الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١١

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٢٣

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «التكوير» (١)

قال تعالى : (وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) (٤) ، واحدتها «العشراء» مثل «النفساء» و «النفاس» للجميع. قال الشاعر (٢) :

[من الرجز ، وهو الشاهد الثامن والسبعون بعد المائتين] :

ربّ شريب لك ذي حساس

ريّان يمشي مشية النّفاس

ويقال : «النّفاس». وقال تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ) (٨) «وأده» «يئده» «وأدا» مثل «وعده» «يعده» «وعدا» العين نحو الهمزة.

وقال تعالى : (سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٩) وقرأ بعضهم (سألت) (٣) هي.

وقال تعالى : (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) (١٢) لأنّ حرّها شدّد عليهم. وقرأ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). لم تفد المراجع شيئا عن القائل ، أمّا الرجز فجاء المصراع الأول في المخصّص ١١ / ٩٨ وحده ، وجاء مع مصراع آخر شاهد فيه هو : شرابه كالحز في المواسي. في الصحاح واللسان «حسن» واللسان والتاج «شرب».

(٣). في الطبري ٣٠ / ٧١ نسبت الى ابن الضحى (مسلم بن صبيح) وفي الشواذ ١٦٩ إلى الأمام علي بن ابي طالب وابن مسعود وابن عبّاس (رضي الله عنهم) وغيرهما عشرة من أصحاب رسول الله (ص) ؛ وفي الجامع ١٩ / ٢٣٣ الى الضّحّاك ، وابن الضّحّاك ، عن جابر بن زيد ، وأبي صالح ؛ وفي البحر ٨ / ٤٣٣ إلى الإمام علي بن ابي طالب ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وجابر بن زيد ، وأبي الضحى ، ومجالد ، وأبي الربيع بن خيثم ، وابن يعمر.

١٠١

بعضهم (١) (سُعِّرَتْ) (١٢) خفيفة (سعرت) (٢).

وقال تعالى : (الْجَوارِ الْكُنَّسِ) (١٦) فواحدها «كانس» والجمع «كنّس» كما تقول : «عاطل» و «عطّل».

وقال تعالى : (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) (٢٤) (٣) : «أي : ببخيل» وقرأ بعضهم (بظنين) (٤) أي : بمتّهم لأن بعض العرب يقول «ظننت زيدا» ف «هو ظنين» أي : اتّهمته ف «هو متّهم».

وقرأ بعضهم (سُجِّرَتْ) (٥) وخفّفها بعضهم (٦) ، واحتج ب (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) [الطور] والوجه التثقيل لأن ذلك إذا كسر جاء على هذا المثال ؛ يقال «قطّعوا» و «قتّلوا» ولا يقال للواحد «قطّع» يعني يده ولا «قتّل».

__________________

(١). نسبت هذه القراءة في معاني القرآن ٣ / ٢٤١ إلى غير الأعمش وأصحابه ، وفي الطبري ٣٠ / ٧٣ إلى عامّة قرّاء المدينة ، وفي السبعة ٦٧٣ إلى نافع ، وابن عمر ، وحفص ، عن عاصم ؛ وكذلك في البحر ٨ / ٤٣٤ ، وفي الكشف ٢ / ٣٦٣ ، والتيسير ٢٢٠ ، إلى نافع وحفص وابن ذكوان ، وفي الجوامع ١٩ / ٢٢٥ أبدل بحفص رويسا.

(٢). نسبت في معاني القرآن ٣ / ٢٤١ إلى الأعمش وأصحابه ؛ وفي الطبري ٣٠ / ٧٣ إلى عامّة قرّاء الكوفة ؛ وفي السبعة ٦٧٣ الى ابن كثير ، وأبي عمرو وحمزة ، والكسائي ، وأبي بكر ، عن عاصم ؛ وفي الكشف ٢ / ٣٦٣ ، والتيسير ٢٢٠ ، إلى غير نافع ، وحفص ، وابن ذكوان ؛ وفي البحر ٨ / ٤٣٤ إلى الإمام علي ، والسبعة ما عدا نافعا وابن عامر وحفصا.

(٣). نسبت في معاني القرآن ٣ / ٢٤٢ الى عاصم ، وأهل الحجاز ، وزيد بن ثابت ؛ وفي الطبري ٣٠ / ٨١ إلى عامّة قرّاء المدينة والكوفة ؛ وفي السبعة ٦٧٣ الى ابن مجاهد ، ونافع ، وعاصم ، وابن عامر ، وحمزة ؛ وفي الكشف ٢ / ٣٦٤ إلى غير ابن كثير ، وأبي عمرو ، والكسائي ؛ وكذلك في التيسير ٢٢٠ وفي البحر ٨ / ٤٣٥ إلى عثمان ، وابن عبّاس ، والحسن ، وأبي رجاء ، والأعرج ، وأبي جعفر ، وشيبة.

(٤). نسبت في معاني القرآن ٣ / ٢٤٢ إلى زرين بن حبيش ، وفي الطبري ٣٠ / ٨١ إلى بعض المكّيين ، وبعض البصريين ؛ وفي السبعة ٦٧٣ ، والكشف ٢ / ٣٦٤ ، والتيسير ٢٢٠ ، والجامع ١٩ / ٢٤٢ الى ابن كثير وأبي عمرو والكسائي ؛ وفي البحر ٨ / ٤٣٥ الى عبد الله ، وابن عبّاس ، وزيد بن ثابت ، وابن عمر ، وابن الزبير ، وعائشة ، وعمر بن عبد العزيز ، وابن جبير ، وعروة ، وهشام بن جندب ، ومجاهد وغيرهم من السبعة.

(٥). نسبها الطبري ٣٠ / ٦٩ إلى عامّة قرّاء المدينة والكوفة ، ونسبت في السبعة ٦٧٣ إلى ابن عامر ، ونافع ، وحفص عن عاصم ، وأبي بكر عن عاصم ، وحمزة ، والكسائي ؛ وفي الكشف ٢ / ٣٦٣ ، والتيسير ٢٢٠ إلى غير ابن كثير ، وأبي عمرو ؛ وفي البحر ٨ / ٤٣٢ إلى السبعة ، عدا ابن كثير ، وأبي عمرو.

(٦). في الطبري ٣٠ / ٦٩ إلى بعض قرّاء البصرة ، وفي السبعة ، والكشف ٢ / ٣٦٣ ، والتيسير ٢٢٠ ، والبحر ٨ / ٤٣٢ الى ابن كثير ، وأبي عمرو.

١٠٢

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «التكوير» (١)

إن قيل : لم قال الله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٩) والسؤال إنما يحسن للقاتل لا للمقتول؟

قلنا : إنّما سؤالها لتبكيت قاتلها ، وتوبيخه بما تقوله من الجواب ، فإنّها تقول : قتلت بغير ذنب ؛ ونظيره في التبكيت والتوبيخ قوله تعالى لعيسى عليه‌السلام : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي) [المائدة / ١١٦] حتى قال ، كما ورد في التنزيل : (سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ) [المائدة ١١٦].

فإن قيل : لم قال الله تعالى : (عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤) فأثبت العلم لنفس واحدة ، مع أن كل نفس تعلم ما أحضرت يوم القيامة ، بدليل قوله تعالى : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً) [آل عمران ٣٠]؟

قلنا : هذا ممّا أريد به عكس مدلوله ، ومثله كثير في كلام الله تعالى وكلام العرب ، كقوله تعالى : (رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ) (٢) فإنّ ربّ هنا بمعنى كم للتكثير ، وقوله تعالى حكاية عن موسى (ع) لقومه : (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) [الصف / ٥] ؛ وقول الشاعر :

قد أترك القرن مصفرّا أنامله

كأنّ أثوابه مجّت بفرصاد (٢)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

(٢). الفرصاد : ثمر التوت الأحمر.

١٠٣
١٠٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «التكوير» (١)

قوله تعالى : (وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) (٩) استعارة. والمراد ، والله أعلم ، أنها سئلت ، لا لاستخراج الجواب منها ، ولكن لاستخراج الجواب من قاتلها. ويكون ذلك على جهة التوبيخ للقاتل إذ قتل من لا يعرب عن نفسه ، ولم يأت ذنبا يؤخذ بجريرته. وقيل معنى سئلت أي طلب بدمها ، كما يقول القائل : سألت فلانا حقّي عليه ، أي طالبته به.

وإنّما سميت موؤودة للثّقل الذي يلقّى عليها من التراب ، وتقول : آدني هذا الأمر أي أثقلني. ومنه قوله تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [البقرة / ١٥٥] أي لا يثقله ذلك ، كما يثقل أحدنا في الشاهد حفظ المتشعّبات وضبط المنتشرات.

وفي قوله سبحانه : (فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ) (١٦) استعارتان ، فهما جميعا في صفة النجوم. فأمّا الخنّس فالمراد بها التي تخنس نهارا ، وتطلع ليلا. والخنّس جمع خانس ، وهو الذي يقبع ويستسرّ ، ويخفى ويستتر. وأمّا الكنّس فجمع كانس ، وهو أيضا المتواري المستخفي ، مشبّها بانضمام الوحشية إلى كناسها ، وهو الموضع الذي تأوي إليه من ظلال شجر ، وألفاف ثمر ، وجمعه كنّس.

فشبه سبحانه انقباع النجوم في بروجها ، بتواري الوحوش في كنسها.

وقوله تعالى : (وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) (١٨)

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

١٠٥

وهذه من الاستعارات العجيبة. والتنفّس هاهنا عبارة عن خروج ضوء الصبح من عموم غسق الليل. فكأنّه متنفّس من كرب ، أو متروّح من همّ. ومن ذلك قولهم : قد نفّس عن فلان الخناق. أي انجلى كربه ، وانفسح قلبه. وقد يجوز أن يكون معنى (إِذا تَنَفَّسَ) أي إذا انشقّ وانصدع. من قولهم تنفّس الإناء إذا انشقّ ، وتنفّست القوس إذا انصدعت. وهذا التأويل يخرج اللفظ من باب الاستعارة. وقد استقصينا الكلام على هذا المعنى ، في كتابنا الكبير عند موضع اقتضى ذكره.

١٠٦

سورة الانفطار

٨٢

١٠٧
١٠٨

المبحث الأول

أهداف سورة «الانفطار» (١)

سورة «الانفطار» سورة مكية ، وآياتها ١٩ ، نزلت بعد «النازعات». وقد بدأت سورة «الانفطار» ، مثل سورة «التكوير» ، بالحديث عن أهوال القيامة ، لكنّها تحدثت عنها بأسلوب مختصر ، وإيقاع هادئ عميق ، ويمكن تقسيم السورة الى ثلاث فقرات :

الفقرة الأولى من بداية السورة إلى الآية الخامسة : وتتحدّث عن انفطار السماء ، وانتثار الكواكب ، وتفجير البحار ، وبعثرة القبور ؛ كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدّمت وأخّرت ، في ذلك اليوم الخطير.

والفقرة الثانية من الآية ٦ إلى الآية ٨ : وتبدأ بلمسة العتاب المبطّنة بالوعيد ، لهذا الإنسان الذي يتلقّى من ربّه فيوض النعمة في ذاته وخلقته ، ولكنّه لا يعرف للنعمة حقّها ، لا يعرف لربّه قدره ، ولا يشكره على الفضل والنعمة والكرامة.

والفقرة الثالثة من الآية ٩ إلى الآية ١٩ : تقرّر علة هذا الجحود والنكران ، فهي التكذيب بالدين ، أي بالحساب ، وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود ؛ ومن ثمّ تؤكد هذا الحساب توكيدا ، وتؤكّد عاقبته وجزاءه المحتوم ، وتصوّر ضخامة يوم الحساب وهوله ، وتجرّد النفوس من كل حول فيه ، وتفرّد الله سبحانه بأمره الجليل.

مع آيات السورة

تبدأ السورة بتصوير نهاية العالم

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

١٠٩

واختلال نظامه ، وانفراط عقده ، ويتمثّل ذلك في أمرين علويين وأمرين سفليين. أمّا الأمران العلويان ، فهما انفطار السماء وانتثار الكواكب ؛ وأمّا الأمران السفليان ، فهما تفجير البحار وبعثرة القبور.

[الآية ١] : إذا انشقت السماء وتغيّر نظامها ، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى ، وهذا عند خراب العالم بأسره ، قال تعالى : (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (٢٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً) (٢٦) [الفرقان].

[الآية ٢] : وفي هذا اليوم تتساقط الكواكب وتتفرّق (وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) (٢) ، أي تساقطت متفرّقة ، والكواكب تجري الآن في أفلاكها بسرعات هائلة ، وهي ممسكة في داخل مداراتها لا تتعدّاها ، فإذا انشقّت السماء تبع ذلك سقوط الكواكب وانتثارها ، وذهابها في الفضاء بددا ، كما تذهب الذرّة التي تنفلت من عقالها.

[الآية ٣] : وفي هذا اليوم تزول الحواجز بين البحار ، فيختلط العذاب بالملح ، وتغمر البحار اليابسة ، وتطغى على الأنهار ، كما يحتمل أن يكون تفجيرها تحويل مائها إلى عنصريه : الأوكسجين والهيدروجين.

[الآية ٤] : (وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) (٤) أي أثيرت وقلب أعلاها أسفلها ، وباطنها ظاهرها ، ليخرج من فيها من الموتى أحياء للحساب والجزاء.

[الآية ٥] : عند حدوث كل هذه الظواهر ، تعلم كل نفس ما قدّمت من الطاعات ، وما أخّرت من الميراث.

[الآيات ٦ ـ ٨] : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) (٧) أي شيء خدعك حتّى ضيّعت ما أوجب عليك ربّك ، وصرت تقصّر في حقّه ، وتتهاون في أمره ، ويسوء أدبك في جانبه ، وهو ربّك الكريم الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبرّه ، فخلقك سويّا ، معتدل القامة ، متناسب الخلق ، من غير تفاوت فيه ، «فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع ، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود» (١).

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) (٨) أي

__________________

(١). تفسير النسفي ٤ / ٢٥٣.

١١٠

ركّبك في صورة هي من أعجب الصور وأتقنها وأحكمها ، وقد كان قادرا أن يركّبك في أيّ صورة أخرى يشاؤها ، فاختار لك هذه الصورة السويّة المعتدلة الجميلة.

وإنّ الإنسان لمخلوق جميل التكوين ، سويّ الخلقة ، معتدل التصميم ؛ وإنّ عجائب الإبداع في خلقه ، لأضخم من إدراكه هو ، وأعجب من كل ما يراه حوله ؛ وأنّ الجمال والاعتدال ليظهر في تكوينه الجسدي ، وفي تكوينه العقلي ، وفي تكوينه الروحي سواء ، وهي تتناسق في كيانه بجمال واستواء.

وهناك مؤلّفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي ، ودقّته وإحكامه ؛ وتؤكّد جلال القدرة المبدعة ، التي أبدعت خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ويسّرت خلقه من نطفة ثمّ من علقة ثمّ من مضغة ، ثمّ سوّته خلقا كاملا (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) [المؤمنون / ١٤].

«وهذه الأجهزة العامّة لتكوين الإنسان الجسدي .. الجهاز العظمى ، والجهاز العضلي ، والجهاز الجلدي ، والجهاز الهضمي ، والجهاز الدموي ، والجهاز التنفّسي ، والجهاز التناسلي ، والجهاز اللمفاوي ، والجهاز العصبي ، والجهاز البولي ، وأجهزة الذوق والشمّ والسمع والبصر ؛ كلّ منها عجيبة ، لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية ، التي يقف الإنسان مدهوشا أمامها ، وينسى عجائب ذاته ، وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس» (١).

وتقول مجلة العلوم الإنجليزية : «إنّ يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعيّة الفذة ، وإنه من الصعب جدّا ، بل من المستحيل أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية ، من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيّف ، فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك ، ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة ، وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيا ، وحينما تقلّب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة ، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلّبها بها ، ثمّ يزول الضغط بقلب الورقة واليد تمسك القلم وتكتب به ، وتستعمل كافّة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة إلى السّكّين ، إلى آلة

__________________

(١). في ظلال القرآن للأستاذ سيد قطب ٣٠ / ٤٩١.

١١١

الكتابة ، وتفتح النوافذ وتغلقها ، وتحمل كلّ ما يريده الإنسان ؛ واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة ، وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما» (١).

«وإنّ جزءا من أذن الإنسان (الأذن الوسطى) هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنيّة (قوس) دقيقة معقّدة ، متدرّجة بنظام بالغ ، في الحجم والشكل. ويمكن القول بأن هذه الحنيّات تشبه آلة موسيقية ، ويبدو أنها معدّة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ بشكل ما ، كل وقع صوت أو ضجّة ، من قصف الرعد إلى حفيف الشجر ، فضلا عن المزيج الرائع من أنغام كلّ اداة موسيقية في الأوركسترا ووحدتها المنسجمة» (٢).

«ومركز حاسّة الإبصار في العين ، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء ، وهي أطراف الأعصاب ، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا ونهارا ، والذي تعتبر حركته لا إراديّة ليمنع عنها الأتربة والذّرات والأجسام الغريبة ، كما يكسر من حدّة الشمس بما تلقي الأهداب على العين من ظلال ، وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية ، تمنع جفاف العين. أمّا السائل المحيط بالعين ، والذي يعرف باسم الدموع ، فهو أقوى مطهّر ..» (٣).

«وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان ، ويرجع عمله الى مجموعات من الخلايا الذوقيّة القائمة في حلمات غشائه المخاطي ...».

«ويتكوّن الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة ، تمرّ في كافة أنحاء الجسم ، وتتّصل بشعيرات أكبر منها ، وهذه بالجهاز المركزي العصبي ، فإذا ما تأثّر أيّ جزء في الجسم ، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المخ ، حيث يمكنه أن يتصرّف ..

«ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عمليّة في معمل كيماوي ، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه موادّ غفل ، فإنّنا

__________________

(١). تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب : «الله والعلم الحديث» للأستاذ عبد الرزاق نوفل.

(٢). تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب : «العلم يدعو إلى الإيمان».

(٣). تفسير في ظلال القرآن نقلا عن كتاب : «الله والعلم الحديث».

١١٢

ندرك توّا أنّه عملية عجيبة ، إذ نهضم تقريبا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها» (١).

وكلّ جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير ، فالإدراك العقلي ، واختزان المعلومات ، والإدراك الروحي لجلال الله ، كلّها تدلّ على سعة عطاء الله وحكمته ، وكرمه وفضله على الإنسان.

[الآيات ٩ ـ ١٢] : كلّا : ارتدعوا عن الاغترار بكرم ربّكم لكم. بل تكذّبون بالحساب والمؤاخذة والجزاء ، وهذه هي علّة الغرور وعلّة التقصير ، وإنّه لموكل بكم ملائكة يحفظونكم ، ويسجّلون أقوالكم وأعمالكم ، ويحصونها عليكم ، وهؤلاء الملائكة كرام فلا تؤذوهم بما ينفّرهم من المعاصي ؛ وإنّ الإنسان ليحتشم ويستحي وهو بمحضر الكرام ، من أن يسفّ أو يتبذّل ، في لفظ ، أو كلمة ، أو حركة ، أو تصرّف ؛ فكيف به حينما يشعر أنه في كلّ لحظاته ، في حضرة حفظة من الملائكة ؛ كرام لا يليق أن يطلعوا منه إلا على كل كريم من الخصال أو الفعال؟. وهؤلاء الملائكة يكتبون كلّ شيء ، ولا تخفى عليهم خافية من أعمالكم ، فإنهم يعلمون ما تفعلون سرّا أو علنا ؛ والملائكة قوى من قوى الخير منهم الحفظة والكتبة ، ومنهم من ينزل بالوحي على الرسل ؛ وقد أمدهم الله سبحانه بقوّة خاصة ، يستطيعون بها إنجاز ما يوكل إليهم من مهام. وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة ، ولا عن كيفيّة كتابتهم لأعمالنا ، ويكفي أن يشعر القلب البشريّ أنّه غير متروك سدى ، وأنّ عليه حفظة (كِراماً كاتِبِينَ) (١١) يعلمون ما يفعله ، ليرتعش ويستيقظ ويتأدّب. وهذا هو المقصود.

[الآية ١٣] : إنّ الأبرار صدقوا في إيمانهم بأداء ما فرض عليهم ، واجتناب ما نهوا عنه ، سيكونون ممتّعين في نعيم الجنة.

وليس البرّ مقصورا على الصلاة والصيام ، ولكن البرّ عقيدة صادقة ، وسلوك مستقيم ، ويتمثل ذلك في القيام بالواجب ، ومعاونة المحتاج ، والاهتمام بأمر المسلمين ، والحرص على نفع

__________________

(١). في ظلال القرآن : نقلا عن كتاب : «الله والعلم الحديث» مع التلخيص والتصرّف.

١١٣

العباد ، وكفّ الأذى ، وصلة الرحم ، وزيادة المريض ، ومواساة البائس ، وتعزية المحزون ، والتخلّق بآداب الدّين.

قال تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢) [آل عمران].

[الآيات ١٤ ـ ١٦] : إنّ الفجرة العصاة لفي نيران متأجّجة ، يدخلونها يوم القيامة ، بعد أن يحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة ، وما هم عن جهنّم بغائبين أبدا لخلودهم فيها.

[الآيات ١٧ ـ ١٩] : ولمّا كان يوم الدين هو موضوع التكذيب ، فإنّ السياق يعود لتعظيمه وتضخيمه ؛ يقول تعالى : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (١٧) فهو فوق كلّ تصوّر ، وفوق كلّ توقّع ، وفوق كلّ مألوف ؛ وتكرار السؤال يزيد في وصف الهول (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (١٨) أي ثمّ عجيب منك أن تتهاون بنبإ هذا اليوم ، وهوله الشديد. هو يوم لا تستطيع نفس أن تنفع نفسا أخرى ، فكلّ نفس بهمّها وحملها عن كل من تعرف من النفوس ، والأمر كله في ذلك اليوم لله وحده ، فهو القاضي والمتصرّف فيه دون غيره.

مقاصد السورة

١ ـ وصف أهوال يوم القيامة.

٢ ـ تقصير الإنسان في مقابلة الإحسان بالشّكران.

٣ ـ بيان أعمال الإنسان ، موكل بها كرام كاتبون.

٤ ـ بيان أن الناس في هذا اليوم : إمّا بررة منعّمون ، وإمّا فجرة معذّبون.

١١٤

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الانفطار» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الانفطار بعد سورة النازعات ، ونزلت سورة النازعات بعد الإسراء ، وقبيل الهجرة ؛ فيكون نزول سورة الانفطار في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم لقوله تعالى في أولها : (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) (١) وتبلغ آياتها تسع عشرة آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة إثبات الحساب على الأعمال ، وما يتبع هذا من ثواب وعقاب ؛ فيكون الغرض المقصود منها هو الغرض المقصود من سورة التكوير ، وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين.

إثبات الحساب على الأعمال

الآيات [١ ـ ١٩]

ذكر تعالى أنّه ، إذا حصل انفطار السماء وما ذكر بعده ، تعلم كل نفس ما قدمت وأخرت من أعمالها ، فتثاب أو تعاقب عليه ؛ ثم نادى الإنسان ما غرّه بكرمه ، وجرّأه على معصيته ، وهو الذي خلقه ، فسوّاه فعدله ، فركّبه في أحسن صورة ، ثمّ زجره عن غروره ؛ وذكر سبحانه أنّ هذا الإنسان يكذّب بالحساب ، مع أن عليه حافظين يكتبون ما يعمله ؛ وأنه جلّ شأنه سيجازي الأبرار بالنعيم ، والفجّار بالجحيم ؛ ثم

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

١١٥

سأل سبحانه الإنسان عن يوم الحساب ، سؤال تهويل ما أدراه ما هو؟ وأجاب عنه فقال جلّ وعلا : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩).

١١٦

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الانفطار» (١)

أقول : قد عرف مما ذكرت وجه وضعها هنا ، مع زيادة تآخيهما في المقطع (٢).

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ / ١٩٧٨ م.

(٢). مقطع التكوير : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩). ومقطع الانفطار : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (١٩) وهما بمعنى.

١١٧
١١٨

المبحث الرابع

المعاني اللغوية في سورة «الانفطار» (١)

قال تعالى (فَعَدَلَكَ) [الآية ٧] أي : كذا خلقك ، ومنهم من يثقّلها ، فمن ثقّل (٢) فقال : (عدّلك) ، فإنما على معنى «عدّل خلقك» ؛ و (عدلك) أي : عدل بعضك ببعضك فجعلك مستويا معتدلا ، وهو في معنى «عدّلك».

وقال تعالى : (خَلَقَكَ) [الآية ٧] و (رَكَّبَكَ) [الآية ٨](كَلَّا) [الآية ٩] وإن شئت قرأت : (خلقك) و (ركّبك) (كلّا) فأدغمت لأنهما حرفان مثلان. والمثلان يدغم أحدهما في صاحبه ، وإن شئت ، إذا تحرّكا جميعا ، أن تسكّن الأول وتحرّك الآخر (٣). وإذا سكن الأول لم يكن الإدغام ؛ وإن تحرك الأول وسكن الآخر ، لم يكن الإدغام.

وقال تعالى : (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ) [الآية ١٩] بجعل اليوم حينا كأنه سبحانه ، والله أعلم ، حين قال : (وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) (١٧) قال ما معناه :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). نسبت في معاني القرآن ٣ / ٢٤٤ إلى أهل الحجاز ؛ وفي الطبري ٣٠ / ٨٧ إلى عامّة قراء المدينة ، ومكّة ، والشام ، والبصرة ؛ وفي السبعة ٦٧٤ إلى ابن كثير ، وأبي عمرو ، وابن عامر ؛ وفي الكشف ٢ / ٣٦٤ و ٢٢٠ إلى غير الكوفيين ؛ وفي الجامع ١٩ / ٢٤٦ إلى العامة ؛ وفي اختيار أبي عبيد ، وأبي حاتم ، وفي البحر ٨ / ٤٣٧ ، إلى السبعة عدا من أخذ بالأخرى والقراءة بالتخفيف هي القراءة المثبتة في المصحف الشريف.

(٣). نسبت في السبعة ٦٧٤ إلى خارجة ، عن نافع ؛ وفي البحر ٨ / ٤٣٧ إلى خارجة عن نافع كأبي عمرو ؛ ونسب إظهار الكافين في السبعة ٦٧٤ ، إلى غير خارجة عن نافع.

١١٩

«في حين لا تملك نفس». وقرأ بعضهم (يوم لا تملك نفس) (١) بجعله تفسيرا لليوم الأول ، كأنّ المعنى : «هو يوم لا تملك».

__________________

(١). نسبت في السبعة ٦٧٤ ، والتيسير ٢٢٠ ، والجامع ١٩ / ٢٤٩ ، إلى ابن كثير وأبي عمرو ؛ وفي البحر ٨ / ٤٣٧ ، زاد ابن أبي إسحاق ، وعيسى بن جندب.

١٢٠