الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الملك» (١)

أقول : ظهر لي بعد الجهد : أنه ، لمّا ذكر في آخر التحريم ، امرأتي نوح ولوط الكافرتين ، وامرأة فرعون المؤمنة ، افتتحت هذه السورة بقوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الآية ٢] ، مرادا بهما الكفر والإيمان في أحد الأقوال ، للإشارة إلى أن الجميع بخلقه وقدرته ، ولهذا كفرت امرأتا نوح ولوط ، ولم ينفعهما اتصالهما بهذين النبيّين الكريمين ، وآمنت امرأة فرعون ، ولم يضرّها اتصالها بهذا الجبّار العنيد ، لما سبق في كلّ من القضاء والقدر.

ووجه آخر : وهو أن «تبارك» متصل بقوله في آخر الطلاق : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الآية ١٢]. فزاد ذلك بسطا في هذه الآية : (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (٣) إلى قوله سبحانه : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ). [الآية ٥] وإنّما فصلت بسورة التحريم لأنّها كالتتمة لسورة الطلاق.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

٨١
٨٢

المبحث الرابع

لغة التنزيل في سورة «الملك» (١)

١ ـ قال تعالى : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) [الآية ٨].

والكلام على النار ، فكأنها كالمغتاظة على أهلها لشدة غليانها بهم.

وقوله تعالى : (تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) ، أي : تتقطّع. ويقولون : فلان يتميّز غيظا ويتقصّف غضبا.

أقول : وأصل الميز التمييز بين الأشياء ، ومزت الشيء أميزه : عزلته وفرزته.

وفي التنزيل : (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران : ١٧٩].

وامتاز القوم إذا تميّز بعضهم من بعض.

أقول : وقد كنت تكلمت على قوله تعالى : (وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ) (٥٩) [يس] : أي تميّزوا وانفردوا عن المؤمنين.

كما تكلّمنا على الفعل في العربية المعاصرة.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٨٣
٨٤

المبحث الخامس

المعاني اللغوية في سورة «الملك» (١)

قال تعالى : (طِباقاً) [الآية ٣] وواحدها «الطبق».

وقال : (خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤) تقول : «خسأته» ف «خسأ» فهو خاسئ.

وقال تعالى : (إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ) [الآية ١٩] بالجمع لأنّ «الطير» جماعة مثل قولك «صاحب» و «صحب» و «شاهد» و «شهد» و «راكب» و «ركب».

وقال تعالى : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) (٢٧) لأنهم كانوا يقولون ، كما ورد في التنزيل : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) [ص : ١٦] و (ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) [العنكبوت : ٢٩] حينما رأوا العذاب.

وقال تعالى : (ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠) أي : غائرا ، ولكنه وصف بالمصدر ، ومنها قولنا : «ليلة غمّ» أي : ليلة «غامّة».

وقال تعالى : (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) (١٨) أي : إنكاري.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٨٥
٨٦

المبحث السادس

لكل سؤال جواب في سورة «الملك» (١)

إن قيل : ما الحكمة في تقديم الموت على الحياة في قوله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ) [الآية ٢].

قلنا : إنما قدّم سبحانه الموت لأنه هو المخلوق أوّلا. قال ابن عبّاس رضي الله عنهما : أراد به خلق الموت في الدنيا ، والحياة في الاخرة ؛ ولو سلّم أنّ المراد به الحياة في الدنيا ، فالموت سابق عليها ، لقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) [البقرة : ٢٨].

فإن قيل : لم قال تعالى : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) [الآية ٣] ، مع أنّ في خلقه سبحانه تفاوتا عظيما ، فإنّ الأضداد كلّها من خلقه عزوجل ، وهي متفاوتة ، والسماوات أيضا متفاوتة في الصغر والكبر والارتفاع والانخفاض ، وغير ذلك؟

قلنا : المراد بالتفاوت هنا الخلل والعيب والنقصان في مخلوقه تعالى ، ويؤيّده قوله تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (٣) أي : من شقوق وصدوع في السماء. فإن قيل : لم قال تعالى : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ) [الآية ١٦] والله سبحانه وتعالى ليس في السماء ولا في غير السماء ، بل هو سبحانه منزّه عن كل مكان؟

قلنا : من ملكوته في السماء ، لأنها مسكن ملائكته ومحل عرشه وكرسيّه واللوح المحفوظ ، ومنها تنزّل أقضيته وكتبه وأوامره ونواهيه.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٨٧
٨٨

المبحث السابع

المعاني المجازية في سورة «الملك» (١)

في قوله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) استعارة. وقد مضت لها نظائرها فيما تقدّم. والمراد بذكر اليد هاهنا استيلاء الملك وتدبير الأمر. يقال : هذه الدار في يد فلان أي في ملكه. وهذا الأمر في يد فلان أي هو المدبّر له.

فمعنى (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) أي : هو مالك الملك ، ومدبّر الأمر.

وقوله سبحانه : (ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ) (٤) هو من الاستعارات المشهورة. والمراد بها ، والله أعلم ، أي : كرّر أيّها الناظر بصرك إلى السماء مفكّرا في عجائبها ، ومستنبطا غوامض تركيبها ، يرجع إليك بصرك بعيدا ممّا طلبه ، ذليلا بفوت ما قدّره.

والخاسئ في قول قوم : البعيد. من قولهم : خسأت الكلب. إذا أبعدته. وفي قول قوم هو الذليل. يقال رجل خاس أي ذليل ، وقد خسي أي خضع وذلّ. والحسير : البعير المعيى ، الذي قد بلغ السير مجهوده ، واعتصر عوده. فتلخيص المعنى أنّ البصر يرجع بعد سروحه في طلب مراده ، وإبعاده في غايات مرامه ، كالّا ، معيى ، بعيدا من إدراك بغيته ، خائبا من نيل طلبته.

وفي قوله سبحانه ، في صفة نار جهنّم ، نعوذ بالله منها : (إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (٧) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) ، استعارتان ، إحداهما :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٨٩

قوله تعالى : (سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ) (٧) والشهيق : الصوت الخارج من الجوف عند تضايق القلب من الحزن الشديد ، والكمد الطويل ، وهو صوت مكروه السماع. فكأنه سبحانه وصف النار بأنّ لها أصواتا مقطّعة تهول من سمعها ، ويصعق من قرب منها.

والاستعارة الأخرى قوله سبحانه : (تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) من قولهم : تغيّظت القدر : إذا اشتدّ غليانها ، ثمّ صارت الصفة به مخصوصة بالإنسان المغضب. فكأنه سبحانه وصف النار ، نعوذ بالله منها ، بصفة المغيظ الغضبان ، الذي من شأنه إذا بلغ ذلك الحدّ أن يبالغ في الانتقام ، ويتجاوز الغايات في الإيقاع والإيلام.

وقد جرت عادتهم في صفة الإنسان الشديد الغيظ بأن يقولوا : يكاد فلان يتميّز غيظا ، أي تكاد أعصابه المتلاحمة تتزايل ، وأخلاطه المتجاورة تتنافى وتتباعد ، من شدة اهتياج غيظه ، واحتدام طبعه. فأجرى سبحانه هذه الصفة ، التي هي أبلغ صفات الغضبان ، على نار جهنّم لمّا وصفها بالغيظ ، ليكون التمثيل في أقصى منازله ، وأعلى مراتبه.

وفي قوله سبحانه : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) [الآية ١٥] استعارة : لأنّ (الذّلول) من صفة الحيوان المركوب. يقال : بعير ذلول ، وفرس ذلول : إذا أمكن من ظهره ، وتصرّف على مراده راكبه.

وضدّ ذلك وصفهم للمركوب المانع ظهره ، والممتنع على راكبه بالصّعب والمصعب.

والمعنى : أنه سبحانه جعل الأرض للناس كالمركوب الذلول ، ممكنة من الاستقرار عليها ، والتصرّف فيها ، طائعة غير مانعة ، ومذعنة غير مدافعة.

والمراد بقوله تعالى : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) ، أي في ظهورها وأعاليها ، وأعلى كلّ شيء منكب له.

وقال بعضهم : معنى ذلك أنه سبحانه ، لمّا أصابنا في بعض الأحيان بالرّجفان والزلازل التي لا قرار معها على وجه الأرض ، وخلق الجبال الخشن الملامس ، الصعبة المسالك ، لتكون للأرض ثقلا وللخلق معقلا ، أعلمنا سبحانه أنه ، لولا ما أنعم به علينا من تسكين الأرض وتوطئتها ، ونفي الحزونة والوعوث عن أكثرها

٩٠

حتى أمكنت من التصرّف على ظهرها ، لما كان عليها مثبت قدم ، ولا مسرح نعم. وقد استقصينا الكلام على ذلك في كتابنا الكبير.

وفي قوله سبحانه : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٢٢) استعارة ، المراد بها صفة من يخبط في الضلال ، وينحرف عن طريق الرّشاد. لأنّهم يصفون من تلك حاله بأنّه ماش على وجهه. فيقولون : فلان يمشي على وجهه ، ويمضي على وجهه ، إذا كان كذلك.

وإنّما شبّهوه بالماشي على وجهه ، لأنّه لا ينتفع بمواقع بصره ، إذ كان البصر في الوجه. وإذا كان الوجه مكبوبا على الأرض كان الإنسان كالأعمى الذي لا يسلك جددا ، ولا يقصد سددا.

ومن الدليل على أن قوله تعالى : (أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ) هو من الكنايات عن عمى البصر ، قوله تعالى في مقابل ذلك : (أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا) : لأن السّويّ ضدّ المنقوص في خلقه ، والمبتلى في بعض كرائم جسمه.

٩١
٩٢

سورة القلم

٦٨

٩٣
٩٤

المبحث الأول

أهداف سورة «القلم» (١)

سورة القلم سورة مكّيّة ، وآياتها ٥٢ آية ، نزلت بعد سورة العلق. وتشير الروايات الى أنها من أوائل السور نزولا. ونلمح ، من سياق السورة ، أنها نزلت بعد الجهر بالدعوة الإسلامية في مكّة ، حيث تعرّض النبي الأمين للاتهام بالجنون ، فنزلت السورة تنفي عنه هذه التهمة ، وتصف مكارم أخلاقه ، وتتهدّد المكذّبين وتتوعدهم ، وتذكر قصة أصحاب الجنة الذين منعوا زكاة الثمار والفاكهة ، فأهلك الله جنّتهم ، وكذلك يهلك كلّ كافر معاند. وتوجهت السورة الى أهل مكة بهذا الاستفهام الإنكاري : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥)؟ هل يستوي المستقيم والفاجر؟ (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) (٤٦)؟ هل تطلب منهم أجرا كبيرا على تبليغ الرسالة؟ إنهم يستطيعون أداءه ولذلك يتثاقلون عن اتّباعك. ثم تذكر السورة طرفا من قصة يونس (ع) من باب التسلية والاعتبار. وتختم السورة ببيان حقد الكافرين وحسدهم ، حتّى إن عيونهم ينبعث منها شرار الحسد والغيظ ، ويتّهمون النبيّ (ص) بالجنون ، وما يحمل إليهم إلّا الذكر والهداية للعالمين.

مع آيات السورة

[الآية الأولى] أقسم الله ، سبحانه ، بالقلم والدواة والكتابة ، ليدل على عظيم شأنها في نشر الرسالات والدعوات والعلم والمعرفة ، وكانت

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٩٥

أول آية من القرآن : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (١) [العلق].

[الآيتان ٢ و ٣] نفى القرآن عن النبي (ص) الاتّهام الكاذب بالجنون ، ثم أثبت أنّ له أجرا كاملا غير منقوص على تبليغ الرسالة.

[الآية ٤] ومدحه الله ، عزوجل ، بحسن الخلق ، فقال سبحانه (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (٤). لقد كان خلقه القرآن ، وكان جامعا للصفات الكريمة ، والقدوة الحسنة ، فقد اتّصف بالفصاحة والشجاعة والكرم والحلم ، والأدب والعفّة والنزاهة والأمانة ، والصدق والرحمة والتسامح واللّين وحسن المعاملة.

وكان حسن الصورة ، معتدل القوام ، جيّاش العواطف ، قويّا في دين الله ، حريصا على تبليغ الرّسالة ، قائدا ومعلما ومربّيا وموجها ، أمينا على وحي السماء.

وكانت عظمة أخلاقه في أنّه تمثّل القرآن سلوكا وهديا وتطبيقا ، فكان قرآنا متحرّكا ، يجد فيه الصحابة القدوة العملية ، والتطبيق الأمين للوحي ، فيقتدون بخلقه وعمله وهديه وسلوكه.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١) [الأحزاب].

[الآيتان ٥ و ٦] فسيكشف الغد عن حقيقة النبيّ وحقيقة مكذّبيه ، ويثبت : أيّهم الممتحن بما هو فيه ، وأيّهم الضالّ في ما يدّعيه ، وستبصر ويبصرون غلبة الإسلام ، واستيلاءك عليهم بالقتل والأسر ، وهيبتك في أعين الناس أجمعين ، وصيرورتهم أذلّاء صاغرين.

[الآية ٧] إنّ ربك هو الذي أوحى إليك ، فهو يعلم أنك المهتدي ؛ والمكذّب بك ضالّ عن طريق الهدى ؛ وسيجازى كلّ إنسان بحسب ما يستحقّ.

[الآيتان ٨ و ٩] وقد ساوم الكفار النبيّ ، وعرضوا عليه أن يعبدوا إلهه يوما ، وأن يعبد آلهتهم يوما ، فيصيب كلّ واحد بحظّه من إله الاخر ، فنزل قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) (٢) [الكافرون]. وفي كتب السيرة أنّ الكفّار حرّضوا أبا طالب على أن يكف عنهم محمّدا ، وأن ينهاه عن عيب آلهتهم ، فقال

٩٦

النبي (ص) لعمّه : والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري ، على أن أترك هذا الأمر ، ما تركته ، حتى يظهره الله ، أو أهلك دونه.

وقد نزل الوحي ينهاه عن طاعة المكذّبين ، وينهاه عن قبول المساومة أو الحل الوسط ، فإمّا إيمان أو لا إيمان : (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (٩) : الإدهان هو اللين والمصانعة ، أي ودّ المشركون لو تلين لهم في دينك بالركون إلى آلهتهم ، وتتخلّى عن مهاجمتها ، حتّى يتركوا خصامك وجدالك.

[الآيات ١٠ ـ ١٣] نزلت هذه الآيات في الوليد بن المغيرة ، وقيل في الأخنس بن شريق ، وكلاهما كان ممّن خاصموا رسول الله (ص) ولجّوا في حربه. والآيات تصفه بتسع صفات كلّها ذميم :

١ ـ فهو حلّاف ، كثير الحلف.

٢ ـ مهين ، لا يحترم نفسه ولا يحترم الناس قوله.

٣ ـ وهو همّاز ، يهمز الناس ويعيبهم بالقول والإشارة.

٤ ـ وهو مشّاء بنميم ، يمشي بين الناس بالنميمة والفتنة والفساد.

٥ ـ وهو منّاع للخير ، بخيل ممسك ؛ وكان يمنع الناس من الإيمان ، ويهدّد من يحسّ منه الاستعداد للإيمان.

٦ ـ وهو معتد ، متجاوز للحقّ والعدل ؛ ثم هو معتد على النبيّ (ص) وعلى المسلمين.

٧ ـ وهو أثيم ، كثير الآثام ، لا يبالي بما ارتكب ولا بما اجترح.

٨ ـ عتلّ بعد ذلك ، جامع للصفات المذمومة ، وهو فظّ غليظ جاف.

٩ ـ زنيم ، أي لصيق في قومه متّهم في نسبه ، أو معروف بالشرور والآثام.

[الآيات ١٤ ـ ١٦] تذكر هذه الآيات موقفه من دين الله ، وجحوده بنعمة الله عليه ؛ فلأنّه صاحب مال وولد ، إذا تلي عليه القرآن استهزأ بآياته ، وسخر من الرسول (ص) ؛ وهذه وحدها تعدل كلّ ما مرّ من وصف ذميم ، (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ) (١٦) ، أي سنجعل له سمة وعلامة على أنفه ؛ والمراد أنّا سنبيّن أمره بيانا واضحا حتّى لا يخفى على أحد ، أو سنذلّه في الدنيا غاية الإذلال ، ونجعله ممقوتا مذموما مشهورا بالشّرّ.

٩٧

[الآيات ١٧ ـ ٣٣] : هذه الآيات تتناول قصّة أصحاب الجنة ، وهم قوم ورثوا عن أبيهم بستانا جميلا مثمرا يانعا ، وكان أبوهم يخرج زكاة البستان ، ويوزع مقدارا منه على الفقراء والمساكين ، ولكنهم خالفوا أباهم ومنعوا حقّ الفقراء والمساكين ، فعاقبهم الله بهلاك البستان ، وكذلك يعاقب الكافرين يوم القيامة. وقد عرضتها الآيات عرضا رائعا يمثل خطوات القصة ، وضعف تدبير الإنسان أمام تدبير الله الواحد الدّيّان ، فلنسر مع الآيات.

[الآيتان ١٧ ـ ١٨] : لقد استقرّ رأي أصحاب الجنّة أن يقطعوا ثمرها عند الصباح ، دون أن يستثنوا منه شيئا للمساكين ، وأقسموا على هذا ، وعقدوا النيّة عليه.

[الآيتان ١٩ و ٢٠] : فطرق تلك الجنة طارق من أمر الله ليلا ، وهم نيام (فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ) (٢٠) أي كالبستان الذي صرمت ثماره أي قطعت ، كأنّها مقطوعة الثمار ، فقد ذهب الطائف الذي طاف عليها بثمرها كله.

[الآيات ٢١ ـ ٢٤] : فنادى بعضهم بعضا في الصباح ، وانطلقوا يتحدّثون في خفوت ، زيادة في إحكام التدبير ، ويوصي بعضهم بعضا أن يحتجزوا الثمر كله ، ويحرموا منه المساكين.

[الآية ٢٥] : وغدوا مصمّمين على حرد (١) المساكين ومنعهم وحرمانهم ، قادرين عند أنفسهم على المنع وحجب منفعتها عن المساكين.

[الآيتان ٢٦ و ٢٧] : فلمّا شاهدوا بستانهم ورأوه محترقا أنكروه ، وشكّوا فيه وقالوا : أبستاننا هذا أم نحن ضالون طريقه ؛ ثمّ تيقّنوا أنّه بستانهم ، وقد حاق بهم الحرمان والندم.

[الآيات ٢٨ ٣٢] : وبعد أن حدث ما حدث ، ألقى كلّ منهم تبعة ما وقع على غيره ، وتشاحنوا ، ثمّ تركوا التلاوم ، واعترفوا بالخطيئة أمام العاقبة الرديئة ، عسى أن يغفر الله لهم ، ويعوّضهم من الجنّة الضائعة.

[الآية ٣٣] : هكذا يكون عذاب من خالف أمر الله ، وبخل بما آتاه ، وأنعم به عليه ، ومنع حقّ البائس الفقير ؛ وفي الاخرة عذاب أكبر من هذا العذاب ،

__________________

(١). الحرد : المنع.

٩٨

لكلّ جاحد بنعمة الله ، ولكلّ مكذّب بالدّين والإيمان.

فليعلم ذلك المشركون وأهل مكة ، وليحذروا عاقبة كفرهم وعنادهم. والقصة مسوقة لغاية معيّنة هي بيان عاقبة الجحود ومنع حقّ الله. إنّها عاقبة سيّئة في الدنيا وفي الاخرة ؛ وفي القصة تهديد للكافرين ، وعظة للمؤمنين.

[الآية ٣٤] : وفي مقابل ما أعدّ للكافرين ، بيان بالنعيم الذي أعد للمتّقين.

[الآيات ٣٥ ـ ٤٧] : وعند هاتين الخاتمتين يدخل القرآن معهم في جدل لا تعقيد فيه ولا تركيب ، ويتحدّاهم ، ويحرجهم بالسؤال تلو السؤال ، عن أمور ليس لها إلّا جواب واحد تصعب فيه المغالطة ؛ ويهدّدهم في الاخرة بمشهد رهيب ، وفي الدنيا بحرب من العزيز الجبّار القويّ الشديد.

[الآيات ٤٨ ـ ٥٠] : توجّه الآيات النبي الكريم إلى الصبر على تكاليف الرسالة ، والصبر على الأذى والتكذيب ؛ وتذكر له تجربة أخ له من قبل ضاق صدره بتكذيب قومه ، وهو يونس (ع).

قصة يونس

أرسل الله يونس بن متى (ع) الى أهل قرية نينوى بجوار مدينة الموصل بالعراق ، فاستبطأ إيمانهم وشقّ عليه تلكّؤهم ، وضاق صدره بتكذيبهم ، فهجرهم مغاضبا لهم. وقاده الغضب الى شاطئ البحر ، حيث ركب سفينة مع آخرين ؛ فلمّا كانوا في وسط اللجة ثقلت السفينة ، وتعرّضت للغرق ، فأقرعوا بين الركاب للتخفّف من واحد منهم ، لتخفّ السفينة ، فكانت القرعة على يونس : فألقوه في اليم ، فابتلعه الحوت ، عندئذ نادى يونس (وَهُوَ مَكْظُومٌ) (٤٨) مملوء غيظا ، لوقوعه في كرب شديد ، في ظلمات البحر ، وفي بطن الحوت ، وفي وسط اللجة ، نادى ربه قائلا : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٨٧) [الأنبياء] ، فتداركته نعمة من ربّه ، فنبذه الحوت على الشاطئ مريضا سقيما ، ثمّ يسّر الله له الأمور ، واصطفاه وأوحى إليه ، وأرسله إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا به ؛ وجعله الله من الصّالحين ، حيث ردّ إليه الوحي ، وشفّعه في نفسه وقومه.

[الآيات ٥٠ ـ ٥٢] : وفي ختام

٩٩

السورة نجد مشهدا للكافرين ، وهم يتلقّون الدّعوة من الرسول الكريم ، في غيظ عنيف ، وحسد عميق ، ينسكب في نظرات مسمومة قاتلة ، يوجّهونها إليه. قال جار الله الزمخشري : قوله تعالى (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) ، يعني أنّهم ، من شدّة تخوّفهم ، ونظرهم إليك سرّا ، بعيون العداوة والبغضاء ، يكادون يزلّون قدمك ، أو يهلكونك ، من قولهم : نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني ، أو يكاد يأكلني ، أي لو أمكنه بنظره الصرع أو الأكل لفعله.

وعن الحسن : دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية. وقد كان الكفار يريدون إصابة النبي (ص) بعيونهم وحسدهم ، فعصمه الله تعالى وأنزل عليه الآية.

وقد صح في الحديث من عدة طرق : «إنّ العين لتدخل الرجل القبر ، والجمل القدر».

وروى الإمام أحمد عن أبي ذر مرفوعا : «إن العين لتولع بالرجل بإذن الله حتى يصعد حالقا (١) ثمّ يتردّى منه».

وممّا يحفظ المؤمن من الحسد خمسة أشياء ، هي :

١ ـ قراءة قل أعوذ بربّ الفلق ، وقل أعوذ بربّ النّاس.

٢ ـ إخراج صدقة.

٣ ـ أن نقول : (لا اله الا الله وحده لا شريك له) ثم نقرأ قوله تعالى : (لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢) عشر مرات بعد صلاة المغرب ، وعشر مرات بعد صلاة الصبح.

٤ ـ قراءة قوله تعالى : (وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (٥١) وَما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٥٢).

٥ ـ وأهم شيء في الوقاية من الحسد : الثقة الكاملة والاعتقاد اليقيني بأن الله هو النّافع الضّارّ ، وأنّ أحدا لن ينفعك إلّا بإذن الله ، ولن يضرّك إلّا بمشيئة الله.

المعنى الإجمالي للسورة

بيان محاسن الأخلاق النبوية ، وسوء

__________________

(١). الحالق : الجبل المرتفع.

١٠٠