الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

المبحث السابع

لكل سؤال جواب في سورة «التحريم» (١)

إن قيل : قوله تعالى : (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) [الآية ٤] ، إن كان المراد به الفرد فأيّ فرد هو ، وأيضا فإنه لا يناسب مقابلة الملائكة الذين هم جمع ؛ وإن كان المراد به الجمع ، فلما ذا لم يكتب في المصحف بالواو؟

قلنا : هو فرد أريد به الجمع كقولك : لا يفعل هذا الفعل الصالح من الناس ، تريد به الجنس كقولك : لا يفعله من صلح منهم ، وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً) (١٩) [المعارج] ، وقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) (٢) [العصر] ، وقوله تعالى : (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها) [الحاقة : ١٧] ، وقوله تعالى : (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) [غافر : ٦٧] ونظائره كثيرة. الثاني أنه يجوز أن يكون جمعا ، ولكنه كتب في المصحف بغير واو على اللفظ ، كما جاءت ألفاظ كثيرة في المصحف على اللفظ دون اصطلاح الخط.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) (٤) ولم يقل ظهراء ، وهو خبر عن الجمع ، وهم الملائكة؟

قلنا : هو فرد وضع موضع الجمع كما سبق. الثاني : اسم على وزن المصدر كالزميل والدبيب والصليل ، فيستوي فيه الإفراد والتثنية والجمع. الثالث : أن فعيلا يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، بدليل قوله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) (١٧) [ق].

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٦١

فإن قيل : قوله تعالى بعد ذلك تعظيم للملائكة ومظاهرتهم ، وقد تقدّمت نصرة الله تعالى وجبريل وصالح المؤمنين ، ونصرة الله سبحانه أعظم؟

قلنا : مظاهرة الملائكة من جملة نصرة الله تعالى ، فكأنّه فضل نصرته بهم على سائر وجوه نصرته لفضلهم وشرفهم ، ولا شكّ أنّ نصرته بجميع الملائكة أعظم من نصرته بجبريل وحده ، أو بصالح المؤمنين.

فإن قيل : كيف قال تعالى : (عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ) [الآية ٥] إلى آخر الآية ، فأثبت الخيريّة لهنّ باتصافهنّ بهذه الصفات ، وإنّما تثبت لهن الخيريّة بهذه الصفات لو لم تكن تلك الصفات ثابتة في نساء النبي (ص) وهي ثابتة فيهن؟

قلنا : المراد به «خيرا» منكن في حفظ قلبه ومتابعة رضاه ، مع اتصافهن بهذه الصفات المشتركة بينكنّ ، وبينهنّ.

فإن قيل : لم أخليت الصفات كلها عن الواو ، وأثبتت بين الثيبات والأبكار؟

قلنا : لأنهما صفتان متضادتان لا تجتمعان فيهن اجتماع سائر الصفات ، فلم يكن بد من الواو ، ومن جعلها واو الثمانية فقد سها ، لأن واو الثمانية لا يفسد الكلام بحذفها بخلاف هذه.

فإن قيل : هذه الصفات إنما ذكرت في معرض المدح ، وأي مدح في كونهن ثيّبات؟

قلنا التثييب مدح من وجه ، فإن الثّيب أقبل للميل بالنقل ، وأكثر تجربة وعقلا ، والبكارة مدح من وجه ، فإنها أطهر وأطيب وأكثر مراغبة وملاعبة.

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٦) ، بعد قوله سبحانه : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ)؟

قلنا : قيل : المراد بالأمر الأول الأمر بالعبادات والطاعات ، وبالأمر الثاني الأمر بتعذيب أهل النار ، وقيل هو تأكيد.

فإن قيل : لم قال تعالى : (تَوْبَةً نَصُوحاً) [الآية ٨] ولم يقل توبة نصوحة؟

قلنا : لأن «فعولا» من أوزان المبالغة الذي يستوي في لفظه الذكور والإناث كقولهم : امرأة صبور وشكور ونحوهما.

٦٢

فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى : (مِنْ عِبادِنا) [الآية ١٠] بعد قوله تعالى : (كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ) [الآية ١٠].

قلنا : مدحهما والثناء عليهما بإضافتهما إليه إضافة التشريف والتخصيص ، كما في قوله تعالى : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) [الفرقان : ٦٣] وقوله تعالى : (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) (٢٩) [الفجر] وهو مبالغة في المعنى المقصود ، وهو أن الإنسان لا ينفعه إلا صلاح نفسه لا صلاح غيره ، وإن كان ذلك الغير في أعلى مراتب الصلاح والقرب من الله تعالى.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢) ولم يقل سبحانه من القانتات؟

قلنا : معناه كانت من القوم القانتين : أي المطيعين لله تعالى ، يعني رهطها وأهلها ، فكأنه تعالى قال : وكانت من بنات الصالحين. وقيل إن الله تعالى لمّا تقبلها في النذر وأعطاها مرتبة الذكور الذين كان لا يصلح النذر إلّا بهم ، عاملها معاملة الذكور ، في بعض الخطاب إشارة إلى ذلك ، وقال تعالى : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) [آل عمران] وقال تعالى : (وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢) ، أو رعاية للفواصل.

٦٣
٦٤

المبحث الثامن

المعاني المجازية في سورة «التحريم» (١)

في قوله تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [الآية ٤] استعارة ومعنى صغت قلوبكما : أي مالت وانحرفت.

قال النضر بن شميل (٢) : يقال قد صغوت إليه وصغيت ، وصغيت ، وأصغيت إليه ، وهو الكلام. ولم تمل قلوبهما على الحقيقة ، وإنما اعتقد قلباهما خلاف الاستقامة في إطاعة النبي (ص) ، فحسن أن يوصف بميل القلبين من هذا الوجه. وذلك كقول القائل : قد مال إلى فلان قلبي : إذا أحبّه. وقد نفر عن فلان قلبي إذا أبغضه. والقلب في الأمرين جميعا بحاله ، لم يخرج عن نياطه ، ولم يزل عن مناطه.

وإنما قال سبحانه : قلوبكما ، والخطاب مع امرأتين ، لأن كل شيئين من شيئين تجوز العبارة عنهما بلفظ الجمع في عادة العرب. قال الراجز (٣) :

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «تلخيص البيان في مجازات القرآن» للشريف الرضي ، تحقيق محمد عبد الغني حسن ، دار مكتبة الحياة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

(٢). هو النضر بن شميل بن خرشة التميمي المازني وكان عالما بأيام العرب وراوية للحديث واللغة. اتصل بالخليفة المأمون العباسي فأكرمه وقربه إليه. توفي بمرو سنة ٢٠٣ ه‍.

(٣). لم يذكر القرطبي اسم هذا الراجز. وقد نسبه محقق «الجامع لأحكام القرآن» للشاعر الخطام المجاشعي ، ونبّه على ذلك في هامش الجزء الخامس ص ٧٣ ولم يذكر ابن مطرف الكناني في «القرطين» اسم الشاعر واكتفى بقوله : أنشدني بعضهم وكذلك فعل العلامة محب الدين في «شرح شواهد الكشاف» ص ٣١٨.

والخطام اسمه بشر ، كما كتب ذلك بخطه عبد القادر البغدادي ، على هامش «المؤتلف والمختلف» للامدي ص ١١٢ وهو شاعر إسلامي اشتهر بالرجز.

٦٥

ومهمهين قذفين مرتين

ظهراهما مثل ظهور التّرسين

وقال الله سبحانه في موضع آخر : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) [المائدة : ٣٨] وإنما أراد سبحانه قطع يمين السارق ، ويمين السارقة. وذلك مشهور في اللغة.

وفي قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [الآية ٨] استعارة. لأن «نصوحا» من أسماء المبالغة. يقال : رجل نصوح. إذا كان كثير النصح لمن يستنصحه. وذلك غير متأتّ في صفة التوبة على الحقيقة. فنقول : إن المراد بذلك ، والله أعلم ، أنّ التوبة لمّا كانت بالغة غاية الاجتهاد في تلافي ذلك الذّنب ، كانت كأنها بالغة غاية الاجتهاد في نصح صاحبها ، ودلالته على طريق النجاة بها. فحسن أن تسمّى «نصوحا» من هذا الوجه.

وقال بعضهم : النّصوح : هي التوبة التي يناصح الإنسان فيها نفسه ، ويبذل مجهوده في إخلاص الندم ، والعزم على ترك معاودة الذنب. وقرأ أبو بكر بن عياش (١) عن عاصم (٢) : (نصوحا) بضم النون. على المصدر. وقرأ بقية السبعة (نصوحا) بفتح النون على صفة التوبة.

وفي قوله سبحانه : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما) [الآية ١٠] استعارة : لأن وصف المرأة بأنها تحت الرجل ليس يراد به حقيقة الفوق والتّحت ، وإنما المراد أنّ منزلة المرأة منخفضة عن منزلة الرجل ، لقيامه عليها ، وغلبته على أمرها. كما قال سبحانه : (الرِّجالُ

__________________

والقذف (بفتحتين وبضمتين) : البعيد من الأرض. والمرت (بفتح الميم وسكون الراء) : الأرض لا ماء فيها ولا نبات. والظهر : ما ارتفع من الأرض.

(١). أبو بكر بن عياش. واسمه شعبة ، هو إمام في اللغة والقراآت ، وكان راوي عاصم ، وإماما من أئمة السّنة توفي سنة ١٩٣ ه‍. له ترجمة موجزة في «الأعلام» ، و «النشر» ، و «القراآت واللهجات» لعبد الوهاب حمودة ، و «الفهرست» لابن النديم.

(٢). هو عاصم بن أبي النجود الكوفي الأسدي أحد القراء السبعة ، كان ثقة في القراآت. وله اشتغال بحديث الرسول (ص). توفي سنة ١٢٧ ه‍ وقد روى عنه أبو بكر بن عياش. وله ترجمة في «تهذيب التهذيب» و «الوفيات» و «الأعلام» للزركلي ، و «القراآت واللهجات «لعبد الوهاب حمودة.

٦٦

قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ) [النساء : ٣٤]. وكما يقول القائل : فلان الجندي تحت يدي فلان الأمير. إذا كان من شحنة عمله ، أو متصرّفا على أمره. وكما يقول الاخر : لا آخذ رزقي من تحت يدي فلان. إذا كان هو الذي يلي إطلاق رزقه ، وتوفية مستحقّه ، وذلك مشهور في كلامهم.

٦٧
٦٨

سورة الملك

٦٧

٦٩
٧٠

المبحث الأول

أهداف سورة «الملك» (١)

سورة الملك سورة مكية ، آياتها ٣٠ آية ، نزلت بعد سورة الطور.

لها من اسمها أكبر نصيب. إنها سورة تعرض بركات الله في هذه الدنيا ، وقدرته العالية ، وحكمته السامية : فهو الخالق الرزاق المهيمن ، المدبّر الحكيم المبدع الذي أبدع كل شيء خلقه.

وتلفت السورة نظر الإنسان الى خلق الأرض ، وخلق السماء والطير والرزق ، والسمع والأبصار ، والموت والحياة ، والزرع والثمار ، والماء والهواء والفضاء.

وتحثّ القلب على التفكير والتأمّل ، والنظر في ملكوت السماوات والأرض ، وتهيج فيه البحث والاستنباط ليصل بنفسه الى التعرف على قدرة الله وجلاله ، وسابغ فضله على الناس أجمعين.

مطلع السورة

مطلع السورة مطلع جامع يهزّ القلب هزّا ، وينبّه إلى بركات الله ونعمه وقدرته.

(تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١).

وعن حقيقة الملك والقدرة ، تتفرّع مختلف الصور التي عرضتها السورة ، ومختلف الحركات المغيبة والظاهرة ، التي نبّهت القلوب إليها.

«فمن الملك ومن القدرة كان خلق

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٧١

الموت والحياة ، وكان الابتلاء بهما ، وكان خلق السماوات وتزيينها بالمصابيح ، وجعلها رجوما للشياطين ، وكان إعداد جهنّم بوصفها وهيئتها وخزنتها ، وكان العلم بالسّرّ والجهر ، وكان جعل الأرض ذلولا للبشر ، وكان الخسف والحاصب والنكير على المكذّبين ، وكان إمساك الطير في السماء ، وكان القهر والاستعلاء ، وكان الرزق كما يشاء ، وكان الإنشاء ، وهبة السمع والأبصار والأفئدة ، وكان الخلق في الأرض والحشر ، وكان الاختصاص بعلم الاخرة ، وكان عذاب الكافرين ، وكان الماء الذي به الحياة ؛ فكل حقائق السورة وموضوعاتها مستمدة من ذلك المطلع ومدلوله الشامل الكبير» (١).

مع آيات السورة

[الآية ١] : تبدأ السورة بتمجيد الله سبحانه ، بقوله : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ فهو جلّ جلاله كثير البركة تفيض بركته على عباده ، وهو المالك المهيمن على الخلق ، وهو القادر قدرة مطلقة بلا حدود ولا قيود ، يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد ، وهو على كلّ شيء قدير.

[الآية ٢] : ومن آثار قدرته ، سبحانه ، أنه خلق الموت السابق على الحياة واللاحق بها ، والحياة التي تشمل الحياة الأولى والحياة الاخرة ، ليمتحن الإنسان بالوجود والاختيار والعقل والكسب ، حتّى يعمل في الحياة الأولى ليرى جزاء عمله في الحياة الاخرة.

[الآية ٣] : يوجّه القرآن النظر إلى خلق السماوات السبع ، ويذكر أنها طبقات على أبعاد متفاوتة ، وليس في خلقها خلل ولا اضطراب ، وانظر إليها بعينيك فهل تستطيع أن تجد بها نقصا أو عيبا؟

[الآية ٤] : تأمّل كثيرا في هذا الكون وشاهد عجائبه ، فلن تجد فيه إلّا الإبداع والتنسيق ، والضبط والإحكام.

[الآية ٥] : لقد رفع الله السماء الدنيا ، وخلق فيها الكواكب والنجوم زينة للسماء ، وهداية للمسافرين ، وهذه النجوم منها الباهر الزاهر والخافت ، والمفرد والمجتمع ؛ ولكلّ نجم مكان ومسار وطريق خاص ، وهذه النجوم منها شهب تنزّل على الشياطين الذين

__________________

(١). في ظلال القرآن ٢٩ : ١٨٤.

٧٢

يحاولون استراق السمع ، والتنصّت على كلام الملائكة ، فيرجمون بالشهب التي تقتلهم أو تخبلهم.

[الآية ٦] : ومن كفر بالله فإنه يستحقّ عذاب جهنّم ، وبئس هذا المصير.

[الآية ٧] : إن جهنّم تتميّز غيظا ممّن عصى الله ، وتغلي وتفور حنقا على الكفّار.

[الآية ٨] : كلّما ألقي جماعة من الكفّار في النار ، سألهم خزنة جهنّم : ألم يأتكم رسول ينذركم هول هذا اليوم؟

[الآية ٩] : ويجيب الكفّار بأن الرسول قد جاءنا ، ولكن العمى أضلّنا فكذّبنا بالرسول ، وقلنا ما أنزل الله من وحي ولا رسالة ، واتّهمنا الرسول بالضلال والكذب.

[الآية ١٠] : ولو حكّمنا عقلنا وسمعنا ، لاهتدينا إلى الحقّ وآمنّا ، وحفظنا أنفسنا من هذا الهلاك ومن هذا العذاب.

[الآية ١١] : لقد جاء هذا الاعتراف بالذنب متأخّرا في غير وقته ، فسحقا وعذابا لأصحاب جهنّم ، حيث لا يؤمنون إلّا بعد فوات الأوان.

[الآية ١٢] : إنّ المؤمن يحسّ رقابة الله عليه ، ويخشى عقابه وإن لم يره بعينه ، أو يخشى ربّه وهو في خفية عن الأعين غائبا عن الناس. وله مغفرة لذنبه وأجر كبير جزاء عمله.

[الآية ١٣] : ما يفعله العبد مكشوف ظاهر أمام الله ، وسيّان أجهرتم بأقوالكم ، أم أسررتم بها ، فالله مطلع عليها.

[الآية ١٤] : ألا يعلم الخالق الأشياء التي خلقها؟ وهو سبحانه عالم بخفيّات الأمور ودقائقها ، وهو اللطيف الخبير.

[الآية ١٥] : ثم ينتقل بهم السياق من ذوات أنفسهم إلى الأرض التي خلقها الله لهم وذلّلها ، وأودعها أسباب الحياة.

فهذه الأرض تدور حول نفسها بسرعة ألف ميل في الساعة ، ثم تدور حول الشمس بسرعة حوالى خمسة وستين ألف ميل في الساعة.

ومع هذه السرعة يبقى الإنسان على ظهرها آمنا مستريحا مطمئنّا.

وقد جعل الله الهواء المحيط بالأرض محتويا للعناصر التي تحتاج إليها الحياة بالنسب الدقيقة اللازمة ،

٧٣

فنسبة الأكسجين ٢١ في المائة ، ونسبة الأزوت أو النتروجين ٧٨ في المائة ، والبقيّة من ثاني أكسيد الكربون وعناصر أخرى. وهذه النسب هي اللّازمة لقيام الحياة على الأرض.

وحجم الأرض وحجم الشمس وحجم القمر ، وبعد الأرض عن الشمس والقمر ، ذلك كلّه بنسب لازمة لاستمرار الحياة على ظهر الأرض.

إن الحيوان يتنشّق الهواء فيمتصّ الأكسجين ويلفظ ثاني أكسيد الكربون ، والنباتات تمتصّ ثاني أكسيد الكربون ، وبكيمياء سحرية يغذّي النبات نفسه ، ويلفظ الأكسجين الذي نتنفّسه ، وبدونه تنتهي الحياة بعد خمس دقائق ؛ ولو كانت هذه المقايضة غير موجودة ، فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفد في النهاية كل الأكسجين ، أو كل ثاني أكسيد الكربون تقريبا. ومتى انقلب التوازن تماما ذوى النبات ، أو مات الإنسان.

والأرزاق المخبوءة في جوف الأرض ، من معادن جامدة وسائلة ، كلّها ترجع الى طبيعة تكوين الأرض والأحوال التي لابستها ، والله يتفضّل على الإنسان بتسخير الأرض والنبات والفضاء والهواء له : (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) [الآية ١٥] وإلى الله النشور والرجوع في يوم الحساب.

[الآيتان ١٦ و ١٧] : هذه الأرض الذّلول التي يأمن الإنسان عليها ويهدأ ويستريح ، تتحوّل ، إذا أراد الله ، إلى دابّة جامحة فيها الزلازل والبراكين ، كما يمكن أن ينزل الله الصواعق والعواصف الجامحة التي تعصف بالإنسان ، وتدمّره : (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) [الرعد : ١٣].

[الآية ١٨] : ولقد كذّب الكفّار السابقون رسلهم ، فعاقبهم الله أشدّ العقاب : لقد غرق قوم نوح ، وأهلكت ثمود بصاعقة ، وأهلكت عاد بريح عاتية ، وأهلك فرعون وقومه بالغرق في بحر القلزم (البحر الأحمر).

إنّ الإنسان قويّ بالقدر الذي وهبه الله من القوة ، ولكنّ هذا الكون الهائل زمامه في يد خالقه ، ونواميسه من صنعه ، وما يصيب الإنسان منها مقدّر مرسوم : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (٤٩) [القمر].

[الآية ١٩] : فليتأمل الإنسان أسراب الطير ترتفع وتنخفض ، وتبسط أجنحتها

٧٤

وتقبضها ، في حركة ممتعة تدعو الى التأمّل والتدبّر ، فقدرة الله ممسكة بهذا الطائر ، في قبضه وبسطه ، والله سبحانه ييسّر له أمره ، ويهيّئ وينسّق ويعطي القدرة ، ويرعى كلّ شيء في كلّ لحظة ، رعاية الخبير البصير.

[الآية ٢٠] : من هذا الذي يحميكم من بطش الله وغضبه؟ من هذا الذي يدفع عنكم بأس الرحمن إلّا الرحمن؟ إنّ الكافر في غرور ، يظنّ أنه آمن بعيد عن بطش الله به ، وما هو ببعيد.

[الآية ٢١] : من يرزق البشر إن أمسك الله الماء؟ أو أمسك الهواء ، أو أمسك الحياة عنهم؟ إنّ بعض النفوس تعرض عن الله في طغيان وتبجّح ونفور ، مع أنها تعيش عالة على الله في حياتها ورزقها.

[الآية ٢٢] : ترسم الآية مشهد جماعة يمشون على وجوههم لا هدف لهم ولا طريق ، ومشهد جماعة أخرى تسير مرتفعة الهامات ، مستقيمة الخطوات في طريق مستقيم لهدف مرسوم. ثم تستفهم أيّهما أهدى؟

[الآية ٢٣] : لقد خلق الله الناس ، وجعل لهم السمع ليسمعوا ، والأبصار ليبصروا ، والأفئدة ليتفكّروا في جليل قدرة الله ؛ ولكنّ الإنسان قلّما يفكّر في شكر نعمة الله عليه ، وامتثال أمره واجتناب نواهيه ، والاعتراف له بالفضل والمنّة.

«ويذكر العلم أنّ حاسة السمع تبدأ بالأذن الخارجية ، والصوت ينتقل منها إلى طبلة الأذن ، ثم ينتقل إلى التّيه داخل الأذن ؛ والتيه يشتمل على أربعة آلاف قوس صغيرة ، متّصلة بعصب السمع في الرأس. وفي الأذن مائة ألف خليّة سمعية ، وتنتهي الأعصاب بأهداب دقيقة ، دقة وعظمة تحيّر الألباب.

«ومركز حاسّة الإبصار العين ، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء ، وهي أطراف أعصاب الإبصار ، وتتكوّن العين من الصلبة والقرنية والمشيمة والشبكية ، وذلك بخلاف العدد الهائل من الأعصاب والأوعية» (١).

فأمّا الأفئدة ، فهي هذه الخاصّيّة التي صار بها الإنسان إنسانا ، وهي قوّة

__________________

(١). الله والعلم الحديث ، للأستاذ عبد الرزاق نوفل ، ص ٥٧.

٧٥

الإدراك والتمييز ، والمعرفة التي استخلف بها الإنسان في هذا الملك العريض.

[الآية ٢٤] : إنّ ربكم هو الذي برأكم في الأرض ، وبعثكم في أرجائها على اختلاف ألسنتكم وألوانكم ، وأشكالكم وصوركم ، وكما بدأكم يعيدكم ، وإليه تحشرون وترجعون.

[الآية ٢٥] : ويسألون سؤال الشاك المستريب ، عن يوم الجزاء والحساب.

[الآية ٢٦] : قل علم هذا اليوم عند الله ، وما عليّ إلّا البلاغ والبيان ؛ أما العلم فعند صاحب العلم ، والواحد بلا شريك.

[الآية ٢٧] : ولو أذن الله لرأى البشر يوم الحساب واقعا لا محالة ، وعند هذه المفاجأة ورؤية الحساب والجزاء ، سيظهر الحزن والاستياء عليهم ، وتؤنّبهم الملائكة ، وتقول لهم : هذا هو اليوم الذي كنتم تستعجلون وقوعه ؛ والآية جرت على طريقة القرآن في عرض ما سيكون حاضرا مشاهدا ، بمفاجأة شعورية تصويرية ، توقف المكذّب والشاكّ وجها لوجه مع مشهد حاضر ، لما يكذّب به أو يشكّ فيه.

[الآية ٢٨] : روي أن كفّار مكّة كانوا يتربّصون بالنبيّ (ص) أن يهلك فيستريحوا منه ومن دعوته ، فقال لهم القرآن : سواء أهلك النبيّ (ص) حسب أمانيّهم ، أو رحمه‌الله ومن معه ، فلن يغيّر ذلك من وضعهم ، لأنّ عذابا أليما ينتظرهم ، ولن تجيرهم الأصنام ، ولن يجيرهم من الرحمن إلّا الإيمان.

[الآية ٢٩] : إنّ المؤمنين في قربى مع الرحمن ، فهم يؤمنون به ويتوكّلون عليه ، وهم موصولون بالله منتسبون إليه ، وسيتبيّن للكافرين من الضّالّ ومن المهتدي ، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والاخرة.

[الآية ٣٠] : أخبروني إن ذهب ماؤكم في الأرض ، ولم تصل إليه الدّلاء ، من يأتيكم بماء جار نابع فائض متدفق ، تشربونه عذبا زلالا.

وهكذا تختم السورة بهذه اللمسة القريبة من القلب ، تذكرة بفضل الله الذي أجرى المياه ، ولو شاء لحرم الإنسان مصدر الحياة ، ولا ينقذ الإنسان من الله إلّا الله ؛ قال تعالى :

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) [الذاريات : ٥٠].

٧٦

المعنى الإجمالي للسورة

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود السورة :

بيان استحقاق الله تعالى الملك ، وخلق الحياة والموت للتجربة والاختبار ، والنظر إلى السماوات للعبرة ، واشتعال النجوم والكواكب للزينة ، وما أعدّ للمنكرين من العذاب والعقوبة ، وما وعد به المتّقون من الثواب والكرامة ، وتأخير العذاب عن المستحقّين بالفضل والرّحمة ، وحفظ الطيور في الهواء بكمال القدرة ، واتّصال الرزق إلى الخليقة بالنّوال والمنّة ، وبيان حال أهل الضّلالة والهداية ، وتعجّل الكفّار بمجيء يوم القيامة ، وتهديد المشركين بزوال النعمة ، بقوله جلّ وعلا : (فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠).

أسماء السورة

لسورة «تبارك» في القرآن والسنن سبعة أسماء :

«سورة «الملك» لمفتتحها ، «والمنجية» لأنّها تنجي قارئها من العذاب. و «المانعة» ، لأنها تمنع قارئها من عذاب القبر. «والدافعة» لأنها تدفع بلاء الدنيا وعذاب الاخرة عن قارئها. و «الشافعة» لأنها تشفع في القيامة لقارئها ، «والمجادلة» لأنها تجادل منكرا ونكيرا ، فتناظرهما كي لا يؤذيا قارئها ، والسابع : «المخلّصة» ، لأنها تخاصم زبانية جهنم ، لئلا يكون لهم يد على قارئها» (١).

وفي شأن السورة قال رسول الله (ص) «إن سورة من كتاب الله ما هي إلّا ثلاثون آية ، شفعت لرجل فأخرجته من النار وأدخلته الجنّة ، وهي سورة «تبارك» (٢).

__________________

(١). بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروزآبادي ١ : ٤٧٣.

(٢). رواه أبو داود والترمذي وحسّنه غيرهما ، انظر الترغيب والترهيب.

٧٧
٧٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الملك» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الملك بعد سورة الطّور ، ونزلت سورة الطور بعد الإسراء وقبيل الهجرة ، فيكون نزول سورة الملك في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سميت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أولها : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١). وتبلغ آياتها ثلاثين آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السورة الدعوة إلى الإيمان بالله تعالى ، وقد جمع فيها بين دعوتهم بالدليل ودعوتهم بالترهيب والترغيب ، فاتّصل سياقها بما ختمت به سورة التحريم من ترهيب المخالفين وترغيبهم ؛ وهذا هو وجه المناسبة بين السورتين.

الدعوة الى الإيمان بالله تعالى

الآيات [١ ـ ٣٠]

قال الله تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) فذكر أنّ الملك بيده وحده ، وأنه على كل شيء قدير ، وأنه خلق الموت والحياة ليبلونا : أيّنا أحسن عملا ، وأنه خلق سبع سماوات طباقا لا تفاوت في خلقها ولا فطور ، وأنه زيّن السماء الدنيا بمصابيح من الكواكب وجعلها رجوما بالغيب لشياطين الإنس ، وأعدّ لهم خاصّة عذاب السعير ، وأعدّ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٧٩

للكافرين عامّة عذاب جهنم وبئس المصير. وقد فصّل السياق من هولها ما فصّل ؛ ثمّ ذكر ، سبحانه ، أن الذين يخشونه لهم مغفرة وأجر كبير ، ليجمع بهذا بين الترهيب والترغيب ؛ ثمّ هدّدهم بأنّه يعلم سرّهم وجهرهم ، فيحاسبهم على كلّ أعمالهم ؛ واستدلّ على علمه بخلقه لهم ، وأنه لطيف خبير ؛ وذكر ، على سبيل التهديد أيضا ، أنّه مهّد لهم الأرض وهيّأ لهم فيها أسباب الرزق ، فإذا أصرّوا على كفرهم فإنهم لا يأمنون أن يخسفها بهم ، أو يرسل حاصبا من الريح فيهلكهم ؛ ثمّ أكّد ذلك التخويف بالمثال والدليل ، وذكر المثال في ما فعله بمن أصرّ على الكفر قبلهم ، وذكر الدليل في إمساكه الطير فوقهم ؛ ثم ذكر أنه ، إن أراد عذابهم ، فإنه لا ينجيهم منه ما يملكون من قوّة وجند ، وإن أمسك رزقه فإنه لا يرزقهم ما يتّخذون من آلهة ؛ ثم ذكر أنهم يعلمون ذلك ولكنهم يلجّون في عتوّ ونفور ؛ وأيد ما ذكره من وضوح أمرهم بتمثيل حالهم بمن يمشي مليّا على وجهه ، وتمثيل حال المؤمنين بمن يمشي سويّا على صراط مستقيم ، ثم عاد السياق إلى ذكر الدليل ، فذكر أنه ، جلّ شأنه ، هو الذي أنشأهم وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة ، وأنه هو الذي ذرأهم في الأرض وإليه يحشرون.

ثم ذكر أنهم يقولون على سبيل الاستهزاء متى هذا الوعد بالعذاب؟ وأمر النبي (ص) أن يجيبهم بأنّ علمه عنده ، وليس عليه إلّا أن ينذرهم به ، وبأنّهم حينما يرونه قريبا منهم تساء وجوههم ، ويقال لهم توبيخا : (هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ) (٢٧) أي تطلبون ؛ ثمّ أمره أن يخبرهم بأنه ، إن مات هو ومن معه أو تأخّر أجلهم ، فإنه لا بد من عذابهم ، ولا أحد يجيرهم منه ؛ ثمّ ختم السورة بأمره أن يذكر لهم أنه آمن به هو ومن معه وتوكّلوا عليه ؛ وأنّهم سيعلمون من هو في ضلال مبين : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ) (٣٠).

٨٠