الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

الموسوعة القرآنيّة خصائص السور - ج ١٠

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار التقريب بين المذاهب الإسلامية
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٠

المبحث الأول

أهداف سورة «الطلاق» (١)

سورة الطلاق سورة مدنية وآياتها ١٢ آية ، نزلت بعد سورة الإنسان.

العناية بالأسرة

عني الإسلام بنظام الأسرة ، ودعا إلى تدعيم روابط المحبة والمودّة بين الزوجين ، وجعل الألفة بينهما آية من آيات الله ؛ قال تعالى : (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١].

وقد حفل القرآن الكريم بشأن العلاقات الزوجية والعائلية ، فحرص على سلامة الأسرة وتأكيد مودة الأبناء للآباء ، ورعاية الآباء للأبناء ، ثمّ حثّ الزوج على إحسان معاملة زوجته ، والتسامح معها ، والصفح عن بعض هفواتها ، وعدم التسرع في طلاقها. فلعلّ البغيض يصبح حبيبا ، ولعلّ الله أن يرزق الزوجين ثمرة تقوّي الروابط المشتركة بينهما. قال تعالى : (وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) (١٩) [النساء].

«إنّ الإسلام لا يحارب دوافع الفطرة ولا يستقذرها ، وإنّما ينظّمها ويطهّرها ، ويرفعها عن المستوي الحيواني ، ويرقّيها حتّى تصبح هي المحور الذي يدور عليه الكثير من الآداب النفسية والاجتماعية ؛ ويقيم العلاقات الجنسية على أساس من المشاعر الإنسانية الراقية ، التي تجعل من التقاء جسدين ،

__________________

(١). انتقي هذا الفصل من كتاب «أهداف كلّ سورة ومقاصدها» ، لعبد الله محمود شحاته ، الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة ، ١٩٧٩ ـ ١٩٨٤.

٢١

التقاء نفسين وقلبين وروحين ؛ وبتعبير شامل التقاء إنسانين ، تربط بينهما حياة مشتركة ، وآمال مشتركة ، وآلام مشتركة ، ومستقبل مشترك ، يلتقي في الذّرّيّة المرتقبة ، ويتقابل في الجيل الجديد ، الذي ينشأ في العشّ المشترك ، الذي يقوم عليه الوالدان حارسين لا يفترقان».

وقد حظيت تشريعات الأسرة بعناية القرآن والسّنّة ، والفقه الإسلامي والدراسات الإسلامية.

وندرك ، من روح الدين الإسلامي ومن تشريعاته ، رغبته في استقرار الأسرة ، واستمرار الرابطة الزوجية.

«وقد أحاط الإسلام رابطة الزوجية بكل الضمانات التي تكفل استقرارها واستمرارها ، وفي سبيل هذه الغاية يرفعها إلى مرتبة الطاعات ، ويعين على قيامها بمال الدولة للفقراء والفقيرات ، ويفرض الآداب التي تمنع التبرّج والفتنة ، كي تستقرّ العواطف ولا تلتفّ القلوب على هتاف المتبرّجة ؛ ويفرض حد الزنا واحد القذف ، ويجعل للبيوت حرمتها بالاستئذان عليها ، والاستئذان بين أهلها في داخلها».

وفي كتب الصّحاح حشد رائع من الأحاديث النبوية الشريفة تتضمن التوصية بالنساء ، وإحسان معاملتهن ، وتطييب خواطرهنّ ؛ وتجعل طاعة المرأة لزوجها فريضة ، ومحافظتها على بيته وسرّه وأولاده حقّا واجبا ، ورعايتها لما تحت يدها أمانة ؛ وتحثّ الزوجين على تقوية الروابط بينهما ، والتعاون من أجل وحدة الهدف واستبقاء الحياة الزوجية ، وتربية الأبناء والذّرّيّة ، فيقول النبي (ص) : «استوصوا بالنساء خيرا». ويقول عليه الصلاة والسلام : «كلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته. الرجل راع وهو مسؤول عن رعيّته ، والمرأة في بيت زوجها راع وهي مسؤولة عن رعيّتها .. وكلّكم راع وكلّكم مسؤول عن رعيّته».

الطلاق

نزل القرآن الكريم من عند العليم الخبير ، البصير بالنفوس وطبائعها ، والعواطف وجموحها ، والغرائز وتكوينها ؛ فقد تصاب سفينة الحياة الزوجية ببعض الصّدمات والاضطرابات ، وعندئذ يوصي القرآن الرجل بالتريّث والترقّب ، وعدم اتّباع الهوى ونزوات الغضب.

٢٢

فإذا اشتد الخلاف بين الزوجين ، وكثر النزاع بينهما ، فلا مانع من التّفاهم بالمعروف على نقاط الخلاف ، ودراسة أسباب النزاع ، ليتعرّف كلّ طرف على ما يؤلمه من الطرف الاخر ، وهذه المعرفة يمكن أن تكون وسيلة عملية إلى أن يتجنّب كلّ طرف ما يؤلم شريك حياته ، أو يخفف من هذه الآلام ؛ وهذا نوع من استدامة العشرة أو تحمل المسيرة.

فإذا لم يجد التفاهم الشخصيّ بين الزوجين ، وتفاقمت الأمور وتحوّلت إلى النّفور والنشوز ، والرّغبة في الإعراض والفرار ، فليس الطلاق أوّل خاطر يهدي اليه الإسلام ، بل لا بدّ من محاولة يقوم بها الآخرون ، وتوفيق يحاوله أهل الخبرة والتجربة ، أو أهل العلم والمعرفة بشئون الحياة الزوجية ، أو بعض الأقارب المحنّكين. قال تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً) (٣٥) [النساء].

(وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ) [النساء : ١٢٨].

وفي نصوص القرآن والسنة والآثار ما يحضّ على استبقاء الحياة الزوجية ، والقناعة والرّضا ، وعدم التطلّع إلى الآخرين.

قال تعالى : (لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ) [الحجر : ٨٨]. ويقول النبي (ص) «إن الله لا يحبّ الذوّاقين ولا الذوّاقات ، فإذا تزوّجتم فلا تطلّقوا».

وجاء رجل إلى سيّدنا عمر رضي الله عنه ، يريد أن يطلّق زوجته ، فسأله عمر عن السبب ، فقال الرجل إنّي لا أحبّها ، فقال له عمر : أو كلّ البيوت تبنى على الحبّ؟ فأين التذمّم وأين الوفاء؟ أي إنك أعطيت زوجتك أملا وعهدا صادقا ، وذمّة بأن تكون لك ، فاتق الله في هذا العهد ، وهذه الذمة ، وهذا الأمل ؛ فلا تهدم بيتك بيدك ، ولا تخيّب آمالا تعلّقت بك.

وقد سمّى الله الزواج ميثاقا غليظا ، ثمّ حثّ على حسن العشرة ، أو على الفراق بالمعروف ، والإحسان إلى الزوجة ومكارمتها ، وترك بعض الأموال والمهر تطييبا لخاطرها ، وتعويضا لها عمّا أصابها من أضرار.

٢٣

قال تعالى : (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (٢٠) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢١) [النساء].

مع السورة

ممّا شرعه الله تعالى للحدّ من الطلاق ، أنه سبحانه لم يبح الطلاق في كل وقت ، بل أمر بالصبر والتريث والانتظار ؛ فقد يكون الرجل واقعا تحت تأثير غضب جامح ، أو نزوة عارضة.

كما أنّ المرأة إنسان مرهف الإحساس في حاجة إلى التلطّف وحسن المعاملة. ويتمثّل ذلك فيما يأتي :

١ ـ ينبغي أن يكون الطلاق في طهر لم تجامع فيه المرأة حتّى تستقبل عدّتها بدون تطويل عليها.

٢ ـ ينبغي أن تقيم المرأة في بيت الزوجية ، فهو بيتها ما دامت على ذمّة الزوج ، ولا يجوز خروجها منه إلّا في حالة الضرورة ، بأن يترتّب على بقائها في البيت نزاع لا يطاق ، أو إساءة لأهل الزوج ، أو ارتكاب لذنوب كبيرة.

٣ ـ أباح الله للزوج مراجعة زوجته في فترة العدّة ، ولعلّ في بقائها في بيت زوجها ما يجعله يعدل عن الطلاق ؛ ثمّ إنّ القلوب بيد الله تعالى ، وهو سبحانه مقلّب القلوب. قال تعالى : (لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١).

٤ ـ إذا أتمّت المرأة عدّتها فيجب أن يمسكها الزوج بالمعروف ، أو يفارقها بالمعروف ؛ ولا بدّ من الإشهاد على الطلاق أو الرّجعة ، حتّى تكون الحياة بين الزوجين ناصعة نزيهة.

٥ ـ حثّ القرآن على التّقوى ومراقبة الله تعالى ، وإدراك أنّ الرزق بيده سبحانه ؛ والمال رزق ، والتوفيق رزق ، وينبغي أن يكون المؤمن متوكلّا على الله في كلّ حال ؛ فهو مقدّر الأمور (وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣) فلكلّ حياة ولكلّ أمر قدر ، وكلّ شيء مقدّر بمقداره ، وبزمانه وبمكانه وبملابساته ، وبنتائجه وأسبابه ، وليس شيء مصادفة ، وليس شيء جزافا في هذا الكون كلّه ، وفي نفس الإنسان وحياته.

٢٤

٦ ـ لقد بيّن القرآن في سورة البقرة عدّة المطلّقة ، بأنها ثلاث حيضات ، فإذا حاضت المرأة ثلاث مرات تأكّدت من خلوّ رحمها من الحمل ، ويباح لها الزواج بعد مدة العدة. قال تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) [البقرة : ٢٢٨] وفي الآية الرابعة من سورة الطلاق بيان عدة المرأة التي لا تحيض ، إمّا لصغر سنّها أو لكبر سنّها ؛ فالمرأة قبل البلوغ لا تحيض ، وبعد سن الخمسين سنة لا ينزل عليها الحيض.

ومثل هذه المرأة عدّتها ثلاثة أشهر ، أمّا المرأة الحامل فعدّتها وضع الحمل.

وتتخلّل آيات الطلاق دعوة الى تقوى الله ، وبيان أنّ هذه الأحكام من عند الله ، ومن يتّق الله ويطع أوامره ويحسن معاملة الطرف الاخر ، فله أجر عظيم ، وثواب كبير.

٧ ـ وتفيد الآيتان ٦ و ٧ أنّ الزوجة في فترة العدة لا تزال على ذمة الزوج ، ولذلك يجب أن تسكن في سكن مناسب لحالة الزوج ، ولا يصحّ أن يحتال الزوج لينزل ضررا بزوجته ؛ ومهما طالت فترة الحمل فيجب على الزوج أن يساهم في نفقة الحامل حتّى تضع حملها ، وفي فترة الرضاعة يجب على الزوج أن يساهم في نفقة الرضاعة ، ودفع أجرتها للأم ، وهذه النفقة تقدّر بحال الزوج ويساره أو إعساره.

وبذلك وضع القرآن أصولا يلتزمها كلّ إنسان ، فالفقير ينفق حسب حالته ، والغني ينفق ممّا أعطاه الله ، والأرزاق بيد الله فهو سبحانه الميسّر ، وهو الرزّاق ذو القوّة المتين ، قال تعالى : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧).

٨ ـ وقد عالجت السورة كل أنواع الكيد والحيل في إصابة الشريك بالأذى عند إنهاء الحياة الزوجية ، بقوله تعالى (وَلا تُضآرُّوهُنَ) وهذا القول يشمل كل أنواع العنت التي لا يحصرها نصّ قانوني مهما اتّسع ؛ وفي الحديث الشريف : «لا ضرر ولا ضرار» ، وهو أصل عامّ ينهى المؤمن عن ضرر الناس ، فضلا عن إضراره بمن كانت زوجة له.

٢٥

وتفيد السورة أنّ الرزق بيد الله ، وأنّ الأمل في وجه الله ؛ وبذلك تنتهي الحياة الزوجية بالأدب الجميل الرفيع ، وبالأمل في استئناف حياة أفضل وأيسر (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧).

وفي ختام سورة الطلاق تعرض السورة عددا من المؤثرات العاطفية تظهر فيها قدرة الله وجلاله ، فإن تغلّب شريك على شريكه الاخر ، أو استطاع أن يظلمه ، فليتذكر قدرة الله وعقابه للظالمين.

لا تظلمنّ إذا ما كنت مقتدرا

الظّلم شيمته يفضي إلى الندم

تنام عيناك والمظلوم منتبه

يدعو عليك وعين الله لم تنم

[فالآيات ٨ ـ ١٢] وإن كانت في غير موضوع الطلاق ، إلّا أنّها تعزف على نغمة مؤثّرة ، وتهتف بالقلوب حتّى ترقّ ، وبالأفئدة حتّى ترعى جلال الله ؛ فالله تعالى أخذ القرى واحدة بعد أخرى ، عند ما كذّبت برسلها ؛ وقد ساق القرآن هذه العبرة في مصير الذين عتوا عن أمر ربّهم ورسله ، فلم يسمعوا ولم يستجيبوا ، لتذكّر الناس بالمصير البائس الذي ينتظر من لا يتّقي ولا يطيع ، كما تذكّرهم بنعمة الله على الناس في إرسال الرسل ، وإنزال التشريع لهداية البشر ، وإخراجهم من الظلمات الى النور.

١٠ ـ والآية الاخيرة في السورة تشير إلى قدرة الله العالية الذي خلق السماوات السبع والأرضين السبع ، وهو العليم بما يناسب كلّ المخلوقات والموجودات في السماء والأرض. ثمّ إنّ هذه الأحكام موكولة الى الضمائر ، واليقين الجازم بسعة علم الله ، واطّلاعه على جميع أفعال العباد.

وهكذا تختتم السورة بما يدعو القلوب إلى الإخبات والإنابة ؛ فسبحان الحكيم العليم ، الذي أحسن كلّ شيء خلقه ، وهو الخبير بما يناسب عباده ، والمطّلع على خفايا القلوب ، وهو عليم بذات الصدور.

المعنى الإجمالي للسورة

قال الفيروزآبادي : معظم مقصود سورة الطلاق ما يأتي : بيان طلاق السّنّة ، وأحكام العدّة ، والتوكّل على الله في الأمور ، وبيان نفقة النساء حال الحمل والرضاعة ، وبيان عقوبة المعتدين وعذابهم ، وأنّ التكليف على

٢٦

قدر الطاقة ، وللصالحين الثواب والكرامة ، وبيان إحاطة العلم والقدرة في قوله تعالى :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢).

٢٧
٢٨

المبحث الثاني

ترابط الآيات في سورة «الطلاق» (١)

تاريخ نزولها ووجه تسميتها

نزلت سورة الطلاق بعد سورة الإنسان. ونزلت سورة الإنسان بعد سورة الرحمن ، ونزلت سورة الرحمن فيما بين صلح الحديبية وغزوة تبوك. فيكون نزول سورة الطلاق في ذلك التاريخ أيضا.

وقد سمّيت هذه السورة بهذا الاسم ، لقوله تعالى في أوّلها : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) [الآية ١] وتبلغ آياتها اثنتي عشرة آية.

الغرض منها وترتيبها

الغرض من هذه السّورة بيان أحكام الطلاق والعدّة ، وكان المشركون يأخذون في ذلك بشرائع جائرة في حقّ النّساء ، فنزلت هذه السّورة بإنصافهنّ في طلاقهنّ وعدّتهنّ ، وتحذير المشركين من الإصرار على شرائعهم الجائرة في هذا وغيره ؛ وبهذا يكون سياق هذه السّورة قريبا من سياق السّور السّابقة ، وتظهر المناسبة في ذكرها بعد سورة التغابن.

حكم الطلاق والعدة

الآيات [١ ـ ١٢]

قال الله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «النظم الفنّي في القرآن» ، للشيخ عبد المتعال الصعيدي ، مكتبة الآداب بالجمايز ـ المطبعة النموذجية بالحكمية الجديدة ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٢٩

فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) (١) فذكر سبحانه أحكام الطلاق والعدّة في سبع آيات من هذه السّورة ؛ وذكر ، جلّ جلاله ، في خلالها من الوعيد على مخالفتها ما ذكر ، ثمّ ختم ذلك بذكر ما حصل للقرى السابقة حينما عتت عن أمر ربها من شدّة الحساب ، ونكر العذاب ، وخسر العاقبة ، ليحذّرهم مخالفة ما ذكره من الأوامر والأحكام ؛ وليتّقي هذا ، أولو الألباب من المؤمنين ؛ ثم ذكر تعالى أنه قد أنزل إليهم ، بهذا ، ما فيه شرف لهم ، لأنه يخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، وأنّ من يؤمن به ، ويعمل صالحا يدخله جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، قد أحسن الله له رزقا : (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢).

٣٠

المبحث الثالث

أسرار ترتيب سورة «الطلاق» (١)

أقول : لمّا وقع في سورة التغابن : (إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ) [الآية ١٤] ، وكانت عداوة الأزواج تفضي إلى الطلاق ، وعداوة الأولاد قد تفضي إلى القسوة ، وترك الإنفاق عليهم ، عقّب ذلك بسورة فيها ذكر أحكام الطلاق ، والإنفاق على الأولاد والمطلّقات بسببهم.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب : «أسرار ترتيب القرآن» للسيوطي ، تحقيق عبد القادر أحمد عطا ، دار الاعتصام ، القاهرة ، الطبعة الثانية ، ١٣٩٨ ه‍ : ١٩٧٨ م.

٣١
٣٢

المبحث الرابع

المعاني اللغوية في سورة «الطلاق» (١)

قال تعالى : (قَدْراً) (٣) وقرأ بعضهم (قدرا) وهما لغتان.

وقال تعالى : (مِنْ وُجْدِكُمْ) [الآية ٦] و «الوجد» : المقدرة ؛ ومن العرب من يكسر في هذا المعنى ؛ فأما «الوجد» إذا فتحت الواو فهو «الحبّ». وهو في المعنى ، والله أعلم ، «أسكنوهنّ من حيث سكنتم ممّا تقدرون عليه».

وقال تعالى : (وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) [الآية ١٢] بجعل (الأرض) جماعة ، كما تقول : «هلك الشاة والبعير» وأنت تعني جميع الشاء وجميع الإبل.

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «معاني القرآن» للأخفش ، تحقيق عبد الأمير محمد أمين الورد ، مكتبة النهضة العربية وعالم الكتاب ، بيروت ، غير مؤرّخ.

٣٣
٣٤

المبحث الخامس

لكل سؤال جواب في سورة «الطلاق» (١)

إن قيل : لم قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) [الآية ١] أفرد الخطاب أولا ، ثمّ جمعه ثانيا؟

قلنا : أفرد سبحانه النبيّ (ص) أولا بالخطاب ، لأنه إمام أمّته وقدوتهم ، إظهارا لتقدّمه ورئاسته ، وأنه وحده في حكم كلّهم ، وسادّ مسدّ جميعهم. الثاني : أن معناه : يا أيّها النبي قل لأمّتك إذا طلّقتم النساء.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ). ونحن نرى كثيرا من الأتقياء مضيّقا عليهم رزقهم؟

قلنا معناه : يجعل له مخلّصا من هموم الدنيا والاخرة. وعن النبيّ (ص) أنّه قال : مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة. وقال ابن عبّاس رضي الله عنهما : ينجيه من كلّ كرب في الدنيا والاخرة. والصحيح أنّ هذه الآية عامّة ، وأنّ الله يجعل لكلّ متّق مخرجا من كلّ ما يضيق على من لا يتّقي ، ولذا قال النبيّ (ص) «إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ) [الآية ٢]. وجعل يقرأها ويعيدها» ؛ وأمّا تضييق رزق الأتقياء ، فهو مع ضيقه وقلّته ، يأتيهم من حيث لا يأملون ولا يرجون ؛ وتقليله لطف بهم ورحمة ، ليتوفّر حظّهم في الاخرة ويخفّ حسابهم ، ولتقلّ عوائقهم عن الاشتغال بمولاهم ، ولا يشغلهم الرخاء والسّعة عمّا خلقوا له من الطاعة

__________________

(١). انتقي هذا المبحث من كتاب «أسئلة القرآن المجيد وأجوبتها» ، لمحمد بن أبي بكر الرازي ، مكتبة البابي الحلبي ، القاهرة ، غير مؤرّخ.

٣٥

والعبادة ، ولهذا اختار الأنبياء والأولياء والصّدّيقون الفقر على الغنى.

فإن قيل لم قال تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الآية ٣] ، أي من يتق به فيما نابه كفاه الله شرّ ما أهمّه ، وقد رأينا كثيرا من الناس يتوكّلون على الله في بعض أمورهم وحوائجهم ، ولا يكفون همّها؟

قلنا : محال أنّه يتوكل على الله حقّ التوكّل ولا يكفيه همّه ، بل ربما قلق وضجر واستبطأ قضاء حاجته بقلبه أو بلسانه أيضا ، ففسد توكّله ؛ وإليه الإشارة بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) [الآية ٣] أي نافذ حكمه ، يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد ، ولا يعجزه مطلوب ، وبقوله تعالى : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٣) أي جعل لكل شيء ، من الفقر والغنى ، والمرض والصحة ، والشدة والرخاء ، ونحو ذلك ، أجلا ، ومنتهى ينتهي إليه لا يتقدّم عنه ولا يتأخّر.

فإن قيل : قوله تعالى : (وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ) [الآية ٤] ، علّقه بشكّنا مع أنّ عدّتهنّ ذلك سواء أوجد شكّنا أم لا؟

قلنا : المراد بالشّكّ الجهل بمقدار عدة الآيسة والصغيرة ، وإنما علّق به لأنّه ، لمّا نزل بيان عدّة ذوات الأقراء في سورة البقرة ، قال بعض الصحابة رضي الله عنهم : قد بقي الكبار والصغار لا ندري كم عدّتهنّ ، فنزلت هذه الآية على هذا السبب ، فلذلك جاءت مقيّدة بالشّكّ والجهل.

فإن قيل : إذا كانت المطلّقة طلاقا بائنا تجب لها النفقة عند بعض العلماء ، فما الحكمة في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَ) [الآية ٦]؟

قلنا : الحكمة فيه ، أن لا يتوهّم أنه إذا طالت مدّة الحمل بعد الطلاق حتّى مضت مدّة عدّة الحائل ، سقطت النفقة ؛ فنفى سبحانه هذا الوهم ، بقوله : (حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ [الآية ٦].

فإن قيل : لم قال هنا : (سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً) (٧) ، وقال تعالى في موضع آخر : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) [الشرح] فكيف التوفيق بينهما؟

قلنا : المراد بقوله تعالى «مع» بعده لأنّ الضّدّين لا يجتمعان.

فإن قيل : لم قال تعالى : (وَكَأَيِّنْ مِنْ

٣٦

قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً) (٨) فنسب العتوّ إليها ، وقال تعالى (فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها) بلفظ الماضي ، مع أنّ الحساب والعذاب المرتّبين على العتوّ ، إنّما هما في الاخرة لا في الدنيا؟

قلنا : معناه عتا أهلها ، وإنّما جيء به على لفظ الماضي تحقيقا له وتقريرا ، لأنّ المنتظر من وعد الله تعالى ووعيده آت لا محالة ، وما هو كائن فكأنّه قد حصل ، ونظيره قوله تعالى : (وَنادى أَصْحابُ النَّارِ) [الأعراف : ٥٠] وما أشبهه.

٣٧
٣٨

سورة التّحريم

٦٦

٣٩
٤٠