الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

المبحث الخامس

لكل سؤال جواب في سورة «الانفطار» (١)

إن قيل : لأي فائدة تخصيص ذكر صفة الكرم ، دون سائر صفاته ، في قوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الآية ٦]؟

قلنا : قال بعضهم : إنّما قال تعالى ذلك لطفا بعبده ، وتلقينا له حجته وعذره ، ليقول : غرّني كرم الكريم. وقال الفضيل رحمه‌الله : لو سألني الله تعالى هذا السؤال لقلت : غرّني ستورك المرخاة ؛ وروي أن عليا كرم الله وجهه صاح بغلام له مرات فلم يلبّه ، ثم أقبل فقال : مالك لم تجبني؟ فقال : لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك ؛ فاستحسن جوابه وأعتقه. ولهذا قالوا : من كرم الرجل ، سوء أدب غلمانه. والحق أنّ الواجب على الإنسان أن لا يغترّ بكرم الله تعالى وجوده ، في خلقه إيّاه ، وإسباغه النعمة الظاهرة والباطنة عليه ؛ فيعصيه ويكفر نعمته اغترارا بتفضيله الأوّل ، فإن ذلك أمر منكر خارج عن حدّ الحكمة ، ولهذا قال رسول الله (ص) ، لمّا قرأها : غرّه جهله. وقال عمر رضي الله تعالى عنه : غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن : غره ، والله ، شيطانه الخبيث الذي زيّن له المعاصي ، فقال له : افعل ما شئت ، فإنّ ربّك كريم.

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) [الآية ١٩] والنفوس المقبولة الشفاعة ، تملك لمن شفعت فيه شيئا ، وهو الشفاعة؟

قلنا : المنفي ثبوت النصرة بالملك

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٢١

والسلطنة ، والشفاعة ليست بطريق الملك والسلطنة ، فلا تدخل في النفي ، ويؤيّده قوله تعالى : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩) وقال مقاتل : المراد بالنفس الثانية الكافرة ، والأصحّ ، والله أعلم ، أنه على العموم في النفسين.

١٢٢

سورة المطفّفين

٨٣

١٢٣
١٢٤

المبحث

الأول أهداف سورة «المطفّفين» (١)

سورة المطفّفين سورة مكية آياتها ٣٦ آية ، وهي آخر سورة نزلت في مكّة. وهي سورة تعالج طغيان الغني ، واستغلال الفقراء ، وتحارب تطفيف الكيل والميزان ، وتبيّن أنّ صحف أعمال الفجّار في أسفل سافلين ، وأنّ كتاب أعمال الأبرار في أعلى عليّين ؛ كما وصفت السورة النعيم المقيم الذي يتمتّع به الأبرار في الجنّة ، وبيّنت أن المجرمين كانوا يسخرون من المؤمنين في الدنيا ؛ وفي يوم القيامة يتغيّر الحال ، فيسخر المؤمن من الكافر ، ويتمتّع المؤمن بألوان النعيم.

مقاطع السورة

تتألّف سورة المطفّفين من أربعة مقاطع ، يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطفّفين ، وتهديدهم بالجزاء العادل ، عند البعث والحساب [الآيات ١ ـ ٦].

ويتحدّث المقطع الثاني عن الفجّار في شدّة وردع وزجر ، وتهديد بالويل والهلاك ، ودمغ بالإثم والاعتداء وبيان لسبب هذا العمى ، وعلة هذا الانطماس ، وتصوير لجزائهم يوم القيامة ، وعذابهم بالحجاب عن ربهم ، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم [الآيات ٧ ـ ١٧].

والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة ، صفحة الأبرار ، ورفعة مقامهم ، والنعيم المقرر لهم ، ونضرته التي تفيض على وجوههم ، والرحيق

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٢٥

الذي يشربون ؛ وهم على الأرائك ينظرون ، وهي صفحة ناعمة وضيئة. [الآيات ١٨ ـ ٢٨].

والمقطع الرابع يصف ما كان الأبرار يلقونه من استهزاء الفجار ، وسخريتهم ، وسوء أدبهم في دار الغرور ؛ ثم يقابل ذلك بما لقيه المؤمنون من التكريم ، وما لقيه المجرمون من عذاب الجحيم في يوم الدين. [الآيات ٢٩ ـ ٣٦].

من أسباب نزول السورة

كان تطفيف الكيل منتشرا في مكّة والمدينة ، وهو يعبّر عن جشع التّجار وطمعهم ، ورغبتهم في بخس حق المشتري.

روي أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة ، له كيلان أحدهما كبير والثاني صغير ، فكان إذا أراد أن يشتري من أصحاب الزروع والحبوب والثمار ، اشترى بالكيل الكبير ؛ وإذا باع للناس كال للمشتري بالكيل الصغير. هذا الرجل وأمثاله ممّن امتلأت نفوسهم بالطمع ، واستولى عليهم الجشع والنهم ، هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد ، وهم الذين توعّدهم النبي (ص) ، وتهدّدهم بقوله : «خمس بخمس ، قيل يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال : ما نقض قوم العهد إلّا سلّط الله عليهم عدوّا ؛ وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر ؛ وما ظهرت الفاحشة في قوم يتعامل بها علانية ، إلّا فشا الطاعون والأوجاع التي لم تكن فيمن قبلهم ؛ ولا طفّف قوم المكيال والميزان إلّا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور الحكام ؛ وما منع قوم الزكاة إلّا حبس عنهم المطر».

مع آيات السورة

[الآية ١] : هلاك وعذاب عظيم لهؤلاء الذين يبخسون الكيل والميزان ؛ والتطفيف ، لغة ، التقليل ، فالمطفّف هو المقلّل حق صاحبه بنقصانه ، لأنّه لا يكاد يسرق في المكيال ، والميزان ، إلّا الشيء اليسير الطفيف.

[الآية ٢] : إذا كان لهم عند الناس حقّ في شيء يكال أو يوزن ، وأرادوا أخذه منهم لا يأخذونه إلّا تامّا كاملا.

[الآية ٣] : وإذا كان للناس حقّ عندهم في مكيل أو موزون ، أعطوهم ذلك الحق مع النقص والخسارة.

ويلحق بالمطفّفين كل عامل لا يؤدّي

١٢٦

عمله ، وإنما يحرص على الأجر كاملا ، ويلحق بهم من يتسلّم العمل كاملا ، ويبخس حقّ العامل أو ينقص أجره ، وكذلك كل من يقصر في أداء واجبه. وعن ابن عباس «الكيل أمانة ، والوزن أمانة ، والصلاة أمانة ، والزكاة أمانة ، فمن وفى وفى له ، ومن طفّف فقد علمتم ما قاله الله في المطفّفين».

[الآيتان ٤ ـ ٦] : ألا يخطر ببال هؤلاء أنّ هناك يوما للبعث ، تظهر فيه هذه الأعمال التي يخفونها على الناس ، وأنهم سيبعثون في هذا اليوم الشديد الأهوال ، الذي يقوم فيه الناس من قبورهم ليعرضوا على ربّ العالمين الذي خلقهم ، ويعلم سرّهم وعلانيتهم.

[الآيات ٧ ـ ٩] : إن للشر سجلّا دونت فيه أعمال الفجّار ، وهو كتاب مسطور بيّن الكتابة. وهذا السّجلّ يشتمل عليه السجل الكبير المسمّى بسجّين ؛ كما تقول إن كتاب حساب قرية كذا في السّجلّ الفلانيّ المشتمل على حسابها ، وحساب غيرها من القرى.

والفجّار هم المتجاوزون للحدّ في المعصية والإثم ؛ ولكلّ فاجر من هؤلاء الفجّار صحيفة ؛ وهذه الصحائف في السّجلّ العظيم المسمّى سجّين ، وهو عظيم الشأن وهو (كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٩) أي قد أثبتت فيه العلامات الدالة على الأعمال.

[الآيات ١٠ ـ ١٣] : هلاك وعذاب عظيم لهؤلاء المكذّبين ، الذين يكذّبون الرسول (ص) ، ولا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء ، الذي أخبرهم به عن ربّ العلمين.

وما يكذّب بهذا اليوم ، إلّا من اعتدى على الحقّ ، وعمي عن الإنصاف ، واعتاد ارتكاب الآثام ، والإعراض عن الحق والهدى ، ولذلك إذا تليت عليه آيات القرآن ، أو أخبار البعث والجزاء أنكرها ، وقال هذه أباطيل السابقين.

[الآية ١٤] : (كَلَّا) ليس كما يقولون (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) أي غطّى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية ؛ والقلب الذي يتعوّد المعصية ينطمس ويظلم ، ويرين عليه غطاء كثيف ، يفقده الحساسية شيئا فشيئا ، حتى يتبلّد ويموت.

١٢٧

روى التّرمذيّ (١) ، والنسائي ، وابن ماجة : «أنّ العبد إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإن هو نزع ، واستغفر ، وتاب ، صقل قلبه ؛ وإن عاد زيد فيها ، حتّى تعلو ، فهو الران ، الذي قال الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤).

وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب يعمي القلب فيموت.

ثم يذكر السياق شيئا عن مصيرهم يوم القيامة ، بقوله تعالى :

[الآيات ١٥ ـ ١٧] : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧).

فهم في يوم القيامة مطرودون من رحمة الله ، محرومون من رؤيته في الآخرة ، ثم إنّهم يصلون عذاب جهنّم ، مع التأنيب والتقريع على تكذيبهم الحق ، وإنكارهم البعث والجزاء ؛ فيقال لهم : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧).

[الآيات ١٨ ـ ٢١] : إن كتاب الأبرار محفوظ في سجلّ ممتاز في أعلى مكان في الجنّة ، وما أعلمك ما هذا المكان ، فهو أمر فوق العلم والإدراك ، كتاب مسطور فيه أعمالهم ، وهو موضع مشاهدة المقرّبين من الملائكة ، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات.

[الآيات ٢٢ ـ ٢٨] : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) (١٣) إنّ الأبرار المتّقين الذين يؤمنون بالله ، ويعملون أنواع البر من القربات والطاعات ، هؤلاء ينعمون بنعيم الجنة ، وهم على الأسرّة في الحجال (٢) ينظرون إلى ما أعدّ لهم من النعيم ؛ وترى على وجوههم آثار النعمة وبهجتها ، يسقون خمرا مختومة بالمسك ، وهي لا تسكر كخمر الدنيا ؛ وفي ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون ، وليرغب الراغبون بالمبادرة الى طاعة ربهم ، باتّباع أوامره واجتناب نواهيه. وهذا الشراب المعدّ لهم ممزوج بشراب آخر ينصبّ عليهم من عين

__________________

(١). قال التّرمذي حسن صحيح ، وللحديث روايات أخرى بألفاظ قريبة في المعنى

(٢). الحجال : جمع حجلة ؛ والحجلة ستر يضرب في جوف البيت.

١٢٨

عالية ، يشرب منها المقربون إلى رضوان ربهم. وقد سئل ابن عبّاس عن هذا فقال : هذا ممّا قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) [السجدة].

«وقصارى ما سلف ، أنّه ، سبحانه ، وصف النعيم الذي أعدّه للأبرار في دار كرامته بما تتطلع اليه النفوس ، وبما يشوّقها اليه ، ليكون حضّا للذين يعملون الصالحات على الاستزادة من العمل ، والاستدامة عليه ؛ وحثّا لهمم المقصرين ، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد من العمل الصالح ، ليكون لهم مثل ما لأولئك» (١).

[الآيات ٢٩ ـ ٣٣] : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (٢٩) : كانوا يضحكون منهم استهزاء بهم وسخرية منهم ، إمّا لفقرهم ورثاثة حالهم ، وإمّا لضعفهم عن ردّ الذي ، وإمّا لترفّعهم عن سفاهة السفهاء ؛ فكلّ هذا ممّا يثير ضحك الذين أجرموا ، وهم يتّخذون المؤمنين مادّة لسخريتهم ، أو فكاهتهم المرذولة. (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) (٣٠) يغمز بعضهم لبعض بعينه ، أو يشير بيده ، أو يأتي بحركة متعارف عليها بينهم للسخرية من المؤمنين ، وإذا انقلب هؤلاء الضالّون إلى أهلهم ، ورجعوا إلى بيوتهم ، رجعوا إليها فكهين ملتذّين بحكاية ما يعيبون به أهل الايمان ، إذ يرمونهم بالسّخافة وقلّة العقل ، (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) (٣٢) أي وإذا رأوا المؤمنين نسبوهم الى الضلال ؛ لأنهم نبذوا العقائد الفاسدة ، وتركوا عبادة الأصنام. ولم يرسل الله ، سبحانه ، الكفّار رقباء على المؤمنين ، ولا كلّفهم بمحاسبتهم على أفعالهم ، فما لهم وهذا الوصف ، وهذا التقرير.

روي أن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ، جاء في نفر من المسلمين ، فرآه بعض هؤلاء الكفّار ، فسخروا منه وممّن معه ، وضحكوا منهم ، وتغامزوا بهم ، ثمّ رجعوا إلى جماعتهم من أهل الشرك ، فحدّثوهم بما صنعوا به ، وبأصحابه.

والآيات ترسم مشهدا لسخرية

__________________

(١). تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي ، ط ٣ ، مصطفى البابي الحلبي ، ٣٠ / ٨٢.

١٢٩

المجرمين من المؤمنين ، وقد يكون لنزولها سبب خاص ، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؛ ففي الآيات تعبير واقعي عن سخرية القويّ الفاجر من المؤمن الصابر ، ممّا يدل على أن طبيعة الفجّار المجرمين واحدة ، متشابهة ، في موقفها من الأبرار ، في جميع البيئات والعصور.

يقول الإمام محمد عبده : «من شأن القويّ المستعز بكثرة أتباعه وقدرته ، أن يضحك ممن يخالفه في المنزع ، ويدعوه إلى غير ما يعرفه وهو أضعف منه قوّة وأقلّ عددا ؛ كذلك كان شأن جماعة من قريش ، كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأتباعهم ؛ وهكذا يكون شأن أمثالهم في كلّ زمان متى عمّت البدع ، وتفرّقت الشيع ، وخفي طريق الحق بين طرق الباطل ، وجهل معنى الدين ، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه ، ولم يبق الا ظواهر لا تطابقها البواطن» (١).

[الآيات ٣٤ ـ ٣٦] : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (٣٤) أي في يوم القيامة ؛ والكفّار محجوبون عن ربهم ، يقاسون ألم هذا الحجاب ؛ يضحك المؤمنون ، ضحك من وصل به يقينه الى مشاهدة الحق ، فسرّ به ؛ وينكشف للمؤمنين ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم ، وخذلان أعدائهم ، (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) (٣٥) وهمّ على سررهم في الجنة ينظرون إلى صنع الله بأعدائهم ، وإذلاله لمن كان يفخر عليهم ، وتنكيله بمن كان يهزأ بهم ، جزاء وفاقا. (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)؟ أي أنهم ينظرون ليتحقّقوا : هل جوزي الكفّار ، بما كانوا يفعلون بهم في الدنيا ؛ وإنما سمّي الجزاء على العمل ثوابا ، لأنه يرجع الى صاحبه نظير ما عمل من خير أو شر.

و (ثوّب) مثل أثاب ، بمعنى جازى ، يقع في الخير وفي الشر ، وإن كان قد غلب الثواب في الخير. أي هل جوزي الكفّار بما كانوا يفعلون؟

مقاصد السورة

١ ـ وعيد المطفّفين.

__________________

(١). تفسير جزء عمّ ، للأستاذ الإمام محمد عبده ، الطبعة السادسة ، مطابع الشعب ، ص ٣٧.

١٣٠

٢ ـ بيان أن صحائف أعمال الفجّار في أسفل سافلين.

٣ ـ الإرشاد إلى أنّ صحائف أعمال الأبرار في أعلى علّيّين.

٤ ـ وصف نعيم الأبرار ، في مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم.

٥ ـ استهزاء المجرمين بالمؤمنين في الدنيا.

٦ ـ تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة.

٧ ـ نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النّكال.

١٣١
١٣٢

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «المطفّفين» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة المطفّفين بعد سورة العنكبوت ، وهي آخر سورة نزلت بمكّة ، فيكون نزولها بعد الإسراء وقبيل الهجرة.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) وتبلغ آياتها ستا وثلاثين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة تحريم التّطفيف في المكيال والميزان ، وإنذار من يفعل ذلك ، بأنه مبعوث لحساب لا تساهل فيه بتطفيف أو نحوه. وبهذا سار سياقها في الترهيب كما سارت السورة قبلها ، وهذا هو وجه ذكرها بعدها.

تحريم التطفيف

الآيات [١ ـ ٣٦]

قال الله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) فأنذر المطفّفين بالويل ؛ وذكر سبحانه أنهم الذين يستوفون إذا اكتالوا على الناس ، وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصون ؛ والتطفيف البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية ؛ ثمّ أنذرهم جلّ وعلا بأنهم مبعوثون ليوم عظيم ، وبأن كتاب أعمالهم في سجّين ، وهي الأرض السّفلى ؛ فإذا أتى هذا اليوم ، فويل لهم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١٣٣

على تكذيبهم به ... إلخ ؛ ثم انتقل السياق من هذا الترهيب إلى الترغيب ، بذكر أنّ كتاب الأبرار في علّيّين ، وهي السماء السابعة ؛ وذكر تعالى ما ذكر ممّا أعده لهم ؛ ثمّ ذكر أنّ أولئك المجرمين ، كانوا يضحكون من هؤلاء الأبرار في الدنيا ، وأنّ هؤلاء الأبرار يضحكون منهم في الآخرة ، وهم على الأرائك ينظرون : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦).

١٣٤

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «المطفّفين» (١)

أقول : الفصل بهذه السورة ، بين الانفطار والانشقاق ، التي هي نظيرتها من خمسة أوجه : الافتتاح ب (إِذَا السَّماءُ) [الانفطار / ١] والتخلص ب (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) [الانفطار / ٦] ، وشرح حال يوم القيامة ؛ ولهذا ضمّت بالحديث السابق ، والتناسب في المقدار ، وكونها مكّيّة.

وهذه السورة مدنيّة ، ومفتتحها ومخلصها غير مآلها ، لنكتة ألهمنيها الله. وذلك أن السور الأربع ، لمّا كانت في صفة حال يوم القيامة ، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه.

فغالب ما وقع في التكوير ، وجميع ما وقع في الانفطار ، وقع في صدر يوم القيامة ، ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ، ومقاساة العرق والأهوال ، فذكره في هذه السورة بقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦).

ولهذا ورد في الحديث : «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» (٢).

ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى ، فتنشر الكتب ، فأخذ باليمين ، وأخذ بالشمال ، وأخذ من وراء الظهر ، ثم بعد ذلك يقع الحساب.

هكذا وردت بهذا الترتيب الأحاديث ؛ فناسب تأخير سورة الانشقاق التي فيها إتيان الكتب

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). أخرجه البخاري في التفسير ٦ / ٢٠٧ عن ابن عمر ، وأحمد في المسند مع اختلاف في اللفظ ٢ / ١٣ ، ١٩ ؛ وعلى المطابقة ٢ / ٣١.

١٣٥

والحساب (١) ، عن السورة التي قبلها ، والتي فيها ذكر الموقف عن التي فيها مبادئ يوم القيامة.

ووجه آخر ، وهو : أنه جلّ جلاله لما قال في الانفطار : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ) (١١). وذلك في الدنيا ، ذكر في هذه السورة حال ما يكتبه الحافظان ، وهو : كتاب مرقوم جعل في علّيّين ، أو في سجّين ، وذلك أيضا في الدنيا ، لكنّه عقّب بالكتابة ، إمّا في يومه ، أو بعد الموت في البرزخ كما في الآثار. فهذه حالة ثانية في الكتاب ذكرت في السورة الثانية. وله حالة ثالثة متأخّرة فيها ، وهي أخذ صاحبه باليمين أو غيرها ، وذلك يوم القيامة ، فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك ، عن السورة التي فيها الحالة الثانية ، وهي الانشقاق ، فلله الحمد على ما منّ بالفهم لأسرار كتابه.

ثم رأيت الإمام فخر الدين قال في سورة المطفّفين أيضا : اتصال أوّلها بآخر ما قبلها ظاهر ، لأنّه تعالى بيّن هناك أن يوم القيامة من صفته : (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار / ١٩] وذلك يقتضي تهديدا عظيما للعصاة ، فلهذا أتبعه بقوله سبحانه : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١).

__________________

(١). وذلك في قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) (٧) [الانشقاق] ، إلى قوله : (وَيَصْلى سَعِيراً) (١٢) [الانشقاق].

١٣٦

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «المطفّفين» (١)

١ ـ قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١).

التّطفيف : هو البخس في الكيل والوزن ، لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير.

أقول : كأنّ المطفّف : هو الذي ينقص وضع الطفافة ، وهي الزيادة بعد الكيل وفاء لما نقص منه في أثناء الكيل ، وعلى هذا كان «المطفّف» من يمنع «الطّفافة» سرقة وغشّا ، محاباة للبائع الذي يكيل لمصلحته ، وكما يكون في الكيل يكون ذلك في الوزن.

ثم قال تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣).

والمعنى واضح ، والأصل : كالوا لهم ووزنوا لهم ثم حذف وأوصل.

٢ ـ وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (٧).

وقوله تعالى : (سِجِّينٍ) ، أي كتاب جامع هو ديوان الشّرّ ، دوّن الله فيه أعمال الشياطين ، وأعمال الكفرة ، والفسقة من الجن والإنس ؛ وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة.

٣ ـ وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (١٨).

وعلّيّون : علم لديوان الخير ، الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثّقلين.

أقول : و «علّيون» مما ألحق بجمع المذكر السالم لا واحد له ؛ وهو ممّا يشير إلى أن هذا الجمع قد شمل طائفة

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٣٧

كبيرة من الكلم ، عاقلا كان أم غير عاقل.

وقالوا أيضا : العلّيّون الغرف العالية في الجنة.

٤ ـ وقال تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) (٢٧).

وقوله تعالى : (تَسْنِيمٍ) (٢٧) علم بعينها في الجنة.

٥ ـ وقال تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (٣١).

أي : ملتذّين بذكرهم.

أقول : وجميع ما جاء من المعاني في (فكهين) ، في هذه الآية وغيرها ، من أصل «الفاكهة» ؛ فاللذّة والتعجّب استفيدا من نعمة «الفاكهة». وكذلك «الفكاهة» الشائعة في عصرنا.

١٣٨

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «المطفّفين» (١)

قال تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣) أي : «إذا كالوا النّاس أو وزنوهم» ، فأهل الحجاز يقولون «كلت زيدا» و «وزنته» أي : «كلت له» و «وزنت له».

قال تعالى : (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) بجعله في الحين ، كما تقول «فلان اليوم صالح» تريد به الآن في هذا الحين ، وتقول هذا بالليل «فلان اليوم ساكن» أي : الآن ، أي : هذا الحين ، ولا نعلم أحدا قرأها جرا ؛ والجرّ جائز.

وقال تعالى (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [الآية ١٤] ؛ تقول : «ران» «يرين» «رينا».

وقال سبحانه : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا) [الآية ٢٨] بجعله على (يُسْقَوْنَ) [الآية ٢٥](عَيْناً) [الآية ٢٨] ؛ وإن شئت جعلته على المدح ، فتقطع من أول الكلام ، كأنك تقول : «أعني عينا».

وقال تعالى : (هَلْ ثُوِّبَ) [الآية ٣٦] فإن شئت أدغمت (٢) وإن شئت لم تدغم ، لأن اللام (٣) مخرجها بطرف اللسان قريب من أصول الثنايا ، والثاء بطرف اللسان وأطراف الثنايا ، إلّا أنّ اللام بالشّقّ الأيمن أدخل في الفم ، وهي قريبة المخرج منها ؛ ولذلك قرئ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نسب الإدغام في السبعة ٦٧٦ إلى أبي عمرو ؛ وفي البحر ٨ / ٤٤٣ إلى النحويين ، وحمزة ، وابن محيصن.

(٣). نسب عدم الإدغام إلى غير أبي عمرو ؛ وفي السبعة ٦٧٦ إلى الجمهور ؛ وفي البحر ٨ / ٤٤٣.

١٣٩

(بَلْ تُؤْثِرُونَ) [الأعلى / ١٦] فأدغمت اللام في التاء (١) ، لأنّ مخرج التاء والثاء قريب ، من مخرج اللام.

__________________

(١). هي قراءة نسبت في إعراب ابن خالويه ٦٢ إلى حمزة ؛ وقيل قراءة حمزة ، والكسائي ، وهشام ، والتيسير ٤٣.

١٤٠