الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

١

سورة المرسلات

٧٧

٢

المبحث الأول

أهداف سورة «المرسلات» (١)

سورة المرسلات سورة مكّية ، آياتها خمسون آية ، نزلت بعد سورة الهمزة.

وسورة المرسلات سورة قصيرة الآيات ، عاصفة الملامح ، شديدة الإيقاع ، كأنها سياط لاذعة تلهب صدور المنكرين ، توقف القلب البشري وقفة المحاكمة الرهيبة ، فتواجهه بسيل من الاستفهامات والاستذكارات ، والتهديدات ، تنفذ إليه كالسهام المسنونة.

«وتعرض السورة عددا من المشاهد المتنوّعة عن الكون وخلق الإنسان واليوم الآخر ، وعذاب المجرمين ونعيم المتّقين. وعقب كلّ مشهد تلفح المذنب لفحة من التهديد والوعيد ، حين تقول (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (١٥) ويتكرر هذا التعقيب عشر مرات في السورة ، وهو لازمة الإيقاع فيها ، وهو أنسب تعقيب لملامحها الحادّة ، ومشاهدها العنيفة ، وإيقاعها الشديد ، وهذه اللازمة تذكرنا باللازمة المكررة في سورة الرحمن ، عقب عرض كل نعمة من نعم الله على العباد (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) (١٦). كما تذكرنا باللازمة المكررة في سورة القمر ، عقب كل حلقة من حلقات العذاب : (فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ) وتكرارها هنا على هذا النحو يجعل للسورة سمة خاصة ، وطعما مميّزا حادّا» (٢).

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

(٢). في ظلال القرآن ٢٩ / ٢٣١ ، بتصرف.

٣

تسلسل أفكار السورة

تبدأ السورة بقسم عاصف ثائر ، بمشهد الرياح أو الملائكة ، يتبعه عشر جولات متتابعة ، تثير في النفس طائفة من التأملات ، والمشاعر ، والخواطر ، والتأثّرات والاستجابات.

١ ـ [فالآيات ٨ ـ ١٥] تصف مشاهد القيامة وتصوّر الانقلابات الكونيّة الهائلة في السماء والأرض. وفي هذا اليوم تنتهي حسابات الرسل مع البشر ، ويتبيّن الصادق من الكاذب.

٢ ـ [والآيات ١٦ ـ ١٩] تصف مصارع الغابرين ، وتشير إلى سنن الله تعالى في المكذّبين ، فكما أهلك قوم نوح بالغرق ، وأهلك أمم عاد وثمود وفرعون ، فهو يفعل ذلك بكل مكذّب برسالات السماء ، وهدي الأنبياء.

٣ ـ [والآيات ٢٠ ـ ٢٤] تصف النشأة الأولى ، وما تشير إليه من تقدير وتدبير.

٤ ـ [والآيات ٢٥ ـ ٢٨] تصف الأرض التي تضم أبناءها إليها ، أحياء وأمواتا ، وقد جهّزت لهم بالاستقرار والجبال والمياه.

٥ ـ [والآيات ٢٩ ـ ٣٤] تصف حال المكذّبين يوم القيامة ، وما يلقونه من تقريع وتأنيب.

٦ ـ [والآيات ٣٥ ـ ٣٧] استطراد مع موقف المكذّبين ، وبيان ألوان العذاب والهوان الذي يتعرّضون له.

٧ ـ [والآيات ٣٨ ـ ٤٠] تصف ضعف الإنسان ، وفقدان حيلته ، أمام الجمع والحشر والحساب والجزاء.

٨ ـ [والآيات ٤١ ـ ٤٥] تصف نعيم المتّقين ، وطعامهم وشرابهم وتكريمهم.

٩ ـ [والآيتان ٤٦ ـ ٤٧] خطفة سريعة مع المكذّبين ، في موقف التأنيب.

١٠ ـ [والآيات ٤٨ ـ ٥٠] وصف لحال المكذّبين ، وامتناعهم عن الإيمان. والاستجابة لآيات القرآن.

وبعض هذه المشاهد قد سبق ذكره ، وتكرّر وروده في القرآن الكريم ، وفي السور المكية بوجه خاص. ولكنها تعرض هنا سريعة أخّاذة ، لها رنين وجدّة في مشاهد جهنّم ، وفي مواجهة المكذّبين بهذه المشاهد ، وفي أسلوب

٤

العرض والخطاب كلّه ؛ ومن ثمّ تبرز شخصية خاصة للسورة حادّة الملامح ، متنوّعة في أساليب الخطاب ، متنقّلة من قسم إلى خبر إلى استفهام إلى أمر ، فذلك كلام الله ، ومن أحسن من الله حديثا؟

مع آيات السورة

[الآيات ١ ـ ٧] : يقسم الله تعالى بطوائف الملائكة ، يرسلهنّ بالمعروف والإحسان ، وأوامره الكريمة ، فيعصفن عصف الرياح مسرعات وينشرن شرائعه في الأرض ، فيفرقن بها بين الحقّ والباطل ، ويلقين إلى أنبيائه ذكرا يريد تبليغهم إيّاه ، عذرا للمحقّين ، ونذرا للمبطلين ؛ يقسم بهذه الملائكة على أن ما توعدون من مجيء القيامة واقع لا محالة.

وقيل إن القسم في هذه الآيات بالرّياح ، وآثارها في الكون ، ونشرها السحاب في الأفق.

وقيل إن القسم في الآيات الثلاث الأولى بالرياح متتابعة كعرف الفرس ، (فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً) (٢) الشديدة المهلكة ، (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) (٣) التي تنشر المطر ، فأقسم سبحانه بالرياح النافعة والضارة.

والقسم في الآيات [٤ ـ ٦] بالملائكة : فإنها تنزل بأمر الله على الرسل ، تفرق بين الحق والباطل ، وتلقي إلى الرسل وحيا فيه إعذار إلى الخلق وإنذار.

ولعل من إعجاز القرآن أنّ الآية تشير إلى معنى وتحتمل معنى ، وتستتبع معنى آخر ؛ ولعل هذا التجهيل والخلاف في مفهوم الآية مقصود لله سبحانه ، ليكون أثرها أقوى في النفس.

وقد ذكر ابن جرير الطبري تفسير هذه الآيات ، وعند تفسير (وَالنَّاشِراتِ نَشْراً) (٣) بيّن أن بعض المفسّرين قال هي الرياح ، وبعضهم قال : هي المطر ، وبعضهم قال : هي الملائكة.

ثم عقّب الطبري بقوله : «وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إنّ الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا ، ولم يخصّص شيئا من ذلك دون شيء ، فالرياح تنشر السحاب ، والمطر ينشر الأرض ، والملائكة تنشر الكتب ، ولا دلالة من وجه يجب التسليم له ، على أن المراد من ذلك بعض دون بعض ، فدل ذلك

٥

على أن المراد بالآية كل ما كان ناشرا» (١).

[الآيات ٨ ـ ١٥] : يوم تطمس النجوم فيذهب نورها ، وتفرج السماء أي تشقّ ، وتنسف الجبال فهي هباء. وإلى جانب هذا الهول في مشاهد الكون ، تعرض السورة أمرا مؤجّلا ، هو موعد الرسل لعرض حصيلة الدعوة والشهادة على الأمم ، والقضاء والفصل بين كل رسول وقومه ، (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ) [المائدة / ١٠٩]. وفي هذا اليوم عذاب وخزي لمن كذّب بالله ورسله وكتبه ، وبكلّ ما ورد على ألسنة أنبيائه وأخبروا به.

[الآيات ١٦ ـ ١٩] : تجول هذه الآيات في مصارع الأوّلين والآخرين ، وفي ضربة واحدة تكشف مصارع الأوّلين ، من قوم نوح ومن بعدهم ، وتتكشّف مصارع الآخرين ، ومن لفّ لفّهم. وعلى مد البصر تتبدّى المصارع والأشلاء ، فهي سنّة الله التي لا تتبدّل ، من سيادة الصالحين ، وهلاك المجرمين. وفي الآخرة هلاك وعذاب شديد للمكذّبين. [الآيات ٢٠ ـ ٢٤] : هذه الآيات جولة في الإنشاء والإحياء ، مع التقدير والتدبير ، فهي تصف خلق الإنسان من نطفة مراقة ، تستقرّ في حرز مكين وهو الرّحم ، حتى تصير جنينا مكتملا (فَقَدَرْنا) وقت ولادته (فَنِعْمَ الْقادِرُونَ) [الآية ٢٣] ، نحن ، على التدبير وإحكام الصنعة. وفي الآخرة عذاب شديد للمكذّبين بآيات الله وقدرته وحكمته.

[الآيات ٢٥ ـ ٢٨] : وهذه الآيات جولة في خصائص الأرض ، وتقدير الله فيها لحياة البشر ، وإيداعها الخصائص الميسرة لهذه الحياة : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً) (٢٥) (٢) تحتضن بنيها وتجمعهم (أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٢٦) ، (وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ) [الآية ٢٧] ثابتات سامقات ، تتجمّع على قممها السحب ، وتنحدر عنها مساقط الماء العذب ، أفيكون هذا إلّا عن قدرة وتقدير ، وحكمة وتدبير؟ .. أفبعد هذا يكذّب المكذّبون؟ (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٢٨).

[الآيات ٢٩ ـ ٣٤] : تنتقل الآيات في وصف مشهد من مشاهد القيامة ، والكفّار ينطلقون بعد طول احتباس إلى

__________________

(١). تفسير الطبري ٢٩ / ١٤٢ مطبعة بولاق ، الطبعة الأولى ، ١٣٢٩ ه‍.

(٢). الكفات : ما يكفت أي يضمّ ويجمع.

٦

العذاب الذي كانوا يكذّبون به في الدنيا.

إنّه انطلاق خير منه الارتهان والاحتباس ، (انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) (٣٠) ، وهو دخان جهنّم يتشعّب لعظمه ثلاث شعب ، وتمتدّ ألسنته إلى أقسام ثلاثة ، بعضها أشد من بعض ، ولكنه ظلّ خير منه الوهج (لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (٣١) ، إنه ظلّ خانق حارّ لافح ، وتسميته بالظّلّ من باب التهكّم والسخرية ، فهو لا يظلّ من حرّ ذلك اليوم ، ولا يقي من لهب جهنّم (١).

(إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (٣٢) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) (٣٣) أي أن هذه النار يتطاير منها شرر متفرّق في جهات كثيرة ، كأنه القصر عظما وارتفاعا ، وكأنه الجمال الصفر لونا وكثرة وتتابعا وسرعة حركة ؛ وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول ، يجيء التعقيب المعهود : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٣٤).

[الآيات ٣٥ ـ ٣٧] : هذا يوم لا يتكلّمون فيه بحجّة نافعة تنقذهم ممّا هم فيه ، ولو كانت لهم حجّة لما عذّبوا هذا العذاب ، ولا يؤذن لهم بالاعتذار ولا يقبل منهم ، فالهلاك لمن كذّب بعذاب يوم القيامة.

«وقد سئل ابن عبّاس رضي الله عنهما عن هذه الآية ، وعن قوله تعالى : (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ) (٣١) [الزمر] ، فقال : في ذلك اليوم مواقف ، في بعضها يختصمون ، وفي بعضها لا ينطقون ، أو لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق» (٢) والعرب تقول لمن ذكر ما لا يفيد : ما قلت شيئا.

[الآيات ٣٨ ـ ٤٠] : هذا يوم الفصل

__________________

(١). في الشعر العربي :

والمستجير بعمرو عند كربته

كالمستجير من الرمضاء بالنار

والرمضاء هي الرمل الساخن من شدة الحر ، أي من قصد عمرا وهو في كربة فلن يجد ما يخفف عنه ، بل سيجد ما يزيده ألما ، وينقله إلى ما هو أشدّ ، كمن ينتقل من حرارة الرمال إلى حرارة النار. وكذلك الكفّار ينتقلون من حرارة المحشر ، إلى ظل خانق لا يحمي من الحر ولا يقي من النار ، وهو ظلّ مؤلم لا مريح.

(٢). تفسير النسفي ٤ / ٢٤٢ ، ٢٤٣.

٧

لا يوم الاعتذار ، وقد جمعناكم والأوّلين أجمعين ، فإن كان لكم تدبير فدبّروه ، وإن كانت لكم حيلة في دفع العذاب عنكم فاحتالوا لتخليص أنفسكم من العذاب. وفي هذا تقريع لهم على كيدهم للمؤمنين في الدنيا ، وإظهار لعجزهم وقصورهم حينئذ ، فهم في صمت كظيم ، وتأنيب أليم. والويل الشديد في ذلك اليوم للمكذّبين بالبعث والجزاء.

[الآيات ٤١ ـ ٤٥] : إنّ المتّقين في ظلال حقيقية ، هي ظلال الأشجار على شواطئ الأنهار ، فلا يصيبهم حرّ ولا قرّ ، ويتمتّعون بما تشتهيه أنفسهم من الفواكه والمآكل الطيّبة. ومع التكريم الحسي يلقون ألوان التكريم المعنوي ، فيقال لهم على مرأى ومسمع من الجموع : (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٤٣) : جزاء بما عملتم في الدنيا من طاعة ربكم ، واجتهدتم في ما يقرّبكم من رضوانه ، فهل جزاء الإحسان في الدنيا إلّا الإحسان في الجنة؟.

وبمثل هذا الجزاء نجزي كل الذين يحسنون في أعمالهم وأقوالهم ، وشأنهم الإحسان ، ويقابل هذا النعيم الويل للمكذّبين.

[الآيتان ٤٦ ـ ٤٧] : كلوا وتمتعوا قليلا في هذه الدار بقيّة أعماركم ، وهي قليلة المدى إذا قيست بالآخرة ، وهناك ستحرمون ، وتعذّبون طويلا : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٧).

[الآيات ٤٨ ـ ٥٠] : وإذا قيل لهؤلاء المكذّبين اعبدوا الله وأطيعوه ، لا يستجيبون ولا يمتثلون ، (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) (٤٩) بأوامر الله ونواهيه ، (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠) : أي إذا لم يؤمنوا بهذه الدلائل على تجلّيها ووضوحها ، فبأيّ كلام بعد هذا يصدّقون؟ والذي لا يؤمن بهذا الحديث الذي يهزّ الرواسي ، وبهذه الهزّات التي تزلزل الجبال ، لا يؤمن بحديث بعده أبدا ، إنّما هو الشقاء والتعاسة والمصير البائس ، والويل المدّخر لهذا الشقيّ المتعوس.

إن هذه السورة ببنائها التعبيري ، وإيقاعها المتناسب ، ومشاهدها العنيفة ، ولذعها الحاد ، حملة لا يثبت لها كيان ، ولا يتماسك أمامها إنسان ؛ فسبحان الذي نزّل القرآن وأودعه ذلك السلطان.

٨

مقاصد السورة

من مقاصد سورة المرسلات ما يأتي :

١ ـ القسم بالملائكة على أن البعث حقّ ، وأنّ القيامة آتية.

٢ ـ الإخبار عن هلاك القرون الماضية ، ووعيد المكذّبين بالمصير نفسه.

٣ ـ المنّة على الخلائق بنعمة الخلق والتكوين ، وسائر النعم في الأنفس والآفاق.

٤ ـ وصف عذاب المكذّبين بما تشيب من هوله الولدان.

٥ ـ وصف نعيم المتّقين وما يلقونه من الكرامة في جنات النعيم ، وبيان عظمة الخالق وكمال قدرته.

والحمد لله الذي بنعمته تكون الصالحات ، وصلّ اللهمّ على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

٩
١٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «المرسلات» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة المرسلات بعد سورة الهمزة ، ونزلت سورة الهمزة بعد سورة القيامة ، وكان نزول سورة القيامة فيما بين الهجرة إلى الحبشة والإسراء ، فيكون نزول سورة المرسلات في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) (١) ، وتبلغ آياتها خمسين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة : إثبات وقوع ما يوعدون به من العذاب ، وبهذا جاء سياقها في الإنذار والترهيب والترغيب ، كما جاء سياق السورة السابقة ؛ ولهذا جاء ذكرها بعدها مناسبا لها.

إثبات وقوع العذاب

الآيات [١ ـ ٥٠]

قال الله تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً (٦) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) (٧) فأقسم ، سبحانه ، بهذا على وقوع ما يوعدون به من العذاب ، ثمّ ذكر أنّه إذا طمست النجوم وحصل غير هذا مما ذكره ، فإنه يكون يوم الفصل في عذابهم ؛ وويل يومئذ لهم ، ثم ذكر ، جلّ وعلا ، أنه كما أهلك الأولين

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١١

والآخرين يهلكهم هم ، وويل يومئذ لهم ؛ ثم ذكر أنه قد خلقهم من ماء مهين ، وجعل الأرض كفاتا ، إلى غير هذا مما يدل على قدرته على عذابهم. ثم انتقل السياق إلى الترغيب بعد الترهيب ، فذكر ، سبحانه ، أنّ المتقين في ظلال وعيون ، إلى غير هذا مما ذكره في ترغيبهم ، ثم عاد السياق إلى ترهيب المكذّبين ، فأمرهم ، على سبيل التهديد ، أن يأكلوا ويتمتعوا ، إنهم مجرمون ؛ وذكر أنهم ، إذا قيل لهم اركعوا ، لا يركعون : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (٤٩) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (٥٠).

١٢

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «المرسلات» (١)

أقول : وجه اتّصالها بالسورة السابقة : أنّه تعالى ، لمّا أخبر في خاتمتها ، أنّه (يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (٣١) ، افتتح هذه بالقسم على أن ما يوعدون واقع ، فكان ذلك تحقيقا لما وعد به هناك المؤمنين ، وأوعد الظالمين. ثم ذكر وقته وأشرطه بقوله سبحانه : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٨) إلى آخره.

ويحتمل أن تكون الإشارة بما يوعدون إلى جميع ما تضمنته السورة من وعيد للكافرين ، ووعد للأبرار (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). وهناك مناسبة بين «القيامة» و «الإنسان» و «المرسلات» من ناحية خلق الإنسان. ففي «القيامة» قال تعالى : (أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (٣٧) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (٣٨) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (٣٩) ، فذكر بداية الخلق. وفي «الإنسان» تدرّج إلى الحديث عن إتمام بناء الإنسان حتّى صار شديد الأسر : (نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ) [الآية ٢٨]. ولمّا كانت قوة الإنسان مظنّة كبريائه ، ذكّره ، في «المرسلات» ، بمهانة أصله : (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٢٠). ومعاني السور الثلاث تدور حول الأصول. ولذلك قال تعالى في «المرسلات» : (فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ) (٣٩) ، إعلاما بقهره للعباد.

١٣
١٤

المبحث الرابع

مكنونات سورة «المرسلات» (١)

أخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة ، قال :

١ ـ (وَالْمُرْسَلاتِ) [الآية ١] : الملائكة (٢).

وعن أبي صالح ، أنه قال في :

٢ ـ (وَالنَّاشِراتِ) [الآية ٣].

٣ ـ (فَالْفارِقاتِ) [الآية ٤].

٤ ـ (فَالْمُلْقِياتِ) [الآية ٥] : الملائكة (٣).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). وأخرج الطبري ٢٩ / ١٤٠ عن ابن مسعود وابن عبّاس ومجاهد وغيرهم : أنّها الرياح ، ثمّ قال : «ولا دلالة تدل على أنّ المعنيّ بذلك أحد الحزبين دون الآخر ، وقد عمّ جلّ ثناؤه بإقسامه بكل ما كانت صفته ما وصف ، فكل من كان صفته كذلك فداخل في قسمه ذلك ، ملكا أو ريحا أو رسولا من بني آدم مرسلا».

(٣). وأخرجه الطبري ٢٩ / ١٤٢ ، وروى عن آخرين : أنها الرياح ، وقال آخرون : هي المطر. قال أبو جعفر الطبري : «وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أقسم بالناشرات نشرا ولم يخصّص شيئا من ذلك دون شيء ؛ فالرياح تنشر السحاب ، والمطر ينشر الأرض ، والملائكة تنشر الكتب. ولا دلالة من وجه ، يجب التسليم له ، على أن المراد من ذلك بعض دون بعض ، فذلك على كلّ من كان ناشرا».

١٥
١٦

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «المرسلات» (١)

١ ـ قال تعالى : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) (٣٣).

قرئ : (جملت) بكسر الجيم بمعنى جمال (جمع جمل) ، و (جمالة) بالضم ، وهي القلس (٢) للجسور أو السفينة.

وقرئ (جمالات) و (جمالات) بالضم والكسر ، للقلوس.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). القلس : الحبل الضّخم.

١٧
١٨

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «المرسلات» (١)

قال تعالى : (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (٥) عُذْراً أَوْ نُذْراً) (٦) كلها قسم على (إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ) (٧).

وقال : (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ) (٨) فأضمر الخبر والله أعلم.

وقال سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (٢٥) أَحْياءً وَأَمْواتاً) (٢٦) على الحال.

وقال تعالى : (ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ) (١٧) بالرفع لأنه قطع من الكلام الأوّل ، وإن شئت جزمته إذا عطفته على (نُهْلِكَ).

وقال تعالى : (وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً) (٢٧) أي : جعلنا لكم ماء تشربون منه. وقال : (وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ) [الإنسان / ٢١] للشفة ، وما كان للشفة فهو بغير ألف ؛ وفي لغة قليلة قد يقول للشفة أيضا «أسقيناه» ؛ قال لبيد (٢) [من الوافر ، وهو الشاهد الخامس والسبعون بعد المائتين] :

سقى قومي بني مجد وأسقى نميرا والقبائل من هلال (٣) وقال تعالى : (إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (٣٠) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللهَبِ) (٣١) ثم استأنف السياق : (إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو لبيد بن ربيعة العامري أحد شعراء المعلّقات ، وأحد مخضرمي الجاهلية والإسلام. ترجمته في طبقات فحول الشعراء ١ / ١٣٥ ، والشعر والشعراء ١ / ٢٧٤ ، والأغاني ١٤ / ٩٣ و ١٥ / ١٣٦.

(٣). الشاهد في ديوانه ٩٣ والصحاح واللسان (سقي).

١٩

كَالْقَصْرِ) (٣٢) أي : كالقصور (١) وقرأ بعضهم (كالقصر) أي : كأعناق الإبل.

وقال تعالى : (كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ) (٣٣) ، بعض العرب يجمع «الجمال» على «الجمالات» (٢) كما تقول «الجزرات» وقرأ بعضهم (جمالات) (٣) وليس يعرف هذا الوجه.

وقال تعالى : (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ) (٣٥) فرفع (٤) ، ونصب بعضهم (٥) على قوله : «هذا الخبر يوم لا ينطقون» وكذاك (هذا يَوْمُ الْفَصْلِ) (٦) [الآية ٣٨] ، وترك التنوين للاضافة ، كأنّ السياق : «هذا يوم لا نطق» وان شئت نوّنت اليوم إذا أضمرت فيه ، كأنّك قلت «هذا يوم لا ينطقون فيه».

__________________

(١). القراءة بفتح القاف وسكون الصاد هي في الطبري ٢٩ / ٢٣٩ إلى قرّاء الأمصار وابن عبّاس ، وفي البحر ٨ / ٤٠٧ إلى الجمهور.

(٢). هي في معاني القرآن ٣ / ٢٢٥ إلى عمر بن الخطّاب ، وفي الطبري ٢٩ / ٢٤٢ الى عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض الكوفيّين ، وفي السبعة ٦٦٦ الى ابن كثير ونافع وابن عامر وأبي بكر عن عاصم ، وفي الكشف ٢ / ٣٥٨ ، والتيسير ٢١٨ ، والجامع ١٩ / ١٦٥ الى غير حفص والكسائي ، وفي البحر ٨ / ٤٠٧ الى الجمهور ومنهم عمر بن الخطاب.

(٣). في الطبري ٢٩ / ٢٤٣ الى ابن عبّاس ، وزاد في الجامع ١٩ / ١٦٥ مجاهدا وحميدا ، وزاد في البحر ٤٠٨ قتادة وابن جبير والحسن وأبا رجاء ، وأهمل حميدا ومجاهدا ، وكذلك في المحتسب ٢ / ٣٤٧.

(٤). في معاني القرآن ٣ / ٢٢٥ هي إجماع القراء. وفي البحر ٨ / ٤٠٧ إلى الجمهور.

(٥). في الشواذ ١٦٧ إلى الأعرج والأعمش ، وزاد في البحر ٨ / ٤٠٧ زيد بن علي وعيسى وأبا حيوة وعاصما في رواية.

(٦). الصافات ٣٧ / ٢١ أيضا.

٢٠