المبحث الخامس
لكل سؤال جواب في سورة «الانفطار» (١)
إن قيل : لأي فائدة تخصيص ذكر صفة الكرم ، دون سائر صفاته ، في قوله تعالى : (ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الآية ٦]؟
قلنا : قال بعضهم : إنّما قال تعالى ذلك لطفا بعبده ، وتلقينا له حجته وعذره ، ليقول : غرّني كرم الكريم. وقال الفضيل رحمهالله : لو سألني الله تعالى هذا السؤال لقلت : غرّني ستورك المرخاة ؛ وروي أن عليا كرم الله وجهه صاح بغلام له مرات فلم يلبّه ، ثم أقبل فقال : مالك لم تجبني؟ فقال : لثقتي بحلمك وأمني عقوبتك ؛ فاستحسن جوابه وأعتقه. ولهذا قالوا : من كرم الرجل ، سوء أدب غلمانه. والحق أنّ الواجب على الإنسان أن لا يغترّ بكرم الله تعالى وجوده ، في خلقه إيّاه ، وإسباغه النعمة الظاهرة والباطنة عليه ؛ فيعصيه ويكفر نعمته اغترارا بتفضيله الأوّل ، فإن ذلك أمر منكر خارج عن حدّ الحكمة ، ولهذا قال رسول الله (ص) ، لمّا قرأها : غرّه جهله. وقال عمر رضي الله تعالى عنه : غرّه حمقه وجهله. وقال الحسن : غره ، والله ، شيطانه الخبيث الذي زيّن له المعاصي ، فقال له : افعل ما شئت ، فإنّ ربّك كريم.
فإن قيل : لم قال الله تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) [الآية ١٩] والنفوس المقبولة الشفاعة ، تملك لمن شفعت فيه شيئا ، وهو الشفاعة؟
قلنا : المنفي ثبوت النصرة بالملك
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
والسلطنة ، والشفاعة ليست بطريق الملك والسلطنة ، فلا تدخل في النفي ، ويؤيّده قوله تعالى : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩) وقال مقاتل : المراد بالنفس الثانية الكافرة ، والأصحّ ، والله أعلم ، أنه على العموم في النفسين.
سورة المطفّفين
٨٣
المبحث
الأول أهداف سورة «المطفّفين» (١)
سورة المطفّفين سورة مكية آياتها ٣٦ آية ، وهي آخر سورة نزلت في مكّة. وهي سورة تعالج طغيان الغني ، واستغلال الفقراء ، وتحارب تطفيف الكيل والميزان ، وتبيّن أنّ صحف أعمال الفجّار في أسفل سافلين ، وأنّ كتاب أعمال الأبرار في أعلى عليّين ؛ كما وصفت السورة النعيم المقيم الذي يتمتّع به الأبرار في الجنّة ، وبيّنت أن المجرمين كانوا يسخرون من المؤمنين في الدنيا ؛ وفي يوم القيامة يتغيّر الحال ، فيسخر المؤمن من الكافر ، ويتمتّع المؤمن بألوان النعيم.
مقاطع السورة
تتألّف سورة المطفّفين من أربعة مقاطع ، يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطفّفين ، وتهديدهم بالجزاء العادل ، عند البعث والحساب [الآيات ١ ـ ٦].
ويتحدّث المقطع الثاني عن الفجّار في شدّة وردع وزجر ، وتهديد بالويل والهلاك ، ودمغ بالإثم والاعتداء وبيان لسبب هذا العمى ، وعلة هذا الانطماس ، وتصوير لجزائهم يوم القيامة ، وعذابهم بالحجاب عن ربهم ، كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم [الآيات ٧ ـ ١٧].
والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة ، صفحة الأبرار ، ورفعة مقامهم ، والنعيم المقرر لهم ، ونضرته التي تفيض على وجوههم ، والرحيق
__________________
(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.
الذي يشربون ؛ وهم على الأرائك ينظرون ، وهي صفحة ناعمة وضيئة. [الآيات ١٨ ـ ٢٨].
والمقطع الرابع يصف ما كان الأبرار يلقونه من استهزاء الفجار ، وسخريتهم ، وسوء أدبهم في دار الغرور ؛ ثم يقابل ذلك بما لقيه المؤمنون من التكريم ، وما لقيه المجرمون من عذاب الجحيم في يوم الدين. [الآيات ٢٩ ـ ٣٦].
من أسباب نزول السورة
كان تطفيف الكيل منتشرا في مكّة والمدينة ، وهو يعبّر عن جشع التّجار وطمعهم ، ورغبتهم في بخس حق المشتري.
روي أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة ، له كيلان أحدهما كبير والثاني صغير ، فكان إذا أراد أن يشتري من أصحاب الزروع والحبوب والثمار ، اشترى بالكيل الكبير ؛ وإذا باع للناس كال للمشتري بالكيل الصغير. هذا الرجل وأمثاله ممّن امتلأت نفوسهم بالطمع ، واستولى عليهم الجشع والنهم ، هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد ، وهم الذين توعّدهم النبي (ص) ، وتهدّدهم بقوله : «خمس بخمس ، قيل يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال : ما نقض قوم العهد إلّا سلّط الله عليهم عدوّا ؛ وما حكموا بغير ما أنزل الله إلّا فشا فيهم الفقر ؛ وما ظهرت الفاحشة في قوم يتعامل بها علانية ، إلّا فشا الطاعون والأوجاع التي لم تكن فيمن قبلهم ؛ ولا طفّف قوم المكيال والميزان إلّا أخذوا بالسنين وشدة المؤونة وجور الحكام ؛ وما منع قوم الزكاة إلّا حبس عنهم المطر».
مع آيات السورة
[الآية ١] : هلاك وعذاب عظيم لهؤلاء الذين يبخسون الكيل والميزان ؛ والتطفيف ، لغة ، التقليل ، فالمطفّف هو المقلّل حق صاحبه بنقصانه ، لأنّه لا يكاد يسرق في المكيال ، والميزان ، إلّا الشيء اليسير الطفيف.
[الآية ٢] : إذا كان لهم عند الناس حقّ في شيء يكال أو يوزن ، وأرادوا أخذه منهم لا يأخذونه إلّا تامّا كاملا.
[الآية ٣] : وإذا كان للناس حقّ عندهم في مكيل أو موزون ، أعطوهم ذلك الحق مع النقص والخسارة.
ويلحق بالمطفّفين كل عامل لا يؤدّي
عمله ، وإنما يحرص على الأجر كاملا ، ويلحق بهم من يتسلّم العمل كاملا ، ويبخس حقّ العامل أو ينقص أجره ، وكذلك كل من يقصر في أداء واجبه. وعن ابن عباس «الكيل أمانة ، والوزن أمانة ، والصلاة أمانة ، والزكاة أمانة ، فمن وفى وفى له ، ومن طفّف فقد علمتم ما قاله الله في المطفّفين».
[الآيتان ٤ ـ ٦] : ألا يخطر ببال هؤلاء أنّ هناك يوما للبعث ، تظهر فيه هذه الأعمال التي يخفونها على الناس ، وأنهم سيبعثون في هذا اليوم الشديد الأهوال ، الذي يقوم فيه الناس من قبورهم ليعرضوا على ربّ العالمين الذي خلقهم ، ويعلم سرّهم وعلانيتهم.
[الآيات ٧ ـ ٩] : إن للشر سجلّا دونت فيه أعمال الفجّار ، وهو كتاب مسطور بيّن الكتابة. وهذا السّجلّ يشتمل عليه السجل الكبير المسمّى بسجّين ؛ كما تقول إن كتاب حساب قرية كذا في السّجلّ الفلانيّ المشتمل على حسابها ، وحساب غيرها من القرى.
والفجّار هم المتجاوزون للحدّ في المعصية والإثم ؛ ولكلّ فاجر من هؤلاء الفجّار صحيفة ؛ وهذه الصحائف في السّجلّ العظيم المسمّى سجّين ، وهو عظيم الشأن وهو (كِتابٌ مَرْقُومٌ) (٩) أي قد أثبتت فيه العلامات الدالة على الأعمال.
[الآيات ١٠ ـ ١٣] : هلاك وعذاب عظيم لهؤلاء المكذّبين ، الذين يكذّبون الرسول (ص) ، ولا يؤمنون بيوم الحساب والجزاء ، الذي أخبرهم به عن ربّ العلمين.
وما يكذّب بهذا اليوم ، إلّا من اعتدى على الحقّ ، وعمي عن الإنصاف ، واعتاد ارتكاب الآثام ، والإعراض عن الحق والهدى ، ولذلك إذا تليت عليه آيات القرآن ، أو أخبار البعث والجزاء أنكرها ، وقال هذه أباطيل السابقين.
[الآية ١٤] : (كَلَّا) ليس كما يقولون (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) أي غطّى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية ؛ والقلب الذي يتعوّد المعصية ينطمس ويظلم ، ويرين عليه غطاء كثيف ، يفقده الحساسية شيئا فشيئا ، حتى يتبلّد ويموت.
روى التّرمذيّ (١) ، والنسائي ، وابن ماجة : «أنّ العبد إذا أذنب ذنبا نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإن هو نزع ، واستغفر ، وتاب ، صقل قلبه ؛ وإن عاد زيد فيها ، حتّى تعلو ، فهو الران ، الذي قال الله تعالى : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤).
وقال الحسن البصري : هو الذنب على الذنب يعمي القلب فيموت.
ثم يذكر السياق شيئا عن مصيرهم يوم القيامة ، بقوله تعالى :
[الآيات ١٥ ـ ١٧] : (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧).
فهم في يوم القيامة مطرودون من رحمة الله ، محرومون من رؤيته في الآخرة ، ثم إنّهم يصلون عذاب جهنّم ، مع التأنيب والتقريع على تكذيبهم الحق ، وإنكارهم البعث والجزاء ؛ فيقال لهم : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) (١٧).
[الآيات ١٨ ـ ٢١] : إن كتاب الأبرار محفوظ في سجلّ ممتاز في أعلى مكان في الجنّة ، وما أعلمك ما هذا المكان ، فهو أمر فوق العلم والإدراك ، كتاب مسطور فيه أعمالهم ، وهو موضع مشاهدة المقرّبين من الملائكة ، ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات.
[الآيات ٢٢ ـ ٢٨] : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) (١٣) إنّ الأبرار المتّقين الذين يؤمنون بالله ، ويعملون أنواع البر من القربات والطاعات ، هؤلاء ينعمون بنعيم الجنة ، وهم على الأسرّة في الحجال (٢) ينظرون إلى ما أعدّ لهم من النعيم ؛ وترى على وجوههم آثار النعمة وبهجتها ، يسقون خمرا مختومة بالمسك ، وهي لا تسكر كخمر الدنيا ؛ وفي ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون ، وليرغب الراغبون بالمبادرة الى طاعة ربهم ، باتّباع أوامره واجتناب نواهيه. وهذا الشراب المعدّ لهم ممزوج بشراب آخر ينصبّ عليهم من عين
__________________
(١). قال التّرمذي حسن صحيح ، وللحديث روايات أخرى بألفاظ قريبة في المعنى
(٢). الحجال : جمع حجلة ؛ والحجلة ستر يضرب في جوف البيت.
عالية ، يشرب منها المقربون إلى رضوان ربهم. وقد سئل ابن عبّاس عن هذا فقال : هذا ممّا قال الله تعالى : (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٧) [السجدة].
«وقصارى ما سلف ، أنّه ، سبحانه ، وصف النعيم الذي أعدّه للأبرار في دار كرامته بما تتطلع اليه النفوس ، وبما يشوّقها اليه ، ليكون حضّا للذين يعملون الصالحات على الاستزادة من العمل ، والاستدامة عليه ؛ وحثّا لهمم المقصرين ، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد من العمل الصالح ، ليكون لهم مثل ما لأولئك» (١).
[الآيات ٢٩ ـ ٣٣] : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) (٢٩) : كانوا يضحكون منهم استهزاء بهم وسخرية منهم ، إمّا لفقرهم ورثاثة حالهم ، وإمّا لضعفهم عن ردّ الذي ، وإمّا لترفّعهم عن سفاهة السفهاء ؛ فكلّ هذا ممّا يثير ضحك الذين أجرموا ، وهم يتّخذون المؤمنين مادّة لسخريتهم ، أو فكاهتهم المرذولة. (وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) (٣٠) يغمز بعضهم لبعض بعينه ، أو يشير بيده ، أو يأتي بحركة متعارف عليها بينهم للسخرية من المؤمنين ، وإذا انقلب هؤلاء الضالّون إلى أهلهم ، ورجعوا إلى بيوتهم ، رجعوا إليها فكهين ملتذّين بحكاية ما يعيبون به أهل الايمان ، إذ يرمونهم بالسّخافة وقلّة العقل ، (وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) (٣٢) أي وإذا رأوا المؤمنين نسبوهم الى الضلال ؛ لأنهم نبذوا العقائد الفاسدة ، وتركوا عبادة الأصنام. ولم يرسل الله ، سبحانه ، الكفّار رقباء على المؤمنين ، ولا كلّفهم بمحاسبتهم على أفعالهم ، فما لهم وهذا الوصف ، وهذا التقرير.
روي أن عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه ، جاء في نفر من المسلمين ، فرآه بعض هؤلاء الكفّار ، فسخروا منه وممّن معه ، وضحكوا منهم ، وتغامزوا بهم ، ثمّ رجعوا إلى جماعتهم من أهل الشرك ، فحدّثوهم بما صنعوا به ، وبأصحابه.
والآيات ترسم مشهدا لسخرية
__________________
(١). تفسير المراغي للأستاذ أحمد مصطفى المراغي ، ط ٣ ، مصطفى البابي الحلبي ، ٣٠ / ٨٢.
المجرمين من المؤمنين ، وقد يكون لنزولها سبب خاص ، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ؛ ففي الآيات تعبير واقعي عن سخرية القويّ الفاجر من المؤمن الصابر ، ممّا يدل على أن طبيعة الفجّار المجرمين واحدة ، متشابهة ، في موقفها من الأبرار ، في جميع البيئات والعصور.
يقول الإمام محمد عبده : «من شأن القويّ المستعز بكثرة أتباعه وقدرته ، أن يضحك ممن يخالفه في المنزع ، ويدعوه إلى غير ما يعرفه وهو أضعف منه قوّة وأقلّ عددا ؛ كذلك كان شأن جماعة من قريش ، كأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وأتباعهم ؛ وهكذا يكون شأن أمثالهم في كلّ زمان متى عمّت البدع ، وتفرّقت الشيع ، وخفي طريق الحق بين طرق الباطل ، وجهل معنى الدين ، وأزهقت روحه من عباراته وأساليبه ، ولم يبق الا ظواهر لا تطابقها البواطن» (١).
[الآيات ٣٤ ـ ٣٦] : (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) (٣٤) أي في يوم القيامة ؛ والكفّار محجوبون عن ربهم ، يقاسون ألم هذا الحجاب ؛ يضحك المؤمنون ، ضحك من وصل به يقينه الى مشاهدة الحق ، فسرّ به ؛ وينكشف للمؤمنين ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم ، وخذلان أعدائهم ، (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) (٣٥) وهمّ على سررهم في الجنة ينظرون إلى صنع الله بأعدائهم ، وإذلاله لمن كان يفخر عليهم ، وتنكيله بمن كان يهزأ بهم ، جزاء وفاقا. (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦)؟ أي أنهم ينظرون ليتحقّقوا : هل جوزي الكفّار ، بما كانوا يفعلون بهم في الدنيا ؛ وإنما سمّي الجزاء على العمل ثوابا ، لأنه يرجع الى صاحبه نظير ما عمل من خير أو شر.
و (ثوّب) مثل أثاب ، بمعنى جازى ، يقع في الخير وفي الشر ، وإن كان قد غلب الثواب في الخير. أي هل جوزي الكفّار بما كانوا يفعلون؟
مقاصد السورة
١ ـ وعيد المطفّفين.
__________________
(١). تفسير جزء عمّ ، للأستاذ الإمام محمد عبده ، الطبعة السادسة ، مطابع الشعب ، ص ٣٧.
٢ ـ بيان أن صحائف أعمال الفجّار في أسفل سافلين.
٣ ـ الإرشاد إلى أنّ صحائف أعمال الأبرار في أعلى علّيّين.
٤ ـ وصف نعيم الأبرار ، في مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم.
٥ ـ استهزاء المجرمين بالمؤمنين في الدنيا.
٦ ـ تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة.
٧ ـ نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النّكال.
المبحث الثاني
ترابط الآيات في سورة «المطفّفين» (١)
تاريخ نزولها ووجه تسميتها
نزلت سورة المطفّفين بعد سورة العنكبوت ، وهي آخر سورة نزلت بمكّة ، فيكون نزولها بعد الإسراء وقبيل الهجرة.
وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) وتبلغ آياتها ستا وثلاثين آية.
الغرض منها وترتيبها
الغرض من هذه السورة تحريم التّطفيف في المكيال والميزان ، وإنذار من يفعل ذلك ، بأنه مبعوث لحساب لا تساهل فيه بتطفيف أو نحوه. وبهذا سار سياقها في الترهيب كما سارت السورة قبلها ، وهذا هو وجه ذكرها بعدها.
تحريم التطفيف
الآيات [١ ـ ٣٦]
قال الله تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) فأنذر المطفّفين بالويل ؛ وذكر سبحانه أنهم الذين يستوفون إذا اكتالوا على الناس ، وإذا كالوهم أو وزنوهم ينقصون ؛ والتطفيف البخس في المكيال والميزان بالشيء القليل على سبيل الخفية ؛ ثمّ أنذرهم جلّ وعلا بأنهم مبعوثون ليوم عظيم ، وبأن كتاب أعمالهم في سجّين ، وهي الأرض السّفلى ؛ فإذا أتى هذا اليوم ، فويل لهم
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.
على تكذيبهم به ... إلخ ؛ ثم انتقل السياق من هذا الترهيب إلى الترغيب ، بذكر أنّ كتاب الأبرار في علّيّين ، وهي السماء السابعة ؛ وذكر تعالى ما ذكر ممّا أعده لهم ؛ ثمّ ذكر أنّ أولئك المجرمين ، كانوا يضحكون من هؤلاء الأبرار في الدنيا ، وأنّ هؤلاء الأبرار يضحكون منهم في الآخرة ، وهم على الأرائك ينظرون : (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) (٣٦).
المبحث الثالث
أسرار ترتيب سورة «المطفّفين» (١)
أقول : الفصل بهذه السورة ، بين الانفطار والانشقاق ، التي هي نظيرتها من خمسة أوجه : الافتتاح ب (إِذَا السَّماءُ) [الانفطار / ١] والتخلص ب (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) [الانفطار / ٦] ، وشرح حال يوم القيامة ؛ ولهذا ضمّت بالحديث السابق ، والتناسب في المقدار ، وكونها مكّيّة.
وهذه السورة مدنيّة ، ومفتتحها ومخلصها غير مآلها ، لنكتة ألهمنيها الله. وذلك أن السور الأربع ، لمّا كانت في صفة حال يوم القيامة ، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه.
فغالب ما وقع في التكوير ، وجميع ما وقع في الانفطار ، وقع في صدر يوم القيامة ، ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل ، ومقاساة العرق والأهوال ، فذكره في هذه السورة بقوله تعالى : (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦).
ولهذا ورد في الحديث : «يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه» (٢).
ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى ، فتنشر الكتب ، فأخذ باليمين ، وأخذ بالشمال ، وأخذ من وراء الظهر ، ثم بعد ذلك يقع الحساب.
هكذا وردت بهذا الترتيب الأحاديث ؛ فناسب تأخير سورة الانشقاق التي فيها إتيان الكتب
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه / ١٩٧٨ م.
(٢). أخرجه البخاري في التفسير ٦ / ٢٠٧ عن ابن عمر ، وأحمد في المسند مع اختلاف في اللفظ ٢ / ١٣ ، ١٩ ؛ وعلى المطابقة ٢ / ٣١.
والحساب (١) ، عن السورة التي قبلها ، والتي فيها ذكر الموقف عن التي فيها مبادئ يوم القيامة.
ووجه آخر ، وهو : أنه جلّ جلاله لما قال في الانفطار : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ) (١١). وذلك في الدنيا ، ذكر في هذه السورة حال ما يكتبه الحافظان ، وهو : كتاب مرقوم جعل في علّيّين ، أو في سجّين ، وذلك أيضا في الدنيا ، لكنّه عقّب بالكتابة ، إمّا في يومه ، أو بعد الموت في البرزخ كما في الآثار. فهذه حالة ثانية في الكتاب ذكرت في السورة الثانية. وله حالة ثالثة متأخّرة فيها ، وهي أخذ صاحبه باليمين أو غيرها ، وذلك يوم القيامة ، فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك ، عن السورة التي فيها الحالة الثانية ، وهي الانشقاق ، فلله الحمد على ما منّ بالفهم لأسرار كتابه.
ثم رأيت الإمام فخر الدين قال في سورة المطفّفين أيضا : اتصال أوّلها بآخر ما قبلها ظاهر ، لأنّه تعالى بيّن هناك أن يوم القيامة من صفته : (لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار / ١٩] وذلك يقتضي تهديدا عظيما للعصاة ، فلهذا أتبعه بقوله سبحانه : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١).
__________________
(١). وذلك في قوله تعالى : (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) (٧) [الانشقاق] ، إلى قوله : (وَيَصْلى سَعِيراً) (١٢) [الانشقاق].
المبحث الرابع
لغة التنزيل في سورة «المطفّفين» (١)
١ ـ قال تعالى : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١).
التّطفيف : هو البخس في الكيل والوزن ، لأنّ ما يبخس شيء طفيف حقير.
أقول : كأنّ المطفّف : هو الذي ينقص وضع الطفافة ، وهي الزيادة بعد الكيل وفاء لما نقص منه في أثناء الكيل ، وعلى هذا كان «المطفّف» من يمنع «الطّفافة» سرقة وغشّا ، محاباة للبائع الذي يكيل لمصلحته ، وكما يكون في الكيل يكون ذلك في الوزن.
ثم قال تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣).
والمعنى واضح ، والأصل : كالوا لهم ووزنوا لهم ثم حذف وأوصل.
٢ ـ وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) (٧).
وقوله تعالى : (سِجِّينٍ) ، أي كتاب جامع هو ديوان الشّرّ ، دوّن الله فيه أعمال الشياطين ، وأعمال الكفرة ، والفسقة من الجن والإنس ؛ وهو كتاب مرقوم مسطور بيّن الكتابة.
٣ ـ وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (١٨).
وعلّيّون : علم لديوان الخير ، الذي دوّن فيه كل ما عملته الملائكة وصلحاء الثّقلين.
أقول : و «علّيون» مما ألحق بجمع المذكر السالم لا واحد له ؛ وهو ممّا يشير إلى أن هذا الجمع قد شمل طائفة
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.
كبيرة من الكلم ، عاقلا كان أم غير عاقل.
وقالوا أيضا : العلّيّون الغرف العالية في الجنة.
٤ ـ وقال تعالى : (وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) (٢٧).
وقوله تعالى : (تَسْنِيمٍ) (٢٧) علم بعينها في الجنة.
٥ ـ وقال تعالى : (وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) (٣١).
أي : ملتذّين بذكرهم.
أقول : وجميع ما جاء من المعاني في (فكهين) ، في هذه الآية وغيرها ، من أصل «الفاكهة» ؛ فاللذّة والتعجّب استفيدا من نعمة «الفاكهة». وكذلك «الفكاهة» الشائعة في عصرنا.
المبحث الخامس
المعاني اللغوية في سورة «المطفّفين» (١)
قال تعالى : (وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) (٣) أي : «إذا كالوا النّاس أو وزنوهم» ، فأهل الحجاز يقولون «كلت زيدا» و «وزنته» أي : «كلت له» و «وزنت له».
قال تعالى : (لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) بجعله في الحين ، كما تقول «فلان اليوم صالح» تريد به الآن في هذا الحين ، وتقول هذا بالليل «فلان اليوم ساكن» أي : الآن ، أي : هذا الحين ، ولا نعلم أحدا قرأها جرا ؛ والجرّ جائز.
وقال تعالى (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ) [الآية ١٤] ؛ تقول : «ران» «يرين» «رينا».
وقال سبحانه : (عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا) [الآية ٢٨] بجعله على (يُسْقَوْنَ) [الآية ٢٥](عَيْناً) [الآية ٢٨] ؛ وإن شئت جعلته على المدح ، فتقطع من أول الكلام ، كأنك تقول : «أعني عينا».
وقال تعالى : (هَلْ ثُوِّبَ) [الآية ٣٦] فإن شئت أدغمت (٢) وإن شئت لم تدغم ، لأن اللام (٣) مخرجها بطرف اللسان قريب من أصول الثنايا ، والثاء بطرف اللسان وأطراف الثنايا ، إلّا أنّ اللام بالشّقّ الأيمن أدخل في الفم ، وهي قريبة المخرج منها ؛ ولذلك قرئ
__________________
(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.
(٢). نسب الإدغام في السبعة ٦٧٦ إلى أبي عمرو ؛ وفي البحر ٨ / ٤٤٣ إلى النحويين ، وحمزة ، وابن محيصن.
(٣). نسب عدم الإدغام إلى غير أبي عمرو ؛ وفي السبعة ٦٧٦ إلى الجمهور ؛ وفي البحر ٨ / ٤٤٣.
(بَلْ تُؤْثِرُونَ) [الأعلى / ١٦] فأدغمت اللام في التاء (١) ، لأنّ مخرج التاء والثاء قريب ، من مخرج اللام.
__________________
(١). هي قراءة نسبت في إعراب ابن خالويه ٦٢ إلى حمزة ؛ وقيل قراءة حمزة ، والكسائي ، وهشام ، والتيسير ٤٣.