الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

المبحث الأول

أهداف سورة «التحريم» (١)

سورة التحريم سورة مدنية ، آياتها ١٢ آية ، نزلت بعد سورة الحجرات.

شاء الله ، سبحانه ، أن يكون الرسول بشرا به قوّة الإنسان ، وتجارب الإنسان ، ومحاولات الإنسان ، وضعف الإنسان ، لتكون سيرة هذا الرسول الإنسان نموذجا عمليا للمحاولة الناجحة ، يراها ويتأثّر بها من يريد القدرة الميسّرة العملية الواقعية ، التي لا تعيش في هالات ، ولا في خيالات.

وهذه السورة فيها عتاب للرسول الأمين على تحريمه ما أحل الله له ، ولو كتم النبيّ (ص) من أمر القرآن شيئا لكتم هذا العتاب.

إن هذا القرآن كتاب الحياة بكلّ ما فيها ، وقد شاء الله أن يواكب الوحي حياة الرسول الأمين ، فيبارك الخطوات الناجحة ، ويقوّم ما يحتاج الى تقويم ، وبذلك تكون القدوة في متناول الناس ، قال تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (٢١).

لقد عاتب القرآن رسول الله في قبوله الفداء من أسرى بدر ، وفي إذنه للمخلّفين بالقعود عن الجهاد ، وفي إعراضه عن الأعمى الذي ألحّ في السؤال ، وفي تحريمه ما أحلّ الله له.

كما عرض القرآن جوانب القوّة والجهاد والتربية والسلوك للنبيّ الأمين ، وجعل حياته الخاصة والعامة كتابا مفتوحا لأمّته وللبشريّة كلّها ، تقرأ فيه صورة العقيدة ، وترى فيه تطبيقاتها

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٤١

الواقعية ، ومن ثمّ لا يجعل فيها سرّا مخبوءا ولا سترا مطويّا ، بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن ، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العاديّ ، حتّى مواضع الضعف البشريّ ، الذي لا حيلة فيه لبشر ، بل إنّ الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول (ص) للناس.

إن حياة الرسول ملك للدعوة ، وهي الصورة المنظورة الممكنة التطبيق من العقيدة ، وقد جاء ليعرضها للناس في شخصه وفي حياته ، كما يعرضها بقوله وفعله ، ولهذا خلق ، ولهذا جاء ، لتكون السّنّة هي ما أثر عن الرسول (ص) من قول أو فعل أو تقرير ، وليكون هو النموذج العمليّ الملموس في دنيا الناس ، يتعرّض للأحزان ، ويموت ابنه ، ويصاب في غزوة أحد ، وتنتشر الإشاعات عن زوجته عائشة ، ويعيب المنافقون عليه بعض الأمور ، لتكون الصورة كاملة للإنسان بكلّ ما فيه ، وليكون الوحي بعد ذلك فيصلا ، ودليلا هاديا في ما ينبغي سلوكه في هذه الحياة.

قصة التحريم

تزوّج النبيّ (ص) تسع نساء لحكم إلهية ، ولتكون هذه الزوجات مبلّغات لشئوون الوحي في ما يخصّ النساء. وقد قضى النبيّ صدر حياته مع خديجة ، وكان عمره ، عند زواجه منها ، ٢٥ سنة وعمرها أربعين ، وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنوات ، ولم يتزوّج غيرها في حياتها ، وكان وفيا لذكراها ، وقد ماتت خديجة وعمره خمسون عاما.

ثم تزوّج النبيّ عائشة بنت أبي بكر الصديق ، وحفصة بنت عمر ؛ وأمّ سلمة ، وقد مات زوجها شهيدا فضم النبي إليه عيالها من أبي سلمة وتزوجها ؛ وزينب بنت جحش زوج مولاه ومتبنّاه زيد ، ليكون ذلك تشريعا للناس في إباحة زواج الإنسان من زوجة ابنه المتبنّى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) (٣٧) [الأحزاب].

ولمّا تزوّج النبيّ جويرية بنت الحارث سيد بني المصطلق ، أعتق الصحابة أقاربها وأسلم أهلها ، وكانت أيمن

٤٢

امرأة على قومها ؛ ثمّ تزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان ، وكانت مهاجرة إلى الحبشة ، ثمّ ارتدّ زوجها وتنصّر ، فخطبها النبيّ ، وجاءت من الحبشة إلى المدينة ؛ ثمّ تزوّج ، إثر فتح خيبر صفيّة بنت حيي بن أخطب زعيم بني النضير ؛ وكانت آخر زوجاته ميمونة بنت الحارث بن حزن ، وهي خالة خالد بن الوليد وعبد الله بن عبّاس.

وكانت لكل زوجة من أزواجه (ص) قصة وسبب في زواجه منها ، ولم يكن معظمهنّ شابّات ، ولا ممن يرغب فيهنّ الرجال لجمال ، وكلّ نسائه قد سبق لهن الزواج ما عدا عائشة ، فقد كانت البكر الوحيدة بين نسائه.

وقد أنجب النبيّ (ص) جميع أبنائه من خديجة ، فقد رزق منها صبيّين وأربع بنات ، وقد مات الصبيان في صدر حياته ، وبقيت البنات الى ما بعد الرسالة ؛ ثم ماتت ثلاث من بناته في حياته ، وهن : رقيّة وزينب وأمّ كلثوم ، وعاشت فاطمة رضي الله عنها ستة أشهر بعد وفاة أبيها (ص).

ولم ينجب عليه الصلاة والسلام من زوجة أخرى غير خديجة. وكان المقوقس ملك مصر قد أهدى إليه جاريتين هما مارية وسيرين ، فتسرّى بمارية ، وأهدى سيرين إلى حسّان بن ثابت. ولما كانت مارية جارية ، لم يكن لها بيت بجوار المسجد ، فكان بيتها في عوالي المدينة ، في المحلّ الذي يقال له الآن مشربة أمّ إبراهيم ، وقد رزق النبي منها بمولود ذكر سمّاه إبراهيم تيمّنا بإبراهيم الخليل (ع).

وقد ماتت خديجة والنبيّ في الخمسين ، ولم يرزق بمولود من نسائه جميعا طوال عشر سنوات ، ثمّ رزق إبراهيم وقد تخطّى إلى الستّين ، ففاضت نفسه بالمسرّة ، وامتلأ قلبه الإنساني الكبير أنسا وغبطة ، وارتفعت مارية بهذا الميلاد في عينيه الى مكانة سمت بها عن مقام مواليه إلى مقام أزواجه ، وزادت عنده حظوة وقربا.

كان طبيعيا أن يدسّ ذلك ، في نفوس سائر زوجاته ، غيرة تزايدت أضعافا بأنها أمّ إبراهيم ، وبأنهنّ جميعا لا ولد لهنّ ، وكان النبيّ (ص) يتردّد كل يوم على إبراهيم ، ويحمله بين يديه ، ويفرح لابتسامته البريئة ، ويسرّ بنموّه وجماله.

وكانت المرأة في الجاهلية تسام

٤٣

الخسف صغيرة ، وتمسك على الذّل كبيرة ، فلمّا جاء الإسلام حرّم وأد البنات ، وسما بالمرأة إلى منزلة عالية ، ووصّى النبي بالنساء خيرا ، وعامل نساءه معاملة حسنة ، وجعل لنسائه من المكانة ما لم يكن معروفا قط عند العرب.

قالت عائشة رضي الله عنها : «كان النبي ، إذا خلا بنسائه ، ألين الناس ، وأكرم الناس ، ضحاكا بسّاما».

تحريم مارية

حدث أن جاءت مارية القبطية من عوالي المدينة إلى رسول الله ، وكانت حفصة في زيارة لبيت أبيها ، فدخلت مارية في حجرة حفصة ، وأقامت بها وقتا مع النبي (ص) ، وعادت حفصة فوجدت مارية في بيتها ، فجعلت تنتظر خروجها وهي أشدّ ما تكون غيرة ، وجعلت كلّما طال بها الانتظار تزداد الغيرة بها شدّة ، فلمّا خرجت مارية ودخلت حفصة قالت يا نبيّ الله «لقد جئت إليّ شيئا ما جئت إلى أحد من أزواجك بمثله ، في يومي وفي دوري وعلى فراشي».

قال : «ألا ترضين أن أحرّمها فلا أقربها» قالت : بلى ، فحرّمها وقال : «لا تذكري ذلك لأحد» فذكرته لعائشة ، فأظهره الله عزوجل ، فأنزل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ) [الآية ١] ، فبلغنا أن النبيّ (ص) كفّر يمينه وأصاب جاريته.

تحريم العسل

روى البخاري عن عائشة قالت كان النبي (ص) ، يشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، ويمكث عندها فتواطأت أنا وحفصة على أيّتنا دخل عليها ، فلتقل له : أكلت مغافير (١)؟ إني أجد منك ريح مغافير ، قال : «لا ، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش ، فلن أعود له وقد حلفت ، لا تخبري بذلك أحدا» .. فهذا هو ما حرّمه على نفسه وهو حلال له ، وقد نزل بشأنه : (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [الآية ١].

ويبدو أنّ التي حدّثها الرسول (ص)

__________________

(١). المغافير : صمغ حلو الطعم ، كريه الرائحة.

٤٤

هذا الحديث وأمرها بستره ، قالته لزميلتها ، ثم اطلع الله رسوله على حديثهما.

قال ابن جرير الطبري : «والصواب من القول في ذلك أن يقال : كان الذي حرمه النبيّ (ص) على نفسه شيئا كان الله قد أحلّه له ، وجائز أن يكون ذلك كان جاريته ، وجائز أن يكون كان شرابا من الأشربة ، وجائز أن يكون كان غير ذلك ؛ غير أنّه أيّ ذلك كان ، فإنّه كان تحريم شيء كان له حلالا ، فعاتبه الله على تحريمه على نفسه».

النبيّ (ص) يهجر نساءه

كان من جراء هذا الحادث ، وهو تحريم مارية أو تحريم العسل ، وما كشف عنه من مكايدات في بيت الرسول (ص) ، أن غضب النبي ، فالى من نسائه لا يقربهن شهرا ، وهمّ بتطليقهنّ ، ثمّ نزلت هذه السورة وقد هدأ غضبه (ص) فعاد إلى نسائه.

روى الإمام أحمد في مسنده ، والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي ، أن ابن عبّاس سأل عمر عن المرأتين اللتين قال الله تعالى لهما : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [الآية ٤] فقال عمر : هما عائشة وحفصة ، ثم قال عمر : كنّا معشر قريش قوما نغلب النساء فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم ، قال عمر : فبينما أنا في أمر ، إذ قالت لي امرأتي : لو صنعت كذا كذا ، فقلت لها : ومالك أنت ، ولم هاهنا وما تكلّفك في أمر أريده؟ فقالت لي : عجبا لك يا ابن الخطّاب؟ ما تريد أن تراجع أنت ، وإن ابنتك لتراجع رسول الله (ص) حتّى يظل يومه غضبان ، وإن أزواج رسول الله (ص) ليراجعنه ، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل ؛ قال : فانطلقت ، فدخلت على حفصة ، فقلت أتراجعين رسول الله (ص) حتّى يظلّ يومه غضبان؟ فقالت حفصة : والله إنّا لنراجعه ، فقلت : تعلمين أني أحذرك عقوبة الله وغضب رسوله ، يا بنيّة لا يغرّنك هذه التي أحذّرك عقوبة حسنها وحب رسول الله (ص) إيّاها. واعتزل رسول الله (ص) نساءه شهرا ، منقطعا عنهنّ في مشربة منعزلة ، واستأذن عمر على رسول الله (ص) ثلاث مرّات حتّى أذن له ، قال عمر : فدخلت ، فسلّمت على رسول الله (ص) ، فإذا هو متّكئ على رمل حصير قد أثّر في جنبه ، فقلت :

٤٥

أطلّقت يا رسول الله نساءك ، فرفع رأسه إليّ وقال : لا ، فقلت : الله أكبر ، ولو رأيتنا يا رسول الله ، وكنا معشر قريش قوما نغلب النساء ، فلمّا قدمنا المدينة وجدنا قوما تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤنا يتعلّمن من نسائهم ، فغضبت علي امرأتي يوما ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني فقالت : ما تنكر أن أراجعك؟ فو الله إن أزواج النبي (ص) ليراجعنه ، وتهجره إحداهنّ اليوم إلى الليل ، فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ، أفتأمن إحداكنّ أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت؟ فتبسّم رسول الله () ، فقلت يا رسول الله قد دخلت على حفصة فقلت : لا يغرّنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحبّ إلى رسول الله (ص) منك ، فتبسّم أخرى ، فقلت : استأنس يا رسول الله؟ قال : نعم فجلست ، فرفعت رأسي في البيت فو الله ما رأيت في البيت شيئا يردّ البصر إلّا هيبة مقامه ، فقلت ادع الله يا رسول الله أن يوسّع على أمّتك فقد وسّع على فارس والروم ، وهم لا يعبدون الله ، فاستوى جالسا وقال : أفي شكّ أنت يا ابن الخطّاب؟ أولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا. فقلت استغفر لي يا رسول الله. وكان أقسم ألا يدخل عليهنّ شهرا ، من شدّة موجدته عليهنّ.

اصطفاء الرسول (ص)

يقول تعالى : (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٧٥) [الحج].

لقد اصطفى الله سبحانه محمدا (ص) ليبلّغ الرسالة الأخيرة للناس ، واختاره إنسانا تتمثّل فيه العقيدة الإسلامية بكلّ خصائصها ، وتتجسّم فيه بكل حقيقتها «ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها ، إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلّها ، ضليع التكوين الجسدي ، قويّ البنية ، سليم البناء ، صحيح الحواسّ ، يقظ الحس ، يتذوّق المحسوسات تذوقا كاملا سليما ، وهو في الوقت ذاته حيّ العاطفة والطبع ، سليم الحساسية ، يتذوق الجمال ، منفتح للتلقّي ، والاستجابة ، وهو في الوقت ذاته كبير العقل ، واسع الفكر ، فسيح الأفق ، قويّ الارادة ، يملك نفسه ولا تملكه ؛ ثمّ هو ، بعد ذلك كلّه ، النبيّ الذي تشرق روحه بالنور الكلّيّ ، والذي

٤٦

تطيق روحه الإسراء والمعراج ، والذي ينادى من السماء ، والذي يرى نور ربّه ، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كلّ شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر ، فيسلم عليه الحصى والحجر ، ويحنّ له الجذع ، ويرتجف به جبل أحد ؛ ثمّ تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلّها ، فإذا هي التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها».

مع السورة

١ : حرّم النبي (ص) مارية القبطية على نفسه ، أو حرم العسل على نفسه ، مرضاة لزوجاته ؛ وتنزّل وحي السماء ، يفيد أنّ ما أحلّه الله لا ينبغي أن يحرّمه الإنسان.

٢ : أباح الله للإنسان إذا حرّم حلالا أو أقسم على يمين ورأى غيرها خيرا منها ؛ أن يأتي الذي هو خير ثم يكفّر عن يمينه.

٣ : أخبر النبي (ص) حفصة بتحريم مارية ، وأنّ أبا بكر وعمر يليان أمر هذه الأمة من بعده ، وأمرها أن تكتم ذلك ، ولكنّها لم تكتمه ، وأخبرت به عائشة ، وعلم النبيّ بذلك ، فلام حفصة على إفشاء سرّه ، وأخبرها أنّه لم يعلم هذا السر من عائشة ، ولكن من العليم الخبير.

٤ : أدّبت السورة عائشة وحفصة ، وبيّنت أنّ التامر وإفشاء السر مؤلم للنبي ، ومقلق لهذا القلب الكبير ؛ وهذا أمر يستحقّ التوبة والإنابة ؛ ثمّ بيّنت أنّ إيلام النبيّ أمر كريه ، وسيرتدّ الكيد على صاحبه ، لأنّ النبيّ معه قوة غالبة ؛ يكفي أنّ معه الله والملائكة وصالح المؤمنين.

٥ : هدّد الله نساء النبيّ بالطلاق ، وبأن يعوّضه الله منهنّ بنساءهنّ المثل العليا في القنوت والعبادة والتوبة والجمال ؛ وقد أثمر هذا التهديد ثمرته ، فعادت نساؤه إلى الطاعة والخضوع ، واستأنف النبيّ حياته متفرّغا لرسالته ، وتبليغ دعوته ومرضاة ربّه ، قرير العين في بيته ومع أسرته.

والآيات ترسم صورة من الحياة البيتية لهذا الرجل الذي كان ينهض بإنشاء أمّة ، وإقامة دولة ، على غير مثال معروف ، وعلى غير نسق مسبوق ، أمة تنهض بحمل أمانة العقيدة الإلهية في صورتها الأخيرة ، وتنشئ في الأرض مجتمعا ربّانيّا في صورة واقعية يتأسّى بها الناس.

٤٧

وفي ظلال هذا الحادث ، تهيب الآيات ٦ ـ ٩ : بالذين آمنوا ليؤدّوا واجبهم في بيوتهم ، من التربية والتوجيه والتذكير ، فيقوا أنفسهم وأهليهم النار ، ويرسم لهم مشهدا من مشاهدها ، وحال الكفار عندها.

ثمّ تجدّد الدعوة إلى التوبة النصوح ، وتصور لهم الجنّة التي تنتظر التائبين ؛ ثمّ تدعو النبي (ص) إلى جهاد الكفار والمنافقين وحماية المجتمع الإسلامي من الداخل والخارج.

فالآيات الأولى [١ ـ ٥] : دعوة لتوبة نساء النبيّ وحماية بيته ونفسه. والآيات التالية [٦ ـ ٩] : دعوة لتوبة المؤمنين ومحافظتهم على تربية أولادهم وبناتهم ، لأنّ الأسرة هي قوام المجتمع.

ثمّ تجيء الجولة الثالثة والأخيرة ، وكأنّها التكملة المباشرة لتهديد عائشة وحفصة ، فقد تحدّثت الآيات [١٠ ـ ١٢] عن امرأة نوح (ع) وامرأة لوط (ع) ، كمثل للكفر في بيت مؤمن ، وهو تهديد مستتر لكلّ زوجة تخون زوجها وتخون رسالته ودعوته ، فلن ينجيها من العذاب أنّ أقرب الناس إليها نبيّ رسول ، أو داعية كريم ، ولا يضرّ المرأة المؤمنة أن يكون أقرب الناس إليها طاغية جبّارا ، أو ملكا متسلّطا معتدّا ؛ وقد ذكرت امرأة فرعون كمثل للإيمان في بيت كافر ، وجعلت السورة في ختامها نموذجا رفيعا للمرأة المؤمنة ، يتمثّل في آسية (ع) امرأة فرعون التي استعلت على المال والملك والجاه والسلطان ، ورغبت في ما عند الله.

ويتمثّل في مريم ابنة عمران (ع) ، المتطهّرة المؤمنة القانتة المصدقة بكلمات ربّها وكتبه.

وبذلك نجد المرأة في ركب الإيمان ، ويتحدّث القرآن عنها كنموذج للخير يتمثّل في أمّ موسى (ع) ، وفي أم عيسى (ع) ، وفي بلقيس التي أسلمت لله رب العالمين ، وفي امرأة فرعون التي زهدت في ملك فرعون ، ورغبت في ثواب الله ربّ العالمين.

المعنى الإجمالي للسورة

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود سورة التحريم ما يأتي :

عتاب الرسول (ص) في التحريم والتحليل ، قبل ورود وحي سماويّ ، وتعيير الأزواج الطّاهرات على إيذائه

٤٨

وإظهار سرّه ، والأمر بالتحرّز والتجنّب من جهنّم ، والأمر بالتوبة النصوح ، والوعد بإتمام النور في القيامة ، والأمر بجهاد الكفار بطريق السياسة ، ومع المنافقين بالبرهان والحجّة ، وبيان أن القرابة غير نافعة بدون الإيمان والمعرفة ، وأنّ قرب المفسدين لا يضرّ مع وجود الصدق والإخلاص ، والخبر عن صدق إيمان امرأة فرعون ، وتصديق مريم بقوله تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢).

٤٩
٥٠

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «التحريم» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة التحريم بعد سورة الحجرات ، ونزلت سورة الحجرات فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك ، فيكون نزول سورة التحريم في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أولها : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [الآية ١] ، وتبلغ آياتها اثنتي عشرة آية.

الغرض منها وترتيبها

نزلت هذه السورة في ما كان من عائشة وحفصة حين شرب النبي (ص) عسلا عند زينب بنت جحش ، فتواطأتا وقالتا له : إنّا نشمّ منك ريح المغافير. وهو جمع مغفر ، أو مغفر ، أو مغفور ، أو مغفار ، أو مغفير ، وهو شيء ينضحه الثّمام (٢) يشبه العسل ، وريحه كريهة منكرة. فلمّا سمع منهما ذلك حرّم العسل على نفسه ، فنزلت هذه السورة لعتابه على تحريم ما أحلّ الله له ، وتهديد نسائه بطلاقهنّ إن لم يتبن عن هذه الغيرة فيما بينهنّ ؛ والمناسبة بين هذه السورة وسورة الطلاق أنّها في شأن النساء أيضا.

قصة التحريم

الآيات [١ ـ ١٢]

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

(٢). الثّمام : نبت عشبيّ برّيّ وزراعي. واحدته ثمامة.

٥١

ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١) ، فعاتب النبي (ص) على تحريم العسل الذي أحلّه له ابتغاء مرضاة أزواجه ، وذكر ، سبحانه ، أنه شرع لهم أن يتحلّلوا من أيمانهم بالكفّارة ، ليتحلّل النبيّ (ص) من يمينه ويعود إلى شرب العسل ؛ وكان النبيّ (ص) قد أسرّ إلى حفصة بتحريمه لئلّا يحرّمه أصحابه على أنفسهم اقتداء به ، فأخبرت به عائشة ، وأطلعه الله على إفشائها سرّه ؛ ثم ذكر ، جلّ وعلا ، لهما أنهما إن يتوبا ممّا فعلا كان خيرا لهما لأنّ قلوبهما مالت عن الحق بما فعلا ، وأنهما إن يستمرّا على تظاهرهما على النبي (ص) ، فإنه ، جلّ شأنه ، هو مولاه وجبريل والمؤمنون والملائكة ، وعسى ، إن طلقهنّ ، أن يبدله أزواجا خيرا منهن ؛ ثم انتقل السياق منهنّ إلى المؤمنين عامّة ، فأمرهم أن يقوا أنفسهم وأهليهم من مثل هذا نارا وقودها الناس والحجارة ، وذكر سبحانه أنه يقال لوقودها من الكفّار : لا تعتذروا اليوم ، إنما تجزون ما كنتم تعملون ؛ ثم أمرهم أن يتوبوا إليه تعالى توبة نصوحا ليكفّر عنهم سيئاتهم ويدخلهم جناته ، ويجعل لهم نورا يسعى بين أيديهم وأيمانهم ، فيقولوا ربّنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا ، إنّك على كل شيء قدير.

ثم أمر النبي (ص) بمجاهدة الكفّار والمنافقين لئلّا تشغله تلك الأمور من نسائه عنها ، وضرب مثلا لنسائه امرأة نوح وامرأة لوط حين خانتا زوجيهما ، فلم يغنيا عنهما من الله شيئا ، ليحذرن هذا المصير إذا اخترن أن يتظاهرن على النبي (ص). وضرب لهنّ مثلا آخر في الترغيب بعد الترهيب ، اثنتين من المؤمنات السابقات : إحداهما ، امرأة فرعون حينما طلبت منه ، جلّ جلاله ، أن يبني لها بيتا في الجنّة وينجيها من فرعون وقومه ؛ والثانية ، مريم ابنة عمران ، وقد ختمت السورة بها فقال تعالى : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) (١٢).

٥٢

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «التحريم» (١)

أقول : هذه السورة متاخية مع التي قبلها بالافتتاح بخطاب النبي (ص) ، وتلك مشتملة على طلاق النساء ، وهذه على تحريم الإيلاء. وبينهما من المناسبة ما لا يخفى.

ولمّا كانت تلك في خصام نساء الأمّة ، ذكر في هذه خصومة نساء النبي (ص) إعظاما لمنصبهنّ أن يذكرن مع سائر النسوة ، فأفردن بسورة خاصة ، ولهذا ختمت بذكر امرأتين في الجنة : آسية امرأة فرعون ، ومريم ابنة عمران.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

٥٣
٥٤

المبحث الرابع

مكنونات سورة «التحريم» (١)

١ ـ (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) [الآية ١].

هي سرّيّته مارية. كما أخرجه الحاكم ، والنّسائي من حديث أنس ، والبزّاز من حديث ابن عبّاس ، والطبراني من حديث أبي هريرة ، والضّياء في «المختارة» من حديث عمر (٢).

٢ ـ (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ) [الآية ٣].

هي حفصة.

٣ ـ (حَدِيثاً) [الآية ٣].

هو تحريم مارية. كما في الأحاديث المذكورة.

٤ ـ (عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) [الآية ٣].

قال مجاهد : الذي عرّف أمر مارية ،

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «مفحمات الأقران في مبهمات القرآن» للسّيوطي ، تحقيق إياد خالد الطبّاع ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرخ.

(٢). النّسائي ٧ : ٧١ في عشرة النساء ، و «المستدرك» للحاكم ٢ : ٤٩٣ ؛ وفيهما أنها نزلت في أمة كانت له : والبزاز (٢٢٧٥) وفيه أنها سرّيّته ؛ ورجاله رجال الصحيح ، غير بشر بن آدم الأصغر ، وهو ثقة.

وتعيين أنها مارية ، جاء في رواية الطبراني في «المعجم الأوسط» من طريق موسى بن جعفر بن أبي كثير عن عمه ، قال الذهبي : مجهول ، وخبره ساقط. كما في «مجمع الزوائد» ٧ /. ١٢٧ وأخرج البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها : أنها نزلت في شأن تحريمه على نفسه شرب العسل من عند زوجته زينب بنت جحش رضي الله عنها.

قال ابن كثير : «والصحيح أن ذلك كان في تحريمه العسل ، كما قال البخاري عند هذه الآية» وقال ابن حجر في «فتح الباري» ٨ : ٦٥٧ : «فيحتمل أن تكون الآية نزلت في السببين معا».

٥٥

وأعرض عن قوله : «إنّ أباك وأباها يليان الناس بعدي» (١) مخافة أن يفشو. أخرجه ابن أبي حاتم.

٥ ـ (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ) [الآية ٤].

٦ ـ (وَإِنْ تَظاهَرا) [الآية ٤].

هما عائشة وحفصة ، كما في «الصحيح» (٢) عن عمر ، لمّا سأله ابن عبّاس عنهما.

٧ ـ (وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) [الآية ٤].

قال النبيّ (ص) : «أبو بكر وعمر» أخرجه الطبراني في «الأوسط» من حديث ابن مسعود (٣) ، وأخرجه أيضا عن ابن عمر وابن عبّاس موقوفا ، وأخرج ابن أبي حاتم مثله عن الضّحّاك وغيره.

وأخرج عن سعيد بن جبير ، قال : نزلت في عمر خاصّة.

٨ ـ (امْرَأَتَ نُوحٍ) [الآية ١٠].

والعة.

٩ ـ (وَامْرَأَتَ لُوطٍ) [الآية ١٠].

والهة.

__________________

(١). نحو هذا الحديث أخرجه الطبراني ؛ وفي إسناده نظر. قاله ابن كثير في «تفسيره» ٤ /. ٣٩٠

(٢). البخاري (٤٩١٤) في التفسير. وانظر ما قاله السيوطي ، في أول هذا الكتاب ، في فصل «مقدمة فيها فوائد».

(٣). وفي سنده عبد الرحيم بن زيد العمي ، وهو متروك ، كما في «مجمع الزوائد» ٧ /. ١٢٧ ولم ينصّ الهيثمي فيه على أنه في «الأوسط».

٥٦

المبحث الخامس

لغة التنزيل في سورة «التحريم» (١)

١ ـ وقال تعالى : (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً) [الآية ٣].

أقول : ودلّت (بعض) على الواحد ، وهي نظير قوله تعالى :

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ) [الشعراء].

٢ ـ وقال تعالى : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [الآية ٤].

الخطاب إلى الاثنين ، والفاعل جمع ، وهذا شيء عرفناه في لغة التنزيل ، اقتضته حكمة وبلاغة.

٣ ـ وقال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) [الآية ٨].

وصفت التوبة بالنصح على الإسناد المجازي ، والنصح صفة التائبين ، وهو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم ، فيأتوا بها على طريقها متداركة للفرطات ، ماحية للسيئات.

أقول : وهذا أسلوب من أساليب البلاغة العربية في الصفات والموصوفات.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «من بديع لغة التنزيل» ، لإبراهيم السامرّائي ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٥٧
٥٨

المبحث السادس

المعاني اللغوية في سورة «التحريم» (١)

قال : (إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما) [الآية ٤] بجعل الفاعل جماعة ، لأنهما اثنان من اثنين.

وقال : (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ) [الآية ١٢] و (امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ) [الآية ١١] على : «وضرب الله امرأة فرعون ومريم مثلا».

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٥٩
٦٠