هو الهشيم ، أو الهالك البالي ، والأحوى : الذي يميل لونه إلى السواد ، فهو سبحانه قد أحكم كل شيء خلقه ، ما يبقى وما يفنى.

«فنحن مأمورون أن نعرف الله جل شأنه ، بأنه القادر العالم الحكيم ، الذي شهدت بصفاته هذه آثاره في خلقه ، التي ذكرها في وصف نفسه بقوله : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) (٢) إلخ ، وأن لا ندخل في هذه الصفات معنى ممّا لا يليق به ، كما أدخل الملحدون الذين اتّخذوا من دونه شركاء أو عرفوه بما يشبه به خلقه ؛ وإنّما توجّه إلينا الأمر بتسبيح الاسم ، دون تسبيح الذات ، ليرشدنا الى أن مبلغ جهدنا ، ومنتهى ما تصل إليه عقولنا ، أن نعرف الصفات

١٩٩

بما يدلّ عليها ؛ أمّا الذات فهي أعلى وأرفع من أن تتوجّه عقولنا إليها إلّا بما نلحظ من هذه الصفات التي تقوم عليها الدلائل ، وترشد إليها الآيات ، ولهذا أمرنا بتسبيح اسمه تكليفا لنا بما يسعه طوقنا ، والله أعلم».

[الآيتان ٦ و ٧] : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلَّا ما شاءَ اللهُ) سننزل عليك كتابا تقرأه ، ولا تنسى منه شيئا بعد نزوله عليك.

وهي بشرى للنبي (ص) ، تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه ، الذي كان يندفع بعاطفة الحبّ له ، وبشعور الحرص عليه ، وبإحساس التبعة العظمى فيه ، إلى ترديده آية آية وراء جبريل ، وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفا منه ، حتّى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأنّ ربّه سيتكفّل بهذا الأمر عنه. (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) [الآية ٧] أن تنساه بنسخ تلاوته وحكمه ، أما ما لا ينسخ فإنّه محفوظ في قلبك.

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) (٧) وكأنّ هذا تعليل لما مرّ في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء ، فكلّها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى ، ويطّلع على الأمر من جوانبه جميعا ، فيقرّر فيها ما تقتضيه حكمته ، المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا.

[الآية ٨] : (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) (٨) أي نوفّقك للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها ، ولا يصعب على العقول فهمها.

يسر الشريعة الإسلامية

يسّر الله سبحانه القرآن للقراءة وللعمل بأحكامه ، ويسّر الشريعة ، ويسّر الأحكام وجعلها في طاقة الناس ، ولا حرج فيها ولا عنت ، قال تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) (٢٢) [القمر]. وقال سبحانه : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [الحج / ٧٨]. وقال تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) [المائدة / ٦]. وقال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) [البقرة / ٢٨٦].

وكان النبيّ (ص) سهلا سمحا مؤلّفا محبّبا ، وما خيّر بين أمرين إلّا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما فكان أبعد الناس عنه ، وكان سلوك النبي (ص)

٢٠٠